الثلاثاء، 8 أبريل 2014

النوم ..النعمة المنسية

النوم ..النعمة المنسية
بين القرآن الكريم والعلم الحديث
م : أحمد أبو زيد
النوم آية من آيات الله ، ونعمة من أعظم النعم التي أكرم الله بها جميع المخلوقات ، وخاصة الإنسان ، ولا يعرف قيمة هذه النعمة إلا من يفقدها ويحرم منها ، كما أن النوم سر من أسرار الله سبحانه ، فلم يكتشف العلم بعد أسرار هذه الآية العظيمة ، وإن كانت الأبحاث في السنوات الماضية بدأت تركز على بعض الثوابت العلمية المتعلقة بالنوم ، الا أنه لا يزال هناك جوانب خفية لم يتوصل العلم إلى فهمها وتفسيرها .

النوم في القرآن الكريم:

ولقد بين القرآن الكريم قدر هذه الآية العجيبة من آيات الله سبحانه، فقال الله تعالى:
.ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله( 23 ). {الروم: 23}، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "أي من الآيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل والنهار فيه تحصل الراحة، وسكون الحركة، وذهاب الكلل والتعب ، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار، وهذا ضد النوم"(1).
وقال تعالى:
.وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ..47 ..{الفرقان: 47}، وقال تعالى: .
ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ..73 ..{القصص: 73}، قال المفسرون : من آثار قدرته سبحانه ومظاهر رحمته أن خلق لكم الليل والنهار يتعاقبان بدقة وإحكام؛ لتستريحوا بالليل من نصب الحياة، وهمومها، وأكدارها، ولتلتمسوا من رزقه بالمعاش والكسب في النهار، ولتشكروا ربكم على نعمه الجليلة التي لا تحصى، ومنها نعمة الليل والنهار(2).
وقال الإمام الفخر :"نبه تعالى بهذه الآية على أن الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان ، لأن المرء في الدنيا مضطر الى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج اليه ، ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ، ولولا الراحة والسكون بالليل"(3).
وقال ابن كثير:"أي خلق هذا وهذا
.
لتسكنوا فيه. أي في الليل .ولتبتغوا من فضله. أي في النهار بالأسفار، والترحال، والحركات، والأشغال، وهذا من باب اللف والنشر، وقوله: .ولعلكم تشكرون. أي تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالليل(4).
وربط القرآن الكريم النوم والليل لما فيه من سكون وظلام يساعد على تحقيق هذه النعمة ، فقال تعالى :
.وجعلنا الليل لباسا ..10 .وجعلنا النهار معاشا ..11 ..{النبأ: 10، 11}، قال ابن كثير: وقوله تعالى: .
وجعلنا نومكم سباتا ..9.. {النبأ: 9} أي قطعاً للحركة؛ لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في المعايش في عرض النهار، .وجعلنا الليل لباسا ..10 ..{النبأ: 10} أي يغشي الناس ظلامه وسواده. وقال قتادة في قوله تعالى: .وجعلنا الليل لباسا ..10 ..{النبأ: 10}، أي سكناً، وقوله تعالى: .وجعلنا النهار معاشا ..11 ..{النبأ: 11}، أي جعلناه مشرقاً نيراً مضيئاً؛ ليتمكن الناس من التصرف فيه، والذهاب والمجيء للمعاش، والتكسب، والتجارات، وغير ذلك(5).
وقال تعالى :
.
قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى" يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ..72 ..{القصص: 72}، قال ابن كثير : "أخبر الله تعالى أنه لو جعل النهار سرمداً أي دائماً مستمراً إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم، ولتعبت الأبدان، وكلت من كثرة الحركات والأشغال، ولهذا قال تعالى: .من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه.. 72 ..{القصص: 72} أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم .أفلا تبصرون ..72 ..{القصص: 72}(6)".
وبين القرآن الكريم ما في النوم من أمن نفسي وشعور بالطمأنينة والأمان، فيقول تعالى مبيناً حال المسلمين بعد هزيمة أحد وما أصابهم من غم، وحزن، وقلق ، وكيف عالج الحق سبحانه ما أصابهم بالنوم :
.
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى" طائفة منكم..154.. {آل عمران: 154}، وقال تعالى: .إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ..11 ..{الأنفال: 11} .
قال ابن كثير : يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملو السلاح في حال همهم، وغمهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان؛ كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر
.
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه.. 11 ..{الأنفال: 11} الآية. فعن أنس عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً يسقط، وآخذه، ويسقط، وآخذه.
وعن أنس عن أبي طلحة قال: "رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس".
وهو كما قال الله فإن الله عز وجل يقول:
.
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى" طائفة منكم..154.. {آل عمران: 154} يعني أهل الإيمان، واليقين، والثبات، والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله، وينجز له مأموله، ولهذا قال: .وطائفة قد أهمتهم أنفسهم..154.. {آل عمران: 154} يعني لا يغشاهم النعاس من القلق، والجزع، والخوف، .يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية..154.. {آل عمران: 154} وهم المنافقون.
وعن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره قال فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: "لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا" فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله
.يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا..154.. {آل عمران: 154}، قال الله تعالى: .قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى" مضاجعهم..154.. {آل عمران: 154} أي: هذا قدر قدره الله عز وجل، وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه(7).

الموتة الصغرى:

والنوم هو الموتة الصغرى التي يحيا الإنسان منها بالاستيقاظ، وقد ينتهي أجله وهو نائم، فتتحول الموتة الصغرى إلى موتة كبرى، قال تعالى:
.
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى" عليها الموت ويرسل الأخرى" إلى" أجل مسمى.. 42 ..{الزمر: 42}، وقال تعالى: .وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار.. 60 ..{الأنعام: 60}.
قال ابن كثير : يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان والوفاة الصغرى عند المنام، كما قال تبارك وتعالى: "
.وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى" أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ..60 .وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى" إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ..61 ..{الأنعام: 60، 61}،فذكر الوفاتين الصغرى، ثم الكبرى، وفي هذه الآية ذكر الكبرى، ثم الصغرى؛ ولهذا قال تبارك وتعالى: .الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى" عليها الموت ويرسل الأخرى" إلى" أجل مسمى.. 42 ..{الزمر: 42} فيه دلالة على أنها تجتمع في الملأ الأعلى كما ورد في صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبيد الله ابن عمر عن سعيد ابن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" .
وقال بعض السلف: يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف، قال تعالى:
.فيمسك التي قضى" عليها الموت ..42 ..{الزمر: 42} التي قد ماتت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، أي: إلى بقية أجلها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "يمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء ولا يغلط" .إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ..42 ..{الزمر: 42}(8).
فالعلاقة بين النوم والموت علاقة وثيقة وغامضة ، وقد سمى القرآن النوم موتاً في قوله تعالى:
.الله يتوفى الأنفس حين موتها.. 42
..{الزمر: 42} أي: حين منامها ، ويرى العلماء والباحثون أن الروح تنسحب كلياً أو جزئياً أثناء النوم، وأن هذا الانسحاب لصالح الروح والجسم معاً، فالروح تجدد حيويتها وانطلاقها،والجسم يسترخي، ويتخلص من المواد السامة المتراكمة.

النوم من الناحية العلمية:

وإذا نظرنا الى النوم من الناحية الفسيولوجية وكما يؤكد العلم الحديث نجد أن الجسم وخاصة الدماغ يعمل في فترات النوم على تصنيع جزيئيات الطاقة التي تساعد الإنسان على تحريك جميع أنشطته من أول العضلات إلى الذاكرة، ويتحكم في النوم حزمة من الأعصاب تغوص عميقًا في الدماغ ، وهي تنظم إفراز مادة كيمائية باعثة للنوم تسمى الملاتونين (هرمون النوم)، وهذه المادة تضبط وقت النوم ووقت الاستيقاظ لكل منا، ولقد أجمع علماء سويسريون أن عند كل فرد ساعة حيوية إذا استيقظ الإنسان قبلها لم يكن نومه متكاملاً كما أثبتت الأبحاث التي قامت على مجموعة من طلبة المدارس أن هرمون النوم يستمر في الإفراز حتى أثناء اليوم المدرسي ، وأن ربع قائدي السيارات يذهبون في النوم على عجلات القيادة سنوياً(9).

دورة النوم:

وتمر دورة النوم بمرحلتين أساسيتين: المرحلة الأولى، تسمى بحركة العين البطيئة ، وهي تنقسم إلى ثلاثة أطوار: الطور الأول: يسمى النوم الانتقالي، والثاني: النوم الخفيف، وفي هذين الطورين يسترخي الجسم تماماً، وتغلق حواس الإنسان، ويكون نشاط الدماغ بطيئاً ومنتظماً، ثم يغوص المرء في نوم أكثر راحة ، وهي أفيد مرحلة للنائم ؛ حيث تفرز الهرمونات، وتبنى الخلايا البالية، وتجدد خلايا الدم الحمراء .
والمرحلة الثانية : بعد(70) إلى (90) دقيقة من النوم وتسمى مرحلة حركة العين السريعة ، حيث تزيد ضربات القلب، وترتعش الأصابع والأنامل، وتزيد سرعة تنفس النائم ونشاط دماغه ، وفي خلال هذه المرحلة تجول العين للأمام والخلف تحت الجفن، يفرز الدماغ مواد كيمائية في مراكز الشعور وتخزن أحداث اليوم ؛ ولذلك تكون الأحلام في هذه المرحلة.
وبدون نوم كافٍ تضطرب مرحلتا النوم، فيكون المزاج معكرًا، ويشعر الشخص بضغط عصبي واكتئاب، كما تضطرب الذاكرة والحكم على الأشياء، وربما يؤدي الطالب برداءة في الامتحانات خاصة الحسابية كما أثبت العلماء في جامعة شيكاغو وجامعة مستشفى برادلي بالولايات المتحدة(10).

أثر النوم على النشاط الحيوي:

ولقد أجريت عدة أبحاث علمية حول أثر النوم وقلته على الحالة العصبية والنشاط الحيوي للإنسان ، ففي جامعة شيكاغو أثبتت الأبحاث أن الأرق المزمن يقلل قدرة البالغين على تأدية الوظائف الحيوية الأساسية مثل: تخزين النشويات ، وعمليات الدماغ؛ بل يؤثر على نظام إفراز الهرمونات، فقد تركوا المتطوعين ليناموا ثماني ساعات عدة أيام ثم (4) ساعات عدة أيام أخر، فأدى ذلك إلى قلة تحمل الجلوكوز في الدم، وإلى اضطرابات في وظائف الغدد الصماء التي تؤدي إلى أعراض مشابهة لأمراض الشيخوخة أو المراحل الأولى لمرض السكر؛ حيث قلّت قدرة هؤلاء على إفراز الأنسولين بنسبة (30%)، وأخذ (40%) منهم وقتًا أطول لتنظيم معدل السكر في الدم بعد وجبة دسمة من النشويات ، كما لوحظ عليهم حالات توتر وتعكر مزاجي ، وهذه علامة أخرى من علامات الشيخوخة ، وذلك يوضح ما يقوله العلماء عن أن الأرق له علاقة بأعراض تقدم السن مثل السكر واضطرابات ضغط الدم التي تؤدي إلى الأزمات القلبية.
ومن الناحية العصبية نجد أنه من الهرمونات الأساسية التي تتأثر بالنوم غير الصحي هرمون الكورتيزول ، ويعرف بهرمون الضغط العصبي ، حيث إنه من المفترض في الصورة الطبيعية أن يقل معدل هذا الهرمون حين الاستعداد للنوم، ويزداد عند الاستيقاظ ليساعد على النشاط والحركة ، ولكن في النوم غير الصحي يرتفع الكورتيزول في الليلة التالية ، وتفرز الغدة الكظرية هذا الهرمون بسهولة عند التعرض لأي ضغط أثناء النهار، وزيادة هرمون الكورتيزول لوقت طويل يمكن أن يؤدي إلى تحطم الخلايا الدماغية ، وضمور في مناطق الدماغ الخاصة بالتعلم والذاكرة ، كما ثبت ذلك بعد الأبحاث التي أجريت على الحيوانات(11).
ويؤثر الأرق - كما أثبتت أبحاث جامعة بتسبرج - على هرمونات بناء العضلات وهرمون النمو، ويقلل الأجهزة المناعية للجسم، بل إن الناس الذين يأخذون وقتاً أطول في النوم عندهم نقص في الخلايا القاتلة، وهي العنصر الهام في الجهاز المناعي الخاص بقتل الفيروسات والخلايا السرطانية.

القلق عدو النوم:

ويعتبر القلق أو الأرق عدواً لدوداً للنوم، فالإنسان الذي يصيبه القلق لا يستطيع النوم حتى يعالج أسباب هذا القلق، ولقد تسببت الحضارة الحديثة في ارتفاع نسبة القلق لدى البشر، ففي البلاد المتقدمة يقل متوسط ساعات النوم يومًا بعد يوم ؛ حيث بلغت (7.5) ساعات يوميًّا مقارنة ب (9) ساعات في عام (1910م).
وقد أظهر استقصاء أمريكي تم في مارس (1995) أن (12%) من الأمريكيين يجدون صعوبة في النوم يوميًّا ، وأن نصف البالغين الأمريكيين عندهم قلق في النوم ليلة واحدة على الأقل أسبوعياً ، بل إن (27%) يتناولون عقاقير مساعدة للنوم، و(37%) يشعرون بأن عدم صحة نومهم يؤثر على نشاطهم اليومي. كما أكدت الأبحاث ارتفاع نسبة الأرق عند النساء عن الرجال ، فهناك (66%) من النساء يعانين من الأرق، بينما تصل هذه النسبة عند الرجال الى(50%) فقط(12) .

الهدي النبوي في النوم:

ولقد حفلت السنة النبوية المطهرة بالعديد من التوجيهات النبوية للنوم الصحي البعيد عن القلق، والهواجس الشيطانية، والأحلام المزعجة ، ومن هذه التوجيهات ما يلي : (13)
1 ألا يؤخر الإنسان نومه بعد صلاة العشاء إلا لضرورة ، كمذاكرة علم، أو محادثة ضيف، أو مؤانسة أهل، لما رواه أبو برزة: "أن النبي كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها"(14).
2 أن ينام المسلم على وضوء، لقول الرسول للبراء بن عازب رضي الله عنه: "اذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة" (15).
3 أن ينام على شقه الأيمن ويتوسد يمينه، فيضع كفه اليمنى تحت وجهه.
4 أن يحرص المسلم على أذكار النوم، ومنها : قراءة الفاتحة، وآية الكرسي، وسورة الإخلاص، والمعوذتين، وأن يقول: "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (16) ، أو يقول : "اللهم باسمك أموت وأحيا"(17)، أو يقول : "اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت"(18).
5 ألا يضطجع على بطنه أثناء نومه ليلاً ولا نهاراً، فقد قال النبي : "إنها ضجعة لا يحبها الله عز وجل"، وقال:"إنها ضجعة أهل النار"(19).
6 أن يحرص على أذكار الاستيقاظ من النوم فيقول : "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"(20).
نصائح للنوم السليم:
يقدم الأطباء مجموعة من النصائح للحصول على النوم السليم منها : تجنب المنبهات قبل النوم، كالقهوة، والشاي، والرياضة، والنيكوتين، وتثبيت ميعاد للنوم، وعدم النوم عصراً، وضبط الحرارة في غرفة النوم بحيث تكون حرارة الجسم أكبر من درجة حرارة الغرفة؛ حيث تساعد تدفئه الأطراف على سريان الدم وبالتالي إفراز هرمون النوم (الملاتونين) ، وخفت الأنوار عند النوم لأن النور الممتص من العين قد يوقظ الساعة الحيوية للإنسان .

@ الهوامش:
1 تفسير ابن كثير - الجزء الثالث ص: (429).
2 صفوة التفاسير - محمد علي الصابوني - تفسير الجزء العشرين - ص: (445).
3 المرجع السابق - ص: (445).
4 تفسير ابن كثير - الجزء الثالث ص: (398) .
5 تفسير ابن كثير - الجزء الرابع ص: (462) .
6 تفسير ابن كثير - الجزء الثالث ص: (398) .
7 تفسير ابن كثير - الجزء الأول ص: (418) .
8 تفسير ابن كثير - الجزء الرابع ص: (55) .
9 الدكتور أحمد شوقي الفنجري - أهمية النوم بين العلم والقرآن - مجلة الوعي الإسلامي - العدد 419 - رجب 1421ه .
10 نهى سلامة - الجسم السليم في النوم السليم - شبكة الإسلام على الإنترنت - 18 أغسطس 2000م .
11 المرجع السابق
12 المرجع السابق
13 أبو بكر الجزائري - منهاج المسلم - دار السلام للطباعة والنشر - القاهرة 1991م ص: (112) .
14 رواه البخاري في صحيحه - الجزء الأول - حديث رقم:( 149) .
15 رواه البخاري في صحيحه - الجزء الأول - حديث رقم: (71) .
16 صحيح مسلم - كتاب الدعوات - حديث رقم: (2714) .
17 مختصر صحيح البخاري للإمام الزبيدي - كتاب الدعوات - حديث رقم: (1979)- ص:(499) .
18 صحيح مسلم - كتاب الدعوات - حديث رقم: (2710) .
19 رواه الحاكم في المستدرك - الجزء الرابع - ص:(271).
20 مختصر صحيح البخاري للإمام الزبيدي - كتاب الدعوات - حديث رقم :(1979)- ص:(499) .
 
الجندي المسلم 108 مقالات
 
 

الجمعة، 4 أبريل 2014

الشعوبية


الشعوبية
د.حسين حسن طلافحة
 
بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمدُ للهِ؛ امّا بعدُ، فأحببتُ أن أضيفَ هذا الموضوع، بعد أن جمعته وهذّبته، وقد رأيت أنّه موضوع جميل، أو بداءة وتعريف لعدو قديم جديد، وأجمل ما في الموضوع ما خطّه شيخ الإسلام ابن تيمية، وما نقلته عن الأستاذ إحسان عبّاس...

الشُّعُوبِيَّةُ؛
(طبيعتها، عوامل ظهورها، أهدافها، أسلحتها الأدبيّة، أبرز المتصدين لها، الشعوبيّة النثريّة في الأندلس ، حديث أخير في الشعوبيّة ثم في أفضليّة جنس العرب)

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعدُ:

فهذا موضوع مختصر، ننهج فيه نهجاً وصفيّاً، يتمثَّلُ في العرضِ، مع قليلٍ من التحقيق الليّن، لحركة "الشعوبيّة" التي ظهرت كعنصرٍ معادٍ للعرب. وقد عرضنا فيه –الموضوع- الشعوبيّة، على فصول معلومة، تتمثَّلُ في "التعريف بحركة الشعوبيّة" و "أهمِّ العوامل التي ساعدت على ظهور الشعوبيّة في العصر العبّاسيّ"، و "أهداف الشعوبيّة؛ (القضاء على دولة العرب)"، و "لماذا القضاء على دولة العرب؟ وما علاقة الدِّين (الزَّندقة) بذلك؟"، و"أسلحتها الأدبيّة (الشعر والنثر)"، و"أبرز المتصدين لها، في العصر العباسي؛ الجاحظ، ابن قتيبة"، "الشعوبيّة النثريّة في الأندلس- عصر الطوائف والمرابطين؛ رسالة ابن غَرسِيَة في تفضيل العجم على العرب، ردُّ ابن الدودين البلنسي على ابن غَرسِيَة، ردُّ ابن من الله القروي على ابن غَرسِيَة"، وختمنا بـ"حديث أخير "في الشعوبيّة ثم في أفضليّة جنس العرب".

وقد يكون موضوع "الشعوبيّة" من الموضوعات المطروقة بشكل كبير من قبل الباحثين، ويبدو إنّ موضوعنا هذا لن يضيف شيئاً، إلا أنّه جمَعَ متفرِّقاً، واختصرَ مبسوطاً، وممّن كتب في الشعوبيّة حسين عطوان "الزندقة والشعوبيّة في العصر العباسي الأوّل "، ونزار عبد اللطيف حديثي "الشعوبيّة نشأتها وتطورها"، وزاهية قدورة "الشعوبيّة وأثرها الاجتماعي والسياسي في العصر العباسي الأول"، وعبد العزيز الدوري "الجذور التاريخيّة للشعوبيّة"، وإسماعيل العرفي "في الشعوبيّة"، و"الشعوبية والأدب" لخليل جفال و "الشعوبية في الأدب العربي الحديث" لأنور الجندي و"الشعوبية المُعاصرة" لجهاد فاضل و "الزندقة والشعوبية وانتصار الإسلام والعروبة عليها" لسميرة مُختار الليثي، وقد صدر عن منظّمة المؤتمر الإسلامي الشعبي في بغداد "الشعوبيّة ودورها التخريبي في الفكر العربيّ الإسلاميّ".

"ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبّون العرب ولا يقرّون لها فضل؛ فإن لهم بدعة ونفاقاً وخلافاً" [عقيدة الإمام أحمد]
تمهيد:
منذ نشوء دولة الإسلام الكبرى التي ضمت في ثناياها أشتاتاً من الشعوب القديمة، والفرس يعملون على تفتيتها، والخروج منها، أو عليها؛ استجابة لتلك النزعة القوية في نفوسهم؛ نزعة الاستقلال القومي وإعادة مجد الإمبراطورية الفارسية التي قضت عليها معاول الإسلام ـ لقد فعلوا ذلك تحت ستار التشيع حيناً، أو تحت ستار الشعوبية حيناً آخر، ولكنهم في جميع الأحوال لم ينسوا أنهم أحفاد حضارة قديمة، وأنهم من سلالة قورش وقمبيز ودارا وكسرى، وكبر عليهم أن يخضعوا لسلطان العرب الذين كانوا قبيل الإسلام توابع أذلاء يدفعون لهم الجزية، لذلك استغلوا النعرة العربية التي كانت طابع الدولة الأموية، وعملوا على تقويض أركانها بكل ما يستطيعون، وشاركوا في التنظيمات السرية التي انتشرت في الأصقاع الفارسية، وكانت أرض خراسان هي المهد الذي توالدت فيه المؤامرة الكبرى التي كانت تسعى إلى الإطاحة بالأمويين والتمهيد لقيام دولة فارسية، أو دولة تضع الفرس في موضع السيادة والسؤدد. والذين شاركوا في تدبير الانقلاب العباسي كانوا يظنون أنهم يعملون لحساب الجناح العلوي من أهل البيت، ولكن التدبير المحكم بلغ من السرية درجة حجبت عنهم اسم المحرك الحقيقي للثورة، فلما أسفر الانقلاب عن ظهور البيت العباسي ـ وليس البيت العلوي ـ لم يتردد الفرس عن تأييده وتعزيزه وتمكينه في أرض العراقين ـ العربي والعجمي ـ وتولى قائد الانقلاب أبو مسلم الخراساني بنفسه تصفية بعض عناصر الانقلاب ـ وهم فرس مثلهم ـ بسبب ميلهم إلى الجناح العلوي .. فالهدف الحقيقي للفرس ليس الانحياز إلى هذا البيت أو ذاك من بيوت الأشراف، ولكن الانحياز إلى الدولة التي تخدم أغراضهم وتحقق لهم حلم السيادة على العرب، فلما أطلّت الأحلام الإمبراطورية في نفس أبي مسلم واصطدمت إرادته بإرادة الخليفة المنصور ـ جبار الدولة العباسية ـ كان على الخراساني أن يلحق بالذين قتلهم لأن "السيفين لا يجتمعان في جراب واحد " .. على حد قول المنصور، ورغم القضاء على زعيم الانقلاب فإن الفرس لم يكفُّوا عن التطلعِ إلى السيطرة على الدولة التي أقاموها بسيوفهم، ولكنَّ الخلفاء العباسيين ـ وكانوا عرباً أقحاحاً ـ كانوا لهم بالمرصاد، وكانت سيوف هؤلاء الخلفاء الأقوياء الأوائل تطيح برؤوسهم كلما أطلت من مكامنها. وكانت "نكبة البرامكة" على يد الرشيد هي أكبر عملية تصفية لإحباط آمال الفرس وكبت تطلعاتهم في السيطرة على شؤون الدولة . ورغم ذلك لم يتطرق اليأس إلى نفوس الفرس، وبقي الأمل غضّاً طريّاً كلما سنحت لهم الفرصة مستغلين حاجة الدولة إلى خبرتهم في الإدارة والتنظيم، وشؤون الحضارة.

الأول: التعريف بحركة الشعوبيّة

1-لفظاً: قال الزبيدي(1): " قال ابنُ مَنْظُور : وقد غَلَبت الشُّعُوبُ بلَفْظِ الجَمْع على جِيلِ العَجَم حَتَّى قِيلَ لمُحْتَقِر أَمْرِ العَرَب شُعُوبِيٌّ أَضَافُوا إِلَى الجَمْع لغَلَبَتِهِ على الجِيلِ الوَاحِدِ كقَوْلِهم : أَنْصَارِيٌّ . وهم الشُّعُوبِيَّةُ ؛ وهم فِرقَة لا تُفَضِّل العَرَبَ عَلَى العَجَم ولا تَرَى لَهُم فَضْلاً عَلَى غَيْرِهِم . وأَمَّا الَّذِي في حَدِيثِ مَسْرُوقٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الشُّعُوبِ أَسْلَمَ فكَانَت تُؤْخَذُ مِنه الجِزْيَةُ فأَمَر عُمَرُ أَنْ لاَ تُؤْخَذَ مِنْه . قال ابْنُ الأَثِيرِ : الشُّعُوبُ هَاهُنَا العَجَم وَوَجْهُه أَنَّ الشَّعْبَ ما تَشَعَّبَ مِنْ قَبَائِل العَرَب أَو العَجَم فخُصَّ بأَحَدِهما ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ الشُّعُوبِيّ كقَوْلِهِم : اليَهُودُ والمَجُوسُ في جَمْعِ اليَهُوديِّ والمَجُوسِيّ".

2-اصطلاحاً: هي حركة فكريّة، هدفها سياسيٌّ، يتمثل في القضاء على دولة العرب، وإحياء دولة الفرس. يقودها –غالباً- المنتمون إلى الجنس الفارسي. الزبيدي: "وهم فِرقَة لا تُفَضِّل العَرَبَ عَلَى العَجَم ولا تَرَى لَهُم فَضْلاً عَلَى غَيْرِهِم"، بالإضافة إلى أنّهم يطعنون في العرب، وفي تقاليدهم، وعاداتهم، وأنسابهم، ويقللون من شأنهم. وسبب وجودها دينيٌّ؛ إذ دفعهم اعتقادهم الثّانويّ، إلى معاداة العرب الذين احتضنوا الدينَ الإسلاميَّ الذي يدعو إلى عبادة ربٍّ واحدٍ، لا شريك له.
قال الزمخشري(2): "وفلان شعوبي ومن الشعوبية وهم الذين يصغرون شأن العرب ولا يرون لهم فضلاً على غيرهم".
ومنهم من يتسمّى بـ"أهل التسوية"؛ وهذا وذاك سيّان؛ إذ إنّهم –دعاة التسوية- لم يقفوا عند مبدأ المساواة بل تعدَّوه إلى وضع العرب بمرتبة أدنى؛ فهي إذا صحَّ التعبير (كلمة حقٍّ أريد بها باطل)، وفي العقد الفريد لمّا أتى ابن عبدِ ربِّه (246 هـ) على "قول الشعوبيّة"، قال: "وهم أهل التسوية
ومن حُجّة الشُعوبية على العَرَب أنْ قالت: إنّا ذَهبنا إلى العَدْل والتّسوية...إلخ"
وقد توسَّعَ العربُ بعد ذلك، فأطلقوا "شعوبيّ" على الزنديق والملحد، معتبرين الزندقة والإلحاد مظهرا ينمُّ على كره العرب لأنه كرهٌ لدينهم، وكذا أطلق اللّفظ على "الموالي"؛ لشيوع ذلك فيهم.

الثاني:أهم الأسباب التي ساعدت على ظهور الشعوبيّة في العصر العباسي.


تتوَّزع هذه الأسباب، على مراحل تاريخيّة متتالية :

المرحلة الأولى: حيثُ كان الحكم بيد الفرس والرُّوم، وفيها: كان العرب أيام الأكاسرة والقياصرة ليس لهم شأن يذكر، إذ كان الفرس والروم، يعاملونهم معاملة العبيد.

المرحلة الثانية: مرحلة بني أميّة، وفيها تعرَّض الموالي، والعجم، في البلاد المفتوحة، إلى معاملة شديدة قاسية؛ كانت ردَّةُ فعل لما مضى في المرحلة الأولى.
وهذا ما أشار إليه الأستاذ شوقي ضيف بقوله: "وقد مضى الأمويون ينحرفون عن جادَّة الدِّين في معاملة الموالي، فهم يرهقونهم بكثرة الضرائب، وهم لا يسوون بينهم وبين العرب في الحقوق، إلا ما كان من عمر بن عبد العزيز، ولكن مدّة حكمه كانت قصيرة، فلم يؤت عمله في هذا الجانب أيَّ ثمرة.
وكانت هذه المعاملة السيئة للموالي سبباً في اضطغانهم على العرب.(3)

المرحلة الثالثة: سقوط الدولة الأمويّة، حيث "التفّت منهم جماعات كثيرة حول أبي مسلم داعية العباسيين بخرسان، وما لبثوا أن زحفوا في جيش ضخم أدالوا به للعباسيين من الأمويين وللفرس من العرب، إدالة نفذوا في أثنائها إلى مناصب الدولة العبّاسيّة العليا، بحيث كان منهم أكثر القوَّاد وأكثر الولاة، وخاصّة حين استولى على أزمّة الحكم البرامكة في عهد الرشيد وبنو سهل في عهد المأمون، وكان هذا التحوّل الخطير في مقاليد الحكم وما أصبح للفرس من مكانه رفيعة في المجتمع العبّاسي الجديد سبباً في بروز نزعة الاشعوبيّة"(4).

ويجدر بنا هنا الإشارة إلى الفرصة الذهبية التي سنحت لهؤلاء الفرس، وكانت من خلال الصراع على السلطة بين الأخوين؛ الأمين والمأمون، وكان أبوهما هارون الرشيد قد عهد إليهما بالخلافة على التوالي، ولكن الأمين نقض العهد وسعى إلى خلع أخيه من ولاة العهد، ونشبت بين الأخوين حرب ضروس، وانحاز العرب إلى الأمين لأن أمّه ـ زبيدة ـ كانت عربية، بينما راهن الفرس على المأمون لأن أمّه كانت فارسية، وتحولت أرض العراق إلى ساحة للقتال أهدرت فيها دماء الفريقين،

وكانت جيوش المأمون من الفرس بقيادة القائد الفارسي الشهير طاهر بن الحسين الذي طارد الأمين حتى قتله في مياه دجلة وحمل رأسه إلى أخيه ومعه صك الانفراد بالخلافة، وكان الثمن هو قيام أول إمارة مستقلة للفرس بعد الإسلام على أرض خراسان، ولم يدر المأمون ـ حين وقع بيده وثيقة تأسيس هذه الإمارة الفارسية ـ أنه فتح الباب أمام الدويلات الفارسية التي توالى ظهورها في مراحل لاحقة، وأدت بالدولة العباسية إلى الانحلال والتفسخ . وكانت الدوافع القومية التي كانت تحرك الفرس لإحياء مجدهم القديم، وإنشاء دويلات فارسية في ثقافتها ولغتها وتقاليدها . من ذلك أنه منذ أواخر القرن الأول الهجري أخد الفرسُ يتطلعون إلى الاستقلال السياسي والثقافي، فانبرت جماعة من الموالي لبعث القومية الفارسيّة في ثوب إسلامي اكتسبته منذ الفتح، منهم: عبد الحميد الكاتب الشهير، وحماد الراوية، والأديب عبد الله بن المقفع، والشاعر بشار بن برد، والفقيه ابن أبي ليلى، وأبو سلمة الخلال ـ أول وزير في الدولة العباسية ـ وأبو مسلم الخراساني قائد الانقلاب العباسي، وشيطان الطاق، وأبو عبد الله المورياني .

الثالث: أهداف الشعوبيّة (القضاء على دولة العرب)

وكان هؤلاء حريصين على إخفاء أغراضهم الحقيقية، بيد أنّها كانت تبرز بين آونة وأخرى في فلتات ألسنتهم وفي ثنايا أشعارهم، وتبدو في سلوكهم وتصرفاتهم، وتبلور هذا الاتجاه في ظهور هدفين أساسيين هما:

1-الاستقلال السياسي .
2-الاستقلال الثقافي واللغوي .

فهم يهدفون من وراء تأسيس الخلافة العباسية إلى بلوغ غايتهم في الاستقلال السياسي حين يقيمون دولة يرجع إليهم الفضل الأكبر في إنشائها . وعملوا ـ منذ البداية ـ على أن يجعلوا السياسة في الحكم والثقافة والحياة الاجتماعية تؤدي في النهاية إلى الاستقلال الذاتي، ولم يصرفهم عن هذا الهدف فتك المنصور بأبي مسلم، أو نكبة الرشيد بالبرامكة، فما عتموا أن استفادوا من الفرصة التي سنحت لهم في قيام الفتنة واستفحالها بين الأمين والمأمون .

وبسنا مطالبين في هذا الصدد بتقديم الأدلّة على ذلك؛ فالتاريخ يشهد بنفسه، إذ بقيام دولة الطاهرية في خراسان قطع الفارسيون الشوط الأول في كفاحهم في سبيل الوصول إلى الاستقلال، وبعد ذلك توالت بقية الأشواط.
في زمن الخليفة المعتمد العباسي ـ وفي نفس السنة التي استقل فيها أحمد بن طولون بمصر 254هـ، تمكن يعقوب بن الليث الصفار من تأسيس الدولة الصفارية التي عنيت بإحياء الآداب الفارسية، وظهر فيها أول شاعر نظم شعراً بالفارسية بعد الإسلام، وكان يعقوب يسعى إلى توسيع ملكه بحيث يستولي على بغداد نفسها حتى يعيد بناء المدائن ـ عاصمة الدولة الفارسية القديمة ـ لتصبح عاصمته، وبذلك يعيد للأذهان مجد الحكم الساساني الذي كان قائماً قبل الفتح الإسلامي، وكان هذا الأمير الفارسي يأبى أن يمدحه الشعراء بالعربية ويقول: "كيف تمدحونني بلغة لا أفهمها!"، وهو الذي أمر بنقل ديوان الإنشاء من العربية إلى الفارسية ولذلك يعتبره المؤرخون أول من وضع الأساس للاستقلال السياسي والثقافي الفارسي.


ويعتبر السامانيون المؤسسين الحقيقيين للحركة الاستقلالية الفارسيّة بمعناها القومي الأصيل . فقد استرجعوا علاقاتهم بماضي بلادهم، مؤكدين أنهم من سلالة البطل الساساني الفارسي " بهرام " وقد استطاعوا توسيع دولتهم حتى شملت خراسان وسجستان وجرجان وطبرستان والري ( طهران ) وكرمان وبلاد ما وراء النهر. وفي مطلع القرن الرابع الهجري استطاع مرداويج الفارسي أن يستقل بمنطقة جرجان ويقيم الدولة الزيارية ، وسار على نهج ملوك الفرس الأقدمين، فلبس التاج، وجلس على سرير من الفضة موشى بالذهب ومرصع بالجوهر، وكان يقول : "أنا أرد دولة العجم ، وأبطل دولة العرب". وفي عام 334 هـ بلغ الفرس أوج نفوذهم على أيدي الدولة البويهية، التي حكمت غرب فارس ومهدت للمذهب الشيعي الذي أصبح على عهد الصفويين المذهب الرسمي لفارس، واقتحموا بغداد وفرضوا نفوذهم على الخليفة العباسي الذي بلغ من الضعف والهزال مبلغاً يثير الرِّثاء، وتحول إلى ألعوبة في أيدي الأمراء الفرس وقد حققوا حلمهم القديم، حلم السيادة والتسلط، والقضاء على دولة العرب.

الرابع: لماذا القضاء على دولة العرب؟ وما علاقة الدين (الزندقة) بذلك؟

يصور الجاحظ حركة الشعوبية وأهدافها بقوله: "إن عامة من ارتاب في الإسلام كانت الشعوبية أساس ارتيابهم فلا تزال الشعوبية تنتقل بأهلها من وضع إلى وضع حتى ينسلخوا من الإسلام؛ لأنه نزل على نبي عربي، وكان العرب حمله أوائه عندما نزل(5).

ومن كلامه نتفهم، لماذا كرهت الشعوبيّة العرب، ونتفهم طبيعة العلاقة بين "الزندقة" و "الشعوبيّة"، وأنهما كانتا عملتان لوجه واحد.

لقد بدأ الإسلام يتسع على يد العرب، ويضم أقواما لهم في التاريخ مكان مجيد، وجاء العصر الأموي الذي كان يعتمد على سيوف العرب في فتوحاته، التي تُولِّدُ مسلمين أخر،

ومن هنا بدأ للشعوبية معنى جديد في التاريخ يرمى إلى التعصب لغير العرب، واعتبارهم بتاريخهم العظيم أسمى من العرب، وقاد يهود فارس هذا الاتجاه.
وساعد على ذلك أن الدولة العباسية قامت بسيوف فارسية، وأن مفكري الفرس اهتموا بالتفوق في مجالات الأدب والشعر والتفسير والفكر، وذلك ضمن لهم التفوق في المجال السياسي والفكري، فأصبح الخلفاء يعترفون بفضلهم، وأصبح منهم العديد من الوزراء والأدباء والسفراء والمفسرين والمؤرخين.
وبدءوا بحاضرهم وماضيهم يعدون أنفسهم أسمى من العرب، وهذا هو المعنى الذي آل إليه معنى الشعوبية فأصبح للشعوبية معنى مزدوج يتمثل في:
1-الحط من الجنس العربى.
2-والنيل من الدين الإسلامي.
ووسيلتها لذلك التعصب لرفع شأن غير العرب وبخاصة الفرس والتفاخر بأمجادهم ، ورقى حضارتهم ، وما يتبع ذلك من تصغير شأن العرب والهجوم عليهم ، ووصفهم بأحقر الأوصاف.

الخامس: أسلحتها الأدبيّة (الشعر والنثر)

إن الآداب هي أهم عناصر ثقافة الشعوب وربما هي مصدرها الأول، والآداب بما فيها الشعر، والقصة، والخطبة والحكاية، والأمثال مرآة صادقة لأنها تعكس الخلفيات النفسية والأخلاقية للشعوب وتعتبر مقياسا لتحضرها، وعادة ما يكون الأدباء هم حلقة الوصل الأولى التي تربط بين الشعوب فكريا و ثقافيا وذلك لما يقدمونه من صور جمالية تعبر عن الواقع القائم وتركز على إظهار الجوانب الشفافة المرهفة في الإنسان والطبيعة، ولكن مفهوم الأدب عند الحركة الشعوبية اتخذ منحى مغايرا .

اعتمدت الشعوبية الأدب وسيلة لزرع بذور الشقاق والعنصرية والكراهية في نفوس أبناء الأمة من غير العرب ومن غير المسلمين ( المجوس وعبدة النار ) تجاه إخوتهم العرب خاصة والإسلام عامة، وكان الشعر احد أهم الأدوات التي استغلت في هذا الاتجاه لكونه أكثر التصاقا في عقول الناس وأسهل حفظا وبالتالي يمكن تداوله بين الناس بيسر وسرعة, وقد بلغت الشعوبية أوج نشاطها في العصر العباسي حتى عدت ظاهرة بارزة من مظاهر الحياة العامة في العصر العباسي قامت بدور تخريبي متسترة وراء المساواة الإسلامية والتسامح الديني، فلما شارك الفرس في الحكم بدأت تبدي وجهها الحقيقي المفضوح المعادي لكل ما هو عربي وإسلامي على حد سواء .

وقد نجحت الشعوبية في تشويه تاريخ بعض الشخصيات العربية البارزة وترد هذه الأخبار في كتب الأخبار والطرائف فتحصي أصحاب العاهات والبخلاء والجبناء من سادة العرب كالحديث عن أبي سفيان أو حكاية وضاح اليمن وزوجة الوليد بن عبد الملك وحتى الترويج لبعض الأحاديث الضعيفة التي تنسب زوراً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) التي تنهي عن محاربة الأتراك أو الأحباش وتمتدح الفرس واسمع إلى الشعوبية الحاقدة في ما قاله إسماعيل بن يسار يخاطب امرأة عربية يذم قومها :

واسألي إن جهلت عنا وعنكم كيف كنا في سالف الأحقاب
إذ نربي بناتنا ، وتدســــون سفــاحاً بناتكم في التراب (6)

ولنسمع أيضا إلى مهيار الديلمي وهو يقول :
لا تخــالي نسباً يخفضـني أنا من يـرضيك عندَ النسبِ
قومي استولوا على الدهر فتى ومشوا فـوق رؤوس الحِقبِ

عمموا بالشمس هـــاماتِهـم وبنـوا أبياتهــم بالشهبِ
فأبي " كسرى " علـى إيوانهِ أين فـي الناس أبُ مثل أبي

ولا تخفى نزعة التعجرف والاستعلاء على العرب والاحتقار لهم من النصين السابقين . لم تقتصر وسائل الشعوبيين في التعبير عن عدائهم للعرب على الشعر فقط بل سعوا كذلك في استخدام القصص والأساطير وسيلة للحط من منزلة العرب وتأليب روح العداء في نفوس الأجيال فارسية اللاحقة ضدهم, وقد انطلقت الحملة الشعوبية ضد العرب بعد ما أخذت الحضارة الإسلامية تزدهر وتنتشر بواسطة اللغة العربية التي طغت على لغة الأقوام والشعوب التي فتح الإسلام ديارها، فالعربية إضافة إلى كونها لغة القرآن الكريم، أصبحت فيما بعد لغة الفقه والآداب و علوم الطب والصناعة، وكانت مدارس خراسان ونيسابور وغيرها من مدارس بلاد فارس وبخارا و سمرقند عربية خالصة، وقد وضع أساطين العلوم الفلسفية والطبية والأدبية من أبناء تلك الديار من أمثال البيروني والفارابي والرازي جميع مصنفاتهم باللغة العربية وهذا ما أثار الشعوبين وأغاظهم ، ولما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب وكان العرب اقل الأمم عندهم خطرا تعاظم الأمر وتضاعفت لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة وقد اتخذ الصراع بين العرب والشعوبية ألوانا مختلفة، فقد وقفوا في وجه انتشار اللغة العربية وللتهوين من شأن العرب والانتقاص منهم ترجم الشعوبيون المتعصبون كتبا في مناقب العجم وافتخارهـم ورجم العرب بالمثالب وتحقيرهم منها كتاب " مثالب العرب " لهشام بن الكلبي, وفضائل الفرس لابن عبيدة .

 السادس: أبرز المتصدين لها، في العصر العباسي:

فكان لابد من مقارعة الفكر بالفكر والأدب بالأدب وانبرى ثلة من المفكرين والأدباء ممن أدركتهم الغيرة على دينهم وأصولهم العربية العريقة فأخذوا يكتبون ويفسرون ويشرحون ويفندون أقوال خصومهم الشعوبيين فنشأ نوع جديد من الأدب سمي "بأدب المواجهات" وكانت هذه المواجهات الفكرية والثقافية تشحذ الذهن وتقوى الحجة, وقد أغنت المكتبة العربية بتراث عظيم فاق في نوعه وقيمته نوع وقيمة الأدب الشعوبي الذي اندثر أكثره .
ومن الردود التي وصلتنا على الشعوبية والتي بقيت خالدة على وجه الدهر ردود الجاحظ وأبو حيان التوحيدي وابن قتيبة, وهم أقطاب سامقة في فلك الأدب, وانحصر همهم في الدفاع عن العرب دون الإساءة إلى الشعوب الأخرى وهذا جانب إنساني من الحضارة العربية الخالدة، وقد كتب الجاحظ رده الشهير على الشعوبية فقال :" اعلم إّنك لم تر قط قوما أشقى من هؤلاء الشعوبية ولا أعدى على دينه ولا اشد استهلاكا لعرضه ولا أطول نصبا ولا اقل غنما من أهل هذه النحلة ".
وبلغ من غيرة الجاحظ على لغته العربية أنه رفض أن يعلم أحد الأرمن اللغة العربية ويعرفه على أسرارها عندما علم كرهه للعرب, وكان هذا نوعا من رد الفعل على الاتجاه الشعوبي السائد .
وكلنا يذكر كيف واجه الأصمعي ادعاءات بشار بن برد وتفضيله الفرس على العرب وتخفيه تحت ستار الإسلام رغم أنه كان مجوسيا فارسيا قتله احد الخلفاء .

وقد أطلق على المواجهات الأدبية السابقة الذكر اسم " المواجهات الداخلية " حيث كانت تحصل ضمن المجتمع وبين أفراده وأدبائه وكتابه من الشعوبيين والعرب أما المواجهات الخارجية فقد تمثلت بشكل حروب دموية بين العرب وغير العرب من الشعوبيين الذين لاحظوا أن خطتهم في القضاء على اللغة العربية وتشويهها لم يجد نفعا فحاولوا استئصال العنصر العربي أو عزله.

1-ابن قتيبة:

(أ‌)التعريف به:هو عبد الله بن مسلم بن قُتيبة الدِّينَوري؛ أبو محمّد المروزي البغدادي، ويعرف بالقتبي والقتيبي، ولد ببغداد _ على الراجح _ سنة 213هـ ، ونشأ بها، وتعلّم، فدرس الحديث والفقه على إسحاق ابن راهويه، وحرملة التجيبي، وغيرهما، واللغة والأدب على أبي إسحاق الزيادي، وأبي الفضل الرِّياشي، وأبي حاتم السِّجستاني، والجاحظ، وأبي سعيد الضرير، وجماعة وردوا بغداد، ولما تمكَّن من العلوم والفنون جلس للإفادة في بغداد، فحدَّث بها، وصَنَّف، وجمع، فبعد صيته، وسارت الركبان بمؤلفاته وتزاحم عليه الطلاب، ومن أشهرهم : ابنه أحمد، وابن درستويه النحوي المشهور، وقاسم بن أصبغ القرطبي، وغيرهم، وقد ولاَّه الفتح بن خاقان وزير المتوكل قضاء الدِّينَور، فأقام بها مدة نُسِبَ من أجلها إلى دِينَور، ثم رجع إلى بغداد، ولم يزل بها يفيد حتى وافته المنية سنة 276هـ ، وكان رأساً في العربية، والأدب، والنوادر، والأخبار، وأيام الناس، ثقةً، دَيِّناً، فاضلاً، مشهوراً باتباع السنة ومنهج السلف، وكتبه فوق الستين، المطبوع منها : الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة، أدب الكاتب، الأشربة، إصلاح غلط أبي عُبيد في غريب الحديث، الأنواء، تأويل الرؤيا، تأويل مختلف الحديث، تأويل مشكل القرآن، تفسير غريب القرآن، الشعر والشعراء، عيون الأخبار، غريب الحديث، فضل العرب والتنبيه على علومها، المسائل والأجوبة في الحديث واللغة، المعارف، المعاني الكبير، الميسر والقداح (7).
(ب) كتاب "العرب" أو "الرد على الشعوبيّة":ويورد ابن عبدِ ربِّه في "العقد الفريد" قول الشعوبيّة، وهم أهل التسوية، ثم يُخصّص باباً؛ يُلخّصُ فيه ردود الإمام ابن قتيبة، باسم "رد ابن قتيبة على الشعوبية"
قال ابن قتيبة في كتاب تَفْضِيل العرب: وأما أهلُ التّسْوية فإنَّ منهم قوّماً أخذوا ظاهر بَعْض الكِتاب والحديث، فَقَضَوا به ولم يُفتشوا عن مَعناه، فَذَهبوا إلى قَوله عزّ وجلّ: " إنَّ أكْرَمَكم عِنْد الله أتْقالم " ، وقوله: " إنّمَا المُؤمِنُونَ إخْوَةٌ فأصْلِحُوا بَين أخَويكم " ، وإلى قول النبي عليه الصلاةُ والسلامُ في خُطبته في حِجّة الوَداع: أيها الناس، إنَّ الله قد أذهب عنكم نَخْوة الجاهليّة وتَفَاخرها بالآباء، ليس لِعرَبيّ على عَجميّ فَخْر إلا بالتَّقوى، كُلّكم لآدمَ وآدمُ من تُراب. وقوله: المُؤمنون تَتَكافأ دِماؤُهم ويَسْعى بذِمّتهم أدناهم وهم يدٌ على من سِوَاهم وإنما المَعنى في هذا أنَ الناس كلَّهم مِن المؤمنين سَواء في طريقِ الأحكام والمنزلةِ عند الله عزّ وجلّ والدَّار الآخرة، ولَو كان النِّاس كلهم سواء في أمور الدنيا ليس لأحد فَضْل إلا بأمر الآخرة، لم يكن في الدُنيا شر يف ولا مَشْروف، ولا فاضِل ولا مَفْضول. فما مَعْنَى قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريمُ قَوْم فأكْرِموه؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذَوِي الهيئات عَثَراتهم؛ وقوله صلى الله عليه وسلم في قَيْس بن عاصم: هذا سيّد الوَبَر. وكانت العرِب تقول: لا يَزال الناسُ بخير ما

تَباينوا فإذا تَساوَوْا هَلَكوا. وتقول: لا يَزالون بخيْر ما كان فيهم أشْراف وأخْيار، فإذا جُمّلوا كلهم جملة واحدة هَلَكوا. وإذا ذَمَّت العربُ قوماً قالوا: سَواسية كأسْنان الحِمار. وكَيف يَستوي الناسُ في فَضَائلهم، والرجلُ الواحد لا تَسْتوي في نَفسه أعضاؤه ولا تَتكافأ مَفاصِله، ولكنْ لبعضها الفضلُ على بعض، وللرأس الفضل على جميع البَدَن بالعَقْل والحواس الخمس. وقالوا: القلبُ أمير الجَسَد، ومن الأعضاء خادمُه ومنها مَخْدومه. قال ابن قُتيبة: ومن أعظم ما ادّعت الشّعوبية فَخْرُهم على العَرب بآدم عليه السلام، وبقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تفُضلوني عليه فإنما أنا حَسنة من حَسناته؛ ثم فَخْرُهم بالأنبياء أجمعين، وأنهم من العَجم غيرَ أربعة: هُود وصالح وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، واحتجّوا بقول الله عزّ وجلّ: " إنَّ الله اصطفي آدم ونُوحاً وآل إبْراهيمَ وآلَ عِمْران على العَاَلمين. ذُرّيَةً بَعضُها مِنْ بَعْض واللّهُ سَمِيعٌ عَليم " . ثم فَخَروا بإسحاق بن إبراهيم، وأنه لِسَارة وأن إسماعيل لأمَة تُسمَى هاجَر. وقال شاعرهم:
في بَلدة لم تَصل عُكْلٌ بها طُنُباً ... ولا خِبَاء ولا عَكّ وهمْدانُ
ولا لجَرِم ولا بَهراء من وَطَن ... لكنّها لِبَني الأحرار أوطان
أرضٌ يُبني بها كِسْرى مسَاكِنَه ... فما بها من بَني اللَّخْناء إِنْسان
فَبنو الأحرار عندهم العَجم، وبنو اللخناء عندهم العَرب، لأنهم من وَلد هاجَر، وهي أمة. وقد غَلطوا في هذا التأويل، وليس كل أمة يقال لها اللخناء، إنما اللخناء من الإماء المُمْتَهنة في رَعْي الإبل وسَقْيها وجمع الحَطب. وإنما أخذ من اللَّخَن، وهو نَتن الرِّيح، يُقال: لَخنُ السقاء، إذا تَغيّر ريحُه. فأما مِثْلُ التي طَهّرها الله من كل دَنس، وارتضاها للخليل فِرَاشا، وللطِّيبَينْ إسماعيل ومحمدٍ أمّاً، وجَعلهما لها سُلالة، فهل يجوز لِمُلحد فضلاً عن مُسلم أن يُسمِّيها لَخْناء.(8)

2-الجاحظ:

(أ‌)التعريف به: هو أبو عثمان عمرو بن بحر ولد في البصرة وقضى فيها أكثر عمره ولكنه في 204هـ رحل إلى بغداد ثم علا نجمه لما اتصل بوزير الخليفة المعتصم محمد بن عبد الملك الزيات فأصبح من الموسرين وذاع صيته في العالم الإسلامي .. ومن أشهر كتبه: نظم القرآن ،البيان والتبيين، والحيوان، وفضيلة المعتزلة، والرد على اليهود، الرد على النصارى، البخلاء، كتاب اللصوص وغيرها ذلك من كتب ورسائل.. ثم رجع إلى البصرة وهناك أصيب بشلل في جسده ومات في المحرم سنة 255هـ وعمره نحو ست وتسعين سنة. وقد: "تصدى الجاحظ وابن قتيبة لهذه النزعة الآثمة وردّا عليها رداً عنيفاً.

(ب‌)البيان والتبيين: عقد الجاحظُ في كتابه "البيان والتبيين" باباً طويلاً سماه "كتاب العصا" صوّر فيه طعن الشعوبية على العرب في خطاباتهم، إذ كانوا يشيرون فيها بالعصي والمخاصر، كما كانوا يتكئون على القسي، مما يصرف في رأي الشعوبيين الخاطر ويشغل الذهن أثناء الخطابة.. وزعموا أن الفرس أخطب من العرب .. وكل ذلك نازعهم الجاحظ في عنف شديد، ولكي يبلغ كل ما كان يريد إفحامهم ومقاومتهم جعل كتابه (البيان والتبيين) رداً مفحماً عليهم، إذ خصصه لعرض الثقافة العربية الخالصة في صورها المختلفة من الخطابة والشعر والأمثال، كي يروا رؤية العين ما في هذه الثقافة من قيم بلاغية وجمالية، فينتهوا عن مزاعمهم ويثوبوا إلى رشدهم" .

 السابع: الشعوبيّة النثريّة في الأندلس- عصر الطوائف والمرابطين:

يتحدث الدكتور إحسان عبّاس في كتابه "تاريخ الأدب الأندلسي؛ عصر الطوائف والمرابطين"، عن تلك النزعة الشعوبيّة، ويرى أنَّ الثورة على العرب، لم يُصرَّح بها، إلا بعد أن دُوِّلت الطوائف؛ حيث يقول: " فأما حين استقلت، دوّلت الطوائف، فقد أصبح التصريح بالثورة العنصرية على العرب أمراً ممكنا"

ويرى أنَّ هذه العنصريّة تمثلت في النثر، "وكانت الرسالة النثرية هي القالب الذي استغل للتعبير عن تلك الثورة" (9)

(أ) أصداء رسالة ابن غَرسِيَة في "تفضيل العجم على العرب":

"ففي ظل أبي الجيش مجاهد العامري أحد الموالي الصقالبة نشأ أبو عامر أحمد بن غرسية، أقوى صوت شعوبي في الأندلس، بل لعله الصوت الوحيد الذي سمعناه وكان أبو عامر نفسه حسما ذكر ابن سعيد، من أبناء نصارى البشكنس سبي صغيرا وأدبه مجاهد مولاه (المغرب 2: 406 - 407)، وظلَّ على موالاته لابن مجاهد الملقب إقبال الدولة (المغرب 2: 355)، وكانت بينه وبين أبي جعفر بن الجزار صحية أوجبت أن استدعاه من خدمة المعتصم بن صمادح ملك المرية، مفندا رأيه في ملازمة مدحه وتركه ملك بلاده (المغرب 2: 408).
وفي رسالته هذه إليه أعلن عن شعوبيته فذم العرب وافتخر بالعجم بني قومه. [ مما أدى إلى]:

1-"وأغلب الظن أن الجزار رد عليه، ونقض كلامه، ففسدت الصداقة بينهما حتى هجاه ابن غرسية بقوله:
بطرفة تعلم أصلا له ... عربت فسلها فما تنكر
ومثل بها وضما مائلا ... وشفرة جزر ولا أكثر
تجر ذيول العلي تأثما ... وجدكم الجازر الأكبر

2- رد عليه آخرون برسائل مطولة، ومنهم من كان من معاصريه ومنهم من جاء بعد عصره، فمن معاصريه:
- أبو جعفر احمد بن اللدودين ألبلنسي.
-وابن من الله القروي سمي رده " حديقة البلاغة ".
- وابن آبى الخصال، في رسالة سماها: " خطف البارق وقذف المارق في الرد على ابن غرسية الفاسق".

وممن رد عليه بعد زمن طويل وفي عصر الموحدين:

-أبو يحيى بن مسعودة.
- والفقيه أبو مروان عبد الملك بن محمد الأوسي.
- وابن الفرس.
- وعبد الحق بن فرج.
- وأبو الحجاج اليلوي.
- وهنالك رد لمجهول نحسبه معاصرا لابن غرسية".

(ب‌) قيمة الرسالة:

"ويتجلى من هذا أن قيمة رسالة ابن غرسية في الأدب الأندلسي ليست قيمة في ذاتها وإنما هي بمقدار ما أثارته حولها من ردود، وتدل كثرة الردود من جانب واحد على رسالة واحدة، أن الشعور بالعروبة كان قويا في الأندلس على مدى الزمن، وأن السند الشعوبي لم يكن على شيء من القوة الأدبية".

(ج) افتخار ابن غرسيه بالعناصر غير العربيَّة:

1-"أنهم ليسوا بعرب ذوي أينق جرب، حيثُ "يستهل ابن غرسية رسالته متهكما بابن الجزار " ذي الروي المروي، الموقوف قريضه على حللة أرش اليمن بزهيد الثمن، كأن ما في الأرض من إنسان إلا من غسان أو من آل حسان " . ويتهمه بأنه إنما انقطع لمدح الأمراء من العرب إزراء منه على " الصهب الشهب [الذين هم] ليسوا بعرب ذوي أينق جرب ".

2- "ولا يميز ابن غرسية في فخره بين مختلف العناصر غير العربية، فهو يفخر بالأكاسرة وبني الأصفر وبقومه أنفسهم ذوي الأرومة الرومية والجرثومة الاصفرية، ويفتخر بقدومهم وسري أنسابهم لم يحترفوا الحرف المهنية ويتجمد بشجاعتهم " إذا قامت الحرب على ساق وأخذت في اتساق " وإنهم فخر النادي" شدهوا برنات السيوف وبربات الشنوف وبركوب السروج عن الكلب والفروج ".

3- ويذكر إنهم ذوو نزعة أرستقراطية في ملبسهم ومسلكهم، فلا هم رعاة غنم، ولا غراس فسيل.
4- وينسب إليهم العلوم الفلسفية، " ذوو الآراء الفلسفية الأرضية، والعلوم المنطقية الرياضية، كحملة الاسترولوميقي والموسيقى، والعلمة بالارتماطيقى والجومطريقى، والقوة بالألوطيقى والبوطيقى " ؟.. " ما شئت من تدقيق وتحقيق، حبسوا أنفسهم على علوم البدنية والدينية، لا على وصف الناقة الفدنية ". (10)

(د) ثلبه للعرب، وانتقاصه منهم:

1-"ويصغر في مقابل ذلك من شأن العرب فينعتهم بأنهم رعيان يجلبون المواشي
2- حرفهم دنيئة.
3- يهتمون بالخمر والقيان.
4- يلبسون الخشن من الثياب.
5- ويأكلون أردأ المطاعم.

(هـ) فخره بالنبي العربيِّ؛ لكي يتستر على ما قاله،
" لكن الفخر بابن عمنا، الذي بالبركة عمنا، الإبراهيمي النسب، الإسماعيلي الحسب " ويقول: " بهذا النبي الأمي لفاخر من تفخر، وأكاثر من تقدم وتأخر، الشريف السلفين، والكريم الطرفين " . ويختم الرسالة بمثل ما بدأها به من الإنحاء على ابن الجزار لأنه لا يفقه وجه الصواب ويقول له: " فأذهب يا غث المذهب، وابتغ في الأرض نفقا، أو في السماء مرتقى، فهذه ألية جلبت عليك بلية " .

(و) أسلوب رسالته الشعوبيّة:

1-"ونلحظ في أسلوب الرسالة أن ابن غرسية جعله مسجعا تتفاوت فقراته في الطول، حتى تختلف أحياناً كل سجعتين، وأنه كان يبدأ أكثر فقراته فيها بكلمتين مسجوعتين، ثم يأخذ في التفصيل، كأن يقول: بصر صبر..شمخ بذخ.. وضح رجح.. حلم علم.. "

2-وهكذا، وبهذه الفواتح المزدوجة قيد الذين ردوا عليه واضطرهم إلى تناولها واحدة اثر واحدة. ومهما يكن من شيء فان السياق العام في هذه الرسالة يجعلها غريبة الوقع والموسيقى بالنسبة للنثر الأندلسي قي ذلك العصر".

(ز) ردُّ ابن الدودين البلنسي:

1-"افتتح رسالته بالسباب فقال: اخسأ أيها الجهول المارق، والمرذول المنافق، أين أمك، ثكلتك أمك وما علمت أنك سحبت من عقالك لعقالك، وقدمت أول قدمك، لسفك دمك، وبسطت مكفوف كفك لسلطان حتفك؟. " ويرى ابن الدودين أن غرسية لا يستحق الصلب، ويأسى على أنه ليس في حضرته أقيال ورجال ذوو حمية ليعاقبوه على ما تورط فيه " لكنك بين همج هامج ورعاع مائج " ويهدده بأنه سيعيد عليه فسحة الأرض العريضة ضيقة، ويرده إلى قومه وهو محلوق القفا محتزم بالزنار.

2-ثم يأخذ في توجيه الأوصاف التي أسبغها ابن غرسية على قومه وصرفها عن مواضعها، فإن كان قال فيهم: " رجح وضح " قال له ابن الدودين: " رجح الاكفال، وضح كذوات ربات الحجال " ؟وان قال: " علم حلم " وجه ابن الدودين هذا بقوله: " علم بالتداوي من القرم ومنافع القلم، حلم عن كل مجاوز الحلم " .

3- ثم يذمهم بعدم الغيرة وإباحة الفروج، ويرد إليه المعايب التي الصقها بالعرب واحدة بعد واحدة. فإذا قال أن العرب حاكة برود اتهمه بأن قومه هم كذلك: " فناهيك من الغفارة الإفرنجية إلى الديباجة الرومية والنسبتان بذلك تشهدان" ؛ وإذا عير العرب بسوء المطعم نفى ذلك وأردفه بقوله: " على أن لا افتخار في مشرب ولا في مطعم لعرب ولا لعجم" .
4-وحتى يأخذ مأخذ الأنصاف يقر لهم بعلم الطبائع وينكر عليهم علم الشرائع، ويصحح مفهوماته في بعض ما نسبه للعرب، وينزع عن قوم ابن غرسية صفات الفروسية التي الحقا بهم، ويضيفها إلى العرب: " مجالسهم السروج، وريحانهم الوشيح، وموسيقاهم رنات الردينيات، وطوبيقاهم السريجيات " ، ويوغل في هذا إذ يجد مجال القول ذا سعة.

5- ويختم رسالته بان يعيب ابن غرسية لأنه جاهل كشف عورات آله الأعاجم بضعف نظره وقصور منطقه".


(ح) ردُّ ابن من الله القروي:

1-" أظهر له فضل العرب حين ربته وليدا وعنيت بتخريجه وحسنت من ثقافته وعلمته اللغة التي بها يصول على العرب ويجول، وهذه مسألة لم يتنبه لها صديقه ابن الدودين في رده.

2- ويحاول ابن من الله أن ينفذ إلى أمور دقيقة حين يذهب إلى أن ليس للسخاء بالرومية اسم ولا للوفاء في العجمية رسم.
3-ويبتكر صفات مسجوعة لقومه العرب كالتي زعمها ابن غرسية لقومه من العجم، جاعلا صفاتهم مزدوجة في كلمتين فهم مثلا "سمر قمر" .
4- ثم يتحدث عن بأس العرب وتغلبهم على الأكاسرة والقياصرة وعن غزو القسطنطينية.

5-ويجري مجرى ابن الدودين في توجيه الصفات التي ذكرها ابن غرسية لقومه وفي صرفها عن وجهها. فإذا قال ابن غرسية إن قومه " ملس لمس " قال ابن من الله: " انتم كما وصفت ملس لمس، لا تغيرون ولا تغارون، ولا تمنعون ولا تمتنعون، قلوبكم قواء، وأفئدتكم هواء، وعقولكم سواء، قد لانت جلودكم، ونهدت نهودكم، واحمرت خدودكم، تحلقون اللحى والشوارب، وتتهادون القبل في المشارب " . وواضح كيف ألح كل من الرجلين ابن الدودين وابن من الله على ناحية الغيرة وعلى غمز ابن غرسية في هذه الناحية غمزات لاذعة.

5-ويكاد ابن من الله يتفوق على صاحبه ابن الدودين في شدة التدقيق والاستقصاء، وفي النفاذ إلى الأمور فيدل بذلك على قوة ملكه وسعة اطلاعه.

إلا أنه حين يصل إلى الفخر بالعلم يسقط سقطة شديدة، إذ يقول: " وفخرت بالرياضية والأرضية، صدقت ونبت عني في الجواب، هي كالرياض سريعة الذبول، كثيرة الجفول؟. وكالأرض الأريضة، ذات العرصة العريصة؟ وأما الاسترلوميقي الهندسية، فعلم عملي مبني على التقاسيم والتراسيم، وكله آلات للحالات، وأدوات للذوات، ومساحات للساحات " .

وإذ كان هذا العلم كذلك فهو في رأي ابن من الله علم أصحابه من العمال الممتهنين، والعرب بعيدة من المهنة. ولا يفرق القروي بين علم الهيئة وعرافة العرب، فيدعي أنه علم لهم فيه اليد الطولى.

6- ويبين فضل العرب في معرفة الشهور والأيام وانهم جمعوا علم الطب في كلمتين.
7- ثم يتحدث عن ميزتهم في الغناء واللحون ليثبت فضلهم في الموسيقى. " وأما الالوطيقى واللوطيقى فهنالك جاءت الأحموقى والاخروقى وظهر عجز القوم وبان أنهم أغمار ليس فيهم إلا حمار " .


ويختم الدكتور إحسان عبّاس، حديثه عن الشعوبيّة، في المجال النثريِّ، وكيف استطاع الشعوبيون، أن يناظروا العرب به، لكنه يشير إلى أن تلك المناظرات، ما بين الكتّاب، من كلا الفريقين، وخاصّة الشعوبيّة، لم تكن سوى افتئاتات، وقذف كاذب، يقول: "ويبين هذا الموقف القائم على المناظرة افتتات كل فريق، وتحيله بشتى ضروب الحيل لتوجيه الأمور وجهة تلائم نظرته ومنطقه، وإذا كان من شيء في هذا الضرب من الجدل، فهو تنكبه جادة المنطق والذهاب مع التعميم والتمويه، والسفسطة واللجوء إلى الغمز واللمز والسباب المكشوف. وقد أصبح الموضوع معرضا لإظهار البراعة في الرد، حين تناوله الناس بعد عصر ابن غرسية، ومجالا للتجارب الأسلوبية".(11)

 حديث أخير: "في الشعوبيّة ثم في أفضليّة جنس العرب"

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية – رحمه الله –(12): » فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة : اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم ، عبرانيهم وسريانيهم ، روميهم وفرسيهم وغيرهم « .
ثم قال (13): » وأن قريشاً أفضل العرب ، وأن بني هاشم أفضل قريش ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق نفساً ، وأفضلهم نسباً « .
وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم لمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، وإن كان هذا من الفضل . بل هم في أنفسهم أفضل ، وبذلك يثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفساً ونسباً ، وإلاَّ لزم الدور .
ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها : هذا مذهب أئمة العلم ، وأصحاب الأثر ، وأهل السنة المعروفين بها ، المقتدى بهم فيها ، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها .
فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب ، أو طعن فيها ، أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة ، زائل عن منهج السنة ، وسبيل الحق .
وهو مذهب أحمد ، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد ، وعبدالله بن الزبير الحميدي ، وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا ، وأخذنا عنهم العلم ، وكان من قولهم : إن الإيمان قول وعمل ونية . وساق كلامًا طويلًا .. إلى أن قال : ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ، ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( حبُّ العرب إيمان ، وبغضهم نفاق ) .
ولا نقول بقول الشعوبية ، وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ، ولا يقرون بفضلهم ، فإن قولهم بدعة وخلاف . ويروى هذا الكلام عن أحمد نفسه « .
ثم قال (14): » وذهبت فرقة من الناس أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم , وهؤلاء يُسَمَّوْنَ الشعوبية ؛ لانتصارهم للشعوب ، التي هي مغايرة على جنس العجم . وهؤلاء يسمون الشعوبية ؛ لانتصارهم للشعوب ، التي هي مغايرة للقبائل كما قيل : القبائل : للعرب ، والشعوب : للعجم . ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب . والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق إما في الاعتقاد ، وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس ، مع شبهات اقتضت ذلك . ولهذا جاء في الحديث : ( حب العرب إيمان وبغضهم نفاق ) .
وفي رأيي المتواضع أن الشعوبيين من الفرس والأتراك يحقدون على الإسلام من خلال الطعن بالعرب، ويحقدون على العرب من خلال التشكيك بالإسلام.
ثم قال (15): » مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس ، ونصيب للشيطان من الطرفين ، وهذا محرَّم في جميع المسائل ، فإن الله قد أمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعاً ، ونهاهم عن التفرق والاختلاف ، وأمرهم بإصلاح ذات البين « .
ثم قال (16): » فإن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها ، ثم خصَّ قريشاً على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النبوة ، وغير ذلك من الخصائص « .ثم قال(17): » وسبب هذا الفضل – والله أعلم – ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم . وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع ، وإما بالعمل الصالح ، والعلم له مبدأ ، وهو قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ وتمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة . والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة . ولسانهم أتم الألسنة بيانًا وتمييزًا للمعاني ، جمعًا وفرقًا ، يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل إذا شاء المتكلم الجمع .. « .
وقال – رحمه الله –(18): » وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله اصطفى كنانه من بني إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم . فأنا خيركم نفساً وخيركم نسبًا .
وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم ، كما أن جنس قريش خير من غيرهم ، وجنس بني هاشم خير من غيرهم . وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ) .
لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كلُّ فرد أفضلَ من كل فرد ، فإن في غير العرب خلقاً كثيراً خيراً من أكثر العرب . وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش . وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم « .
وقال – رحمه الله – (19): » إن بني هاشم أفضلُ قريش ، وقريشًا أفضلُ العرب ، والعربُ أفضل بني آدم .وقال (20): » فغلب على العرب القوة العقلية النطقية ، واشتق اسمُها من وصفها فقيل : عرب من الإعراب ، وهو البيان والإظهار ، وذلك خاصة القوة النطقية .. ولهذا كانت العرب أفضل الأمم ... « .


الحواشي والمصادر والمراجع

(1) تاج العروس من جواهر القاموس: الزبيدي. تحقيق: عبد الستّار أحمد فراج. ص(3/143-144). الكويت: مطبعة حكومة الكويت، 1965.
(2) أساس البلاغة: الزّمخشري. تحقيق: محمد باسل عيون السّود. ص (1/509). لبنان: بيروت، دار الكتب العلميّة، ط1.
(3) العصر العبّاسيُّ الأوَّل: شوقي ضيف.(الشعوبيّة والزندقةُ)، ص74 مصر: دار المعارف، ط6.
(4) السابق : (الشعوبيّة والزندقةُ)، ص75.
(5) البيان والتبيين (1 /1043).
(6) الأغاني: الأصفهاني. تصحيح: أحمد الشنقيطي (ج4 ص120)، مصر: مطبعة التّقدم.
(7) مصادر ترجمته: تهذيب اللغة للأزهري (1/30)، سير أعلام النبلاء للذهبي (13/296) وتراجم أخرى .
(8) العقد الفريد: تحقيق عبد المجيد الترحيني. الجزء الثالث- ص ص356 ، 357 لبنان: بيروت، دار الكتب العلميّة، 1983
(9) تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين). إحسان عباس. ص 171. لبنان: بيروت، دار الثقافة، ط2، 1978
(10) السابق: ص 171-173
(11) السابق: ص 173-176
(12) » اقتضاء الصراط المستقيم « ( 1 : 419 ).
(13) نفسه ( 1 : 420 ).
(14) نفسه ( 1: 421 )
(15) نفسه ( 1 : 422 )
(16) نفسه ( 1 : 431 )
(17) نفسه ( 1 : 447 )
(18) مجموع الفتاوى: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى : 728هـ). ص( 19 : 29 ) تحقيق: أنور الباز - عامر الجزار. دار الوفاء، ط 3، 2005 م.
(19) » مجموع الفتاوى « ( 27 : 472) » (20) مجموع الفتاوى « ( 15 : 431 )