الأحد، 27 ديسمبر 2015


«المحاضر» الموريتانية.. قلاع العلم الصامدة في أعماق الصحراء


"المحاضر" .. مؤسسات دينية وتعليمية موريتانية قاومت الاستعمار الثقافي وحافظت على الأصالة والهوية العربية الإسلامية في أعماق الصحراء لأكثر من ألف عام، اشتهرت بها بلاد "شنقيط" على مدى قرون، وامتدت شهرتها إلى الكثير من بقاع العالم العربي والإسلامي مع خريجيها من العلماء الموسوعيين الذين أثروا الحياة الثقافية وتصدروا مجالس العلم والأدب ومراكز الفتوى والقضاء في شمال إفريقيا وغربها وفي عدد من بلدان المشرق العربي كمصر والسودان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن والعراق..
تعود نشأة "المحاضر" في موريتانيا لأكثر من ألف سنة عندما تأسست دولة المرابطين في شمال إفريقيا والتي أقام زعيمها الديني عبد الله بن ياسين الجزولي، رفقة القائد اللمتوني يحيى بن إبراهيم أول رباط ديني وثقافي في الجنوب الغربي لموريتانيا الحالية قرب شاطئ المحيط الأطلسي في القرن الخامس الهجري، ومع توطد أركان الإسلام في بلاد شنقيط وانتشاره في منطقة غرب إفريقيا عموما، بدأت مؤسسة "المحظرة" تلعب دورها الديني والتعليمي بشكل بارز بين القبائل الموريتانية وخصوصا قبائل "الزوايا" التي كانت تتحمل مسؤولية التعلم والتعليم في المنطقة، ومعها تعزز دور ما عرف "بالمحاظر"، وهي كما يصفها الباحث الموريتاني الشيخ الخليل النحوي: "جامعات بدوية أهلية متنقلة تلقينية فردية التعليم طوعية الممارسة"، وقد جسدت هذه المؤسسة التعليمية نموذجا فريدا للتكيف بين حياة البدو الرحل واستمرار التعليم والتدريس، مما أنتج "الثقافة البدوية العالمة الوحيدة في العالم" كما يصفها بعض الباحثين، وهي التي عرفتها بلاد شنقيط موريتانيا الحالية.
وتشتق كلمة "المحظرة" حسب رأي بعض الدارسين من طبيعة المساكن التي كان يسكنها التلاميذ قديما وهي عبارة عن بيوت مصنوعة من الحشيش وأغصان الأشجار، فيما يذهب آخرون إلى أنها مشتقة من حضور الطالب درس الشيخ وأبدلت الضاد ظاء، أو أنها من الحظر بمعنى المنع أي أن الطالب يمتنع فيها عن كل مالا يرضاه الشرع، لكن هذا الاسم ظل في جميع الأحوال يرمز عند الشناقطة للعلم والتعلم والأدب الموسوعي.
المحظرة.. منهاج تربوي متكامل وفريد
كانت المحاظر الموريتانية وما زالت تقوم بنفس الدور الذي تقوم به الجامعات والمعاهد والمدارس الدينية الحديثة، حيث يتوافد عليها التلاميذ من بداية السنة الخامسة من العمر، ليستقبلهم أحد شيوخ الحي متطوعا لتعليمهم ابتغاء لأجر الله، وتبدأ المرحلة الابتدائية في المحظرة بكتابة الحروف الأبجدية في لوح خشبي مصمم لذلك الغرض، تسطر عليه الحروف بمداد يجهز من ماء مخلوط بفحم وصمغ يضمن بقاء الدرس فترة طويلة عليه.
وبعد إتقان تهجية الحروف ينتقل الطالب لكتابة القرآن وحفظه بدءا بقصار السور، و في بعض المحاظر الموريتانية يبدأ الطالب بالنحو والشعر حتى تستقيم قراءته قبل الشروع في كتابة القرآن، وتقدم للطالب عند حفظه للكتاب العزيز التهاني الخاصة وتخضب يده بالحناء احتفالا وتكريما له، ليتابع بعد ذلك دراسة علوم القرآن وفروض العين من عقيدة وفقه، بموازاة علوم الآلة التي يطلقونها على النحو والصرف واللغة والبيان والمنطق ومبادئ الحساب ثم يتوسع الطالب بعد ذلك في دراسة تلك الفنون حتي يتخرج بإجازة من شيخ المحظرة تمكنه من التدريس والإمامة و تولي القضاء بين الناس.
وفي ذلك يقول العلامة الشنقيطي محمد فال بن متالي:
وقدم الأهم إن العلم جم
والعمر ضيف زار أو طيف ألم
أهمه عقائد ثم فروع
تصوف وآلة بها الشروع
ولم يكن شيوخ المحاظر يأخذون أي أجر على تفرغهم وتدريسهم فيها، وان كان من المعتاد أن يهدي ذوو الطلاب معلم القرآن خاصة هدايا تتمثل في ناقة أو بقرة عن كل طالب يتخرج على يديه، كما كان طلاب المحاظر يتسابقون لخدمة شيوخهم وتأدية المهام والمسؤوليات التي يكلفونهم بها. ويبدأ الدرس اليومي في المحظرة، قبل طلوع الفجر درسا ومذاكرة واستظهارا حول موقد النار لتتواصل طيلة اليوم حيث يتقدم الطلبة فرادى ومجموعات إلى الشيخ لضبط الدرس اليومي وتصحيحه، ثم يكرر الطالب الدرس حتى يحفظه ويعود للشيخ ليقوم بشرحه، ليعود إلى التكرار والمراجعة. وقد اعتمد طلاب المحظرة على حفظ العلوم المدروسة وذلك للتوفيق بين متطلبات البداوة والترحال الدائم، وبين ضرورة استيعاب مختلف تلك العلوم، ويرى بعض الدارسين أن ذلك كان اهم أسباب انتشار ظاهرة نظم القواعد والمسائل والمتون المدروسة، وقد تميزت فترة ازدهار المحاظر تاريخيا في موريتانيا بصعوبة في الحياة البدوية وشظف في العيش، لكن ذلك لم يؤثر على مستوى التعليم في المحاظر، ولا من كثافة أعداد من يؤمونها، والذين اتخذوا من الصبر والقناعة والتضحية زادهم الأكبر، رغم قساوة الطبيعة يقول أحدهم:
تلاميذ شتى ألف الدهر بينهم
لهم همم عليا أجل من الدهر
يبيتون لا ستر لديهم سوى الهوا
ولا من سرير غير أعمدة غبر
وفضلا عن ذلك فقد كان للمحظرة نظامها الخاص بها فيما يعني العطل، فقد كانت عطلة الاسبوع تبدأ من عصر الأربعاء إلى ظهر الجمعة، كما يستفيد الطلاب من خمسة ايام قبل الأعياد الدينية وخمسة بعدها ويسمون ذلك "خروج"، ويبقى الطالب مخيرا دوما في وقت القدوم على المحظرة وفترة الذهاب عنها، كما في وقت درسه اليومي، مع مراعاة أوقات فراغ الشيخ وظروف باقي الطلبة الدارسين.
ويحظى شيخ المحظرة بقدر كبير من الإجلال والتقدير ويتسابق الطلبة لخدمته والقيام بمهامه ويعتبرون السعي في ذلك من أسباب الفهم والفتح، وكان الشيخ إلى جانب دوره التعليمي مربيا ومفتيا وقاضيا ومصلحا ووجيها اجتماعيا لا ينعقد في الحي أمر دون حضوره ومشورته.
أما عن الظروف المعيشية فقد كان الموسرون من الطلبة يصطحبون معهم عند التوجه للمحظرة ناقة أو بقرة حلوبا، أما الطلبة الفقراء فيتولى الشيخ نفقتهم ويسمون "مؤبدين" كما يستفيدون من التكافل الاجتماعي على مستوى الحي.
ولم تحد ظروف البيئة الصحراوية والتنقل المستمر للبدو بحثا عن الماء والكلأ من عزائم الموريتانيين الأول في سبيل نشر الدين الإسلامي وثقافته العربية في شبه المنطقة، وفي ذلك يقول العلامة الشنقيطي االمختار ولد بونه الجكني المتوفي سنة 1220هـ :
ونحن ركب من الأشراف منتظم
أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
بها نبين دين الله تبيانا
ضحية للإهمال والتهميش.. رغم ما قدمته للمجتمع
رغم ما كان للمحظرة من مكانة عند الموريتانيين، حيث كان الدارسون بها يمثلون أكثر من 80% من الأولاد في سن الدراسة في المجتمع الموريتاني ما قبل الاستقلال، إلا أن الملاحظ أن هذا الدور قد تراجع أمام انتشار التعليم النظامي الحديث، والذي يغري الكثير من الأهالي بحصول أبنائهم على الوظائف العمومية، في الوقت الذي تغلق أبواب كثير من الوظائف أمام خريجي المحاظر مالم يحصلوا على شهادات من المدارس الحكومية، ومع ذلك فمازالت المحاظر تنتشر في العاصمة نواكشوط وفي المدن والأرياف وغالبا ما ترتبط بالمساجد، فالمحاظر الكبيرة في العاصمة تقع في رحاب المساجد بل وتسمى أحيانا باسم المسجد الذي تجاوره كمحظرة مسجد الإمام بداه بن البوصيري في لكصر، ومحظرة مسجد قطر في الميناء، ومحظرة مسجد الشرفاء بتفرغ زينه. ويرى عدد ممن تحدثوا لـ [ عن واقع المحظرة الموريتانية، أن الحكومات المتعاقبة منذ استقلال البلاد لم تقم بما يجب عليها تجاه هذه المؤسسة العلمية الفريدة التي حفظت هوية البلاد وقاومت الاستعمار وقدمت المئات من الأطر الأكفاء الذين لم يتلقوا أي تكوين يذكر خارج تلك المدارس الأهلية، فكانت غالبية موظفي التعليم والقضاء والإدارة العامة بل وحتى القوات المسلحة ممن درسوا في المحاظر بالدرجة الأولى، حيث "كان من واجب الدولة ومسؤوليتها أن تولي أكبر العناية لهذه المؤسسات وأن تمنح شيوخها وطلابها نفس المكافآت والتشجيعات التي تحظى بها المدارس والجامعات الحديثة".
جهود متواضعه وتحديات كبيرة تواجه المحظرة الموريتانية
أنشأت الدولة الموريتانية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي بدعم من المملكة العربية السعودية "المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية" لاستيعاب الشباب من خريجي المحاظر، حيث يمنحهم المعهد بعد أربع سنوات من الدراسة شهادات تعادل الشهادة الجامعية.
و تتيح لحاملها دخول سلك القضاء والمحاماة والتعليم والعديد من الوظائف الأخرى. كما أنشئت إدارة للمحاظر والتعليم الأصلي تتبع لوزارة الشؤون الإسلامية وتتولى الربط بشكل مباشر بين الدولة والمؤسسات المحظرية وتقدم لها دعما ماليا سنويا.
ويقول رئيس مصلحة التكوين والبرمجة بإدارة المحاظر في نواكشوط محمد عبد الرحمن ولد ميمين إن المحظرة الموريتانية ظلت تمثل صمام الأمان لهذا البلد فى دينه وثقافته وهويته ومنها كانت أول مقاومة تواجه المستعمر الفرنسى في موريتانيا، ويضيف ولد ميمين في حديث لـ""[" عن واقع المحظرة إن عدة قبائل موريتانية تعرضت لعقاب المستعمر وسجن الكثير من أفرادها، بسبب رفضها تدريس أبنائها فى مدارسه وتمسكها بمدرستها التاريخية الأصيلة "المحظرة"، والحق ماشهدت به الاعداء، فقد قال القائد الفرنسي:"رينه كايه" فى أحد تقاريره عن أوضاع موريتانيا إبان فترة الاستعمار : ان الدولة الفرنسية تواجه فى "موريتانيا عقبتين أساسيتين هما: المشايخ والمحاظر. ولذلك ينبغي الاعتراف أن المحاظر الموريتانية هي التي يعود لها الفضل في حمل مشعل المقاومة الثقافية للاستعمار في بلادنا. أما طرق التدريس فى المحظرة وبشكل مختصر، فهي أن يجتمع التلاميذ حول الشيخ المعروف باسم "لمرابط" ويستمعون له وهم يكتبون في ألواحهم الخشبية مايلقيه عليهم من دروس مختلفة".
وعن واقع مشكلات المحاظر الآن فى موريتانيا وتراجع دورها الثقافي يضيف ولد ميمين بقوله: إذا كان العدد الإجمالي للمحاظر الموريتانية في هذا الوقت حسب آخر إحصاء لوزارة الشؤون الاسلامية يقدر بـ 7000محظرة فإن هذه المؤسسات التعليمية الأصلية، تعاني جملة من المشاكل جعلتها غير قادرة على النهوض وأداء دورها الحضاري المعهود، فالدولة لم تستطع حتى الآن تنظيم هذه المؤسسات المحظرية وضبطها وتنظيم مناهجها التعليمية، حتى تستطيع تقديم الدعم لها، بل إن ما كان يحصل عليه شيخ المحظرة الواحدة من الدولة الموريتانية لايتجاوز 3000 أوقية أي اقل من15 دولارا للسنة، وهومبلغ لايساوى أي شيء، وقد وصلت تلك المساعدات السنوية 15000 أوقية وهو ما يزيد قليلا على 50 دولارا ، أما المحاظر المركزية الكبيرة مثل محظرة الشيخ بداه ولد البوصيري "أول مفتي رسمي" لموريتانيا وإمام مسجدها الجامع فتحصل على 150 ألف أوقية 600 دولار سنويا، غير أنه وعلى العموم تبقى هذه المبالغ زهيدة ولا تساوي شيئا بالمقارنة مع جهود المحظرة ومكانتها، حيث يصل طلاب بعض المحاظر المئات أحيانا، لكن بفضل الله تبارك وتعالى تستمد المحظرة قوة صمودها من القرآن العظيم وتمسكها بالمنهج الإسلامي الاصيل.
ويختم ولد ميمين حديثه لـ «[» بالقول: "لدينا الأمل الكبير مع الإدارة الجديدة للوزارة الوصية أن يتم بحول الله تذليل الكثير من العقبات المادية التي كانت تعترض سبيل المحاظر، فهناك تجاوب مع بعض مطالبنا مثل زيادة المخصصات المالية للمحاظر وضمان توظيف الخريجين منها وولوجهم للوظائف العمومية.
وفي السياق ذاته، تحدث لـ [ محمد المصطفى ولد الزوين شيخ محظرة وإمام مسجد بنواكشوط، فقال إن محظرته تأسست على يد جده ثم تابع والده التعليم بها ليصل إليه الدور في الوقت الحالي، مضيفا أن محظرته خرجت العديد من حفظة القرآن وقد كنا ندرس بها القرءان الكريم وابن عاشر والرسم والنحو وغير ذلك من العلوم الفقهية واللغوية.
وبخصوص وضع المحاظر اليوم قال ولد الزوين انها تعاني الكثير من الفوضوية وقلة التنظيم، حيث اختلط الحابل بالنابل كما يقولون، واصبح كل من هب ودب أو كل من قرأ أجزاء من القرآن يستطيع فتح محظرة فهناك أشخاص غير معروفين ولا يمتلكون الكفاءة والقدرة على تدريس القرآن وغير مؤهلين أصلا يدفعهم السعي للحصول على الرزق لامتهان هذه المهنة دون أن يكونوا أهلا لذلك.
وأضاف الشيخ محمد المصطفى أن المحاظر تعاني من جانب آخر من إهمال الدولة وعدم دعمها بالرغم مما لعبته المحاظر الحقيقية عبر التاريخ الموريتاني من دور مهم فى نشر العلم وإشاعته بين صفوف المجتمع الموريتاني ونذكر من تلك المحاظر بعد الاستقلال محظرة أهل عدود ومحظرة اباه ولد محمد لمين ومحظرة بداه ولد البصيرى وغيرهم كثير.
ويضيف محمد المصطفى إن المبالغ المالية التى أصبح بعض أولياء الطلبة يمنحونها لشيوخ المحاظر، مسألة جديدة على المجتمع ولم يجر العرف بها في السابق، فكان الشيخ يدرس القرآن وتفسيره والكتب الفقهية لطلابه دون مقابل مادي، فكان التلاميذ يقومون بأعمال خدمية لصالح الشيخ فقط وتتمثل في سقي النخيل ورعي الماشية وغير ذلك من النشاطات، بل كان من المعيب في المجتمع إلى حد ما أن يأخذ الشيخ أي مقابل مادي على تدريس القرآن.
وحول أوضاع المحظرة ومدى مواكبتها للمتغيرات قال اشريف ولد سيدي عبد الرحمن لـ [ إن الوضع يختلف من محظرة الى محظرة، فهناك محاظر عريقة، ومشهورة، مازالت تقاوم، وتستقطب الكثير من الطلاب سنويا، حتى من خارج البلاد، حيث يأتيها الطلاب من دول غرب افريقيا المسلمة ومن بعض دول المغرب العربي، حتي إن بعض الأوروبيين والأمريكيين ممن يعتنقون الإسلام يأتون للدراسة في المحاظر الموريتانية وخصوصا في ولاية اترارزة وتكانت ويشير ولد سيدي عبد الرحمن وهو خريج محظرة مسجد الشرفاء بنواكشوط إلى أن الشناقطة كانوا يمتازون بميزة الحفظ وقوة الذاكرة ومعرفة اللغة العربية الفصحي وكأنهم أهل هذه اللغة بالفطرة، مضيفا أن ذلك قد يكون أحد أسباب ظهور نموذج المحظرة الذي هو عبارة عن مدرسة فريدة من نوعها في العالم.

السبت، 26 ديسمبر 2015

«رحلة الشهاب».. رائعة الموريسكي الهارب من جحيم إسبانيا لنور الإسلام


«رحلة الشهاب».. رائعة الموريسكي الهارب من جحيم إسبانيا لنور الإسلام
 
السيد حامد

في عام 1599 استطاع أحد الموريسكيين الفرار من الحصار الإسباني المضروب على سواحل البحر المتوسط ، ليعبر بعد مغامرة مثيرة إلى مدينة “الجديدة” بالمغرب ، التي كانت تخضع آنذاك للاحتلال البرتغالي ، وبعد محاولات وتحايل على حراس المدينة استطاع خداع قائدها والفرار إلى أرض الإسلام ..

ويوفده السلطان في مهمة إلى هولندا ويناقش أميرها في خطة لاستعادة الأندلس ، ويناظر علماء الدين في أمستردام وباريس ..

وبعد تلك الأحداث بسنوات يكتب لنا بلغة عربية راقية قصة مغامرته ، وكيف تعلم العربية في الأندلس ، حتى صار مقربا من القساوسة ، وكيف وصل إلى البحر رغم الرقابة الصارمة ، وكيف فر إلى بلاد الأحباب بعد أهوال عاشها طول رحلة الهروب الكبير.

هذا الموريسكي هو أحمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قاسم ابن الشيخ الحجري والمعرف بالشهاب الحجري.. وكلمة الموريسكي تطلق على المسلمين الذين ظلوا في الأندلس بعد سقوط مملكة غرناطة عام 1492م..

والكتاب يحمل اسم ” رحلة الشهاب إلى بلاد الأحباب”. والأحباب هنا هم إخوانه في عدوة المغرب.. ويعد أهم مصدر تاريخي كُتب بعد طرد الإسبان المسلمين من الجزيرة الأيبيرية عام 1609.

الشهاب الحجري هو مثال للمثقف في زمانه ، يجيد عدة لغات: العربية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية ، والأخيرة يفهمها ولا يتكلمها .. مما أهله كي يتبوأ مكانة عالية في البلاط المغربي ، ويرسله السلطان في سفارة إلى بلاد فرنسا وهولندا .. وهناك نطالع معه محاوراته ومساجلاته في علم مقارنة الأديان ، ونتابع مناظراته مع علماء اليهود والنصارى.

وتبدأ مغامرة الشهاب الحجري حينما يقوم كبير قساوسة مدينة غرناطة بهدم صومعة قديمة في الجامع الكبير ليجد في جدرانها صندوق من الحجر ، يضم أوراقا مكتوبة بالعربية والعجمية ونصف خمار السيدة مريم عليها السلام.

كان الاكتشاف مذهلا ، وأراد القسيس الكبير أن يعرف المكتوب بالعربية ، وكانت التكلم بها من العقوبات التي تستوجب القتل ، بيد أنه استعان ببعض من كبار السن من الأندلسيين.

وبعد تلك الحادثة بسبع سنوات “جاء رجل من مدينة جيان ببعض كتب بعثها له بعض الأسارى من بلاد المغرب فيها ذكر كنوز في بعض المواضع ، فكان ذلك الرجل بقرب غرناطة على بعد ميل منها أو نحو ذلك ، وكان الموضع يسمي بخندق الجنة”.

ذهب الرجل إلى الموضع ، وحرك حجرا ، فوجد تحته غارا ، وفي ركن منه كلمات كتبها أتباع قديس قديم مكتوبة بالأعجمية تقول” هذا الموضع أحُرق فيه القسيس سسليوه”..

والقديس الذي يذكره الشهاب هو San Cecilio ، ويعده الإسبان واحدا من ثلاثة رسل بعثهم القديس بطرس إلى أيبيريا لنشر المسيحية والتبشير بها ، وكان من تلاميذ سيدنا عيسي عليه السلام وقُتل على دينه.

كان هذا الكشف الذي جاء بمحض الصدفة عام 1595 هو بداية معرفة الإسبان المسيحيين بواحد من أهم رجال الدين في تاريخهم ، فاهتموا بمعرفة ما كتب ، وإلى اليوم يحتفلون بذكري القديس سسليوه في الأحد الأول من شهر فبراير.

ولما فتش الرجال في الغار وجدوا بعض الحجارة معقودة فكسروها ووجدوا في قلب كل حجر كتابا وورقة رصاصا وكل ورقة قدر كف اليد. اكتشاف مذهل أشعل حماس الكنيسة.. بيد أن هناك مشكلة أعاقت إتمام الكشف العظيم .. فالأوراق مكتوبة بالعربية كما يقول الشهاب.

في ذلك الوقت كان الشهاب يجيد العربية سرا ، وكان يحضر مع الأندلسيين الذين يقومون بترجمة الرق المعثور عليه في صومعة غرناطة.. وحدث أن أحد القسيسين المقربين من كبير قساوسة غرناطة كان يتعلم العربية على يد شيوخ الأندلسيين.. ويقرأون كتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للعلامة الجغرافي المسلم الإدريسي .. فكانوا يتوقفون عند بعض الكلمات التي يستعصى عليهم فهم معناها ، فكان الشهاب يقول لهم معناها..

فأثار ذلك إعجاب ودهشة القسيس فقال للشهاب ” أنت تقرأ بالعربية ، فلا تخف ، لأن القسيس الأعظم يطلب عليَ من يعرف شيئا من القراءة العربية لعله يبين شيئا مما ظهر مكتوبا بذلك اللسان “.

وحينما ذهب للقسيس الأعظم كذب وقال أنه تعلم اللغة العربية على يد طبيب من أهل بلنسية ، وكان مباحا لهم الحديث بها في غير أمور الدين.

وبرر الشهاب اضطراره للكذب بأن الشيخ الإمام الغزالى في كتابه “إحياء علوم الدين” قال بأنه إذا مر عليك رجل من أهل الخير ، ثم جاء يطلبه رجل ظالم سائلا عنه ليضره ، فقل له : سار من تلك الناحية بعكس ما مشي فيها ، لينجو المطلوب من ظلم طالبه.

بداية الفرار

رغم المكانة العلمية والأدبية التي وصلها الشهاب الحجري لدي القشتاليين ، إلا أن فكرة الفرار إلى بلاد الإسلام سيطرت عليه وشغلت تفكيره ، وهو ما يدل على مدي إيمان أولئك الموريسكيين بدينهم ، ومخاطرتهم بحياتهم من أجل أن يعبدوا الله في أمان.

ولكي يرتب الشهاب لهروبه عبر البحر إلى المغرب ، كان عليه أولا أن يسافر إلى أشبيلية ، فذهب إلى القسيس وطلب منه أن يسمح له بزيارة بلده ، لأن والده يحب أن يراه ، وطاعة الوالدين واجبة كما يأمرنا الدين.

ودار بينه وبين القسيس حديث يكشف عن الأحوال الاجتماعية للموريسكيين تحت الاحتلال القشتالي والشك والريبة التي ظللت العلاقات بين الطرفين .. فالقشتاليين ينقمون على الموريسكيين أنهم لا يخالطون إلا بعضهم البعض .. والشهاب يري أن النصارى القدماء هم من يعادون الموريسكيين ، ويرفضون المصاهرة إليهم. وربما كانوا على حق، فالأندلسي ، مسلم ، له حياتين ، ودينين ، حياة عامة ، يذهب فيها إلى الكنيسة ، ويتزوج فيها ، ويتلق البركة من القساوسة , وحياة خاصة سرية يحي فيها الإسلام ، بل ويحول زوجته النصرانية إلى الإسلام.

كانت الثورة الكبرى للموريسكيين في 1568 قد كشفت عن كل ما يمكن أن يفرق بين أبناء الشعب الواحد ، ولم تكن الجراح لتلتئم بسرعة.

صار كل موريسكي هو موضع شك من جاره المسيحي الكاثوليكي ، وخائن ومتآمر مع أعداء العرش الإمبراطوري الإسباني من الأتراك والمغاربة.. ومارق ومهرطق في نظر الكنيسة الكاثوليكية ..

وبالمقابل صار كل مسيحي هو خصم.

فشلت كل المحاولات لتنصير الموريسكيين ، واقتلعهم من الهوية الإسلامية ، ليعشوا بهوية واحدة في المجتمع الإسباني ، يكنون الولاء للعرش ، ويعبدون الرب الكاثوليكي.

وفشلت سياسة تسهيل الزواج بين الطرفين ، كانت إسبانيا ترفض وبكل غطرسة أن يعيش على أرضها أبناء لها يتدينون بالإسلام.

ولهذا سعت الكنيسة دوما للفصل بين الشعب الإسباني.. ليصبح شعبين متعادين.. أقلية مسلمة في الخفاء.. وغالبية متعصبة ضدها.

وحرصت السلطات على الفصل الكامل بين الطرفين ( وإن كان هذا لا ينفي وجود تعاطف من بعض الإسبان مع إخوانهم الإسبان المسلمين)

حتى صار الموريسكيين غرباء عن مجتمعهم.. عاشوا على هامشه.. يتكاثرون ويعملون بكد وكفاح.. يقومون بالأعمال القاسية التي لا يقوم بها إخوانهم الإسبان الكاثوليك.

وانطفأت آمالهم بإمكانية التعايش المشترك.

المغامرة الكبرى

كانت البلاد التي تطل على البحر من بلاد الأندلس يحكم النصارى عليها الحراسة المشددة ، والبحث في من يرد عليها من الغرباء ، كل ذلك لكي لا يهرب المسلمين إلى بلاد المغرب.

من أجل ذلك، وعلى مدي سنوات بدأ الشهاب يعد نفسه للهروب الكبير..

لم يكن الشهاب وحده في تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر ، وإنما شاركه فيها صاحب من بلده يصفه بأنه “من أهل الخير والدين ومشي معي مهاجرا إلى الله وبلاد المسلمين”.

توجه الاثنان إلى ميناء سانت مريا saint maria على المحيط الأطلسي ، فلم يشك أهلها وحرسها فيهما ، لكونه يتحدث بلغتهم ويكتب بحروفهم.. وأقلتهما السفينة الإسبانية إلى مدينة “البريجة” على الجانب الأفريقي ، وكانت آنذاك تخضع للاحتلال البرتغالي منذ عام 1502 .. وظلت في قبضتهم حتى حررها السلطان المغربي محمد بن عبد الله عام 1769 ميلاديا

كان على الشهاب أن يدبر حيلة كي يهرب من البريجة ذات التحصينات المهولة , إلى مراكش التي تبعد عنها مسيرة ثلاثة أيام ، فأدعي أنه جاء للمدينة بعدما خلاف بينه وبين أهله في الأندلس ، ثم اشتري حصانا وكأنه ثري وليس هاربا من جريمة ، وبعدها بدأ يدرس أسوار البريجة وكيفية حراستها..

كانت المدينة محاطة بالماء من ناحيتين .. وتحرس فرق من الفرسان ناحية البساتين على الجانب البري للمدينة ، ولا يجوز لنصراني أن يتجاوز تلك القوات ويسير مبتعدا عنها خشية وقوعه في أيدي المسلمين.

لما رأي الشهاب تحصينات المدينة اتفق مع صاحبه على الخروج إلى البساتين ويتخفون في ظلام الليل ، ثم يتسللوا إلى مدينة أزمور التي تبعد عنها 3 فراسخ ، وفي حالة عثور قوات النصارى عليهما يدعي أحدهما أن الجان أصابه بالصرع ، فستلقي على الأرض ، ويخرج شيئا من فمه كالدم.

وفشلت المحاولة الأولي للهرب بعدما ذهب صاحب الشهاب سار إلى بستان قريب ، وهناك أخذ يحدثه صاحب البستان ، وهو لا يستطيع القيام متعجلا حتى لا نكشف أمره ، وطال حبال الحديث حتى أذنت الشمس في المغيب.

فكان لابد من حيلة جديدة للهروب!

ذهب الشهاب إلى القبطان وأخبره بعزمه على الرجوع إلى الأندلس في السفينة التي ستخرج من الميناء ، وعرض عليه أن يشتري له ما يريد من إسبانيا ، فسأله القبطان عن صاحبه ، فقال أنه يحب المكوث هنا.

اشتري الشهاب ما يحتاج إليه من طعام وحوائج للرحلة البحرية ، وتقابل وصاحبه مع التاجر الذي سيقل الشهاب .. وجلسا الصاحبان خارج أسوار المدينة وكأنهما ينتظران التاجر الذي كان خارجها .. وهما يدعوان الله أن يتأخر حتى يسدوا بوابة المدينة مع الغروب.

” ثم قالوا لصاحبي : ادخل عند سد الباب ، قلت لهم : دعوه معي حتى يخرج التاجر ، قالوا : نعم يقعد ، فأظلم الليل إلى أن صلينا العشاء الآخرة ، ثم دعونا الله أن يرشدنا ويسترنا من أعدائنا “.

نجحت الخطة أخيرا ..

قرر الشهاب أن يذهب إلى الشمال .. إلى مدينة أزمور .. كي يتجنب الطريق الذي يسلكه التاجر.. وليضلل الفرسان الذي سيتعقبونه كما هي عادتهم ويدركونه بالخيل.

وبعد ثلاثة أيام صعدا الهاربان على جبل ، يقول الشهاب : “ورأينا المسلمين يحصدون الزرع ... وفرحوا بنا فرحا عظيما وأعطونا الخبز والطعام الذي لم نره من يوم الجمعة قبل الزوال إلى يوم الاثنين عند الصحي”.

تحقق حلم الشهاب الحجري أخيرا .. ووصل إلى بلاد المسلمين .. ووصف ما رآه في الطريق إليهم بأنه “كأهوال يوم القيامة ” ، ووصوله إليهم “كدخول الجنة “.

في بلاط المنصور

اتصل الشهاب الحجري بسلطان المغرب أحمد المنصور ، والذي أعجب به ، وعينه مترجما لديوانه..

وفي عهد السلطان مولاي زيدان قام فيليب الثالث بطرد المسلمين من الأندلس عام 1609 ..

وحدث أن تعرض فوج منهم وهو في طريقه إلى المنفى للسرقة على طاقم البحارة..فأرسلوا إلى مولاي زيدان يشكون إليه ما تعرضوا له.. فأوفد السلطان أحمد بن قاسم الحجري إلى أوروبا .. لتبدأ رحلة جديدة للشهاب في بلاد الغرب..لكن هذه المرة إلى لاهاي وأمستردام وباريس.

وضع الشهاب الحجري كتابه حينما زار مصر بعد عودته من أوروبا بسنوات... وللأسف ما زال الكتاب مفقودا .. ولعله مخفيا في بطون إحدى المكتبات ينتظر من ينفض عنه التراب ويقدم للبشرية كتابا رائعا في أدب الرحلات ونظرة رحالة مسلم إلى الغرب في القرن السابع عشر الميلادي .. وما قدم من ملاحظات هامة ومعلومات قيمة لا تكتفي بالوصف السطحي.

فقدنا كتاب رحلة الأحباب ، لكن الشهاب كان قد اختصره في كتابه “ناصر الدين على القوم الكافرين” وهو الذي نعتمد عليه حاليا .. وحققه وعلقه عليه الدكتور محمد رزوق الأستاذ بجامعة بنمسيك بالدار البيضاء ، ويعاب على الكتاب ضعف التحقيق وعدم الاهتمام بتشكيلة الكلمات بالحركات الإعرابية.
 

السبت، 12 ديسمبر 2015

مع محدّث المدينة الشّيخ العلاّمة حمّاد بن محمّد الأنصاريّ

مع محدّث المدينة الشّيخ العلاّمة حمّاد بن محمّد الأنصاريّ
رحمه الله تعالى
للشيخ د/ جمال عزون

 
كان من فضل الله عليّ أوّل قدومي المدينة النّبويّة عام 1408هـ أن تعرّفتُ إلى شيخنا الجليل العلاّمة المحدّث النّبيل أبي عبد الباري حمّاد بن محمّد الأنصاريّ رحمه الله تعالى، حيث قصدتُّه في مكتبته العامرة بحيّ الفيصليّة مع فضيلة الدّكتور عاصم بن عبد الله القريوتيّ، فكان لقاء ميموناً، ومجلساً مباركاً، عامراً بالفوائد المستَمْلَحة.

إنّ شيخنا الأنصاريّ شخصيّةٌ علميّةٌ فذّةٌ، قدم إلى الحجاز من بلده "تاد مكّة"، من بلاد مالي، متضلِّعاً من علوم الآلة، خاصّة علم الحديث والعقيدة، حيث صار عَلَماً فيهما، ومرجعاً هامّاً لذوي الاختصاص، ولا غرابة حينئذ أن تسمع منه شوارد من عدّة فنون؛ من نحو، ولغة، وفقه، وأصول، وحديث، وعقيدة، وغير ذلك.

أمّا خِبرةُ شيخنا بالكتب؛ فهو فارس الميدان في ذلك! يخبر سائلَه عن الكتاب، مفقوداً أو مخطوطاً أو مطبوعاً، مبيّناً عدد نسخ المخطوط المتوفِّرة وما تيسّرت له رؤيته منها، ويلفت الانتباه إلى النّسخة الجيّدة، وأنّها بخطّ فلان وفلان من مشاهير أهل العلم، وهكذا دَيدنه مع المطبوع؛ يشير إلى طبعاته، ومتى امتلك النّسخة شراء، ويطرِبك في ذلك كلّه بقصص طريفة لا تخلو من فائدة، فكان مجلسُه مجلساً مباركاً يقصده كلّ يوم عددٌ من أهل العلم.

وطلاّبه ينهلون من علم الشّيخ ما قُدّر لهم، فلا يخلو دكتور أو أستاذ أو طالب إلاّ وللشّيخ عليه منّة علميّة، ومن تصفّح كثيراً من رسائل الماجستير والدّكتوراه التي نوقشت في الجامعة الإسلامية؛ وجد خير شاهد على ما أقول، من ثنائهم على شيخنا، وإسناد الفضل -بعد الله تعالى- إليه، في الاشتغال والتّوجّه إلى ذلك المخطوط، أو الكتابة في ذاك الموضوع.

إن شيخنا روضة معارف لا تُمَلُّ مجالستُه، كريم الضّيافة، يدخل الرّجلُ مكتبته، فيحظى بعلم وقِِرى، يسمع منه الفوائد ،وينال حظّه من القهوة والشّاي والرُّطَب، وتأبى سجيّتُه الكريمة إلاّ أن يختم ذلك كلّه بطيبٍ عاطر يعطِّر به زائرَه، وقد يعاتِبُه بعض الكبار في مبالغته في استعمال العود لزوّاره فيعتذر الشّيخ بأنّ الكتب لها هي الأخرى حظٌّ من بخاره! فانظر إلى كرمه، وجميل سجيّته، رحمة الله عليه.

لقد كان مجلسُ شيخنا بعد عصر كلّ يوم مجلساً حافلاً بالفوائد، ولو جرّد كلُّ طالب ما سمعه منه؛ لجاء سِفْراً كبيراً، مليئاً بأخبار الكتب -مخطوطِها ومطبوعِها- ولطائف الشّعر، وغرائب الأحداث والمشاهدات التي وقعت له في رحلاته، وأنباء من أدرك من مشايخ العلم وشيوخ الإجازات، إلى غير ذلك ممّا جادت به قريحته، رحمة الله عليه.

وممّا سمعتُه منه - رحمه الله - ممّا وجدتُّه في بعض التّعاليق بخطّي ما يلي:

1- قوله: إنّ المراجع ما ذهبت إلاّ بعد السُّيوطيّ.

2- ذكر الخطيب البغدادي -في ترجمة ابن حبّان- أنّ ابن حبّان ترك من التّراث ما لم يتركه غيرُه في زمنه، واستغربنا أين ذهبت! حيث لم نطلع إلاّ على قطعة من تلك الكتب، وأفاد أنّ ذلك بسبب الفتن، أو جهل من ورثها.

3- لمّا دخلتُ -والكلام للشّيخ- جامع القرويين، بِفاس، بالمغرب؛ وجدتُّ رفوفاً مليئة بالمخطوطات، لكنّك لا تستطيع أن تُنزِل منها مخطوطاً سليماً! بل بمجرّد لمسه يتناثر قطعاً قطعاً!! وكان المسؤول -لمّا وصلنا فاس- توفّي، وجاء أحدهم مؤقّتاً، فسألته: ما هذا الإهمال؟ قال: هكذا الكتب!

وأعاد الشّيخ سبب خراب مخطوطات القرويين لأمرين:

الأوّل: الإهمال.

الثّاني: كثرة الصّراصير والغبار على نحو لا يتصوّر! وهكذا الشّأن مع مكتبة ابن أبي زيد القيرواني في تونس؛ حيث تَلِفَت الكتب على نحو لا يتصوّر[1].

4- النّوم ثلاث لامات:

أ - عيلولة: وهو النّوم بعد العصر، وفيه حديث: «مَنْ نَامَ بَعْدَ العَصْرِ فَاخْتُلِسَ عَقْلُهُ؛ فَلا يَلُومَنَّ إِلاّ نَفْسَهُ». وهو حديث ضعيف.

ب- حيلولة: وهو النّوم بعد الفجر، يحول بين المرء وعمله، وفيه حديث: «اللَّهُمَّ، بَارِكْ لأمَّتِي فِي بُكُورِهَا». وهو حديث صحيح.

ج- قيلولة: وهو النّوم بعد الظُّهر، وهو مفيد، وفي الحديث: «قِيلُوا؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لا تَقِيلُ». حديث حسن.

5- قيل لأحدهم: (لا خيرَ في السَّرَفِ)!

فقال: (لا سرفَ في الخير)!

6- قال مالك:

(لا يقلْ أحدكم للمسكين: يرزقك الله!).

7- قال الشّاعر:

وَلِلْبَخِيلِ عَلى أَمْوَالِهِ عِلَلٌ [زُرْقُ الْعُيُونِ عَلَيْهَا أَوْجُهٌ سُودُ]

8- قال الشّاعر:

يَمُرُّونَ بالدَّهْنا خِفافاً عِيَابُهُمْ وَيَرْجِعْنَ مِن دارِينَ بُجْرَ الحَقَائِبِ

9- وقال الشّاعر:

وَيُقْضَى الأَمْرُ حِينَ تَغِيبُ تَيْمٌ [وَلا يُسْتَأْذَنُونَ وَهُمُ شُهُودُ]

10 - ازدحام العلم في السّمع مَزلَّةٌ لعدم الفهم.

11- رواة الموطَّأ كثير، منهم: يحيى بن يحيى اللَّيثيُّ، ويحيى بن بُكَيْرٍ، وأبو مُصعَب الزُّهْرِيُّ، وهو أشملُها، وأبو مُصعَب الزُّبيريُّ، والقَعْنَبيُّ، وابن زياد، وسُويدُ بن سعيد الحَدَثَانيُّ، وابن وهب، ومحمّد بن الحسن الشَّيبانيُّ، وابن القاسم، وهو أحسنُها، ومعن، وهو عكّازة مالك.

وقد مشى ابن بُكَير على طريقة يحيى بن يحيى اللَّيثي؛ لأنّه هو الموطّأ الذي تناولته الدّراسات واشتهر بين النّاس، أمّا الموطَّآت الأخرى -وتبلغ قريباً من 20 موطّأ، وكلّها روايات عن مالك، حيث إنّ كلّ طالب يكتب ما سمع- فتجد عند هذا ما ليس عند الآخر، فبهذا الاعتبار تعدّدت، وصار كلّ موطّأ فيه ما ليس في الآخر، وأكبرها موطّأ أبي مصعب الزُّبيري. وقد نبّه ابن عبد البَرِّ على اختلاف هذه الموطّآت في كتابه "التّمهيد".

سمعت هذه الفائدة حول الموطّآت عن شيخنا في مساء الأربعاء، 15 ذو القعدة، 1411هـ.

12- قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...﴾ [النساء:59].

* فقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ يعني: القرآن.

* ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾: السّنّة.

* ﴿وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ﴾: الإجماع.

* وقوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...﴾: يدلّ على القياس، وهو لا يُلجَأ إليه إلا للضّرورة، فهو كالميتة الخبيثة، أي: فإذا لم يكن كتاب، ولا سنة، ولا إجماع؛ فليُلجَأ للقياس.‏

والأقيسة ثلاثة:

1- المنطقي: وهو قياس فرد على كلّ، يستعمله المناطقة والفلاسفة والمتكلِّمون.

2- التّمثيليّ: وهو قياس جزء على جزء، يستعمله الفقهاء.

والقياس التّمثيليّ ثلاثة أقسام:

أ - قياس دلالة.

ب- قياس تشبيه.

ج- قياس علّة.

3- الاستقرائيّ: قياس كلّ على جزء، يستعمله اللُّغويُّون والنَّحْوِيُّون والمؤرِّخون.

ولا يوجد في الدّنيا قياس يخرج عن هذا.

13- العلم علم السّلف.

قال ابن مالك:

وَقَدْ تُزَادُ "كَانَ" في حَشْوٍ، كَ-: "مَا كَانَ أَصَحَّ علمَ مَنْ تقدَّما"

وكان شيخنا كثيراً ما ينشد هذا البيت في مجالسه؛ لمناسبة عَجُزِهِ في الدَّلالة على تفضيل علم السّلف.

14- اللِّنْجي[2] من سُنِّيَّة إيران، من أهل القرن الثّالث، له قصيدة مشهورة، ذيّل عليها الشّيخ تقيّ الدّين الهلاليّ بما يساويها.

وتقيّ الدّين الهلاليّ عالم يمتاز بالذّكاء العجيب، وقلّ علمٌ إلاّ وله منه نصيبٌ، من حديث، وتفسير، وعقيدة، ولغة، وأدب، وفقه، بحيث أخذ من كلّ علم طرفاً، ثمّ وسّعه بذكائه، ولم ألتقِ مع عالم مثله على هذا النحو، وقد لاحظتُ عليه شدَّته في دعوة النّاس، فقال الهلاليّ: "ما رأيتُ خيراً إلاّ في الشّدّة!"[3].

15- كتاب "الرَّدُّ على الجهميّة" (لابن أبي حاتم): نَقَلَ منه الحافظ في فتح الباري في شرح كتاب الإيمان، وكتاب التّوحيد في الأخير، وكتاب الاعتصام.

16- "السّنن" (للأثرم): توجد منه قطعة صغيرة في مجاميع الظّاهريّة لم تنشر بعد[4].

17- أوّل من سمّى علم الكلام توحيداً الماتُرِيديُّ.

18- وأملى عليّ شيخنا -رحمه الله تعالى- بعد مغرب السّبت 27 شوّال 1411هـ:

عُلُومُ الأَرْضِ لَمْ تَصِلُوا إِلَيْهَا فَكَيْفَ بِكُمْ إِلَى عِلْمِ السَّمَاءِ؟!

19- التّوحيد أربعة أقسام: الألوهيَّة، والرُّبوبيَّة، والأسماء والصِّفات، والمتابَعة.

20- قال الهَرَوِيُّ:

مَا وَحَّدَ الوَاحِدَ مِنْ وَاحِدٍ إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ؟‍!

قال ابن القيم: «الله واحدٌ قبل أن يوحّده أحدٌ، فمن زعم أنّه ما صار موحّداً حتّى وحّده النّاسُ؛ فقد كفر».

21- كان شيخنا -رحمه الله تعالى- إذا ذَكَرَ ما عانوه من فرنسا ينشدنا ما يلي:

نَعُوذُ مِنْ رَبِّنَا مِنْ شَرِّ كُمْبِلْ فِرَاراً مِنْ عَوَاقِبِ فَنِّ لُكُّلْ

وَنَدْرَءُ بِاسْمِهِ دَعْوَى كُلَنْقِلْ وَشِيْعَتِه مِنْ يُتْنَا إلى كُفَرْنِلْ

قلتُ:

لُكُّلْ: هو "المدرسة" كتابة حرفيّة للكلمة الفرنسيّة: L'ECOLE.

كُفَرْنِلْ: هو "الحاكم"، وبالفرنسيّة: GOUVERNEUR.

يُتْنَا: هو نحو "الرّقيب"، و"العقيد"، وبالفرنسيّة: LIEUTNANT.

كُمْبِلْ: اسم عَلَم فرنسي، ولعلِّه بالفرنسيّة: COMBIL.

كُلَنْقِلْ: اسم علم أيضاً، ولعلِّه: COLINGIL.

22- كلُّ من ليس له دار؛ فله في كلّ يوم جار!

23- كتاب "الحجّة على تارك المحجّة" (لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسيّ): فُقِدَ أصلُه وَوُجِدَ مختصرُه، وكان النّوويّ يمتلك نسخة من الأصل.

24- "الأجوبة المستوعبة عن المسائل المستغربة" (لابن عبد البَرِّ): أصلُه أسئلة رفعها بعض الطَّلبة عن صحيح البخاري، على غرار كتاب ابن مالك[5]، وقد جاءني الكتاب من تركيا.

25- "مستخرج قاسم بن أصبغ": توجد منه نسخة متأثّرة في جامع القرويين بفاس[6].

26- عبد الرّحمن-صقر قريش- هرب من العبّاسيّين، وكوَّنَ دولة أُمَوِيَّة في إفريقيا، ثمّ بلغه أنّ مالكاً كان يثني على الأمويّة؛ فأمر أن ينقل مذهب مالك من المدينة إلى قرطبة، ومن هناك؛ تمذهب بمذهبه الأفارقة إلا إفريقيا الشرقيّة؛ ففيها مذهبان: الشّافعيّة والإباضيّة. أمّا إفريقيا الغربيّة؛ ففيها المذهب الحنفي، وهو فيها كالعدم؛ فقد كان سائداً في تونس بسبب الأتراك، وفيها المذهب المالكي، وهو السّائد ويمثّل 95% بالمئة، بينما الحنفي لا يمثّل سوى 5% بالمئة.

27- إباضية الجزائر تلاميذ إباضية عُمان، والإباضيون -عقيدةً- معتزلة، وأهمّ مرجع لهم هو مسند الرّبيع بن حبيب، وهو مسند لا سند له! وهكذا الرّافضة والزّيدية والإباضية، مذهبهم لا سند له، وعلمٌ بغير سند كجمل بغير زمام. وهذه الأمم بفروعها لا يوجد سند لعلومهم إلاّ الكذب؛ لذا جعلوا بدل العلم الفلسفة.

28- "المحرّر" (لابن حجر): اختصره من "اللّسان"، وجمع فيه الرّواة الذين لا خلاف فيهم ممّن ليس من رجال الستّة، وهو مخطوط صغير عندي.

29- الحافظ المستغفري أفرد خطب النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في كتاب، وهو ضائع[7].

30- المجلس على حسب ما يطرح.

31- وقال عمر: تعلّموا قبل أن تَسُودوا، أي: قبل أن تتزوّجوا.

32- قال الشّاعر:

وَالمَجْدُ لَيْسَ بِقَرْقَرٍ، بَلْ في ذُرَا نِيقٍ يَفُوتُ مَدَى الصُّقُورِ الصُّيَّدِ

لم يَصِمْهُ سَهْمٌ، وَلَمْ يَبْتَزَّهُ بَازٌ وَلَمْ يُصْرَعْ بِرَمْيَةِ مِقْلَدِ

لَكِنْ بِأَشْرَاكِ الحُلُومِ وَهِمَّةٍ نَفَّاذَةِ الأَغْرَاضِ فَلْيَتَصَيَّدِ

33- وقال آخر :

لا تَحْسَبِ المَجْدَ تَمْراً أَنْتَ آكِلُهُ لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِْرَا

34- ثلاث لامات: لام التّعطيل، ولام التّأويل، ولام التّمثيل. وزاد بعضهم: لام التّجهيل، ولام التّبديل.

35- ثلاث جيمات: جيم الإرجاء في الإيمان، وجيم الجبر في الأفعال، وجيم الجهميّة في الصّفات.

36- عقيدة ابن حزم جهميَّةٌ، تُعرَف من كتابين: "مقدَّمة المحلَّى"، و"الفِصَل".

37- "المرشدتان: الصّغرى والكبرى" (لابن تومرت): مخطوطتان في الجامعة، صوَّرهما شيخنا من تونس.

38- البدعة بريد الكفر، وهي أخطر؛ لأنّ الكافر قد يتوب، والتّائبون من البدعة قليل، والتّائبون من الكفر كثير؛ لأنّ البدعة صدق عليها قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر:8].

39- قال صَريع الدِّلاء:

مَنْ فَاتَهُ العِلْمُ وَأَخْطَاهُ الغِنَى فَذَاكَ وَالكَلْبُ عَلَى حَدٍّ سَوَا

40- الاشتقاق نوعان:

1- الأكبر: كجَذَبَ وجَبَذَ، ألّف فيه الخليلُ بن أحمد "كتابَ العين"، وابنُ دُرَيد "الجمهرةَ"، والأزهريُّ "التّهذيبَ"، وابن سِيده "العُبَاب"، وابن فارس "المقاييس"، والصّاغاني "العباب الفاخر".

2- الصّغير: كضَارِب، من "ضَرَبَ"، ففيه دلالة على الضَّرْبِ.

وسمّي الأوّل كبيراً؛ لأنّ المعنى يتغيّر، بخلاف الصّغير؛ فلا يتغيّر فيه المعنى.

41- وقعة الحرّة فيها أخبارٌ واهيةٌ، ولابن كثير كلام جيّد في هذا.

42- الإمكانيات: تعبير خطأ يقع فيه النّاس، والصّواب: الإمكانات.

43- وبخطّ شيخنا على نسخته المطبوعة من المسند 3/297:

(قال عبد الله: قال يحيى بن معين: قال لي عبد الرَّزَّاق: اكتب عنّي ولو حديثاً واحداً من غير كتاب! فقلت: لا! ولا حرفاً.

حدّثنا عبد الله قال: وسمعت أبي يقول: وما كان في قرية عبد الرزاق بئرٌ؛ فكنّا نذهب نبكِّر على ميلين نتوضّأ، ونحمل معنا الماء).

وهكذا كان شيخنا -رحمه الله- يعلِّق على أغلفة الكتب -من الجهة الدّاخليّة- فوائدَ كثيرةً، لو جرّدت وجمعت ورتّبت؛ لكان حسناً.

44- وأنشد، رحمة الله عليه:

لَيلِي ولَيْلَى نَفَى نَومِي اخْتِلافُهُمَا فِي الطُّولِ والطَّوْلِ، يَا غَوْثَاهُ لَو حَصَلا!

يَزِيدُ في الطُّولِ لَيْلِي حِينَمَا بَخِلَتْ بِالطَّولِ لَيْلَى، وَإِنْ جَادَتْ بِهِ بَخِلا!

45- ما جاز على المِثْلِ جاز على المماثِل.

46- "كتاب الكشف على مجاوزة هذه الأمّة الألف" (للسّيوطيّ): انصبّت على القرن الخامس عشر، حتّى بالغ وقال: تقع السّاعة فيه! وأورد حديثا عن ابن عبّاس.

47- "شرح التّرغيب والتّرغيب" (للفيّومي)[8]: يقع في عشر مجلّدات، وهو مخطوط.

48- "التّذنيب في التّعليق على التّرغيب والتّرهيب" (للنّاجي)[9]: وقد سمّي بذلك؛ لأنّه انتقل من مذهب الحنابلة إلى الشّافعيّة، والحنابلة -كما يزعم خصومُهم- مجسّمة!

49- أنشدنا شيخنا قولَ الشّاعر:

وَصَاحِبُ الخَطِّ تَحْتَ التُّرْبِ مَدْفُونُ

50- وأنشدنا قول الآخر:

عَجِبْتُ! وَمَا لِيَ لا أَعْجَبُ لأمْرٍ أَتَاني بِهِ جَلْبَبُ

فَظِيعٌ شَنِيعٌ كَمَا يَنْبَغِي يَلِيقُ بِه الأَخْسَرُ الأَخْيَبُ

فَتًى مِنْ بَنِي كَارِدَنَّ بَغَى فَبِئْسَ البَنِيُّ! وَبِئْسَ الأَبُ!

وَذَلِكَ شَنْشَنَةٌ عُرِفَتْ لِهَذَا الفَتَى وَلِمَنْ يَصْحَبُ

لأَرْتَحِلَنْ إِلَى مَادُو أَوِ الْ قِبْلَةِ أَو تَازَا أو جَغْبَبُ

51- وأنشدنا :

وَقَالَ الإمامُ أحمدُ: لا تكتُبُوا ما قلتُه لكم، بلْ أَصْلَ ذلكَ اطْلُبُوا

52- عادى المالكيّةُ ابنَ عبد البَرِّ لما يلي:

1- لأنّه -في زعمهم- مجسِّم!

2- ما يفتي به في "التّمهيد" و"الاستذكار" و"الكافي" يخالف المذهب.

3- يدّعي الإجماع كثيراً.

53- "كتاب مذاهب في التّفسير الإسلاميِّ" (لغولد تسيهر): من أخبث ما كتب ضدّ الإسلام، وقد أحرقته؛ لقول الشّيخ، رحمه الله تعالى.

54- قال ابن الجوزيِّ: (مسند أحمد فيه تسعة أحاديث موضوعة).

قال ابن حجر: (جمعها شيخُنا العراقي، وما استطعتُ أن أواجهه بها، فلمّا توفّي كتب القول المسدّد). وليس في المسند سوى حديث واحد موضوع وهو: ((أنّ عثمان بن عفّان يدخل الجنّة حَبْواً))، وقد ضُرِبَ عليه أحمد.

55- كلُّ من طعن في السِّنِّ فهو عُرضة للنِّسيان.

56- الأخذُ سُرَيْط، والقضاء ضُرَيْط!

57- ولشيخنا مؤلّفات كثيرة، ما زال الكثير منها مسوَّدات بخطّه، وقد أذن لي -رحمه الله- في جمع أسمائها، وكنت عرضتُ عليه المسوَّدات، فيملي هو العنوان إذا لم يكن ثمّة، وهذا ما تيسّر منها، كما هو بخطي:


- إتحاف الحميم في تقسيم العلوم.

- إتحاف ذوي الرُّسُوخ بمن رُمِيَ بالتدليس من الشيوخ. (ط = مطبوع).

- إتحاف القاري بثبت الأنصاري.

- إتحاف النُّجَبَاء بحكم الصلاة في قُباء.

- أجوبة على الأحاديث الثلاثة التي أرسلها الشَّيخ ابن باز.

- الأجوبة السَّنِيَّة على الأسئلة السِّنانية.

- الأجوبة الوفيَّة على أسئلة الألفيَّة. وصل فيه إلى باب "لا" التي لنفي الجنس، والباقي ضاع.

- الأحاديث الواردة في فضلات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الدم وغيره.

- أحاديث الصَّفِّ في الصَّلاة. جزء.

- إخبار أهل الرُّسُوخ في الفقه والتّحديث بمقدار المنسوخ من الحديث. لابن الجوزي. (ط).

- إزاحة الغطاء عن أدلَّة رفع اليدين في الدُّعاء.

- إسعاف الخِلان بما ورد في ليلة النِّصف من شعبان. (ط).

- الإسلام ليس رأسمالياً ولا اشتراكياً، (ط).

- إعلام الزُّمْرة بأحكام الهِجرة، (ط).

- الإعلان بأنّ "لَعَمْرِي" ليست من الأيمان. أو: السلسبيل المَعين في أنّ "لَعَمْرِي" ليست بيمين. (ط).

- الإفصاح بما ورد في النكاح. أوّله: الحمد لله الذي أحلَّ النكاح، وحرم السفاح، والصلاة والسلام على نبينا محمد، أفضل من اتصف بإفصاح، وعلى آله وأصحابه الذين بلَّغُوا عنه أرشد طريق لاح.

- أين القمر. أوَّلُها: الحمد لله وكفى، وصلّى الله على المصطفى، وبعد، فعلى إثر الحادثة التي تناقلتها وكالات الأنباء العالمية، وبلغت أخبارها أنحاء العالم، وهي ما أشيع عن وصول الإنسان إلى سطح القمر؛ تساءل كثير من النّاس عن القمر... (ط).

- بُطلان الخبر الذي تضمن عرض السنة على القرآن. في 18 ورقة.

- بُلغة القاصي والدَّاني في معرفة شيوخ الطَّبَراني. (ط)، اعتنى به ولدُه الفاضل عبد الأوَّل الأنصاري، وفّقه الله تعالى.

- تاريخ مالي قديماً وحديثاً، مجلد.

- تُحفة السَّائل عن صوم المُرضع والحامل. (ط).

- تحفة القاري في الرد على الغِمَاري. (ط).

- تحقيق القول في الحديث الوارد فيمن مضت عليه خمسة أو أربعة أعوام، وهو غني، ولم يحجَّ ولم يعتمر. 6 ورقات.

- تخريج حديث أبي مدنية الدارمي، وكانت له صحبة، قال: «كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيِْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا الْتَقَيَا؛ لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾)).

- تخريج حديث أسامة بن شريك، قال: «خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاجّاً، فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ..»، شرحه الشيخ، وذكر موقف العلماء منه، في 4 ورقات، بخطِّه.

- تخريج حديث ابن عباس في القدر، في 4 ورقات.

- تخريج حديث الجائزة، ((جَائِزَةِ رَمَضَانَ))، في 9 ورقات.

- تخريج حديث: ((لَوْ دَلَّيْتُمْ بِحَبْلٍ إِلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ...)).

- تخريج حديث: ((أَطْعِمُوا نِسَاءَكُم)).

- تعريف أهل الطاعة بما ورد في التوقيت بالساعة.

- تعليق الأنواط في التذييل على صاحب الاغتباط، فيمن روي عنه من الثقات قبل الاختلاط.

- تفنيد الأنصاري لرأي المَليبارِي. نشرت في مجلة الرائد بالرياض.

- حديث الصورة، طبع في المجلة السلفية.

- حديث موضوع أذاعته صوت العرب في ربيع الثّاني عام 1390هـ، وهو: حديث أبي بكر الصّدّيق في دعاء حفظ القرآن: «اللَّهمَّ إنِّي أسألك بمحمّد نبيّك وإبراهيم خليلك...»، في ورقتين من القطع الكبير.

- الحقوق.

- ديوان الضعفاء للذهبي- تحقيق. (ط).

- ذيل ديوان الضعفاء للذهبي- تحقيق. (ط).

- الرجال المُتَكَلَّمُ في أحاديثهم وأنها موضوعة. نشر في مجلة صوت الجامعة، صفر 1392هـ.

- رجال جَهِلَهُم ابن حزم وهم معروفون.

- الرحلة المصرية. جزءان.

- الرحلة الهندية عام 1399 هـ. جزءان.

- رسالة في الرد على أحمد عبد الغفور عطّار على رسالته: «بناء الكعبة على قواعد إبراهيم فريضة إسلامية وواجب ديني».

- رسالة في وقت الجُمُعة.

- رفع الأسى عن المضطر إلى رمي الجمار بالمسا. (ط).

- رفع الاشتباه عن حديث: «مَن صَلَّى في مسجدي هذا أربعينَ صلاةً». (ط).

- عدد ساعات الليل والنهار.

- فتح الوهاب فيمن اشتهر من المحدثين بالألقاب. (ط).

- فتوى في زكاة ضَوَالِّ الأنعام.

- القول السليم في حكم اقتداء المسافر في الصلاة بالمقيم.

- الكذابون المعروفون بوضع الحديث. نشرت في مجلة صوت الجامعة، صفر 1392هـ.

- كشف السِّتر عما ورد في السَّفَر إلى القبر. (ط).

- كشف اللِّثام عما ورد في دخول مكة المكرمة بلا إحرام. طبع في مجلة صوت الجامعة. جمادى الأولى 1391هـ.

- كلمة في تفسير: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.

- الكُنى لابن شاهين- تحقيق.

- المختلف فيهم لابن شاهين- تحقيق، اعتنى به ولده الشيخ الدكتور عبد الباري، وفقه الله. (ط).

- المستفاد من مبهمات المتن والإسناد- تحقيق. (ط).

- مقال عن حديث: «لا مهديَّ إلا عيسى بن مريم». نشر في مجلة "المنهل".

- المقالة المحبوكة فيما ورد في الباروكة. أو: المقال المختار فيما ورد في الشعر المستعار.

- المقامة الأنصارية في ابتداء طلبه لعلم الحديث.

- نظم تنبيهات الأُشْموني مطلعها:

كيف أحوال لدى الإعراب يعرفها من كان ذا الألباب؟

- نظم أبواب القياس من كتاب جمع الجوامع.

- نكاح المتعة لأبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي- تحقيق. (ط).

- يانع الأثر في مصطلح أهل الأثر. (ط).

- يلملم - رسالة في الكلام على هذا الميقات.

لقد كان شيخنا -رحمه الله- معتنياً بنوادر المخطوطات، ونفائس الكتب، كريماً بإعارتها، يرشد الباحثين إلى فرائدها، ويوجِّههم إلى تسجيلها في رسائلهم العلمية، الماجستير والدكتوراه، وكان يَجُود بالمخطوط الذي تجشَّم عناء قراءته وتبييضه، ومن ذلك الكتاب الضخم "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"، للاَّلِكائي؛ فقد تعب الشيخ في نسخه، ومن رأى النسخة التي بخط يده؛ علم ذلك جلياً.

ومن منتسخات شيخنا -رحمة الله عليه- وهي كثيرة- ما يلي:

1- الاغتباط بمعرفة من رُمي بالاختلاط، لبرهان الدين الحلبي.

2- تذكرة الطالب المعلَّم بمن يقال إنه مخضرم، له.

3- التبيين لأسماء المُدَلِّسين، له.

4- الكُنى للذهبي اختصار الكُنى لأبي أحمد الحاكم.

5- الوقوف على الموقوف، لأبي حفص الموصلي.

6- جزء فيه فوائد حديث أبي عمير، لابن القاص.

7- الكنى والأسماء، لابن شاهين.

8- المختلف فيهم، لابن شاهين.

وغير ذلك كثير.

وللشيخ فضائل جمة على الجامعة الإسلامية، ويكفي ما بذله من جهد فيما انتقاه من نوادر المخطوطات، وقد شهد له بفضله هذا الشيخ العلامة محمّد ناصر الدين الألباني، رحمة الله على الجميع.

فهذا ما تيسّرت كتابته عن شيخنا الجليل أبي عبد الباري، حمّاد بن محمد الأنصاري، الذي مُتِّعْتُ بعلمه ما يقارب عشر سنوات، كتبته على عجل، وليس كما في النَّفس، سائلاً المولى أن يتغمَّد شيخنا بواسع رحمته، ويبارك في ذرِّيَّته، ويجعلهم خير خلف لخير سلف، ويوفِّقهم إلى المضيِّ قدماً في سيرة والدنا الأولى، في رعاية المكتبة، وإتاحة مقتنياتها النّفيسة للزّائرين، وإفادة القادمين والرّائحين، وقد فعلوا ولا يزالون، وهم بذلك مغتبِطون محتسِبون، والله الموفّق والهادي إلى سواء السّبيل.

--------------------------------------------------------------------------------

[1] انتبه مسؤولو المكتبتين إلى خطورة الحال، واتّخذوا اللازم؛ لحفظ تلك الآثار النّفيسة.

[2] نسبة إلى بندر لِنْجَه، مدينة في الأهواز. (الموقع)

[3] لا شكّ أنّ الشّدّة في موضعها أمر حسن، وفي غير موضعها تجرّ الويلات، وتنفّر النّاس عن قَبول الحقّ، والله قد أخبر نبيّه الكريم -عليه الصّلاة والسّلام- أنّه لو كان فظّاً غليظ القلب لانفضّ النّاس من حوله، وخير الهدي هدي محمّد، صلّى الله عليه وسلّم.

[4] والآن قد نُشرت بتحقيق د. عامر حسن صبري، عن دار البشائر بلبنان، فلله الحمد والمنّة.

[5] لعلّ الشّيخ -رحمه الله- يقصد كتاب النّحْوي ابن مالك على صحيح البخاري، المسمّى: التّوضيح في إعراب الجامع الصّحيح.

[6] درس بعضهم هذه النّسخة، وخلص إلى أنّ المخطوطة ليست هي مستخرَج قاسم بن أصبغ، بل تلخيص لأحاديث الموطّأ.

[7] كتب الزّميل الفاضل د. أحمد السلّوم -وفّقه الله تعالى- دراسة ممتعة عن الحافظ المستغفري في تحقيقه لكتابه فضائل القرآن.

[8] اسم الكتاب: "فتح القريب المجيب على التّرغيب والتّرهيب"، ذكر له في الفهرس الشّامل 1167 خمس نسخ. ومؤلّف الكتاب هو: أبو محمّد حسن بن علي بن سليمان البدر الفيّومي القاهري (804 - 870هـ)، ترجم له الحافظ السَّخاوي في الضّوء اللاّمع 3/111- 112.

[9] ويسمّى: "عُجَالة الإملاء"، وهو مطبوع متداول.

الدروز في دولة اليهود


الدروز في دولة اليهود
د. صالح الرقب
   تعريف بالدروز:
أخذت الدرزية كثيراً من عقائدها من الإسماعيلية، وهم يُنسَبون إلى (الدرزي) وهو عبد الله محمد بن إسماعيل الدرزي، ويقال: إنه، هو نشتكين أو هشتكين الدرزي، وهذا الرجل كان من الفرقة الإسماعيلية الباطنية، ثم تركها واتصل بالحاكم العبيدي الفاطمي (نسبةً إلى الفاطميين الذين كانوا يحكمون مصر وقتذاك) ووافق الحاكمَ على دعواه الإلهية، ودعا الناس إلى عبادته وتوحيده، وادَّعى أن الإله حلَّ في علي بن أبى طالب، وأن روح علي انتقلت إلى أولاده واحداً بعد واحد حتى انتقلت إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي.
نشأت الديانة الدرزية في مصر لكنها لم تلبث أن هاجرت إلى الشام، وعقائدها خليط من عدة أديان وأفكار، كما أنها تؤمن بسرية أفكارها؛ فلا تنشرها على النـاس، ولا تعلمها لأبنائها إلاَّ إذا بلغوا سن الأربعين[1].
يقول الدكتور محمد كامل حسين: إن المؤرخين يذكرون ثلاثة من الدعاة الكبار الذين أسسوا هذا المذهب وهم:
1 - الحسن الفرغاني المعروف بالأخرم، قُتِل بعد أيام قليلة من ظهور الدعوى في تألية الحاكم بأمر الله؛ قتله رجل من المسلمين السُّنة سنة 408هـ.
2- حمزة بن علي بن أحمد الزوزتي، ويُعرَف باللباد وهو فارسي الأصل من زوزن بين نيسابور وهَراة.
3- أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الدرزي، يُعْرَف بأنوشتكين أو نوشتكين، وكان من أتباع حمزة بن علي بن أحمد، ولكنه خرج عليه وأراد أن يستأثر بالرياسة؛ فأسرع بالكشف عن المذهب ولم يستمع إلى النصائح التي أسداها حمزة بالتريث وعدم الخروج على طاعته[2].
يعيش الدروز في لبنان وسورية وفي فلسطين في قرى (الكرمل والجليل) واعتُرف بهم طائفة مستقلة سنة 1957م.
من أبرز شخصياتهم في فلسطين:
1 - الشاعر سميح القاسم: عضو في الحزب الشيوعي الإسرائيلي (ركاح).
2 - النائب والوزير السابق صالح طريف: الذي كان عضواً في المجلس النيابي (الكنيست) اليهودي، ووزير دولة  سابق في حكومة شارون التي تشكلت سنة 2001م، وينتمي إلى حزب العمل الإسرائيلي، وقد خرج طريف من حكومة شارون في بداية عام 2002 بسبب فضائحه الجنسية، والاتهامات التي وُجِّهت له بالرشوة، وكان قد عمل في جيش الاحتلال الإسرائيلي ضابط مظلات، كما كان رئيساً للمجلس المحلي في منطقته.
3 - النائب أيوب قرا: عضو المجلس النيابي اليهودي (الكنيست) وحزب الليكود الصهيوني اليميني، يرفض أن يوصف بأنه عربي، ويفتخر بأنه شارك شارون في زيارته وتدنيسه للمجسد الأقصى؛ تلك الزيارة التي فجرت الانتفاضة في سبتمبر - أيلول 2000م، كما يفتخـر بحبـه لـ (دولة إسرائيل الصهيونية).
4- نجيب صعب: رئيس المجلس المحلي في قرية أبو سنان في الجليل الغربي، وقد اختارت سلطات الاحتلال ابنته (رغدة) لإشعال النار في المشاعل خلال الاحتفال بقيام الكيان اليهودي الغاصب، حسب التقويم العبري في 16/4/2002م، وقد تباهت رغدة بهذه الخطوة؛ وأعلنت أنها تنوي الانخراط في جيش الاحتلال بعد التخرج من الجامعة[3].
5- جمال معدي: رئيس حركة النهضة الدرزية، ورئيس حركة المبادرة الدرزية المستقلة، وهو من القِلَّة الذين يعارضون قيام الدروز بالخدمة في جيش الاحتلال.
6ـ محمد نفاع: سكرتير الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
7- عزام عزام: الجاسوس الشهير الذي اعتقلته مصر وحبسته عدة سنوات بسبب تجسسه لحساب الكيان اليهودي، وقد بذل شارون جهوداً كبيرة لإطلاق سراحه، وتم ذلك بالفعل؛ إذ أطلقت السلطات المصرية سراحه في شهر كانون الأول - ديسمبر 2004، وبعد الإفراج عنه، لقي تكريماً كبيراً من المسؤولين اليهود، وتم اختياره من بين 16 إسرائيلياً لإيقاد الشعلة؛ لبدء الاحتفالات بإنشاء الكيان اليهودي في حفل رسمي أقيم أمام مبنى الكنيست، وكان أول شيء فعله عند خروجه من المطار أن توجَّه إلى (شارون) رئيس الوزراء الصهيوني السابق؛ ليؤديَ له واجب الشكر والعرفان على ما بذله من جهدٍ في الضغط على السلطات المصرية للإفراج عنه قبل انقضاء مدة العقوبة المقرَّرة عليه[4].
8- موفق طريف: شيخ الطائفة في فلسطين وزعيمها الروحي منذ 1993، وهو حفيد الزعيم الروحي السابق أمين طريف. لا يعارض موفق طريف أن يخدم الدروز في جيش الاحتلال، وفي مقابلة له مع صحيفة (الصنارة العربية) الصادرة في فلسطين المحتلة عام 48 - في أحد أيام شهر تشرين الأول - أكتوبر 2004م - طالب طريف الدروز بالإخلاص لدولة اليهود، والقتال تحت علَمِها.
9- يوسف مشلب: ضابط برتبة لواء في جيش الاحتلال، ويشغل منصب منسِّق الأنشطة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان قبل ذلك قائد الجبهة الداخلية في الجيش.
جذور علاقة الدروز بالمحتل:
قبل احتلال اليهود فلسطين عام 48م وما تبعه من مساندة الدروز لليهود؛ كان أمير الدروز (بشير الشهابي) الذي وقف أنصاره بجانب القائد الفرنسي نابليون خلال حصاره لمدينة عكا، نكايةً بالوالي التركي (أحمد باشا الجـزار) وقــد جـاء فــي رسالــة نابليـون المؤرَّخــة بـ20 مارس - آذار 1798 - بعد حصاره للجزار - إلى الشهابي قوله: «وأُسرِع إلى إعلامك بكل ذلك؛ لأنني لا أشكُّ أنك تفرح لهزائم هذا الطاغية الذي سبب الكثير من الذعر إلى الإنسانية عامة، والدروز الأباة بشكل خاص، ورغبتي المخلِصة، هي أن أقيم للدروز استقلالهم، وأعطيهم مدينة بيروت ذات المرفأ كمركز تجاري لهم».
التعاون الدرزي اليهودي
من المعلوم أن عدداً كبيراً من طائفة الدروز يقيمون على أرض فلسطين المحتلَّة عام 1948م، ويوالي كثير منهم اليهود ضد المسلمين، وينخرط شبابهم في خدمة جيش الكيان الصهيوني، وقد اعتلى الضباط الدروز مراكز مرموقة في جيش الاحتلال، ويشكِّل الدروز نسبة كبيرة من حرس الحدود الصهيوني فيما يُعرف بالعبرية (مشمار كفول) الذي يذيق الفلسطينيين أنواع التنكيل والبطش[5].
وفي الانتفاضة الأخيرة سقط عدد من الجنود الدروز صرعى في مواجهة شبان الانتفاضة، ولم يكن عبثاً أن يختار اليهود الدروز لأداء الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال شأنهم شأن اليهود؛ لمعرفتهم بولائهم، وبُغضِهم لعموم المسلمين من غير فِرقَتهم، كما أن أداء الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال يحظى بدعم ومباركة زعمائهم، ومنهم الشيخ (موفق طريف) الزعيم الروحي للدروز في فلسطين. وعلى الرغم من الشراكة في الدم بين اليهود والدروز؛ فإن اليهود قد استثنوا الدروز من العمل في مؤسسات الدولة الهامة في الدولة العبرية، باستثناء مرة واحدة ولحسابات سياسية محضة؛ فلم يحدث أن تم تعيين درزي في منصب وزير، في حين لم  يحدث كذلك أن تم تعيين درزي في منصب مدير عام أو قاضٍ في المحكمة العليا، وحتى بعد أن خدم الدروز لعشرات السنين في صفوف الجيش الإسرائيلي وأثبتوا إخلاصهم للدولة اليهودية، إلا أن هيئة أركان الجيش ترفض تجنيدهم في بعض أفرع الجيش مثل: سلاح الجو، أو الاستخبارات العسكرية، أو صفوف المخابرات العامة. ويؤكد المعلق العسكري لصحيفة (هآرتس) زئيف شيف أن المؤسسة العسكرية لا زالت تتعامل مع الدروز بصفتهم عرباً، ويتحدث فـؤاد داهش - وهو طالـب درزي فـي جامعة حيفـا - بمرارة عن تردِّي أوضاع الدروز، ويقول: إن الدروز لم يستفيدوا من خدمتهم في الجيش الإسرائيلي على صعيد الرقي بأبنائهم ورفع مستوى معيشتهم... ويكفي أن نعلم أن الدروز هم أقل الطوائف العربية تمثيلاً في الجامعات، مع أن فؤاد نفسه رفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي؛ لأسباب ضميرية، وبقي فترة طويلة في السجن بسبب هذا الموقف.
ويضيف: يعمل معظم الشباب الدرزي لدوافع اقتصادية في الخدمة في الجيش، وقد وصل عدد كبير منهم نسبياً الى رُتَب عالية في الجيش، ويُعتَبر ارفع ضابط درزي في الجيش الإسرائيلي هو الجنرال يوسف مشلف (منسق شؤون الضفة الغربية وقطاع غزة في وزارة الدفاع الإسرائيلية) وقد سبق له أن شَغَل منصب قائد الجبهة الداخلية. وإلى جانب الخدمة في الجيش، ولزيادة الشعور بالكراهية والحقد المتبادل بين الدروز وبقية أبناء الشعب الفلسطيني، فقد تم استخدام الكثير من الشباب الدروزي في  الخدمة في هذا الفرع من أفرع الشرطة الإسرائيلية؛ حيث إن  شرطة ( حرس الحدود) كانت ومازالت لها الباع الطولى في قمع الفلسطينيين؛ حيث تنص التعليمات الصادرة لأفراد (حرس الحدود) على التعامل بشكل مُهين  وحتى ساديٍّ مع الفلسطينيين، ويرى الشيخ جمال معدي (رئيس لجنة المبادرة الدرزية) أن هدف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كان واضحاً وهو توجيه نقمة الجماهير الفلسطينية إلى غير عنوانها الصحيح؛ حيث تولد الانطباع؛ أن الجندي الدرزي يقوم بالأعمال القذرة عبْر إبراز الممارسات غير الأخلاقية لهؤلاء الجنود؛ بأنهم ينفِّذون تعليمات وسياسة الحكومة الإسرائيلية.
اللافت للنظر أن الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية تستعين بخدمات الدروز في محاولاتها لتجنيد عملاء لها من بين الفلسطينيين، إلى جانب قيامهم بالتجسس على الدول العربية؛ ففي أواسط الثمانينات من القرن الماضي أصدر الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بياناً أكدوا فيه أن عدداً من الممرضين الدروز الذين يعملون في السجون يربطون استعدادهم؛ لتقديم الخدمات الطبية للمرضى من الأسرى بموافقة هؤلاء على التعاون مع المخابرات الإسرائيلية؛ بحيث يتجسسون على أخوانهم من قادة الأسرى. إلى جانب ذلك؛ فأن عدداً من الدروز الذين يعملون على المعابر الحدودية التي تفصل الضفة الغربية وقطاع غزة عن الدولة الصهيونية يساومون الفلسطينيين على مَنْحِهِم التصاريح اللازمة لدخول الدولة العبرية؛ بحيث يتم ربط خدمة مَنْح التصاريح بالموافقة على التعامل مع المخابرات الإسرائيلية.
الممارسات الـمَـشينة للجنود الدروز ضد إخوانهم من فلسطينيي الضفة الغربية، دفعت حركات المقاومة الفلسطينية إلى حــد التهديد بتنفيذ عمليات استشهادية في قلب التجمعات السكانية الدرزية، أما التجسس على الدول العربية وتنظيم شبكات تجسس فيهـا، فيُعتَبـر عـزام   عـزام (المعتقـل فـي مصر) أحـد أمثلته.
    يقول حاتم حلبي - عضو لجنة (المعروفيون الأحرار) التـي تناضل ضد خدمـة الدروز فـي الجيـش الإسرائيلـي-: «فإن إلزام الدروز في إسرائيل بالخدمة العسكرية أتت للفصل بين الدروز وغيرهم من الفلسطينيين من ناحية، وبينهم وبين الدروز في سوريا ولبنان» ويضيف: «من المؤسف أن المؤسسة الإسرائيلية نجحت إلى حد ما في ذلك! إسرائيل تريد أن تجعل الدروز جزءاً من الصراع العربي الإسرائيلي وزعزعة استقرار المنطقة.
الدروز في إسرائيل هم الأضعف بين الطوائف الأخرى وقام الكيان الصهيوني باستغلال ذلك لخدمة مصالحه   الخاصة».[6].

[1] انظر عقيدة الدروز عَرْض ونقض: الدكتور محمد بن أحمد الخطيب،ط: الأولى 1400هـ  - 1980م نشر وتوزيع مكتبة الأقصى، عمان - الأردن: ص117، وانظر الحركات الباطنية للمؤلف: ص233-238.

[2]  انظر طائفة الدروز لمحمد كامل حسين: ص5.

[3]  الشرق الأوسط: 17/4/2002م.

[4]  وكالة الصحافة الفرنسية: 12/5/2005، عقيدة الدروز... في ميزان الإسلام: سيد نزيلي.

[5]  انظر عقيدة الدروز للخطيب: ص 252.

[6] مجلة وُجُهات نظر المصرية: يوليو 2004، الدروز في إسرائيل:عرب في الحقوق، يهود في الواجبات، موقع صالح النعامي التاريخ: 2006/2/2، انظر موقعه:  www.naamy.net.

 

الأشرعة الملونة.. تاريخ عُمان بريشة رسام أمريكي


الأشرعة الملونة.. تاريخ عُمان بريشة رسام أمريكي
        

          في الثالث عشر من شهر أبريل لعام 1840 وصلت إلى ميناء نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية أول سفينة عربية. آنذاك, كان سعيد العظيم, كما تشير إليه المصادر الغربية, أو السيد سعيد بن سلطان (1807-1856م) كما تعرفه الوثائق العربية, قد عمل منذ توليه حكم الإمبراطورية العمانية  على مواصلة تنشيط التجارة مع العالم كله, ولذلك بنى أسطولا بحريا كبيرا امتد نفوذه في البحر والبر من مسندم في شمال أرض سلطنة عُمان (الآن) حتى ظفار في جنوب شبه الجزيرة العربية, وعلى طول الساحل الإفريقي الشرقي ما بين رأس جاردافوي في القرن الإفريقي إلى رأس دلجادو على الحدود الشمالية من موزمبيق التي كانت خاضعة للبرتغال.
          كان وصول السفينة - التي حملت اسم (سلطانة) - ثمرة معاهدة صداقة وتجارة مع أمريكا, حاملة على متنها سفيره أحمد بن نعمان الكعبي. وقد شهدت هذه الحقبة التي امتدت بين عامي  1838 و1842م  تفوق ملاحي عمان في الديبلوماسية والتجارة معًا. واستطاع السيد سعيد بن سلطان أن يقيم علاقات ديبلوماسية مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية, مرسلا السفراء العمانيين إلى لندن ونيويورك, مستكملا مسيرة الرحلات العمانية من بحر الصين إلى الأطلنطي.
سيرة سفينة
          ُبنيتْ (سلطانة), لتكون إحدى الدعائم لأسطول السيد سعيد بن سلطان - في حوض مازاجون لبناء السفن بمدينة بومباي في العام 1833م وكانت حمولتها  312 طنا, وقد بنيت أساسا على الطراز الأوربي, وزودت بـ 14 مدفعا كما كانت أشرعتها مربعة تحملها ثلاث صوار وقد دخل عليها في كل من بومباي ومطرح (جنوب العاصمة العمانية مسقط) فيما بعد بعض التعديلات ذات الطابع العماني.
          وتوثق هيئة هذه السفينة على شواطئ لندن ورصيف مينائها صورتان; ظهرت الأولى في عدد 18 يونيو 1842م لمجلة أخبار لندن المصورة  Illustrated London News  بريشة الفنان إدوارد موني, أثناء إفراغ حمولتها من الهدايا التي أرسلها إلى الملكة فيكتوريا السلطان سعيد, بينما تظهر الصورة الأخرى في اللوحة التي رسمها موني لأحمد نعمان الكعبي. وكانت هاتان الصورتان وغيرهما من بين آلاف الوثائق التي سعى إليها الرسام الأمريكي إي هاربر جونسون حين اقتفى أثر التاريخ العماني كله خلال رحلة قطعها في خمس سنوات ظهرت ثمرتها في عدد من اللوحات التفصيلية وضمها كتابه Oman. A Pictorial Resuscitation, أو ما يمكن أن يكون إحياء مصورًا للتاريخ العماني.
          وخلال سنوات إقامتي في سلطنة عُمان تسنى لي أن أدرك أمرين; أولهما اهتمام السلطان قابوس نفسه بالتراث (بل وخصص عامًا للاحتفال به), وعنايته بالفنون أيضا. فديوان البلاط السلطاني يرعى الجمعية العُمانية للفنون التشكيلية, كما أتاح جلالته للعمانيين وضيوفهم فرصة التعرف على مقتنياته من اللوحات النادرة في معرض مفتوح أَمَّتْه أطيافٌ من الزوار في سابقة فريدة, ثم تراه يكرم في قصره أحد الخطاطين وهو الشيخ هلال الرواحي بن الشيخ سالم بن محمد الرواحي, ويمنحه وسام السلطان قابوس من الدرجة الثالثة. أما الأمر الثاني فهو إدراك كل من حول السلطان لقيمة هذا البعد (الفني) في اهتماماته, مما انعكس على كل الخيارات بدءا من احترام النسق المعمارية العربية في البناء, وصولا إلى الجماليات التشكيلية في المطبوعات وهو ما أثمر مثل هذا الكتاب.
          يقول عبد العزيز الرواس, مستشار السلطان قابوس للشئون الثقافية, والذي دعا أثناء عمله وزيرا للإعلام إلى إنجاز هذا الكتاب البديع: إن تطور الوطن والحرص على نهضة أبنائه باعتبارهما هدفا راسخا وأساسيا, لم يكونا ليجعلا جلالة السلطان يغفل التأكيد على أهمية الثراء المعرفي لماضي السلطنة العريق. ويضيف الرواس أن الدكتور جونسون المؤلف الموهوب, والمؤرخ المصور لم يكل أو يمل في سعيه لإعادة إضاءة أبرز محطات الرحلة العُمانية في التاريخ, مما يجعل من وثيقته المصورة المدونة بوابة الأجيال العمانية الآن لولوج ماضيها البعيد والقريب.
نيويورك 1840
          وإذا كانت نيويورك قبل 163 عامًا تعيش الاتصال الرسمي الأول مع أبناء العرب, فقد كان الأمر بمنزلة (مفاجأة مثيرة للأمريكيين) كما عبرت صحيفة الهيرالد الصادرة آنذاك. ويقول هرمان فريديك إيلتس واصفا الرحلة في بحثه المهم (سلطانة في نيويورك) المنشور عام 1962 إن لهذه السفينة الفضل الأول في التعرف على الطبيعة العربية مما خلق نوعا من الدهشة لكلا الطرفين, فقد كانت رحلة من المجهول نحو مكان مجهول آخر, من أدغال إفريقيا حيث زنجبار العمانية في ذلك الوقت, باتجاه مجهول آخر, بعمق رحلة قطعتها السفينة العمانية في 87 يوما (لم تتوقف خلالها إلا في مرفأ واحد هو(سانت هيلانة) حيث قام أحمد بن نعمان بزيارة الحاكم زيارة رسمية) في محاولة للتواصل الحضاري مع الآخر. وكان طاقم السفينة يضم تحت شراع التسامح العربي العمانيين من طاقم السفينة ومعهم بعثة النعمان, وبريطانيتان, وفرنسيان, وبرتغالي, فضلا عن بعض البحارة الهنود وسواهم من الأفارقة, وكأنها رسالة حوار متعدد الألسن والأديان, تسعى للتواصل وتكتب على صفحة الماء رسالة عربية أصيلة.
          ودعونا نلق نظرة على لوحة جونسون ووثائقه لنرى كيف بدأ الإعداد لإرسال البعثة الديبلوماسية التجارية العمانية على متن السفينة (سلطانة) إلى نيويورك في أوائل العام 1839م, حيث أعيد تجهيز السفينة في بومباي ثم أبحرت في آخر ديسمبر إلى زنجبار. وفي فبراير من العام التالي, أقلعت مع الرياح الشمالية الشرقية إلى نيويورك عن طريق رأس الرجاء الصالح, بما جادت به من أغراض تجارية: تمر وسجاجيد وبن وعاج وصمغ وقرنفل وجلود, كما حملت - بالطبع - إلى جانب ذلك هدايا إلى الرئيس الأمريكي: حصانين ولآلئ وأحجار كريمة وسبيكة من الذهب وسجادة عجمية من حرير وعطر وماء ورد وأكثر من شال كشميري وسيف مذهب. وبرع جونسون في توزيع ذلك كله, بما فيها الصناديق الخشبية التي تحويها على الرصيف حيث يتناوب العمال على نقلها من جوف السفينة.
          ولقي أحمد بن نعمان ومساعداه محمد عبدالله ومحمد جمعة ترحيبا وتكريما من أعيان نيويورك, كما تجولوا هناك راكبين القطارات البخارية, وزاروا أحد السجون ومحطة بناء سفن الأسطول وأقيمت لهم مآدب رسمية عديدة. وأدخلت السفينة (سلطانة) على أحد أحواض السفن التابعة للأسطول على نفقة الحكومة الأمريكية إلى أن انتهت الزيارة وجرى التصرف بحمولة المركب حيث وجدت السلع سوقا رائجة, وتم شراء سلع رحلة العودة من قماش وخرز ومنسوجات ملونة وبنادق وبارود, وبنادق مزخرفة وأدوات منزلية.
هدايا إمام مسقط
          كانت مهمة أحمد بن نعمان الديبلوماسية مقصورة على تسليم رسالة إلى الرئيس الأمريكي تعبر عن تمنيات السيد سعيد الطيبة وتقديم الهدايا, وقد رد الرئيس على رسالة السيد سعيد برسالة تفيض ثناء, وأرسل هدايا إليه تضم زورقا فخما مع أربعة مسدسات متعددة الطلقات وبندقيتين متعددتي الطلقات ومرآتين كبيرتين وشمعدانا دقيق الصنعة, وقد نقش على قطع السلاح باللغة العربية (من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى إمام مسقط) ويضم المتحف العماني حاليا إحدى هاتين البندقيتين. وفي يوليو 1840م بدأ أحمد بن نعمان يتهيأ لرحلة العودة حيث تم شحن السلع, وإبحار (سلطانة) من ميناء نيويورك في التاسع من أغسطس 1840م. وبعد رحلة طويلة شاقة وصلت السفينة إلى زنجبار في 8 ديسمبر ولم تتوقف خلال الرحلة إلا مرة واحدة في مدينة كيب تاون.
          يتذكر الفنان جونسون رحلة البداية: حين كلفني معالي وزير الإعلام بإعادة كتابة تاريخ عُمان مصورًا كان ذلك بمنزلة تصديق لرؤيا تأخرت كثيرًا, لأن تاريخ البلاد العريق ظل ساكنا في غياهب النسيان لقرون عديدة, وقد سعيت لأعيد نقشه من جديد ليظل حيا للأجيال القادمة. كنت أريد أن أخرج بهذه اللحظات الخالدة من متاهة القِِدَم.
          في سبيل إنجازه لما يمكن أن أسميه بالأشرعة الملونة, وصفا للوحاته, تنقل جونسون بين مسقط وصلالة, ومن صور إلى صحار, ورأى نزوى والرستاق, حيث كان يهيئ نفسه عبر الوجوه التي احتفظت بملامح الأجداد, والأماكن التي لا يزال هواء التاريخ يسري بها, ليرسم الإسكتشات التي ستعينه في رحلته. إن لوحة واحدة من لوحات جونسون ربما تستغرق أربعة أعوام, منذ بدء التفكير بها, وصولا إلى مرحلتها النهائية, وهكذا نرى في الكتاب عدة مراحل قبل أن نرى اللوحة النهائية, وكأن الكتاب درس في التشريح والتكوين والتبسيط والاختزال والتركيب الفني يلتقط موزاييك البانوراما من هنا وهناك ليعيد تركيبه في نسق متكامل يساعده في ذلك حرفية التشخيص, ودقة المؤرخ ودأبه.
          يكتب جونسون: لا تستمع إلى نصح وأنت ترسم, فاللوحة هي ثمرة العلاقة بينك وبين روحك المبصرة في أعماقك, وحضور أي طرف ثالث في المعادلة له تأثير مدمر. فالعملية الإبداعية لا تحتاج إلى من يرشدها.
          في البداية سنلتقي مع لمحات مطوية من سيرة سلطان عُمان قابوس بن سعيد, مع والده ومع شعبه, أو وهو يمتطي الخيل رياضته الأثيرة, وصولا إلى مشهد من جولته السنوية في سيارته من أدنى البلاد إلى أقصاها. مع طرف من الاحتفالات التقليدية التي شاهدتُ بعضها حيا لا يزال في المدن والموانئ التي زرتها; وجلها احتفالات ورقصات وأهازيج استقبال البحارة أو توديعهم.  وفي الكتاب يصور جونسون بعضا من المعارك, التي شكلت جزءا مهما من التاريخ العُماني المقاوم لغزو البرتغاليين.
من عُمان إلى الصين
          في دراسته التي سبقت لوحتيه عن زيارة بحار وتاجر عُماني إلى الصين, تجول جونسون في أنحاء بكين. لم تكن كراسة الرسوم تفارق يده. زار جونسون الصين ثلاث مرات, ولكنه قبل إنجاز اللوحة في شكلها النهائي أدرك أن الأمر يحتاج إلى زيارة رابعة. هناك استقصى الحياة وأشكالها في عهدي تانج وسونج. وفي كلية بكين للآثار سأله البروفوسور هسيا ناي: هل تمثل معرفة الصين, تاريخا وجغرافية ونظاما اجتماعيا, ضرورة لمشروعك في إعادة تجسيد تلك اللحظة التاريخية التي تبحث عنها? وكان رد الفنان بالإيجاب. ومن هنا بدأت الرحلة بالتعرف على الأزياء واللهجات والملامح واللوحات التاريخية والتكوين المعماري للقصور والبيوت الكبيرة, بل والدخول إلى الأحياء الإسلامية هناك.
          كانت رحلة أبي عبيدة عبد الله بن القاسم ورجاله قد استغرقت تسعة أشهر عبروا خلالها ستة آلاف ميل! تضرب الريح سفينة (الداو) فتوجهها يد القدر هنا وهناك, حتى دخلوا نهر اللؤلؤ. وهناك والشمس تلون بالريشة البرتقالية صفحة النهر ترسو السفينة العتيقة معلنة عن وصول أول عربي إلى هذا الركن الأقصى من العالم, وكان ذلك في العام 750م, خلال حكم هزوان تانج (712 - 756م) أعظم أباطرة عهد تانج. وجسد جونسون الرحلة في صورة للاحتفالية التي نصبها الصينيون في الميناء. ولكن اللوحة الأساسية للرحلات العمانية إلى الصين كانت لاستقبال الشيخ عبد الله العُماني داخل بلاط الإمبراطور جن تسانج (1050م). وقد استغرق الوصول إلى تكوين اللوحة هذه إنجاز دراسات في عشرين لوحة قبلها.
          ومن الطريف أن الرسام المؤرخ يطرح عدة تساؤلات, ربما تكون أدعى للتذكر اليوم أكثر من ذي قبل: لو أن الصين وعُمان وحدتْهما التجارة واستطاعا غزو الغرب بقوة متحدة, فماذا كان سيحدث? ولو أن فاسكو داجاما التقى (زنج هي) وأسطوله (300 سفينة بعضها كان طوله 400 قدم) فهل كان يجرؤ على دخول المحيط الهندي? ويجيب جونسون عن نفسه: أعتقد لا. ثم يستطرد: إنني أعتقد أن إسبانيا أو بريطانيا, أو أي قوة أوربية سواهما في ذلك الوقت ما كانت لتجرؤ على الاستجابة لحمى التوسع والاستكشاف .. ومن يدري ماذا كان سيكون قدر عمان والأمم الأخرى التي خضعت للبرتغاليين والقوى الغربية لو أن الصين كانت آنذاك متحدة مع عُمان والأقطار الإفريقية والشرق الأوسط, وانطلقوا جميعا لغزو أوربا?!
          إن أسئلة جونسون لا تستحق إلا الدهشة, فقد انطلق العرب بالفعل إلى أوربا, ودانت لهم الأندلس, وكان المتوسط ذات يوم بحيرة شبه إسلامية, ولكن أين صرنا الآن?! الواقع أن التاريخ - يا أيها المؤرخ - لا تكفي لتشييده الأمنيات.
أشرف أبواليزيد   
مجلة العربي
547

الأحد، 22 نوفمبر 2015

من أخطائنا التاريخية (من بويع قبل الاحتلام في تاريخ الإسلام)


من أخطائنا التاريخية
(من بويع قبل الاحتلام في تاريخ الإسلام)
  أ. د. عبد الحليم عويس(*)
  كان الأديب الوزير لسان الدين بن الخطيب من أعظم مؤرخي عصره وأدبائه، لكن قَدَرَه الذي كتبه الله عليه أن يظهر الرجل ويلمع في عصر صديقه عبد الرحمن بن خلدون المتوفَّى سنة 808 هـ، وكأنهما كانا مدرسة واحدة؛ فكلاهما عشق التاريخ والأدب والفكر، وكلاهما ركب موجة السباق إلى المناصب الكبرى في تلك الدويلات الطائفية الهزيلة التي حكمت بلاد المغرب العربي (الشمال الإفريقي) في وقت كان الإسلام في الأندلس (إسبانيا) قد حوصر في آخر القلاع الباقية بعد أن سقطت مدن الأندلس في يد الصليبيين من حكام (قشتالة وأرجون) بمساعدة أوروبا الصليبية، فلم تبق إلا مدينة غرناطة ووادي آش.
كانت غرناطة هي آخر ما بقي من إسبانيا الإسلامية التي كانت تمتد من جبل طارق وجزيرة طريف جنوباً مجاورة للمغرب الأقصى (المملكة المغربية)، وتنتهي عند جبال البرانس (البرتات) متوغلة أحياناً في بلاد الغال (فرنسا) في الشمال.
ومع هذا الانكسار والانحسار في جزيرة الأندلس الإسلامية لم يعتبر أشقاؤها ومجاوروها في الشمال الإفريقي، فاشتدَّ التطاحن بين دويلاته الطائفية التي ورثت دولة الموحدين الكبرى (بعد هزيمتها أمام النصارى في موقعة العقاب 609هـ) وهي التي كانت تحكم المغرب والأندلس معاً، ومن ثم تأجج الصراع بين من خلفوها وخانوها، وهم بنو مرين في المغرب الأقصى، وبنو حفص في تونس، وبين زيان (عبد الواد) في الجزائر، والتي كانت بدورها تعاني أمراض الغروب.
وهناك مملكة غرناطة المتداعية في الأندلس.
وفي هذه الممالك الثلاث في المغرب بالإضافة إلى غرناطة الأندلس راح صاحبنا الطموح المؤرخ الأديب الوزير لسان الدين بن الخطيب (معاصر ابن خلدون وصديقه) يركب موجة التنافس بين هذه القوى، ويتقلب بين الوزارة هنا والحجابة هناك، دون أن يستوعب المسكين درس التاريخ (مع أنه مؤرخ، فقد علمنا التاريخ أن هذا اللون من الجري اللاهث وراء المناصب البراقة عاقبته وخيمة، فكل حاكم يريد ممن يختارهم ويمكنهم من المناصب والأموال أن يكونوا (ملك يمينه) و (ألا يشركوا به أحداً) وأن يكونوا دائماً معه وفي خندقه؛ سواء كان على الحق أو على الباطل، والويل لهم إن فكروا في الذهاب إلى خصومه.
إن الخبير الواعي يَدْرُسُ التاريخ ويتعلم منه، ومن ثم فإن عليه عندما يرى نُذُر الخطر تقترب منه في بلاط سيده ووليِّ نعمته أن يتنحَّى عن المناصب بالجملة، زاهداً فيها، ملتمساً أيَّ عذر، شاقاً طريقاً جديداً لنفسه، لا سيما إذا كان يملك مهارات فكرية عالية مثل ابن الخطيب وابن خلدون.
لكن ابن الخطيب فشل في استيعاب هذه الرؤية، بينما استوعبها أفضل استيعاب من بعده صديقه (ابن خلدون)، ولعلَّ ابن خلدون استوعبها - أكثر - بعد استفادته من درس ابن الخطيب القاسي عندما دفع ابن الخطيب ثمناً فادحاً لعدم استفادته من درس التاريخ في التعامل مع الحكام ونيرانهم التي قد تشعرك بالدفء أحياناً، لكنها لا تلبث أن تحرقك!
فعندما اقترب الخطر من (ابن خلدون) سارع إلى هجر المناصب، لاجئاً إلى (قلعة بني سلامة) في الجزائر، زاهداً في السياسة، معتكفاً للبحث والإبداع، فنجح في كتابة (مقدمة ابن خلدون) التي أصبحت ملء السمع والبصر، وترجمت إلى معظم لغات العالم، وقدَّمت للبشرية وللعقل الإنساني عِلمين جديدين لم يُسبق إليهما ابن خلدون، وهما: علم الاجتماع (العمران) وعلم (فلسفة التاريخ).
والمهم أن (ابن خلدون) عرف كيف يسبح في محيط فتن عصر الطوائف الذي يشبه عصرنا، وعرف كيف يهبط من فوق مسرح الأحداث - في اللحظة الضرورية - قبل أن يُنزله أحد، أو يتمكن من رقبته أحد، في عصر كعصرنا كانت الدماء الإسلامية فيه رخيصة، وكان الموت - بأسوأ الطرق - أقرب إلى الإنسان من شراك نَعله، ربَّما لمجرد شبهات ووشايات ولأتفه الأسباب!
وبينما نجح ابن خلدون وترك بلاد المغرب كلها - بعــد ذلك - ولجأ إلى مصر في عصرها المملوكي العظيم؛ حيث وجد الكرامة والعزّة والمنصب الديني الرفيع في حدود السعادة البشرية التي لا تخلو - عادة - من المنغصات؛ بينما نجح ابن خلدون هذا النجاح وأتمَّ موسوعته التاريخية العظيمة المسماة: (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر، ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر) بأجزائها الكثيرة؛ إذا بنا نجد صاحبنا (ابن الخطيب) على الطرف الآخر يعالجُ أزمته بطريقة مختلفة تماماً لا تليق بثقافته، فلقد هرب من قضاء الله إلى قضاء الله، فخرج هارباً من سلطان غرناطة بالأندلس محمد الخامس، إلى سلطان الدولة المرينيَّة أبي فارس عبد العزيز بتلمسان الجزائرية، وكان طبيعياً أن يحسن السلطان استقباله، ويقبل حمايته له، ويرفض - من ثم - المحاولات الدبلوماسية التي جرت لتسليمه إلى سلطان غرناطة.
وقد ظن ابن الخطيب أن الأمور قد صَفَت له، لكنه فوجئ بموت السلطان أبي فارس، وتولِّي ابنه (أبي زيَّان محمد السعيد) للأمور بعده، وهو فتى صغير في الرابعة عشرة من عمره، فاجتهد ابن الخطيب في كسب ودّ الوصي عليه وهو الوزير أبو بكر بن غازي، فتعهد له بالحماية والكفاية والأمان باسمه، وباسم مليكه الصغير.
لكن الريح جاءت بما لا تشتهي السفن، فوقع انقلاب خلع الأمير والوصي بقيادة أبي العباس المستنصر سنة (776هـ) الذي كان حريصاً على علاقته بغرناطة، وكان يرى أنه لتدعيم هذه العلاقة عليه أن يبدأ عهده بالتضحية بوزيرهم الهارب اللاجئ (ابن الخطيب) فسرعان ما أمر بسجنه بفاس ثم كلَّفَ من قام بخنقه حتى الموت في إحدى الليالي!
وهكذا اتضح الفرق بين المنهجين: منهج الزهد في المناصب عندما يصبح المناخ فاسداً لا يحقق الأمن، ومنهج الإصرار على البقاء في حمى الأمراء والملوك حتى لو كان المناخ فاسداً، ونذر العواصف تبدو قوية وواضحة.
وكانت نتيجة المنهجين - كما رأينا - درساً يجب الاستفادة منه؛ ليس للمتكالبين على الوزارة وحدهم، ولكن للمتكالبين على الحكم أيضاً.
فكم رأينا من حاكم وصل ظلمه إلى كل بيت، وعمَّ الفساد بسببه - وبسبب بطانته - كل أركان الحياة، فلم ينج منه الفرد، ولا الأسرة، ولا المجتمع، ولا الديــن، ولا أهــل الـدين ولا العلم ولا مؤسساته أو أهله، ولا الاقتصاد، ولا الفكر والثقافة. لقد عمَّ ظلمه وطمََّ وأصبحت الأرض كلها تشكو إلى الله فساده، وتبتهل إلى ربها أن يعطيها الإذن لتخسف به وبداره وببطانته الشريرة، لكنَّ تدخل العناية الإلهية قد يتأخر حتى يصطلح الناس مع الله، وحتى يأخذوا بالأسباب الممكنة، وحتى يتخلصوا من الظلم فيما بينهم.
بيدَ أن هذا الحاكم الطاغية الفاسد المفسد - مع كل هذا - لا يشعر بشيء من هذا الذي يحيط به؛ فهو طاغية من هؤلاء الذين {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: ٧].
ولنتابع درس ابن الخطيب المسكين لنصل إلى الدرس الأعظم في قصته، وفي منهجه المتخبط والذي يعالج فيه صاحبه الخطأ بالخطأ، بل ربما بخطأ أكبر منه.
فعندما استقرَّ ابن الخطيب بعد هروبه من غرناطة لاجئاً إلى دولة بني مرين التي كان ملكها فتى صغيراً لم يبلغ الحلم بعد، حيث أكرم هذا الملك الفتى ووزيره الوصيّ عليه وفادة ابن الخطيب وأحسنا إليه، وهنا عاد حنين ابن الخطيب إلى منهجه في النفاق السياسي؛ لعلَّ أسهمه ترتفع في مهجره الجديد ويجد فضلة في كأس المناصب، ويفرض مكانته بقوة في بيت الحكم المريني.
ومن الطريف أن مدة إقامة ابن الخطيب في مقره الجديد لم تزد على عامين فقط كانا هما مرحلة الاستقرار بعد الفرار من غرناطة.
لكن منهجه الذي أشرنا إليه دفع به إلى أن يفكر في تأليف كتاب يبدو النفاق ظاهراً من عنوانه، يقدمه هدية للملك الفتى أبي زياد محمد السعيد؛ لكي يقول له: إن توليتك الحكــم - مع أنك لم تبلغ سن الحلم - شرعية، وأن لك سوابق أخرى في التاريخ الإسلامي، سكت عليها علماء الإسلام، والسكوت علامة الرضا (مع أن سكوت هؤلاء العلماء قد يكون خوف الفتنة والمفسدة)، والمهم أن ابن الخطيب كتب كتاباً عنوانه: (أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام). وعنوان الكتاب كما نرى واضح النفاق، وهو لم يكتب تقريراً مجرداً للوقائع، بل كتب تطويعاً للوقائع وتوجيهاً لها لخدمة الملك الفتى أبي زيان المريني.
لكن الزمن لم يمهل الملك ولا الوصي ولا ابن الخطيب، حين وقع الانقلاب الذي قام به أبو العباس المستنصر المريني بعد سنتين فقط من لجوء ابن خلدون للمغرب، فأقيل مليكه الفتى ووزيره الوصى، أما ابن الخطيب فسجن وقتل خلال شهور، دون أن يجني أية ثمرة من وراء كتابه، بل لعلّ كتابه هذا كان شؤماً عليه وعلى من أكرموا وفادته.
إن ابن الخطيب كان يعلم جيداً أن الإسلام والبلوغ والعقل الذي يمكِّن صاحبه من سياسة الرعية والرجولة والكفاية والعدالة والعلم المؤدي إلى الاجتهاد والحرية والشجاعة والكفاءة الجسدية وسلامة الحواس؛ شروط أساسية للولاية - أية ولاية - فكيف جاز له هذا التبرير السمج لظاهرة خبيثة تعدّ من أخطائنا التاريخية، وفيها - كما نرى من شروط الحاكم في الإسلام - مخالفة واضحة للشريعة الإسلامية؟
ولقد وَكَلَ الله (ابن الخطيب) إلى الأسباب الفاسدة التي أراد أن يتعلق بها، فقتل في سنته خنقاً، ولو تعلَّق بأسباب الله الصحيحة لحفظه الله كما حفظ صديقه ابن خلدون وغيره.
لقد بلغ هذا الخطأ الكبير في حضارتنا إلى درجة أن دولة الأدارسة، (وهي دولة سنّية تعظم آل البيت كشأن جميع المسلمين السنَّة).. هذه الدولة المغربية التي ظهرت في القرن الثاني الهجرى انتظر أهلها بعد موت مؤسسها (إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي) (ت 175هـ) حتى تضع زوجته التي كانت حاملاً، فلما ولدت ذكراً احتفل شيوخ القبائل والعامة جميعاً بيوم ميلاده وبيوم توليته معاً، فأصبح (عيد العرش هو عيد الفرش)! وسمّوه إدريس على اسم أبيه.
فانظر إلى أمة فيها ألوف من أهل العلم والدين والعقل تهبط إلى هذا المستوى، وتولي عليها ولداً في الأسبوع الأول من ميلاده، فهذا الملك الطفل الإدريسي ليس (ممن بويع قبل الاحتلام) - كما يقول ابن الخطيب - بل (ممن بويع قبل الفطام)!
ومن نماذج (من بويعوا قبل الاحتلام من الملوك المحسوبين على تاريخ الإسلام) هشام المؤيد بن الحكم المستنصر الفاطمي الإسماعيلي الذي ولي سنة 366 هـ وله من العمر (10 سنوات)، والحاكم بأمر الله الفاطمي مدعي الألوهية وإمام الديانة الدرزية، وقد ولي سنة 375 هـ وهـو ابن (١١ سنة)، والآمر بأحكام الله ابن المستعلي الــذي ولــي ســنة 495 هـ وهو ابن (٥ سنوات)، والفائز بنصر الله الذي ولي سنة 549 هـ وهو ابن (٥ سنوات)، والعاضد لدين الله آخر الحكام الفاطميين الإسماعيلية الباطنية والذي ولي سنة 546 هـ وهو ابن (٩ سنوات)، والخليفة العباسي المقتدر بالله أبو الفضل المولود سنة (285هـ) والذي ولي وهو ابن 13 سنة، ومن المماليك العادل ابن سلامش بن بيبرس الذي ولي وهو ابن (٧ سنوات)، والعادل الثاني ابن الكامل الذي ولي وسنُّه (12 سنة)، وأمير حاجي حفيد الناصر محمد بن قلاوون ولي وسنُّه (12 سنة)، والناصر فرح خليفة برقوق ولي سنة 803 وعمره (13 سنة).
وهكذا شُوِّه تاريخنا بهذه الظاهرة السياسية الخبيثة، وقليل من هؤلاء الحكام الفتيان من قدَّم شيئاً له شأن يفيد الأمة، وبعضهم ظهر فيهم الخبل والحمق كالحاكم بأمر الله (المدعي للألوهية).
وقد أفرزت هذه الظاهرة الخبيثة بعض الاتجاهات السياسية الأخرى، فما دام أمر الحكم هيّناً ورخيصاً بهذا الشكل؛ فلماذا لا يسود بعض المجانين والسكارى أيضاً؟!
بل لماذا لا يسود المعتوهون المصطنعون و(الثائرون) الذين لا ولاء لهم، إلا لمن يشبع نهمهم في المــال، أو فــي الشهــرة، أو في عالم الغرائز الدنيا؟!
ولم تعد البيعة قبل الاحتلام وقفاً على العمر الزمني؛ فهناك حكام يعيشون مرحلة (ما قبل الاحتلام) وهم في الخمسين، أو أكثر من ذلك، فالمراهقة الفكرية تسيطر على نظام حكمهم وعلى سلوكهم، فقد يكون اهتمامهم بمشكلات بعض الرياضيين والفنانين أكبر من اهتمامهم مائة مرة بشأن جامعات بلادهم العاجزة وتخلُّف البحث العلمي فيها، فضلاً عن عدم مبالاتهم بجيوش العاطلين والعوانس والمقهورين الذين لا يجدون أمناً ولا خبزاً ولا قمحاً ولا سكناً ولا عمــلاً.
إن بعضهــم يكــاد يفقــد كل رشده وتــوازنــه - فــرحاً أو حزناً - تجاوباً مع مباراة رياضية، لكن إحساسه يموت عندما تحل الكوارث بمن حوله من البشر، حتى لو اقترب الخطر من بلاده التي مكنته بعض الظروف منها وسيحاسبه الله على الأمانة التي وضعت في يده.
إن ظاهرة (من بويع قبل الاحتلام) العُمْري أو العقلي يجب أن تخضع للدراسة الفاحصة لقادة تاريخنا، ولسوف نكتشف أن الطفولة والمراهقة العقلية والنفسية كانت أكثر انتشاراً وأكثر خطراً على حضارتنا، ربما من ظاهرة (من بويع قبل الاحتلام) بالنسبة للسن والعمر الزماني.
لقد سيطرت على حكــــــام كثيرين - عبر التاريخ - عصابات مارقة من بطانة السوء المنتفعين وعبيد المصالح الشخصية والسلطة، وقد أفقدوا الحاكم رشده وقدرته على رؤية الأمور على حقيقتها وإبصار ظروف شعبه وأمته بالمنظار الموضوعي المستقل، ولم تكد تمضي على حكمه بضع سنوات حتى يصبح هؤلاء هم عينه التي يبصر بها، ويده التي يبطش بها، وعقله الذي يفكر به!
وكثيراً ما يقع الانفصال شبه الكامل بينه وبين شعبه؛ نتيجة نفاق هذه البطانة وأكاذيبها وتقاريرها المزيفة، وتفخيمها لشخص الحاكم وبطولاته الوهمية حتى يتصور في لحظة أنه (المعصوم) وأنه يستحق أن يكون (مقدساً) شبيها بالحاكم بأمر الله الفاطمي مدّعي الألوهية، أو قريباً من مستواه!
وهذا يؤكد لنا أن (من بويع قبل الاحتلام) تعبير ينطبق على المستويين معاً: العمر الزمني، والعمر العقلي، ولهذا كانت شروط الولاية في الإسلام صارمة، فلا بُدّ في الحاكم من صدق الإسلام، والبلوغ، والعقل بالمعنى الصحيح للعقل، وحبذا أن يكون كمال الدين والعقل في الحاكم ممكِّناً له من أن يقترب من درجة الاجتهاد، وقد أجاز الفقهاء للحاكم إذا كان قد ملك أدوات الاجتهاد أن يجتهد في أحكام الشريعة متساوياً مع غيره من المجتهدين بصفته فقيهاً مجتهداً لا بصفته حاكماً.
وقــد اجتهد الخليفتــان أبــو بكر وعمر - رضي الله عنهما - لأهليتهما للاجتهاد، فقادا الأمة إلى الخير العميم والنصر العظيم والتمكين في الأرض.
أما هؤلاء الذين يحكمون دون مؤهلات، ويعيشون حياة «ما قبل الاحتلام» وهم في قمة الحكم؛ فقد جلبوا للأمة الشرّ كله.
ونحن لا نملك إلا أن نقول فيهم: لقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  عندما اعتبر توسيد الأمر إلى غير أهله - أي لأمثالهم - من علامات يوم القيامة.
ونقول لهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، وسامح الله (لسان الدين بن الخطيب) على زلَّته عندما كتب كتابه الذي يبرّر فيه حكم أمثالكم، وسماه (أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام)، فلم ينفعه نفاقُه، ومات مسجوناً مخنوقاً في السنة نفسها التي أنهي فيها كتابه.
ونقول أخيراً: هذه خلاصة من خلاصات درس التاريخ الذي يؤكد لنا دائماً صدق ما أمرنا به القرآن الكريم في كثير من آياته؛ أن نتقي الله وحده، وأن نكون مع الصادقين، وأن نؤمن إيماناً كاملاً بأن العاقبة للمتقين.
 

 (*) أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية، ورئيس تحرير مجلة (التبيان) القاهرة.
 

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

غموض مصطلحات اركون في نفسه..كشف من المصطلحات المُلفقة علمانيا

طارق منينة

غموض مصطلحات اركون في نفسه..كشف من المصطلحات المُلفقة علمانيا
 


كان أركون يخترع الألفاظ والمصطلحات التي لم يدري هو نفسه مدى مطابقة كثير من دلالاتها للحقائق الإسلامية التي كان يزيف مصدرها ومعانيها، ومن ثم يقوم بعمل " مغالطة إختزالية"، في صورة إصطلاح، وذلك عند كلامه عن (ماهو القرآن) الذي نزل على رسول الله ، ثم وضع أوصاف له تناسب عمليات أركون التلفيقية ،كما ان اركون كان يجد صعوبة، يمكن أن يلاحظها أي قارئ لتطبيقاته المتعسفة، في إيجاد مايلبي غرض تلك المصطلحات والتطبيقات في تنزيل تأويلاتها وتطبيق تعسفاتها على القرآن والإسلام والشريعة.
إن العمليات العقلية التي كان يجريها في عقله وينتج عنها مصطلحات، كانت تتم بعد أن يزيف معنى الأسماء والحقائق الإسلامية ويتصورها على غير حقيقتها وبعد أن يختصر العالم والكون والوحي والدين والنفس في تصورات مادية قاصرة لاتمت للحقيقة في شيء، كما أن طيشا دفعه لعمليات تطبيقية متسرعة نتجت عنها إتهاماته الهشة.. وعلى الرغم من أن المصطلح وفر له عمليات عقلية دائمة إلا أن تلك العمليات، لم تكن تامة ومنجزة وصحيحة، كانت تنتابها صور الغموض وذلك لخلل التصور -الذي ظهر ملامحه على المصطلح المضطرب ،الناقص ،الضعيف- صور الغموض والإفتعال التي يمكن ملاحظتها في كثير من مصطلحاته -من عدم المطابقة وعدم صحة التصور للمتقابلات- المنحوتة خصيصا لوصف الإسلام وصفا مزيفا بصورة جوهرية.


ففي محاولته تطبيق بعض المفاهيم الغربية على القرآن قام بفصل مدلول القرآن عن المصحف المكتوب فيه القرآن المنزل نفسه، محاولا بذلك أن يضع للقرآن الموجود بين دفتين مدلولا مرتبط بجملة من الإتهامات الحداثية والإسقاطات الإيديولوجية ،والنتائج المادية يقول عن الأوصاف التي وردت في سورة التوبة في شأن المشركين : (( نلاحظ أن وصف المعارضين يختزل إلى كلمة واحدة هي : المشركون , لقد رُمُوا كلياً ونهائياً وبشكل عنيف في ساحة الشر, والسلب , والموت دون أن يقدِّم النص القرآني أي تفسير أو تعليل لهذا الرفض والطرد" (الفكر الإسلامي،قراءة علمية لمحمد أركون،ص96)، وهو كذب مفضوح فالقرآن نفسه ذكر في كثير من الآيات الأسباب العديدة لإجرام قريش، واستغلالها البشع للبشر واحتقارها للحقيقة، بيد أن أركون أغفل هذا كله وراح يبني على مجموعة افتراءاته –كما بينت في الأقطاب 1- أن هذا الفعل من القرآن إنما هو ( تشنجات قاسية " (الفكر الإسلامي ص96)
ثم انه راح يطبق نتائجه الظالمة المتعسفة ويستخلصها بقوله أن الرهان الديني : ( يمارس قوله في كل الخطاب القرآني على هيئة دكتاتورية الغاية والنهاية المطلقة"(الفكر الإسلامي،قراءة علمية لأركون،ص 96)
فهذه القراءة إنما هي انعكاس لتصور أركون المادي عن موقف الإسلام من قريش وحربها على الإسلام وجشعها المادي.
أما الذي دعا أركون إلى وضع مصطلحات لاتليق بعلوم القرآن وحقيقته المنزله وشرائعه الفريدة فهو محاولته أولا: تفريغ الإسلام من حقائقه التي نزل بها، ولقد فضح الله هؤلاء الذين لايعلمون والذين يفترون بقوله" وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)" وفي الحقيقة فإنهم هم المبطلون وليس الإسلام الملئ بالمعاني الحقة ، والأسماء الصدق، قال تعالى" وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ"
وثانيا محاولة منه لإتهام القرآن المكتوب بما إتهمت به المناهج الغربية النصوص القديمة أو إسقاطه لتلك التفسيرات والتقسيمات(تراث شفهي-تراث مكتوب) على القرآن المجيد ، إنها عملية قسرية لتفسيرات علمانية لتراثات الأمم الماضية على القرآن الكريم..أي ماأطلقوا عليه(التراث الشفهي) و(التراث المكتوب) وبعد إجراء عملية التقسيم(شفهي-مكتوب) راح يدعي أن كتابة المصحف(المكتوب) أدى إلى تلاعب بالمؤمنين لأجل تدشين إيديولوجيا مغلقة وخاطئة معا.
وحيلة أركون هي الهجوم على المكتوب ومدح الشفهي مادام ينفتح على المطلق ولاشأن له بعالم الإنسان وإدارته!
وهنا تظهر فكرته عن مااطلق عليه عملية (إصلاح الإسلام!)
فيُبقي (الشفهي!) مع أنه لايشير ماهو!، ويهجم على (المكتوب) محاولا هدم المرجعية وهز الثقة في ماإتفقت عليه الأمة بالحق..
هنا تفتقت ذهنيته عن مصطلحات ملائمة لما هو مقبل عليه!
فهو من جهة راح يتكلم بمصطلحات مخترعة متسللا بها للتلبيس وهدم الحقيقة وإدعاء التنوير، فيتكلم مثلا عن قرآن طازج (وهذا هو مصطلحه) ، شفهي ،قبل المصحف، وغيره، قرآن مفتوح على المطلق ، مفتوح على مطلق المعنى وآفاق الوجود وطبعا هو لايفسر المطلق لا بالغيب ولا بالوحي ولا بالسماء!، وأنك تجده مرة يربطه بالروح المشتاقة، ومرة بالإسطورة، ومرة بالرجوع للنفس والمجتمع والأيديولوجيات المتصارعة داخله ، وهو يقصد أحيانا بالمطلق : :المجهول الذي تحاول النفس استكشافه!، قد تحاول ذلك في ظروف غير علمية ....اسطورية، وأحيانا يصفه بالخيال الرطب (باطلا من الخيال أو إبداعا من الخيال الباطل او غير ذلك كما فسر به أركون مفهوم الخيال بحسب النظريات الحديثة جدا ،النظريات التي فسرت الدين على أنه أشواق وخيال رطب وغير ذلك مما يتعلق بالروح وتطلعاتها.
راح أركون يخترع مفهوم عن القرآن غير مايعبر عنه قرآن الرحمن ، فصار عنده مايتصوره قرآنا (في عالم الأذهان العلمانية والإستشراقية، وخاصة تصوره هو له) قرآنا غير شفهي(تراث شفهي) غير مكتوب، كما أنه غالبا ليس هو المكتوب(في المصحف!)، اطلق عليه (طزاجة القرآن)، ولم يفصح لنا عن مضمون هذا القرآن الشفهي غير المكتوب وآياته المعينة!،بيد أن المهم عنده أن يظل هذا المعنى مفتوحا على التفسيرات العلمانية والنظريات المخترعة في عالم الموضة الغربية في مجالات الأنتربولوجيا وعلم النفس والمجتمع، مفتوحا من جهة على آفاق الوجود!!،على ماتتصوره العلمانية اخيرا عن الدين ومصدره!، ومن جهة أخرى على الأسطورة والخيال الرطب، وقد قام أركون بهذه المحاولة لترسيخ معنيين باطلين ،على الأقل، عند قراءه، المعنى الأول هو أنه كان هناك قرآن مفتوح على المطلق لم يعد له وجود،(واحيانا يصف الإسلام القرآني بذلك!) كان فيه أشواق الروح وقد قدم بهذه المقدمة ليسهُل له إتهام القرآن المكتوب بين الدفتين ألا وهو المصحف!، بأنه القرآن الإيديولوجي، الذي أغلقته المؤسسة السياسية لأغراض سياسية!، فمدح الأول مع أنه لاوجود له إلا في ذهنه(وهو إنما يفعل ذلك ليقول إن هناك إصلاحا تنويرا ممكنا داخل الإسلام كما كان من قبل في المسيحية)، وذم الثاني ورماه بالأيديولوجيا المتلاعبة بالوقائع!، المستبدة المتشنجة!، غير أنك إذا سألته ماهو هذا القرآن الطازج وعلى ماذا كان يدل؟ وماهي نصوصه ومفاهيمه وحقائقه ودلالاته التي فهمها هو نفسه-أي أركون- وعبر عنها بلظ (الطزاجة) إذا سألته عن ذلك فلن تجد له جوابا،ولا أظن أنه كان عنده جوابا داخليا، فالإجابة بالنسبة له غامضة باهتة، لقد حاول فقط إنتزاع الإتهامات في ظل تطبيقات عاثرة ومصطلحات غير مطابقة، فهو لم يجد بين يديه إلا أوصاف غائمة كأنه يصف صوفيه هندية أو رهبانية لاتعرف من الحياة إلا دير منغلق على صاحبه لاشأن للدنيا به ولا شأن له بالدنيا. فكلمات مثل الإنفتاح على المطلق والأشواق والوجود وآفاقه!،لاتعني في الإسلام معنى مفهوما مقبوضا عليه، واضح الملامح والمعاني، وإنك أحيانا تفهم من فكرته المخترعة عنده أن ظزاجة القرآن تعني مراوغة المعنى وانفتاحه على اي معنى لايتحدد على فكرة محددة او عقيدة ثابتة فأركون يرمي مفاهيم الثبات في الاسلام بأنها من اختراع العلماء والفقهاء...ولذلك فإما يفتح القرآن على آفاق روحانية هائمة في الخيال، أو على الأسطورة ووقائعها وارتباطاتها مع المال والكهانة والإستغلال الإنساني والسياسي.
يقول هاشم صالح تعليقا:" الفكرة المركزية لأركون هنا تتلخص في مايلي: القرآن كتاب الوحي، والوحي ذو لغة مجازية ورمزية منفتحة على شتي الآفاق، على كل الإحتمالات والدلالات. وبالتالي فلايجوز تحويل هذه اللغة العالية والمتعالية إلى لغة فقهية قانونية ضيقة، والقول إنه لامعنى لها. هذا تقييد للمعنى المجازي، وحصر للرمز، وفي نهاية المطاف خنق للفكر وحرية الفكر... وهكذا تتم عملية ايقاف الوحي الذي لاينبغي ألا يتوقف لأنه مفتوح على مطلق المعنى وآفاق الوجود"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ،هامش) ص 218) ) مع انهما هاشم واركون يطلقان على لغة القرآن ،من جهة ، لغة التحيز والتضليل كما فعل أركون مع مفاهيم سورة التوبة وموقف الإسلام من جاهلية العرب.
فأركون لم يكن يعرف معنى كليا لماحاكه في صدره ،لقد أراد أن يطبق على مفهوم الدين ذلك المفهوم الحديث الذي يضع (الدين) في الطزاجة والأشواق والخيال البشري والبحث عن المطلق (بعيدا نوعا ما عن نظريات وضع الدين كخرافة مخالفة للعلم ولطبيعة الإنسان وهي نظرة القرن التاسع عشر للدين، وفي نفس الوقت أراد أن يجد سبيلا إلى رفض الدين، خصوصا الإسلام، بصفته سلطة عليا في المجتمع والدولة، في القانون والشريعة!، كمقدس له سلطة على الحياة!،فهو يعكس مبدئيا المفهوم المادي الحديث للدين على الإسلام ويعتبر أنه الطريق لإصلاح الإسلام من الداخل، بيد أن ذلك جعله يحاول بتر حقيقة الإسلام وطبيعة الوحي الرباني والقرآن الذي أنزل بمبادئ للحياة تختلف عن ماعرفته البشرية من أديان روحانية منحرفة أو سماوية أصابها الخلل والتحوير، ومع ذلك تبقى محاولة تطبيق المصطلح متعسفة وباهتة وغامضة وغير متكاملة المعنى، فهو أولا –كما قلت-لم يحدد لنا ماهو هذا القرآن الذي يشير إليه بهذا اللفظ (طزاجة القرآن) مع العلم أنه ينفي هذا المعنى ،غالبا، عن المصحف، وكأن القرآن إختفى من القرآن ولم يبق في القرآن إلا ماهو ليس بقرآن!!، أو كأن الصحابة والدولة الأموية من بعدهم قاموا بعملية فرز بين الطازج وغير الطازج!، وهو من جهة أخرى لايتكلم عن المصحف إلا بنفس إتهامات المستشرقين له، من أنه مصحف الدولة الأموية ومن قبلها من أصحاب الأغراض الإيديولوجية! ، وأن هناك سور وآيات حذفت ولم توضع في المصحف!، وقد يضع تلك المجموعة من الإتهامات في سياق اتهامات أخرى ، أكثر حداثة، تحت مصطلح آخر لايدل على ضيق الإتهام الإستشراقي ،(بحسب أركون) غير المنفتح على الدراسات المادية الحديثة، فتراه يشير إلى خطاب قرآني شفوي مفتوح!!، فهذا الخطاب المفتوح –عند أركون-هو مفتوح على كل الدلالات!،(وطبعا يقصد بمفهوم الدلالات: الدلالات التي تنتجها المذاهب الحديثة لتحليل الأشياء والنصوص ) وبينما يبدو احيانا في مواضع من كلامه أنه يمدح القرآن بذلك تجد ان القصد في الباطن ذمه وهدمه ، فإذا كان ذلك مختبئ وراء وصف المدح ، فكيف وصف الذم المباشر؟
كما أن الرجل إذا تكلم عن المصحف ، لم يقل عنه ، غالبا، انه مفتوح على كل الدلالات الكونية والآفاق الوجودية! ، وأحيانا يقول ذلك إذا أراد الكلام عن الإصلاح التنويري في عالم الإسلام!
والسؤال الآن: هل ينفتح نص مغلق-وهذا هو إتهام أركون للقرآن الذي بين دفتي المصحف- على دلالات لاحدود لها، من آفاق الوجود .فكيف يكون على هذا الوجه منغلقا وهو مفتوح على مصراعيه لأي إكتشاف أو حتى للمعاني الروحية الرحبة!!، وفي الحقيقة فإنها كلها إتهامات عبثية تحاول ان تنفي علاقة القرآن بعالم الواقع وسلطة الحياة، إنه من جهة أخرى يجعل معنى الخطاب المفتوح هو إنفتاحه أو قبوله للتفسيرات التي تضعه في مصاف النصوص التاريخية التي أفرزتها البيئات والأساطير!! قال في كتابه الفكر الإسلامي نقد واجتهاد (ص175) :" وأنا إذ أتحدث عن وجود خطاب قرآني مفتوح معرفيا...أتصور القرآن على هيئة فضاء لغوي تشتغل فيه عدة أنماط من الخطاب(الخطاب النبوي، والخطاب التشريعي، والخطاب القصصي، والخطاب الوعظي، والأمثال...). فهذه الخطابات تشتغل في القرآن في ذات الوقت وتتقاطع أيضا.(أنظر بهذا الصدد كتابي: قراءات في القرآن).أن التحليل اللغوي والسيميائي البحت لهذه الخطابات يتيح لنا أن نستخرج البنية الأسطورية المركزية للقرآن، هذه البنية التي تستخدم الرمز والمجاز من أجل أن تخلع على العبارات القرآنية إمكانات افتراضية عديدة للمعنى والدلالة"
فهو خطاب مفتوح يقوم اركون بنقده،وإرجاعه إلى بنية اسطورية، وهنا لا يفسر مسألة ( الخطاب المفتوح) بالمعنى الذي يقول انه منفتح على المطلق والتطلع للمجهول بل انه يُغيب عن القارئ هذا المعنى (مؤقتا إلى أن يرجع إليه في مواضع أخرى يتيمة) ليقول انه منفتح على الثقافي واللغوي والرمزي المجازي والإسطوري فقط، وهو بذلك لا يتهم الوحي فقط، وإنما يتهم النفس بإن لها خيال ديني باطل ، تفضحه اللغة وتكشفه المكتسيات الحديثة.
فأركون لم يفسر فكرة الطزاجة و المطلق (الفكرة الحديثة في عالم الإكتشافات اليتيمة الغربية) اللهم إلا أنه يرجعه من ناحية إلى طلاقة الخيال وباطله المسكن للنفس!، وانفتاحه على مجالات الروح واشواقها الاسطورية!
وكما ترى فإنها كلمات عامة غامضة (طزاجة-شفوية-مطلق) ،إلا أنها مرتبطة بآخر التفسيرات الغربية للنصوص والوجود وأشواق النفس!
ومع ذلك يمدح أركون-في مواضع- آيات من المصحف، وكأنها فلتت -عنده!- من الإيديولوجيا؟ انه يريد ان يفتح المعنى القرآني على اي معنى بحجة انفتاح الدلالات ، الدلالات التي يغلقها على منتجات التفاسير العلمانية الحديثة(المنغلقة ماديا!) بينما هو يهدم تفاسير القرآن الكريم، ويهين اللمفسرين ويتهمهم بكل صور الجهل والغباء المعرفي.
لقد وصل الأمر عند أركون بإلقاء القرآن في عالم الأسطورة وتعمد التحريف والبغي على قريش والعرب وأن الرسول محمد كقوة مناهضة لقوة قريش عزل وأخفى طبيعة الصراع المادية والإجتماعية بينه وبين قريش، وأن القرآن سجل الوقائع بظلم للقوى المناهضة لمحمد ومن معه ورماه بأنه خطاب سلطوي ، غير عادل (انظر كتابه تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص 265،166، والنص في كتابنا أقطاب العلمانية ص 175)
هنا يضع اركون مصطلح(الخطاب القرآني المفتوح!) وكأنه يفتحه-من جهة- على الثقافي والإجتماعي وصراعات أرضية على هيمنة نفوس وإيديولوجيات، ومن جهة أخرى على الخرافة وأباطيل النفس وخيالاتها الرطبة المزعومة بالصورة الغربية والأركونية!
فأين الطزاجة التي حاول اركون أن يمدحها في القرآن الشفوي،الذي زعم أن الدولة الأموية أغلقته وسجلته منغلقا، مع إتهام القرآن نفسه بالتلاعب بالوقائع واتهامه برمزية خرافية واسطورية
لذلك قلت إن الأمور غائمة في نفس محمد اركون،وهو وإن كان قد صك بعض المصطلحات الخاصة بموقفه هو من الإسلام إلا أن وضوح الفكرة ليست ليست بالدرجة التي يظنها أتباعه.. وسبب ذلك انه يحاول تنزيل أفكار ونظريات حديثة على القرآن ونزوله وحقيقته ومعانيه..ليحدث خلخلة! مع عدم قبول القرآن لتلك الأفكار القاصرة والمصطلحات الباطلة، إن غرضه في إحداث خلخلة في مفهوم القرآن ،ويمكن تتبع منهجه وموقفه المسبق من بعض نصوصه الفاضحة ففي كتابه الفكر الإسلامي نقد واجتهاد يذكر اركون ان من المشاكل التي يجب على المفكر النقدي حلها هي:" مسألة تاريخ النص القرآني وتشكله...ثم مسألة الوحي... وكل هذه المسائل العديدة والتساؤلات لم تُمس الا مسا خفيفا من قبل الفكر القروسطوي أو البحث الأكاديمي الإستشراقي(الذي اهتم بشكل خاص بدراسة تاريخ النص القرآني..."(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص17)
فما فعله هو أنه حاول تطبيق بعض الأفكار الفلسفية (لمابعد الإستشراق والحداثة)بمصطلحاتها على القرآن، وعلى ماقسمته تلك الفلسفات تحت عنوان(تراث شفهي-تراث كتابي) او انفتاح الديني والاسطوري على (المطلق) بإعتبار أنه شوق الروح إلى المطلق بمزيته ودلالاته!
وكمحاولة ساذجة من اركون ،أقل مايقال عنها، انها يعوزها الإنسجام، ويحيط بها التناقض، هو تفريقه بين القرآن ك"نص" والقرآن ك "خطاب" (وهي مصطلحاته على كل حال) يقول:" فالفكرة الأساسية تكمن في التلاوة المطابقة للخطاب المسموع لا المقروء. ولهذا السبب بالذات أفضل التحدث شخصيا عن الخطاب القرآني، وليس النص القرآني، عندما أصف المرحلة الأولية للتلفظ (او التنصيص) من قبل النبي. ذلك أن مرحلة الكتابة ( أي كتابة الخطاب القرآني) قد جاءت في مابعد في ظل الخليفة الثالث عثمان (بين عامي 645-656م). ولاريب في أن التمييز بين مفهومي الخطاب والنص يتخد أهمية أكبر على ضوء الألسنيات الحديثة(وأحب أن أُحيل القاريء، هنا، إلى كتابي قراءات في القرآن)"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص73)
وهكذا فغموض الفكرة وتناقضاتها الداخلية تلف عمل أركون التلفيقي كذلك ،فعملية الإسقاط الأركونية لمااعترى فكره من أفكار عن القرآن بدأت واستمرت معه حتى النهاية إلا أنها كما قلنا لم تكن –لافي مصطلحاتها ولا في تطبيقاتها-بالوضوح الكامل لديه وإلا فكما قلنا ماهو القرآن الطازح المفتوح على كل الدلالات كما يزعم اركون، وأين هو؟ فوصفه يعني وضع اليد عليه من قبل خبير في عالم الإركيولوجيا، خبير يقوده الطيش والتسرع في حك مصطلحات والقيام بتطبيقات خائبة كبديل حداثي عن مناهج المستشرقين الباطلة والنص التالي يبين قصدنا، يقول:" حالتي أنا، كان التحرير الفكري والعقلي للجزائريين ولعموم المسلمين:" وعندما أصبحت مدرسا في السوربون في بداية الستينات اتبعت فورا(!) المنهجيات التي تختلف جذريا عن منهجيات المستشرقين."الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص264) فقد راح اركون وقد عرف هدفه الذي كان يحاول دائما ان يجد له مناهج غربية معينة ففي البداية كان يقرأ على طلبته نصوصا من كتب روبير ماندرو(منذ عام 1960)، يقول:" وأنت تعرف أن ماندرو من جماعة" التاريخ الجديد" في فرنسا، أي جماعة مدرسة الحوليات...ثم طرأت في مابعد أثناء مساري العلمي مشكلة أخرى تخص النص القرآني وكيفية تشكله وفهمه. فبعد أن أتممت أطروحتي عن" الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري" واستكملت دراسة الفكر الإسلامي الكلاسيكي بدا لي أنه ينبغي أن أعود إلى الوراء، أي إلى لحظة القرآن التأسيسية لكي أفهم الأمور على وجهها الصحيح، ولكي تكون دراستي لتاريخ الفكر الإسلامي مرتكزة على أسس قويمة ومتينة"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص266)
يفهم الأمور على ماانتهت إليه قراءاته العلمانية وليس كما عليه الأمور على حقيقتها.
ومثل الطزاجة موضوع المطلق، وآفاق الوجود!، فاركون يريد من جهة أن يصب مااسماها بتجربة محمد مع المطلق لكن في (الموضوع الغربي المكتشف حديثا)وهو اشتياق الروح للمطلق، (البراءة الساذجة الموجودة عند الإنسان!) ونفي نفس الوقت إتهم الرسول بأنه (بتجربة المدينة) قام بمؤامرة وتحريف واغتيال للعقل العربي المناهض له مع اخفاء لحقيقة الصراع ماجعله يقوم بتلاعبات في النصوص القرآنية المواجهة لقريش ، ولذلك ترى اركون يقوم بتحليل سورة التوبة على هذا الأساس!
وتعجب عندما تجده يقول وكأنه يعرف قرآنا آخر غير الذي نعرفه، مع أنه لايدلنا عليه وإنما كما قلت إنه يعيش على الإسقاطات ومحاولة إختراع فكرة أن هناك قرآن شفوي مفتوح على المطلق وآخر إيديولوجي موجود في مصحف(ومع ذلك يقول عن القرآن ككل!!، وايضا مافي المصحف!!!" من الواضح أن الإسلام القرآني يركز على المطلق والتعالي اكثر بكثير مما يفعله الإسلام الإمبراطوري المهووس بالسلطة وتأسيس الدولة وتشكيل قوة عظمى للمسلمين، الإسلام في القرآن ينفجر كالنور أو كالضياء أو كالشعلة المقدسة، ولا يهتم إطلاقا بالاعتبارات المادية أو السلطوية. إنه تأسيس لعلاقة المعنى وللميثاق الإلهي في اللغة العربية. أما الإسلام الفقهي أو الطقس- الشعائري أو الإمبراطوري، فهو وإن لم يكن قد فقد بعده الديني بعد، إلا أن هموم القوة والتوسع على حساب الآخرين تبدو غالبة عليه " (محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الأولى 1993، ص144.)
إنه مرتبك، ولذلك تراه يتهم مرة مايمكن أن يمدحه مرات أو العكس!!
فالرجل يحاول أن يطبق نظريات ومصطلحات انتجتها بعض المذاهب الأنثربولوجية عن الجماعات البدائية مثل موضوع(الشفهي والكتابي) يطبق ذلك على القرآن، فيقسمه إلى قرآن طازج يتفاعل مع المطلق(ولايشير إلى:اين هو) وقرآن في المصحف، المصحف الذي قال اركون انه تدشين رجال تعمدوا وضع نصوص معينة هي كل المصحف تخدم ايديولوجية الدولة!!!
هذا هو (الكتاب) الأيديولوجي!
ويتعلق أمر القرآن الطازج والمطلق عند اركون(ايضا) بمااكتشفته بعض العلوم الأنثربولوجية والإجتماعية من ان العقل الاسطوري متعلق دوما منذ الأزل بخيالات بشرية تواقة إلى عالم متسامي!، وأن هذا العقل لايختلف في منطقه عن العقل العلمي!، ثم في نفس الوقت يتهم التجربة من خلال صراعاتها لكن يمدحها من خلال روحانيتها... ومن هنا يدعو إلى احترام الدين.. على أن يكون في اشواقه الروحية وشعائره التي لاتتعدى حدود عمل الروح والخيال.. اما الواقع وصراعاته فقد كشفت الحداثة المؤامرات والتلاعبات في النصوص وفي المصجف وفي تجربة المدينة.. وعلى ذلك فليترك الدين العالم المادي للعلمانية والحداثة الجديدة.. قال اركون ان العلم الحديث :"اعترف بالأسطورة أو بالمتخيل كحقيقة واقعة، ويدرجها داخل نظام العقلانية ويُدجنها ما إذا جاز التعبير "(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 328) ويقول أيضا:"... العمليات النفسية التي يموضعها القرآن في القلب، والتي يحاول علم الأنتربولوجيا الحالي إعادة الاعتبار لها وادخالها تحت اسم المخيال أو المتخيل"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 84)
ومعلوم ان اركون استفاد من تفسير معنى الاسطورة من كلود ليفي شترواس، وفي ذلك يقول هاشم صالح تعليقا على استخدام اركون لنص شتروس عن الاسطورة:" هاتان العبارتان الموضوعتان بين قوسين هما لكلود ليفي ستراوس في تعريف الأسطورة. فالأسطورة بالمعنى الأنتربولوجي للكلم-هي عبارة عن تجميع ذكي لنتف متفرقة من حكايات قديمة تعود إلى عهود قديمة. ولايهم في الأسطورة مطابقتها للواقع والتاريخ، وإنما في تشكيل "قصر إيديولوجي" منيف وناجح من عناصر متفرقة"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص208) وفي نفس الصفحة يزعم هاشم صالح عن القرآن:"انه قد تأثر بما سبقه من توراة وأناجيل فهذه حقيقة واقعة" واما نص اركون وداخله نص سترواس فهو كالتالي:"أن التاريخ يعلمنا أن الإسلام قد احتفظ بالكثير من الشعائر الخاصة بالدين العربي السابق عليه. فمثلا شعيرة الحج إلى مكة، والإيمان بالجن، والتصورات الاسطورية المشكلة عن الشعوب القديمة، والكثير من القصص ذات العبرة، كل ذلك مرتبط بثقافات سابقة على الإسلام. ولكن القرآن يستولي من جديد على" أنقاض الخطاب الاجتماعي القديم هذا" من أجل بناء"قصر إيديولوجي" جديد، كما تشهد على ذلك سورة أهل الكهف... وبهذا المعنى نقول إن القرآن هو خطاب ذو بنية اسطورية...إني أنتهز هذه المناسة للتأكيد على هذه النقطة لأن كثير من قراء كتبي قد ارتكبوا خطأ فادحا، إذ فهموا الأسطورة بمعنى الحكاية الأسطورية أو الخرافة التي لاأساس لها. وهذا يؤدي بالطبع إلى تدمير الغني الأسطوري للقصص القرآنية"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 141)
فأركون كما نرى لايقوم بأكثر من عمل تلفيقي مصطنع يجمع بين الإستشراق وخرافاته وعلم الإجتماع الغربي وآخر موضاته الباطلة، والرجل حاول جاهدا أن يخترع المصطلحات المناسبة لتلفيقيته مثل مثلا (التطبيقيات الإسلامية) او( الإسلاميات التطبيقية) أي أنه يطبق تلك المستجدات في عالم الاجتماع والنفس والأنثربولوجيا وغير ذلك على الإسلام والقرآن وماتخيله عنه من نصوص طازجة شفهية(هي القرآن عنده) لم يعد لها وجود بحسب اكتشافاته!!.
يقول هاشم صالح في تعريفها:" يقصد اركون بالإسلاميات التطبيقية تلك المنهجية الجديدة التي اخترعها هو شخصيا لكي يتجاوز منهجية الإسلاميات الكلاسيكية الخاصة بالمستشرقين بعد أن يأخذ كل ماهو مفيد منها للمزيد من الإطلاع انظر بهذا الصدد كل الفصل الأول من كتاب" تاريخية الفكر العربي الإسلامي" وهو بعنوان" نحو إسلاميات تطبيقية. أي في الواقع تطبيق علوم الإنسان والمجتمع على دراسة الإسلام"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد(هامش) ص 193)