الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

تحْريفاتُ اليَسُوعيَّين لكتُب التراث

تحْريفاتُ اليَسُوعيَّين لكتُب التراث
للشيخ محمد شريف الزيبق
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين

 

قد لا يخطر في البال أن يعمد إنسان عاقل ينتمي للدين والعلم إلى تشويه النصوص الأدبية والتاريخية، ولكن ذلك واقع بالفعل، ووقع كثيراً من ((الأدباء اليسوعيين)) في بيروت، وهم قساوسة من الطائفة الكاثوليكية، أسسوا جامعة ((القديس جوزيف)) ولهم مطبعة تسمى ((المطبعة الكاثوليكية)). وقد طبعوا منذ قرن من الزمان طائفة من كتب التراث الإسلامي وأحدثوا فيها تحريفات غريبة وعجيبة. تدل على شدة تعصبهم وحقدهم على الإسلام، وفقدانهم نزاهة العلماء، وأمانتهم في النقل، وقد كشف عن بعض هذه التحريفات أفاضل الباحثين، وقد رأيت أن أنبه لذلك، وأذكر بعض نماذج من هذه التحريفات:

1. فقه اللغة للإمام أبي منصور عبد الملك الثعالبي:
عندما طبع الآباء اليسوعيون هذا الكتاب استبدلوا عبارة المؤلف عند ذكر النصوص القرآنية (قال تعالى) بعبارة، (يقول القرآن) ! وهذا منتهى التعصب، فهم لا يريدون أن تمر أبصارهم أو تنطق ألسنتهم، وألسنة قرّاء مطبوعاتهم بعبارة تتضمن حقيقة أن القرآن كلام الله، وأين هذا من تسامح علماء المسلمين الذين أدبهم القرآن الكريم على الأمانة في النقل والرواية لكلام المخالفين بنصه، مهما كان محتواه مخالفاً العقيدة الإسلامية، حتى صارت لديهم قاعدة مشهورة: ((ناقل الكفر ليس بكافر)).

2. كتاب ابن عبد البر الذي جمع فيه شعر أبي العتاهية في الزهد والحكم:
يمتاز أبو اسحق إسماعيل بن القاسم المشهور بأبي العتاهية بغزارة شعره الذي أنشده في الزهد في الدنيا، وذكر الموت وما بعده من القبر والحساب في الآخرة والجزاء بالجنة أو النار، سوى ما نظمه في الأغراض الشعرية الأخرى. وقد اتهمه حساده بالزندقة، وحاولوا إثبات ذلك بإيراد روايات عن تهتكه في شبابه، وما كان بينه وبين أمثاله من شعراء العصر العباسي كأبي نواس وغيره. هذا ما حدا بالحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر بالعناية بجمع أشعاره الحكمية والدفاع عنه، وإثبات براءته مما وصم به، في كتابه: الابتهال بما في شعر أبي العتاهية من الحكم والأمثال[1].
وكان القسيس الأب لويس شيخو اليسوعي قد طبع ديوان أبي العتاهية منذ ما يقرب من قرن في المطبعة اليسوعية في بيروت، وأعيد طبعها عدة مرات، وفيها تحريفات كثيرة، لفتت نظر الشيخ المحقق أحمد محمد شاكر رحمه الله، أثناء تحقيقه لكتاب: الشعر والشعراء لابن قتيبة. فعلق على ترجمة أبي العتاهية بقوله ((وديوانه معروف مطبوع، طبعة الآباء اليسوعيون.. وهم قوم لا يوثق بنقلهم لتلاعبهم وتعصبهم وتحريفهم، ولكن هذا الذي وجد بأيدي الناس)).
وقد لفت نظري مقال للدكتور آدم بيلو ((حول الشعر التعليمي)) المنشور في العدد 52 من مجلة الجامعة الإسلامية، وفيه يقول: إن جامع ديوان أبي العتاهية لويس شيخو قد أورد من أرجوزة أبي العتاهية المعروفة بذات الأمثال ما يقارب من الخمسين بيتاً، وتذكرت أن الدكتور شكري فيصل قد أورد منها ثلاثمائة وعشرين بيتاً، في كتابه: ((أبو العتاهية: أخباره وأشعاره)) المطبوع بجامعة دمشق سنة 1384، وقد أماط مؤلف هذا الكتاب اللثام عن تحريفات الأب شيخو، وقام بجهد مشكور في توثيق شعر أبي العتاهية معتمداً على مخطوطتين إحداهما في دار الكتب الظاهرية بدمشق، والأخرى في مكتبة توبنجن بألمانيا، وهما نسختان مما جمعه ابن عبد البر، ولما كان ابن عبد البر لم يقصد إلى جمع شعر أبي العتاهية كله، فإن الدكتور شكري حرص على جمع أشعاره وأخباره من مختلف المصادر فجاء كتابه جامعا موثقاً فيه الأمانة في النقل، وإثبات الاختلاف في الرواية إن وجد.
وأما لويس شيخو فقد طمس عمل الحافظ ابن عبد البر، فكتب عنوان الكتاب هكذا: (الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية)، وكتب تحته: ((نقلاً عن رواية النمري، وكتب مشاهير الأدباء كالأصفهاني والمبرد وابن عبد ربه و المسعودي و الماوردي و الغزالي)).
وحين شرع الدكتور شكري يقابل بين مخطوطة الظاهرية وبين ما في مطبوعة الأب شيخو استرعى نظره أمر خطير، يقول: "لفتني في شيء من عنف تحريفات غريبة وقعت عليها، فلما مضيت أستقصي، بدت لي هذه التحريفات وكأنها عمل مقصود"[2].
وتبيّن للدكتور أن الأمر تجاوز التحريف إلى بتر بعض الأبيات ذوات العدد من بعض القصائد، يقول: "وذكرت حديث الشيخ شاكر رحمه الله وكنت أظن فيه بعض الحدة، فإذا حديثه دون أن ينهض لهذا التضليل الذي انساقت إليه طبعة الأب شيخو، والتي أرادت أن تسوق إليه الناس في شيء كثير من الاستخفاف بكل أمانة العلم وخلق العلماء"[3].

نماذج من تحريفات الأب لويس شيخو:
ذكر الدكتور شكري فيصل عدة ملاحظات على مطبوعة شيخو: ((الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية))، ومنها:
1- طمسه معالم عمل ابن عبد البر حين سكت عنه وأغفل التعريف به، ولم يشر إلى ما أفاد منه، وتعمد ألا يذكره بشهرته ابن عبد البر واكتفى بنسبته (النمري). والقارئ لا يدري أي نمري هو!.
2- سكوته عن وصل الروايات والمقابلات بمصادرها، مكتفياً بهذه المقالات الصماء: روي له، وفي رواية، ويروي، وفي مخطوطة من باريس
3- طيّه شعر أبي العتاهية الغزلي حيناً، وتحريفه لبعضه حيناً آخر، حذف القطعة خبر منه لأنه يجعل (الحب) (ودّاً)، والهوى نوى والجارية نديماً، والوجه رأياً في مثل البيت التالي:
في هواه وله وجه حسن
عزة الحب أرته ذلتي
فيصبره إلى:
في نواه وله رأي حسن
عزة الود أرته ذلتي
4- ولكن أعظم من ذلك إنما كان في هذه التحريفات التي تعمدها وهي تتنوع: فتتناول الكلمة حيناً والجملة حينا، والشطر أو البيت كله مرة والأبيات ذوات العدد في بعض الأحايين.
وهذه نماذج من كل نوع:
1-  في قول أبي العتاهية:
ولكنك المولى ولست بمولود
شهدنا لك اللهم أن لست والدا
فقد حرف (والداً) فجعلها (محدثا).
2- وقوله:
غداً بين سائق وشهيد
ليت شعري كيف حالك يا نفس
فقد حرف التعبير القرآني سائق وشهيد إلى سابق وشهيد.
3- وقوله:
ثم قبر ونشور وجلب
أسقام ثم موت نازل
 فقد حرف نشور إلى نزول.
4-  وقوله:
وحورهن لساهية
إن العقول عن الجنان
وقد حرف حورهن إلى دورهن.
5- وقوله:
فاذكر مصابك بالنبي محمد
وإذا ذكرت محمدا ومصابه
فقد حرف البيت هكذا:
فاجعل ملاذك بالإله الأوحد
وإذا ذكرت العابدين وذلهم
فهو لا يطيق أن يرى لفظة (محمد) صلى الله عليه وسلم
6- قوله:
هو الذي لم يولد ولم يلد
الحمد لله الواحد الصمد
فقد غير الشطر الثاني مع عقيدته القائلة بأن المسيح ابن الله _ إلى

فهو الذي به رجائي وسندي
7- وإليك أيها القارئ الكريم تحريفاته في هذه القطعة:
ينبغي للدين ألاّ يطرَح
يا بنى ادم صونوا دينكم
نبي قام فيكم فنصحب
واحمدوا الله الذي أكرمكم

غير بنبي إلى بنذير
كل خير نلتموه وشرح
بنبي فتح الله به

غير بنبي إلى بخطيب
في التقى والخير شالوا ورجح
مرسل لو يوزن الناس به

غير مرسل إلى ابن من
ورسول الله أولى بالمدح
فرسول الله أولى بالعلا
غير البيت هكذا:
ونذير الخير أولى بالمدح[4]
فنذير الخير أولى بالعلا
8- وعندما لا يستقيم للأب لويس شيخو تغيير البيت يعمد إلى إسقاطه وحذفه، ومما حذفه الأبيات التالية:
صلى الإله على النبيّ المصطفى
وهو الذي بعث النبيّ محمدا
حاشا له أن يكون مشتركا
الحمد لله لا شريك له
من مهتد رشيد وهادى
أين أين النبي ّ صلى عليه الله
بل هو يحذف الأبيات ذوات العدد، كصنيعة في حذف الأبيات السبعة الأولى من هذه القصيدة التي يبلغ عدد أبياتها 26 بيتاً:
ولا تنس قبرا بالمدينة ثاويا
ليبك رسول الله من كان باكيا
فقد كان مهديا دليلا وهاديا
جزى الله عنا كل خير محمدا
إذا كنت للبرِّ المطهِّر ناسيا
ولن تسرى الذكرى بما هو أهله
وآثاره بالمسجدين كما هيا
أتنسى رسول الله أفضل من مشى
وأكرمهم بيتاً وشعبا وواديا
وكان أبّر الناس بالناس كلهم
عليه سلام الله ما كان صافيا
تكدّر من بعد النبي محمد
ومن علمٍ أمسى وأصبح عافيا
فلم من منار كان أوضحه لنا

وبعد هذه الأبيات التي حذفها:
وكشّفت الأطماع منا المساويا
ركنا إلى الدنيا الدنية ضلة
نراها فما نزداد إلا تماديا
وإنا لنُرمى كل يومٍ بعبرة
عليها ودارٍ أورثتنُّا تعاديا
نُسرُ بدارٍ أورثتنا تضاغُنا
تقلب عريانا وان كان كاسيا
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى
جميعاً وكن ما شئت لله راجياً
اخي كن على يأس من الناس كلهم
فحسب عباد الله بالله كافيا
ألم تر أن الله يكفي عباده
والقصيدة رائعة يختمها بقوله:
ألا لخراب الدهر أصبحت بانيا
ألا أيها الباني لغير بلاغة[5]
وأصبحت مختالا فخوراً مباهيا
ألا لزوال العمر أصبحت بانيا
وخلفت من خلفته عنك ساليا[6]
كأنك قد ولّيْتَ عن كل ما ترى
أجل، فالإنسان المغرور الغافل، يدركه الموت ويترك ماله لوارثه الذي سرعان ما ينساه ويسلو عنه.
وأكتفي بهذه الأمثلة على تحريفات الأب لويس شيخو، وهي نموذج لما يفعله متعصبو الصليبيين بالتراث للإسلامي.

3.  المنجد في اللغة:
للأب يوسف معلوف وهو معجم مشهور متداول بين الناشئة، طبع للمرة الأولى سنة 1326 (1908م) في 737 ص بمطبعة الآباء اليسوعيين [7] ثم تتابعت طبعاته، وقد طبعت الطبعة السابعة عشر سنة 1376 (1956م) بعنوان: (المنجد في اللغة والأدب والعلوم)، وذكر في مقدمة هذه الطبعة ما أدخل عليه من التحسينات مثل طبع الكلمة (الأم) باللون الأحمر، وإضافة المنجد في الأدب والعلوم للأب فرد يناند تونل. وفي الطبعة الثالثة والعشرين سنة 1398 (1978م) عنون له: (المنجد في اللغة والأعلام)، ومنذ الطبعة السابعة عشرة كان يراجعه عدد من الأساتذة منهم كرم البستاني، والأب بولس موتراد، وأنطون نعمة وغيرهم.
وقد بلغت صفحات الطبعة الثالثة والعشرين للمنجد اللغوي 966 صفحة ومع (فرائد الأدب) تبلغ 1014 صفحة (والمنجد في الأعلام) 800 صفحة مع 132 لوحة بالألوان و 68 خريطة جغرافية و 39 خريطة بالألوان، و 32 جدولاً و 1320 رسماً.
وتضمن المنجد في العلام 600ر10 مادة، منها 5940 عن العالم الإسلامي.
هذا هو (المنجد) المعجم الخطير بسبب حسن إخراجه وسهولة المراجعة فيه، وما اتصف به من المزايا التي ذكرناها، مما جعله يروج رواجاً عظيماً بين الدارسين من أبناء الأمة الإسلامية.
وترجع خطورته إلى ما تضمنته من أخطاء علمية وتاريخية متعمدة في كثير من الأحيان، وفيه تحريفات ومطاعن في تاريخنا قد تخفى على الناشئة، وقد تنبه لهذه الأخطاء طائفة من العلماء والباحثين.
أ) فنشر العلامة عبد الله كنون الأمين العام لرابطة علماء المغرب سلسلة من المقالات في مجلة (دعوة الحق) المغربية انتقد فيها 672 مادة.
ب) وصدرت ثلاث مقالات للأستاذ منير العمادي في مجلة (مجمع اللغة العربية) و (مجلة المعرفة) بدمشق في نقده.
ج) وفي سنة 1389 صدر تقرير عن أضرار (المنجد الأبجدي) للأستاذ سعيد الأفغاني رئيس قسم اللغة العربية بدمشق قدمه إلى رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر وكيل بجامعة دمشق، بيّن فيه بعض عوراته ومثالبه بأسلوب واضح وكلام مركز مبين.
د) ونشر الأستاذ عبد الستار فرج السيد مقالين في مجلة (العربي) بيّن فيهما بعض نواقص المنجد وما فيه من عورات ومثالب، وأورد أمثلة عديدة لما وقع فيه من تحريف للأسماء وتشويه للحقائق التاريخية، وأخطاء بسبب الترجمة السيئة، وعدم الرجوع إلى المصادر العربية، وإهمال الكثير من الشخصيات العربية والإسلامية، ومما قاله: ((والمنجد في الأعلام المطبوع عام 1969 ما هو إلا صورة للمنجد في الأدب والعلوم، ولكنها صورة فيها أحياناً بتر وقبح، أو مسخ كريه، أو صياغات أدت إلى خلل واضطراب.
هـ) وتتبع العلامة الشيخ إبراهيم القطان في كتابه النفيس (عثرات المنجد) تحريفاته وأغاليطه حتى بلغت صفحات هذا الكتاب نيّفاً وخمسين وستمائة صفحة، وسار فيه على الخطة التالية:
ينقل نص (المنجد) أو يشير إليه مع ذكر رقم الصفحة ثم يذكر تعليقه عليه وإذا صُحح الموضوع، أو غُيّر أو صُحح بعضه في الطبعة الثانية من منجد الأعلام، فإنه ينبه إلى ذلك، وإذا بقي على خطئه لا يشير إليه إلا نادراً.
وكثيراً ما يشير في تصحيح الألفاظ اللغوية إلى (المنجد) حتى يعلم القارئ أن المصنف لم يراجع الكتب العربية مطلقا بما في ذلك (المنجد اللغوي).
وهذه نماذج من أخطاء المنجد وعثراته، في الطبعة الثانية التي أشرف عليها عدد من الأساتذة:
1_ قالوا في صفحة 395 ((الفضل بن الربيع عهد إليه الرشيد في بعض صلاحيات الوزارة بعد وفاة أمه. وزير للمأمون)).
فما هو المقصود بقولهم بعد وفاة أمه ؟ فهل كانت أمه تلي الوزارة، وعاد هو بعدها ؟ وأغرب من هذا وأعجب قولهم إنه وزير للمأمون، والمعروف بدون شك أن الفضل كان من أشد خصوم المأمون، وقد كان وزيرا للأمين، ولما استقر الملك للمأمون بعد مقتل الأمين استتر الفضل مدة، حتى عفا عنه المأمون وبقي مهملا إلى أن مات.
2 _ تسمية الكتاب في الطبعتين الأوليتين (المنجد في الأدب والعلوم) تسمية خاطئة، لأن الكتاب معجم لبعض الأعلام والأماكن والكتب وليس فيه ذكر للأدب إلا عرضا, وبعضها ذكر مشوها، كما عرّف علم الكلام بأنه (علم القواعد الشرعية المكتسبة عن الأدلة) وعرف علم الفقه بأنه (علم تطبيق الأحكام الشرعية المستخرجة بالاجتهاد من القرآن والحديث على الأعمال البشرية والدنيوية)، إلى غير ذلك من التشويه والتخليط دون الرجوع إلى المصادر الموثوق بها والنقل منها. لذلك عدل المشرفون على الطبعة الجديدة عن هذه التسمية وسموه المنجد في الأعلام).
3 _ وبالإضافة إلى الأخطاء والتحريف وتشويه الحقائق فإن في لغة المنجد عجمة ظاهرة أحياناً. وفيه عامية ولحن واضح في بعض المواد لا يقع فيها من كانت له أدنى معرفة باللغة العربية.
4 _ في الصفحة 256 من حرف السين الطبعة الأولى ((سفيان (أبو) ابن أمية القرشي، تاجر عادى النبي وحاربه في بدر وأحد، وقاد جناحا من الجيش الكبير الذي ذهب لحصار المدينة في وقعة مؤته، ثم اعتزل الحرب، وصالح محمداً في معاهدة الحديبية وسلمه مكة. توفي نحو 652)).
ويعلق مؤلف عثرات المنجد على هذه العبارة القليلة الأسطر مبينا فيها الأخطاء التالية:
أ) إن أهم صفة تميز أبا سفيان أنه شيخ قريش وزعيمها في وقته لا أنه تاجر فقط.
ب) ومن المعروف بداهة أن أبا سفيان لم يشهد معركة بدر لأنه كان يقود العير التي جاءت من الشام ونجا بها إلى مكة.
جـ) عندما جاء أبو سفيان لحصار المدينة كان هو قائد الجيش العام وكان ذلك في غزوة الخندق سنة خمس من الهجرة. وهي غير غزوة مؤتة التي كانت سنة ثمان من الهجرة بين المسلمين والروم، وشتان بين الخندق ومؤتة في الزمان والمكان.
 د) لم يعتزل أبو سفيان الحرب مطلقاً، وبقي معادياً للمسلمين إلى يوم فتح مكة حيث أسلم .
هـ) وفي صلح الحديبية لم يُذكر أبو سفيان مطلقا، وكانت المفاوضة بين سهيل بن عمرو العامري عن المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
5 – ونختم هذه النماذج للتحريفات بما جاء في أول (منجد الأعلام) الطبعة التاسعة (الثالثة والعشرين) لمنجد اللغة:
((آدم: الإنسان الأول وأبو الجنس البشري، وعصى آدم وحواء أوامر الله فطردا من جنة الفردوس، ولكنهما وعدا بمخلص هو المسيح)). ويعلق مؤلف (عثرات المنجد) بما يلي:
يجب أن يقال: هذا حسب اعتقاد المسيحيين، وأما عند المسلمين فالأمر يختلف، وذلك كما جاء في القرآن الكريم: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 35 _ 37). فإن الخطيئة في اعتقاد المسلمين لا تورث، وكل إنسان مسؤول عن عمله {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} النجم 39.{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فاطر 18، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} المدثر 38. صدق الله العظيم.
هذا لا يجوز أن يقتنى (المنجد) إلا ومعه (عثرات المنجد) حتى يتبين من يرجع إلى المنجد ما فيه من السموم والأخطاء.
وأخيراً فإني أهيب بأهل العلم ودارسي الأدب أن يقوموا بتمحيص الكتب التي وضعها أعداء الإسلام من اليسوعيين وأشباههم. مثل جورجي زيدان، وخاصة الكتب التي تتناول بالبحث لغة القرآن، وأدب العربية، والتاريخ الإسلامي ، وتراجم أعلام المسلمين، وينقدوها ويستخرجوا ما دسّه فيها مؤلفوها من سموم.
ومما يحزّ في النفس أن ُيختار كتاب (تاريخ الأدب العربية) لجورجي زيدان الحاقد على الإسلام والمسلمين، وكل آثاره شواهد على ذلك وخاصة سلسلة روايات تاريخ الإسلام، يختار كتابه و ويترك كتاب (تاريخ آداب العرب) في ثلاثة أجزاء للأديب المسلم النابغة مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، وقد خصص الجزء الثاني لإعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وكفانا انخداعاً بتملق بعض الأدباء والكتاب من النصارى، فإن العربية أبت أن تتنصر كما قال العلامة الأديب محمد إسعاف النشاشيبي المقدسي _ رحمه الله _.







مجلة الجامعة الاسلامية58




[1] منه نسخة مخطوطة جيدة في مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة . قمت بتصويرها سنة 1390 . وفي نيتي نشرها محققة إن شاء الله.
[2] بل هي مقصودة , وجريمة تزوير صحيحة.
[3] أبو العتاهية : أخباره وأشعاره ص 7.
[4] انظر ص 100 من كتاب ( أبو العتاهية أخباره وأشعاره ) وقابلها بصحيفة 67 من الطبعة المنحرفة بعنوان ( شرح ديوان أبو العتاهية ) طبعة دار التراث بيروت وهي طبق الأصل من الأنوار الزاهية .
[5] أي حاجة كأنه ينظر لقوله صلى الله عليه وسلم "عش في الدنيا كأنك غريب ".
[6] انظر القصيدة كاملة في ( أبو العتاهية أشعاره وأخباره ) ص 433 _ 435 وقابل ذلك بـ ( شرح ديوان أبي العتاهية ) طبعة دار التراث ببيروت بدون تاريخ وبلا ذكر المؤلف أو الشارح . وهي موافقة لطبعات ( الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية ) الذي مسخه وحرفه الأب لويس شيخو . وقد راج في لبنان في هذا العصر سرقة الطبعات بالتصوير , دون استئذان أصحاب الحق في الطبع والنشر والتأليف .
[7] المعجمات العربية تأليف وجدي رزق غالي .


 

السبت، 26 سبتمبر 2015

شاه ولي الله الدهلوي.. باعث السُّنة في الهند


شاه ولي الله الدهلوي.. باعث السُّنة في الهند

 أحمد تمام
حكم المسلمون الهند منذ أن فتحها محمد الغزنوي سنة (392 هـ= 1001م)، وتتابعت الدول في حكمها فترة بعد فترة، حتى ألقت بمقاليدها إلى الأسرة التيمورية؛ فنهضت بأعباء الحكم، وأقامت حضارة شاهدة على ما بلغته من تقدم وازدهار، ثم وفد الإنجليز إلى الهند تجارا، فأكرم الحكام المسلمون وفادتهم، وساعدوهم في تجاراتهم، وشيئًا فشيئًا اتسع نفوذهم، وعهد إليهم الحكام المسلمون القيام على بعض الأعمال، ولم يكن وجودهم خطرا يهدد الدولة في فترة قوتها، حتى إذا ضعفت أسفر الإنجليز عن وجههم القبيح، وسيطروا على الهند، وعلى حكامها المسلمين الذين بلغت دولة الهند في عهدهم مبلغا كبيرا من الضعف والجهل وانتشار الفساد واللهو.
وفي ظل هذه الأجواء المتردية، وانشغال الحكام بأنفسهم، وانصرافهم إلى ملذاتهم، تداعت صيحات مخلصة تنبه القلوب الغافلة، وتوقظ العيون النائمة، وتبث العزم في النفوس الخائرة؛ كي تهب وتستفيق وتقوم بما يجب عليها، وتعيد أمجاد الماضي وتسترد نسماته العطرة، وكان شاه ولي العهد الدهلوي أعلى تلك الأصوات، وأكثرها حركة ونشاطا.
المولد والنشأة
ولد أحمد بن عبد الحليم في دهلي بالهند في (14 من شوال 1114 هـ= 2 من مارس 1703م) في أواخر عهد السلطان أورنجزيب (أحد سلاطين الدولة التيمورية العظام)، ونشأ في بيت علم وصلاح؛ فأبوه كان عالما كبيرا، اشترك في مراجعة الفتاوى الهندية على المذهب الحنفي التي أشرف السلطان أورنجزيب على إخراجها.
تعلم الصبي الصغير في كنف أبيه، فحفظ القرآن الكريم في السابعة من عمره، وانصرف إلى دراسة اللغتين الفارسية والعربية، وتلقى علوم القرآن والحديث والفقه على المذهب الحنفي على أكابر علماء الهند، كما درس الطب والحكمة، والمنطق الفلسفة، ومال إلى الزهد والتصوف في هذه الفترة المبكرة، وأمدته هذه الروح الشفافة بطاقة هائلة، وإقبال على العبادة والطاعات، ونزع الله من قلبه حب الدنيا وزينتها؛ فالتفت القلوب حوله وأطلق عليه الناس "شاه ولي الله"؛ أي ولي الله الكبير.
جلوسه للتدريس
وبعد وفاة والده في سنة (1131 هـ= 1719م) جلس للتدريس، وهو في هذه السن المبكرة يشفع له نبوغه وتمكنه من العلوم الشرعية، فأقبل عليه طلاب العلم يتلقون على يديه الفقه والحديث، وبعد أن أمضى اثني عشر عاما رحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وبعد أن قضى مناسكها، لازم الحرم المكي وجاور هناك، والتقى بشيوخ مكة وفقهائها ومحدثيها؛ فروى عنهم وتتلمذ على أيديهم، وأجازوه براوية الحديث، ثم عاد إلى بلده في أوائل سنة (1145 هـ= 1722م) ليستأنف حياة الدرس والتعليم.
اتخذ الدهلوي من بيته مكانا لاستقبال طلابه والتدريس فيه، فلما ضاق عليه لكثرة الطلاب الذين يفدون عليه، بنى له السلطان محمد شاه مدرسة كبيرة، وافتتحها بنفسه، واشتهرت باسم "دار العلوم"، تخرج فيها أعداد كبيرة من العلماء ممن حملوا علم الشيخ، ونشروه بين الناس.
جهوده الإصلاحية
تفتحت عينا الشيخ والهند تزداد حالتها سوءا، والحكام يزدادون ضعفا، والبدع والخرافات تفتك بعقول الناس، والإنجليز يمسكون بأزمّة الأمور بعد أن رسخت أقدامهم، فتحركت نفسه إلى الصدع بالحق، ونصح الحكام، والأخذ بأيدي الناس إلى طريق الإصلاح، ولم ينصرف إلى التأليف والتدريس ويترك الناس حيارى لا دليل لهم.
دعا الشيخ إلى التصوف السني القائم على الاعتقاد والعمل بما جاء في الكتاب والسنة، وجرى عليها جمهور الصحابة والتابعين، وقام بتنقية التصوف من الشوائب، التي لحقت به من الفلسفات غير الإسلامية، وإبراز الجانب الإسلامي فيه.
ونادى ولي الله الدهلوي بفتح باب الاجتهاد وعدم التقيد بآراء الفقهاء الأربعة، وذكر أن أبا حنيفة نفسه قال: "لا ينبغي لمن لا يعرف دليله أن يفتي بكلامه"، وقال الإمام مالك بأنه "ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود إلا رسول الله"، وكذلك ذهب الشافعي وابن حنبل.
وقد أثرت جهود الشيخ الإصلاحية في تلامذته، وعلى رأسهم ابنه الشاه عبد العزيز، الذي كان كوالده نابغًا في الحديث والفقه، فحمل راية أبيه بعد وفاته، ووقف للإنجليز حين أخذوا يستبدون بالأمر، ويقلصون سلطات الحاكم المسلم، وأطلق الكلمة المأثورة: "إنه لا يُتصوَّر وجود ملك مسلم بدون نفوذ، إلا إذا تصورنا الشمس بدون ضوء!"، وهو صاحب الفتوى الشهيرة بأن الهند أصبحت دار حرب لا دار إسلام، وعلى المسلمين أن يهبوا جميعا للجهاد بعد أن أصبح إمام المسلمين لا حول له ولا قوة، ولا تنفذ أحكامه، والحل والعقد صار بيد الإنجليز المسيحيين.. يعينون الموظفين، ويدفعون الرواتب، ويشرفون على القضاء وتنفيذ الأحكام.
وكان لصيحات مدرسة "شاه ولى الله الدهلوي" أثر؛ حيث قاد العلماء الجهاد، وخاضوا غمار الحروب والمعارك لإنقاذ المسلمين من الإنجليز، ومن السيخ الذين لقوا دعمًا من المحتلين، ومن أبرز هؤلاء العلماء أحمد عرفان الشهيد الذي تتلمذ على الشاه عبد العزيز الدهلوي وأخيه عبد القادر ابني ولي الله الدهلوي، وسبق أن تناولنا حياته في (6 من صفر).
مؤلفات الشيخ
بارك الله في حياة الشيخ؛ فترك ذرية طيبة، حملوا العلم، وقادوا الجهاد، وتتلمذ عليه مئات من التلاميذ في الحديث؛ فأحيوا السنة بعد أن كادت تموت في الهند، وكان من أشهر تلاميذه الزبيدي صاحب "تاج العروس"، المتوفى سنة (1205 هـ = 1790م).
ورزقه الله سعة في الوقت؛ فترك مؤلفات عظيمة بلغت أكثر من 50 كتابًا، من أشهرها:
  • "حجة الله البالغة في أسرار الحديث وحكم التشريع"، وقد طُبع في الهند سنة (1286هـ= 1869م)، ثم طُبع في مصر بعد ذلك في سنة (1294هـ= 1877م)؛ وهو ما يدل على اتصال الحركة العلمية في مصر بغيرها من البلاد الإسلامية.
  • "الإنصاف في بيان سبب الاختلاف"، وهو يتناول مباحث في أصول الفقه ونشأة المذاهب الفقهية وتعددها في الفقه الإسلامي.
  • و"عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد"، عرض فيه لكثير من الأحكام المتعلقة بالاجتهاد.
  • "الفوز الكبير في أصول التفسير"، تكلم فيه عن الأشياء التي لا بد لمن يقوم بالتفسير أن يلم بها؛ حتى يكون على بينة من أمره حين يعرض لآيات القرآن الكريم.
  • و"المسوَّى من أحاديث الموطأ"، شرح فيه أحاديث الكتاب، وبيّن فيه ما تعقبه العلماء على الإمام مالك بإشارة لطيفة.
  • و"شرح تراجم أبواب البخاري".
  • وترجم القرآن إلى الفارسية بعنوان "فتح الرحمن في ترجمة القرآن".
وفاة الشيخ
وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال تُوفِّي الشيخ في (26 من المحرم 1176هـ= 17 من أغسطس 1762م)، تاركًا أربعة من أولاده العلماء هم: "شاه عبد العزيز" الذي قام مكانه في العلم والعمل، و"شاه رفيع الدين"، و"شاه عبد القادر"، و"شاه عبد الغني"، ومخلفًا ذكرى عطرة لا يزال شذاها يفوح حتى الآن، وقد أثنى عليه وعلى جهوده العلماء؛ فقال عنه "عبد الحي الكناني" صاحب "فهرس الفهارس": "أحيا الله به وبأولاد بنته وتلاميذهم الحديث والسنة بالهند بعد مواتهما، وعلى كتبه وأسانيده المدار في تلك الديار".
من أهم مصادر البحث:
  • عبد الحي الكناني: فهرس الفهارس والأثبات- تحقيق إحسان عباس- دار الغرب الإسلامي- بيروت- (1402هـ= 1982م).
  • عبد الله مصطفي المراغي: الفتح المبين في طبقات الأصوليين- القاهرة- 1947م.
  • عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- بيروت- (1401هـ= 1981م).
  • مصطفي حلمي: الأخلاق بين الفلسفة وعلماء الإسلام- دار الدعوة- القاهرة- 1986م.
  • فاطمة محجوب: الموسوعة الذهبية للعلوم الإسلامية- دار الغد العربي- القاهرة- 1995م.

الأحد، 20 سبتمبر 2015

عقدة دريفوس... ويهود فرنســـا


عقدة دريفوس... ويهود فرنســـا
 محمد السماك
في عام 1895 كان ثيودور هرتزل مراسلاً في بارس لصحيفة نمساوية تصدر في فيينا. في ذلك الوقت اكتشفت السلطات الفرنسية خيانة ضابط عسكري في الجيش الفرنسي كان يعمل لمصلحة الألمان. كان اسم الضابط ألفرد دريفوس. وكان يهودياً. في ذلك الوقت كان العداء الفرنسي - الألماني على أشده. وإذا كانت الخيانة الوطنية تعتبر بصورة عامة جريمة منكرة فإن خيانة الوطن الفرنسي لمصلحة الألمان كانت أكثر من جريمة. كانت كارثة وطنية. ولذلك فإنه ما أن كشف النقاب عن الخيانة وما أن عرف الفرنسيون أن الخائن هو ضابط يهودي، حتى خرجوا إلى الشوارع وهم يهتفون: الموت لليهود.
عاد هرتزل إلى فيينا ليكتب عن هذا الأمر. كان رئيس بلدية العاصمة النمساوية في ذلك الوقت يدعى كارل لوغر. وكان لاسامياً شديد الكراهية لليهود. وسط هذه الأجواء خرج هرتزل بنظريته التي تقول "إن على اليهود أن يمتنعوا عن التظاهر بالذوبان في المجتمعات الأخرى" وإن "عليهم أن يعترفوا بهويتهم الخاصة"، و"أن يقيموا وطنهم القومي". شكلت هذه النظرية النواة الأولى للصهيونية اليهودية التي قضى هرتزل بقية عمره القصير (مات عن 44 عاماً) من أجل الترويج لها. فكان مؤتمر بال بسويسرا 1897 الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل التي أدت إلى إعلان وعد بلفور في عام 1917 ثم إلى قيام إسرائيل في عام 1948.
منذ ذلك الوقت اعتمدت إسرائيل والحركة الصهيونية "المنطق الدريفوسي" كأساس لتحريض اليهود على التضامن في مواجهة الآخر. بمعنى استعداء المجتمعات في الدول المختلفة على اليهود من أجل حمل اليهود على الهجرة إلى وطنهم القومي الجديد. فعلوا ذلك في الاتحاد السوفييتي السابق. ففي إسرائيل اليوم أكثر من مليون يهودي من أصول روسية وأوروبية شرقية. وفعلوه أيضاً في الدول العربية (عملية علي بابا في العراق عام 1950). وهم يفعلونه اليوم في فرنسا.
لنعد الآن إلى قصة دريفوس، باعتبارها نقطة البداية. في عام 1894 تمكّنت خلية من المخابرات الفرنسية من اكتشاف نشاط دريفوس التجسسي عندما حصلت على وثائق من السفارة الألمانية في باريس تتضمن تقارير مكتوبة بخط يده. وكان الكشف عن هذه الفضيحة بمثابة عود الثقاب الذي أشعل نار الكراهية الفرنسية ضد اليهود الفرنسيين. حكمت المحكمة العسكرية الفرنسية بتجريد دريفوس من رتبته العسكرية وبنفيه إلى "جزيرة الشيطان" قرب غوييانا الفرنسية. ثم شدد الحكم عليه بالسجن عشر سنوات إضافية لثبوت ضلوعه بالتجسس لمصلحة العدو.

ومع ذلك تمكن يهود فرنسا من إثارة حملة تشكيك بالتهم المسوقة ضده وشارك فيها الكاتب الفرنسي أميل زولا، الذي اتهم قيادة الجيش الفرنسي (في مقال شهير له نشره تحت عنوان "إنني اتهم") بتلفيق القضية من الأساس للإساءة إلى يهود فرنسا. وتحت ضغط تلك الحملة أعيدت محاكمة دريفوس أمام محكمة مدنية هذه المرة، فبرئ، وأُعيد إليه اعتباره، ورفعت رتبته العسكرية، وأُعيد بالتالي الاعتبار إلى اليهود. غير أن المحكمة العسكرية رفضت تبني هذا الحكم، وأصرّت على حكمها الذي سبق لها أن أصدرته. ورغم أن دريفوس مات في عام 1935، فإن القضية لم تنتهِ. فمنذ ثلاث سنوات أصدر رئيس قسم التاريخ في الجيش الفرنسي تقريراً من ثلاث صفحات يشكك فيه بحكم البراءة الذي صدر في عام 1906 عن المحكمة المدنية الفرنسية. ويؤكد التقرير صحة حكم الإدانة الذي صدر في عام 1889 عن المحكمة العسكرية. كان نشر هذا التقرير الجديد كافياً لتحريك اللوبي الصهيوني الفرنسي الذي أثار حملة على قيادة الجيش وعلى وزارة الدفاع موزعاً الاتهامات باللاسامية، مما حمل وزير الدفاع في ذلك الوقت فرانسوا ليوتار على عزل رئيس قسم التاريخ في الجيش من منصبه!.

من أجل ذلك حذر عدد من كبار القادة العسكريين ومسؤولي وزارة الدفاع الفرنسية من أن رد فعل الحركة الصهيونية يشكل خطراً على وحدة الجيش، بينما اعتبرت الحركة الصهيونية أن هذا التحذير يشكل في حد ذاته دعوة خبيثة لإعادة تحريك مشاعر العداء ضد اليهود في فرنسا تحت مظلة الدفاع عن وحدة الجيش.

منذ ذلك التاريخ جرت مياه كثيرة من تحت جسر هذه القضية حتى بدت وكأنها أصبحت نسياً منسياً.

ولكن حاجة إسرائيل إلى المزيد من المهاجرين اليهود حملتها على افتعال أزمة لنكء جراح اللاسامية التي تحرص حكومة الرئيس جاك شيراك على معالجتها بالانفتاح والتسامح وبالتمسك بقيم العلمانية اللادينية. ولكن لماذا حاجة إسرائيل إلى المهاجرين الجدد؟.

استناداً إلى الأرقام الإسرائيلية الرسمية فإن عدد سكان إسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة معاً يبلغ 10 ملايين و300 ألف. منهم 5.4 مليون يهودي و4.9 مليون عربي. غير أنه في ضوء التباين في نسبة الولادة عند اليهود والعرب، فإن عدد العرب سوف يزيد على عدد اليهود بعد حوالي عشر سنوات. كانت إسرائيل تعتمد - وما زالت - على المهاجرين الذين تحرضهم على الهجرة إليها من أستراليا وكندا وأوروبا وحتى من الولايات المتحدة. ففي عام 1990 وحده هاجر إلى إسرائيل 200 ألف يهودي من مختلف هذه الدول. غير أن نسبة المهاجرين تراجعت بشكل حاد نتيجة الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية والمستمرة حتى اليوم، لما تسببه من تدهور أمني واجتماعي واقتصادي في إسرائيل. وقد بلغ عدد المهاجرين إلى إسرائيل في عام 2003 ما مجموعه 25 ألفاً فقط. أي أقل بحوالي 9 مرات عن عام 1990.

لم تعد هناك إمكانية للتهجير من روسيا أو من أثيوبيا. ولذلك كان التوجه نحو يهود فرنسا. ولكن تهجير اليهود يحتاج إلى مبرر، وأفضل مبرر هو إثارة نعرة اللاسامية. وهذا ما فعله الجنرال شارون معتقداً على ما يبدو أنه يسير على خطى هرتزل بتوظيف "المنطق الدريفوسي".

يدّعي اليهود أن عشرة من اثني عشر سبطاً (جماعة) منهم قد ضاعوا في الشتات إثر الاجتياح الذي شنه عليهم الآشوريون بقيادة ملكهم نبوخذنصر في عام 721 قبل الميلاد. وهو الاجتياح الذي أدى إلى تدمير الهيكل الأول وسبي اليهود إلى بابل، إلى أن حرّرهم قورش ملك الفرس وأعادهم إلى إسرائيل، ليفتك بهم الرومان وليدمروا هيكلهم الثاني. ويدّعي اليهود أيضاً أن البحث عن هذه الأسباط الضائعة أدى إلى اكتشاف يهود الفلاشا في أثيوبيا الذين نقلوا إلى إسرائيل بمساعدة سودانية في عهد الرئيس السابق جعفر نميري. وهم يعملون اليوم في المصانع وفي المزارع خاصة في منطقة الجليل المتاخمة للبنان. ويدعي اليهود كذلك أن البحث أدى إلى التعرّف على سبط ثانٍ منهم وصل إلى منغوليا في شمال الصين. أما الاكتشاف الجديد فهو العثور على جماعة في شرق الهند تقول إسرائيل إنها من سبط أشود التي تاهت منذ القرن الثامن قبل الميلاد(؟) وتستعد إسرائيل الآن لنقل أفرادها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن أجل تسهيل الهجرة أقرّ الكنيست قانوناً ينص على اعتبار كل يهودي مواطناً إسرائيلياً بمجرد وصوله إلى إسرائيل أو إلى أي سفارة إسرائيلية في العالم.

وينص القانون أيضاً على منح كل شخص يدّعي أنه يهودي حق الإقامة والعمل في إسرائيل إلى أن يثبت ادعاؤه. وبموجب هذه المادة في القانون هاجر إلى إسرائيل عشرات الآلاف من الروس ومن الأوروبيين الشرقيين غير اليهود، مدّعين أنهم يهود، أملاً في الحصول على المساعدات الاجتماعية والصحية التي تقدم إليهم في إسرائيل حيث تتوفر أيضاً فرص العمل أكثر من توفرها في روسيا.

وكان التقليد الديني اليهودي - الأرثوذكسي - يقول إن اليهودي هو من كانت أمه يهودية. وبالتالي فإن باب الدعوة إلى اليهودية مقفل في وجه كل الناس. أما الآن، وبسبب الحاجة إلى مستوطنين، فقد استحدث تقليد جديد - إصلاحي - يقول بتهويد من يدّعي أنه من أصل يهودي. فالمهم هو أن يؤدي التهويد إلى الولاء لإسرائيل والعداء للعرب.

وسواء كانت الادعاءات بشأن الأسباط الضائعة والتي يتم اكتشافها تباعاً، صحيحة أو غير صحيحة، فإن الوجه الآخر لهذه القضية يتمثل بالشعب الفلسطيني غير الضائع والذي لا يحتاج إلى من يكتشفه.

فالهجرة إلى إسرائيل تتطلب: احتلال المزيد من الأراضي، ومصادرة المزيد من المياه وبناء المزيد من المستعمرات، وإبعاد المزيد من الفلسطينيين. ويطرح هذا المنطق قضية على درجة كبيرة من الأهمية. وهي قضية ازدواجية الولاء اليهودي في كل دولة تضم جالية يهودية، سواء في أوروبا أو في أميركا اللاتينية. وفي الولايات المتحدة وقعت فضيحة جوناثان بولارد في عام 1987 وهو يهودي أميركي خان الولايات المتحدة وسرّب معلومات سرية إلى إسرائيل تشكل خطراً على الأمن الأميركي.

وقد حكم عليه بالسجن ولا يزال سجيناً حتى اليوم رغم كل محاولات إسرائيل واللوبي الصهيوني لإطلاق سراحه. ذلك أن قضية جوناثان بولارد لم تكن الأولى التي تهز المجتمع الأميركي. فقد سبقتها قضية شبيرو وهو عالم يهودي كان يعمل في إحدى المحطات النووية الأميركية (محطة أبولو في بنسلفانيا)، وتمكن من خلال ذلك من تهريب كميات كبيرة من اليورانيوم المخصّب إلى إسرائيل، الأمر الذي ساعدها على تشغيل مفاعل "ديمونا" في النقب لإنتاج ترسانة نووية يعتقد الآن أنها تضم أكثر من ألفي عبوة نووية. ورغم خطورة تلك العملية فقد تمكن اللوبي الصهيوني من طمس معالمها واحتواء ردات فعل العلماء والسياسيين والعسكريين الأميركيين.

في الأساس يعزى قيام الحركة الصهيونية في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1830-1850) إلى هزيمة الحركات الديمقراطية الغربية لمصلحة الحركات القومية. كانت تلازم الحركات الديمقراطية المهزومة حركات يهودية مثل حركة مندلسون وحركة الهسكالا التي دعت اليهود إلى الانصهار في المجتمعات التي يعيشون فيها في إطار تميزهم الديني. وبانتصار الحركات القومية تحولت الحركة اليهودية إلى الصهيونية القومية العنصرية انطلاقاً من مبادرة هرتزل. غير أن الوضع الآن تغير في أوروبا خاصة وفي الغرب عامة. وتقدمت الديمقراطية على القومية. إلا أن الحركة الصهيونية ظلت محافظة على مواقعها. هذا الواقع يطرح ازدواجية الولاء اليهودي على النحو الذي كشفته أحداث عديدة في الولايات المتحدة وأوروبا مشابهة لقضية دريفوس في فرنسا أو لقضيتي بولارد وشبيرو في الولايات المتحدة. والحبل على الجرار...

الخميس، 17 سبتمبر 2015

علم الإجتماع الإستعماري..الأنثربولوجيا نموذجا..

علم الإجتماع الإستعماري..الأنثربولوجيا نموذجا..

الأنثروبولوجيا يقابلها في اللغة مصطلح علم الإناسة أو علم الإنسان ويُعَرِّفُها قاموس الأنثروبولوجيا بكونها (( علم دراسة الإنسان طبيعيا وإجتماعيا وحضاريا anthropology والمصطلح منحوت من كلمتين يونانيتين هما anthropos (إنسان) و logos (علم) وتعنيان معا علم الإنسان. )) -1-..وهو علم يُعنى بدراسة ثقافات البلدان المجهولة من خلال المأكل والمشرب والسلوك والعادات والتقاليد..من خلال تحديد مجال عمل الانثروبولوجيا قد تبدو لنا الأغراض علمية بل وإنسانية وتلك هي صفة العلم ولكن هو علم كغيره من العلوم التي قد يساء استخدام بعض جوانبه لأغراض لا علمية على الإطلاق ..وهو الجانب الذي عبّر عنه عالم الأنثروبولوجيا الوظيفية مالينوفسكي بقوله هي: دراسة الإنسان بطريقة تسيء للإنسان تماما كم جرحت الفيزياء والكيمياء والطبيعيات الطبيعة في السنوات السابقة..
خطورة الأنثروبولوجيا تكمن خصوصا في كون هذ العلم يدرس المجتمعات من خلال البحث في فلكلورها وفي تناقضاتها ونزعاتها الإحترابية الطائفية والقبلية وقضايا مثل الثأر والتنابز..والإحاطة بمثل هذه القضايا وتسخيرها لأطماع السلط السياسية يصير من السهل إشعال الحروب الأهلية والطائفية وبالتالي تضعف المجتمعات ويسهل بسط النفوذ ونهب الثروات..نجد مثلا الحرب الأهلية في رواندا نتجت عن تغذية الفتنة واللعب على تناقضات قبائل الهوتو وقبائل التوتسي من قبل القوى الإستعمارية من أجل بسط النفوذ على المخزون النفطي للبلد..وما كان لهم النجاح في إشعال فتيل الحرب الأهلية التي أودت بحياة مئات الآلاف من الأبرياء لو لم تكن لهم دراية مسبقة وقاعدة بيانات عن التناقضات العرقية والقبلية بين الهوتو والتوتسي وهو مجال عمل الدراسات الأنثروبولوجية بامتياز..عالم الأنثروبولوجيا جورج بالانديه في كتابه الأنثروبولوجيا السياسية يتحدث من منطلق انثربولوجي بحت يقول: ((وتكشف الوقائع كما في روندا 1960 أنه بالإمكان إسقاط الملوك الذين مازلوا يبدون مؤلهين )) -2- ..كما تختص الدراسات الانثروبولوجية في المقدسات وحسب طبيعة الإنتماء الديني قوته وضعفه أو طبيعة الرموز المقدسة تتعامل السياسات الإستعمارية إما باستغلال ضعف الإنتماء والإعتقاد الديني وبالتالي إسقاط الأنظمة أو بالمحافظة عليها حسب طبيعة المجتمعات وخصوصية كل منها..فمثلا عن المجتمع الغاني يقول بالانديه (( في دراسة عن وضع الزعيم في أشانتي (غانا) يُظهر ك.بوزيا K Busia أن تدهور الإنتماء الديني التقليدي يترافق مع فقدان السلطات السياسية نفوذها )) -3-...بينما في دراسة أخرى عن اليابان كان العكس وهي دراسة قامت بها عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية روث بنيدكت عنونتها بــ "زهرة الكريزتنم والسيف" The Chrsyanthenum and the sword وهي تمثل دراسة الثقافة والشخصية اليابانية توصلت من خلالها بنيدكت إلى اهمية الإمبراطور كرمز مقدس في العقلية اليابانية وقد كان لهذه الدراسة قيمة كبيرة في بلورة السياسة الأمريكية نحو استسلام المحاربين اليابانيين -4-
أيضا من مخاطر علم الأنثروبولوجيا التنظير تحت غطاء علمي وعقلي للسياسات الإستعمارية من خلال تصنيف الشعوب تصنيف تفاضلي عنصري مما يعطي الشرعية والعقلنة "العلمية" للإستعمار من خلال منحه لعب دور هدم الهوة بين مجتمعات أعلى السلم والمجتمعات الدنيا خدمة للإنسانية!..فالعلامة العلمية هنا جاهزة وهي حمل قيم التمدن والحضارة للشعوب المتخلفة والأقل تصنيفا..وهي الذريعة التي قدمتها الداوروينية الإجتماعية تحديدا للإستعمار الحديث..من هذا المنطلق يمكننا فهم حقيقة التزامن الذي حصل بين ازدهار العلوم الإنسانية وعلم الانثروبولوجيا تحديدا وازدهار التوسع الغربي الأروبي ثم الأمريكي باتجاه إفرريقيا آسيا أمريكيا الجنوبية وأستراليا..يقول جيرار لكلرك في كتابه الأنثربولوجيا والإستعمار: (( الإمبريالية الإستعمارية المعاصرة تتوافق زمنيا مع الانثروبولوجيا المعاصرة فكلتاهما تعودان إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر))-5- ..إضافة إلى كون اللأنثربولوجيا الحديثة تأسست في أحضان القوى الإستعمارية الكلاسيكية فرنسا وبريطانيا..فأول جمعية متخصصة وجهت جهودها إلى الدراسات الأنثروبولوجية أنشات في باريس عام 1800 تحت إسم جمعية ملاحظو الإنسان les observateurs de l’homme وهدفها القيام برحلات خارج أروبا لاستطلاع عدة موضوعات أنتروبولوجية عن الإنسان والحياة الإجتماعية للشعوب الأخرى ثم الجمعية الأثنولوجية عام 1839 في فرنسا أيضا وفي عام وفي 1843 أقامت بريطانيا جمعيتها الأثنولوجية التي تحولت فيما بعد إلى المعهد الملكي الأنثربولوجي لبريطانيا العظمى وإيرلندا لتنتشر وتعم فيما بعد بلدن أروبية أخرى..وبعد هذه المرحلة مباشرة وبالتحديد بين أعوام 1860 و1880 ظهرت معظم مؤلفات المدرسة التطورية كحق الأمومة لباخ اوفن 1861 وأبحاث في التاريخ المبكر للجنس البشري لتايلور سنة 1865 ونظم القرابة لمورغان سنة 1869 وكتاب عن المجتمع القديم سنة 1877.. مما يعني أن الإستعمار قد مر بمراحل ثلاث مرحلة ظهور النوايا والبحث عن مستعمرات ثم مرحلة ظهور الذريعة والغطاء العلمي تزامنا مع بداية الإستعمار!

مرحلة أنثروبولوجيا الهُواة
يمكن تقسيم مراحل تطور الأنثروبولوجيا إلى مرحلتين رئيسيتين مرحلة الأنثروبولوجيين الهواة كما يصفهم ريشارد انطون ثم مرحلة سيطرة علماء الانثروبولوجيا المحترفين..المرحلة الأولى تعتمد على ما دونه بعض المبشرين والرحالة وهي مادة لم تصل بعد إلى مرحلة العلمية ولم تخرج عن الكتابات التخمينية وكانت جميعها تصب في نحت صورة نمطية عن الإنسان "البدائي" وإخراجه في مظهر المتوحش ووضع المجتمع "البدائي" في طرف نقيض مقابل المجتمع المتمدن الذي يمثله بلا أدنى شك الإنسان الأبيض صاحب الدراسة أو لنقل جامع المعلومات المغلوطة والمبالغ فيها ومجتمعه الأروبي..وقد كانت البداية الممنهجة لهذه المرحلة بالرحلات العلمية التي اجتاحت إفريقيا بدءا من سنة 1850.. ولعل أشهر هؤلاء لرحالة وأعظمهم على مر التاريخ الرحالة هنري مورتون ستانلي الذي جاب القارة السمراء شرقا وغربا و يعتبر من بين الأوائل الذين رسموا صورة الرجل الأبيض وربطها بالإنسان المتمدن خدمة لأطماع ملك بلجيكا الإستعمارية آنذاك ليوبولد الثاني.. يقول جاك ليكلرك : (( اعترف ستانلي بأنه قد تم شراؤه من قبل ليوبولد الثاني ملك بلجيكا ليعمل على تجزئة إفريقيا كما أوحى بذلك في مؤمتمر بروكسل 1876 وليكون على رأس البعثات العلمية العاملة في الكونغو-الأعلى )) -6-
وحتى لو لم يعمل هؤلاء الرحالة وغيرهم من المبشرين والإدارييين بإمرة أنظمة الحكم الأروبية فقد اعتبروا نفسهم ممثلين للحضارة وحملوا معهم نظرة استعلائية على المجتمعات محل البحث مما أدى إلى ظهور نتائج ودراسات إما عنصرية وإم محكومة بالمصلحة بعيدة كل البعد عن المنهجية العلمية لا تخدم إلا النظم الإستعمارية وإن كان بطريقة غير مباشرة وغير ممنهجة..وفي هذا السياق يخبرنا عالم الانتروبولوجيا الوظيفية مالينوفسكي (( أن الطريقة التي يتكلم به الناس البيض الذين أمدوني بالمعلومات عن السكان الأصليين وطريقة إعطاء آرائهم الخاصة تنم عن ذهن غير مجرب وغير معتاد على صياغة الأفكار بمنطق ودقة وقد كانت آرائهم في الغالب مثقلة بالأخطاء والأحكام المسبقة وهذا ما لا يمكن تفاديه بالنسبة للناس العاديين الذين دخلوا الحياة العملية سواء أكانوا إدارييين أم مبشرين أم تجار )) -7-
وبالرغم من كل تلك النقائص تعتبر مرحلة الانتروبوليجيين الهواة مرحلة التمهيد لظهور علم دراسة الأنثروبولوجيا الإجتماعية على أسس أكاديمية وكعلم معترف به لتفتح لنا المجال للحديث عن تنظيرات ممنهجة مهدت الطريق للقوى الإمبريالية الغربية وأعطته الحجة والذريعة لنحت مسيرة وردية في السطو على مقدرات الشعوب وتدمير الثقافات..

الأنثروبولوجيا التطورية (الداروينية الإجتماعية) والتنظير للإستعمار المباشر
تقوم على تطبيق مبدأ الإنتخاب الطبيعي على البشر في المجتمع فهي توحيد لفكرتي التطور الإجتمعاعي ونظرية التطور العضوي البيولوجي وهي تنظر للمجتمعات "البدائية" على أنها مخلفات حية أو أنها بقايا خلفتها مراحل سابقة وتعتبر الحضارة الغربية بمثابة التعبير المتقدم في تطور المجتمعات البشرية ومن روادها سبنسر مورغان وتايلور وويسلي وايت عن تيارها الحديث..من هذه الفلسفة اللا إنسانية نبتت فكرة الإستعمار والسيطرة على العالم ونهب الثروات ثم مارسوا ما يعرف انتروبولوجيا بمصطلح "التثاقف" وهو ما يعرف في وطننا العربي اليوم بالتغريب أو العصرنة أو التجديد أو أي مصطلح يجعل من الثقافة الغربية مثالا يستوجب المحاكاة..فالتثاقف باختصار هي نظرة تطورية داروينية للثقافة تفترض التخلف في حضارات وثقافات "العالم الثالث" ومن خلال الإستعمار يتم فرض ثقافة الدارس على الشعوب المستضعفة بحجة نقلهم من التخلف إلى التمدن والحال أنها ليست إلا سياسة إستعمارية هدفها تثبيت وتجذير الإستعمار لازات أغلب البلدان العربية والإسلامية تعاني من تبعاته إلى اليوم..يقول الدكتور حسين فهيم خبير البحوث بمعهد الأنثروبولوجيا للتنمية بنيويورك في كتابه "قصة الانثروبولوجيا" واصفا الثاقف : (( وقد زكى هذا الإتجاه حركة الإستعمار الأروبي للعالم العربي والإسلامي مؤكدا عجز العرب والمسلمين عن الإبتكار والإبداع والإسهام في ركب الحضارة الأمر الذي يجعل من "التغريب" أمرا ضروريا لمواكبة تطورات العصر الحديث . ولعل من أحد الأسباب الاخرى أن المسلمين والعرب ذاتهم أو النخبة المقفة منهم قد اقتنعوا بهذه الفكرة ورأوا في تراثهم عبئا ثقيلا يجب الإبتعاد عنه قدر الإمكان ليتمكنوا من الحياة على الطريقة الغربية...لهذا فإن فحص التراث العربي الإسلامي ودراسته قد يؤدي في رأينا إلى إعادة تاريخ الأنثربولوجيا من جديد أو على الأقل الأصول المعرفية والمنهجية لها بحيث لا ترد جميعها إلى عصري النهضة أو التنوير الأروبيين )) -8-..وفي ذات السياق يقول الأنثروبولوجي البريطاني رايموند فيرث: (( التاريخ لم يرو لنا أن البلاد الشمالية قد شهدت حضارة عريقة كالتي ازدهرت في الشرق الأدنى والأوسط في الصين ومصر وبحر إيجه )) -9- وهي ذات الفكرة التي يطرحها جيرار لكلرك بتسائله عن موقف الانثروبولوجيا حاليا من التراث الأدبي الكبير والغامض الذي نشهده في العالم الثالث وغيرهم الكثير أمثال العالم والمؤرخ جورج سارتن الذي يثني على الثقافة العربية ويصف العرب بعباقرة الشرق لتعلو بذلك الأصوات ويظهر اتجاه مناهض للإتجاه الذي يسعى إلى طمس هذه الحقيقة والتقليل من شأنها لتوافق ما قرره علم الإجتماع الإستعماري والأنتروبولوجيا بالتحديد وهو تقرير ذريعة استعمار الغرب للشرق..ثم اتسعت تلك الإنتقادات داخل الأوساط الأكاديمية الأنثروبولوجية الموجهة تحديدا للداروينية الإجتمعية لغموضها ولاعتمادها على الحدس والتخمين المؤدلجين في تفسير الظواهر الإجتماعية ومن ذلك النقد الدراسات الأنثروبولوجية التي قام بها العالم الفرنسي كلود ليفي ستورس أثبت من خلالها أن مجتمعات ما توصف بالبدائية هي مجتمعات في غاية التعقيد في بناها الإجتماعية والثقافية واللغوية وأن المعرفة عند الإنسان البدائي لا تختلف عن بنية المعرفة عند من يوصفون بالحُضَّر وأن الرجل البدائي لا يمثل استمرار لمراحل تاريخية سابقة..يقول ستروس في كتابه الإناسة البنيانية موجها نقدا مزدوجا للداروينية بشقيها الكلاسيكي والحديث: (( لكن المسألة ليست بمثل هذه السهولة : فالأسكيمو يعتبرون من كبار التقنيين إلا انهم من صغار الإجتماعيين. بينما نجد العكس في أستراليا..والأمثلة على هذا عديدة إذ أن ختيار عدد محدود من الضوابط من شأنه أن يتيح لنا بناء عدد لا حدود له من السلسلات التي تختلف جميعا في ما بينها. ويبدو أن التطوية الجديدة التي يذهب إليها السيد وسلي وايت عاجزة هي الاخرى عن تذليل هذه الصعوبة : فإذا كان المعيار الضابط الذي يقترحه –معدل كمية الطاقة المتوافرة للفرد الواحد في كل مجتمع- يستجيب لمثال من المثل قد يكون مقبولا في بعض مراحل الحضارة الغربية وفي عدد من جوانبها..فإن المرء لا يرى كيف يمكن تطبيق هذا العامل المحدد على الأغلبية الساحقة من المجتمعات البشرية..حيث يبدو أن هذه المقولة المقترحة لا تتخذ فوق ذلك أية دلالة على الإطلاق )) -10- ويصفها أيضابكونها (( ثمرة من التجريد الذي يظل يفتقد دائما لتأييد الشواهد والوقائع..كما ان تاريخها يظل تاريخا تخمينيا وإيديولوجيا)) -11-..ثم بعد عرضه لأنماط إجتماعية متناقضة في قبائل ألاسكا وكولومبيا يقول ستروس : (( ما الذي نستخلصه من ذلك؟ هل نستخلص ان ثمة تطورا قد حصل إنطلاقا من نمط باتجاه الآخر ؟..إن مشروعية هذه الفرضية تقتضي أن نكون قادرين على إقامة البرهان على ان أحد النمطين أقدم من الآخر..وأن النمط الأقدم المعلوم قد تطور بالضرورة باتجاه الشكل الآخر وأن هذا القانون يفعل ويثبت فعاليته في مركز المنطقة أكثر مما يثبتها في أطرافها..أما في غياب هذا البرهان المثلث المستحيل فكل نظرية حول المخلفات والمتبقيات تصبح ضربا من العبث )) ص-18-19..ويقول بواس وهو من أقطاب المدرسة الوظيفية معلقا على غياب هذا البرهان : (( من المؤسف ان لا يكون بمتناولنا أي شيء يمكننا من إلقاء الضوء على هذه التطورات ))-12-
تلقت الداروينية الإجتماعية إذن ضربات موجعة من داخل الأوساط العلمية الغربية غير أن النقد وعندما تخطه أقلام إفريقية سوداء وعندما تُفضح علميا التفسيرات المشوهة التي قدمها الأروبي والتي لا تخلو من مصلحة من قلم إفريقي يكون النقد حينها قد مزج بين الرد العملي والعلمي في ذات الوقت ..ففي سنة1937 ظهرت أول دراسة أنتروبولوجية بقلم إفريقي وهو جومو كينياتا رئيس كينيا فيما بعد..الدراسة تناولت النظم الإقتصادي والثقافي والسياسي لجماعات الكيكويو الأكثر انتشارا في كينيا وأثبت كينياتا ان الحكم السابق لفترة الإستعمار كان ديمقراطيا ولم يكن استبداديا وانه أسيء فهم النظام العقاري بشكل يتيح للإستعمار ممارسة النهب والتخريب..ثم جاء المؤرخ السنغالي وعالم الأنثروبولوجيا والتاريخ والفيزياء الشيخ أنتا ديوب الذي قام بدحض الدعوى التطوية بنفس المفاهيم التطورية ذاتها ففي الوقت الذي يدعي فيها أنصارها أن المجمتع الامومي الذي يحياه الأفارقة ليس إلا حلقة أقل تطورا من النظام الأبوي السائد في أروبا يثبت أنتا ديوب أن نظام الأمومة في إفريقيا أثبت تفوقه على نظيره الأبوي في أروبا فالأول ترتب عنه الدولة الفلاحية والعمل الجماعي الإجتماعي ووعي لا يميز بين الشعوب والبلدان إضافة إلى قيم العدالة والسلام أما في الشمال حيث سادت في اليونان وفي روما العائلة الأبوية فلا يوجد إلا الدولة المدينة والتعصب الوطني وكراهية الأجنبي والفردية والعزلة المادية والقرف من الوجود ثن العنف وحب السيطرة..وقارن ديوب بين النظم السياسية في إفريقيا والغرب واعتبر أن النظام الملكي في إفريقيا يستعين دائما بمستشارين من الطبقات الدنيا مما يساعد على أخذ مصالح وهموم هذه الطبقات بعين الإعتبار وفي نظام كهذا لا معنى ولا وجود للتقلبات الثورية التي عرفها الغرب..
مثل هذه الدراسات وغيرها ساهمت في إنهاك النظرية الداروينية وسرّعت في الوصول إلى عقد المؤتمر الأول للمثقفين والكتاب السود في باريس سنة 1955وقعت المطالبة فيه ولأول مرة وبشكل عالمي بحق الأفارقة في تقريرهم أمورهم بذاتهم..ومن الطبيعي عندما تضعف الداروينية كنظرية مؤسسسة للإستعمار أن ينهار معها هذ الأخير وهو ما حدث في نفس السنة حيث انعقد إنقلاب مؤتمر باندوغ بأندونيسيا الذي تبنى مجموعة من القرارات المناهضة للإستعمار لتنطلق على إثره ما يسمى بحروب التحرير الوطنية..

الأنثروبولوجيا الوظيفية والإستعمار اللبرالي المتنور: الإستعمار غير المباشر (بالوكالة)
المدرسة الوظيفية قامت على انقاض التطوية بعد أن انفض عنها طلابها ومؤيدوها تقريبا وهي نظرية ترفض التفسير التطوري وتبنت نسبية الثقافة الإنسانية مما قوض دعائم فكرة العنصرية التي دعت إليه التطورية وقالت أن أسلوب حياة المجمتعات البدائية له مقوماته العقلانية وتطور ونمو تلك المجتمعات يحتاج إلى تطور تدريجي بطيء الأمر الذي يدعو إلى بقاء الأنظمة السياسية في تلك المجتمعات واستغلال مواردها دون عناء عن طريق الإدارة غير المباشرة مع المحافظة على التقاليد الراهنة لتلك المجتمعات..يقول مؤسس هذا التيار مالينوفسكي (بريطاني بولوني الأصل): (( إن الفارق الحقيقي بين الإدارة المباشرة والإدار غير المباشرة يتمثل في افتراض الأولى إمتلاكها القدرة على خلق نظام جديد وبضربة واحدة وعلى تحويل الأفارقة إلى أروبيين مزيفين أو متمدنين مزيفين في سنوات قليلة أما الإدار غير المباشرة فهي على يقين من استحالة تحقيق تحول سحري من هذا النوع ...ومن الأفضل تحقيقه بتغير بطيء متدرج نابع من الداخل....إن المراقبة الثقافية غير المباشرة هي الطريقة الوحيدة التي تساعد على تطوير الحياة الإقتصادية وعلى رفع مستوى الأخلاق ومستوى التعليم في الإدارات الخاصة بالسكان الأصليين وعلى تطوير فن إفريقيا وثقافتها وديانتها ))-13- ..وبالتالي تحولت الوظيفية إلى نظرية استعمارية أخرى بمفاهيم أخرى تختلف عن سابقتها وهي أن الإستعمار يقوم باختيار القائد من ذات الشعوب المستعمَرة بغرض تنفيذ سياسات المستعمر وكالة عنه.. يقول جيرار لكلرك: (( خلق الإستعمار سلطة مستقلة عن واضعها همها الحفاظ على علاقات طيبة مع المستعمرين..وإن صادف أن فقد إدري التفاهم التقليدي سرعان ما تمده السلطة الإستعمارية بالعون الفعال..إن القيادات الإدارية ليست سوى صنيع القوة الإستعمارية ولا استمرارية دون هذه القوة )) -131-..ويقول أحد الانتروبولوجيين: (( لقد أدرك البريطانيون بما لديهم من حس مميز التغيرات المفاجئة فأوجدوا لذلك الإدارة غير المباشرة لتكون أداة بيد القادة المحليين وبدل أن يصرفوا قوتهم في الصراع مع القوى التقليدية القوية الجذور..آثروا إستعمالها ..وبذلك يمكنهم تهنئة أنتروبولوجييهم الأذكياء..لقد إستخدم لوغارد إكتشافا إجتمعيا انتروبولوجيا )) -14-
غير أن تطبيق هذه السياسة لاق رواجا كبيرا بعد إستقلال دول العالم الثالث حيث الفرصة سانحة لـــ "ملئ الفراغ" على حد تعبير الرئيس الامريكي الراحل دوايت إيزنهاور وقد قصد بذلك بسط النفوذ الغربي على البلاد حديثة الإستقلال عن طريق الإستعمار غير المباشر المتمثل في التبعية الإقتصادية والتحديث الثقافي على الطريقة الامريكية..ثم في 2007 تطورت السياسة الأمريكية لتتبلور أكثر الأنثروبولوجيا الوظيفية عقب تأسيس القيادة الإفريقية للقواة الأمريكية USAFRICOM سنة 2007 ليستمر الغزو الأنثربولوجي لنهب الثروات لا تحت قناع الثقافة كما كان سابقا وإنما تحت غطاء الإرهاب هذه المرة!..

يقول الدكتور حسين فهيم: ((لذلك نرى من جانبنا أن الرفض المطلق للانثروبولوجيا أو قبولها كما هي في محتواها ومنطلقها الغربي يمثل ولا شك حالة من التخلف الفكري والسلبية العلمية. إن تناولنا موضوع الانثروبولوجيا وتخصصاتها ومناهجها المختلفة وكذلك استخداماتها العلمية والعملية يجب ان يتم في إطار من النقد والتحليل والبحث عن البدائل المنبثقة من تراث العرب الفكري والعقائدي...إن وضع صياغة مفاهيم إسلامية للعلوم ليس هدفا بسيطا نظرا لتعود الباحثين المسلمين على الفكر والمناهج الغربية والإتجاهات العلمانية. لهذا يحتاج الامر إلى ضرورة إعادة النظر في كل فروع العلوم الإجتماعية كما أن أية مراجعة لا بد ان تستند أساسا على الإيمان وتنطلق من المفاهيم القرآنية وتعاليم السنة ))-15-

 
1- شاكر مصطفى سليم قاموس الانثروبولوجيا ص56
2- جورج بالانديه الأنثروبولوجيا السياسية ص198
3- جورج بالانديه الأنثروبولوجيا السياسية ص198
4- تفاصيل الدراسة في قصة الأنثروبولوجيا د.حسين فهيم ص140-141
5- جيرار لكلرك الأنثربولوجيا والإستعمار ص12
6- الأنثربولوجيا والإستعمار ص22-23
7- الانتروبولوجيا والإستعمار ص62
8- حسين فهيم قصة الأنثربولوجيا ص201
9- حسين فهيم..قصة الانثربولوجيا ص79
10- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص13
11- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص16
12- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص17
13- الأنثربولوجيا والإستعمار ص112
14- الأنثربولوجيا والإستعمار ص134
15- قصة الانثربولوجيا ص204-205

مستفيد - منتدى التوحيد

الأحد، 13 سبتمبر 2015

الجندى المغربى فى أشعارالحرب الأهلية الإسبانية




الجندى المغربى فى أشعارالحرب الأهلية الإسبانية
 

جمال عبد الرحمن

منذ انتهاء الصراع السياسى فى شبه جزيرة إيبريا لصالح الطرف المسيحى لم يتوقف الجدل حول تقييم الدور الذى لعبته الحضارة العربية الإسلامية كأحد مكونات الثقافة الإسبانية. سأترك الآن جانبا تلك المواجهة التى حدثت فى أواخر القرن السادس عشر بين مؤيدى طرد الموريسكيين وأولك الذين مالوا إلى استيعابهم داخل المجتمع المسيحى ، ذلك لأن خلفيات المعركة كانت المصالح الخاصة لهذا الطرف أو ذاك: رجال الدين كانوا يسعون إلى تحقيق الوحدة الدينية الكاثوليكية فى البلاد وكانوا يذهبون أحيانا إلى حد إعاقة أى مجهود يبذل لاجتذاب المسلمين ، و المواطن العادى كان يرى فى الموريسكى منافسا صعبا فى نواحى الصناعة والتجارة. على الجانب الآخر كان الإقطاعيون الإسبان يفعلون كل ما بوسعهم من أجل الإبقاء على المسلمين فى إسبانيا ، وتستر كثير منهم على من يمارس الشعائر الإسلامية المحظورة قانونا ، بل ووصل بعضهم إلى حد تشييد مسجد إرضاء للمسلمين.

يبدأ الجدل الفكرى الذى أعنيه فى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين ، حينما بدأ ما يمكن أن نطلق عليه "الاستعراب العلمى" فى إسبانيا ، أى دراسة الحضارة العربية الإسلامية دراسة منهجية لبيان ما أضافته إلى إسبانيا من جوانب إيجابية أو ما سببته من نواحى سلبية.

كان هناك فريقان: أحدهما يرى أن الوجود الإسلامى فى إسبانيا كان فاتحة خير على البلاد ، فقد ازدهرت قرطبة وإشبيليه وغيرهما حين كانت بقية بلدان أوربا تعيش فى ظلام العصور الوسطى . يقول أنصار هذا الفريق إن إسبانيا لو واصلت الطريق لكان لها شأن آخر بين الأمم . أما أنصار الفريق الثانى فلا يرون فى الوجود الإسلامى إلا أثارا سلبية ، وينسبون إلى المسلمين تخلف إسبانيا عن بقية الدول الأوربية. هذا الجدل الفكرى بدأ ولم ينته إلى اليوم. نعم إلى اليوم ، فقد نشر أحدهم منذ سنوات قلائل كتابا ينفى فيه أى أثر إيجابى للحضارة العربية الإسلامية. ولعلنا نذكر تلك المعركة الشهيرة التى دارت رحاها بين كل من أميريكو كاسترو وسانشيث ألبورنوث حول الواقع التاريخى لإسبانيا.

منذ أن بدأ الجدل وحتى هذه اللحظة كانت هناك خصائص حددت ملامح المتجادلين بشكل عام : كان المحافظون هم الذين ينفون أى أثر إيجابى للحضارة الإسلامية ، وكان أصحاب الفكر التقدمى المتحرر هم الذين يعترفون بإسهام تلك الحضارة وفضلها على إسبانيا.

الاستثناء الوحيد كان أثناء الحرب الأهلية الإسبانية ، فقد شارك العرب فى صفوف الجمهوريين والمتمردين على السواء ، وكانت لتلك المشاركة آثار لا تزال قائمة إلى اليوم.

ولكى يكون حديثنا عن هذه النقطة أكثر وضوحا علينا أن نعود إلى بدايات القرن العشرين حين كانت الدول العربية جميعا ترزح تحت الاحتلال الأجنبى وكانت حركات التحرر العربية فى أوج قوتها. فى ذلك الوقت كان العالم ينقسم إلى قسمين: دول استعمارية وشعوب تسعى إلى التحرر ، وكان من الشائع آنذاك أن يناصر الثوار فى مكان ما ثوارا فى مكان آخر. هذا ما يفسر لنا انضمام متطوعين عرب إلى جانب قوات الجمهورية الإسبانية ضد الجنرالات الذين أرادوا تقويض سلطتها والقضاء على المكاسب التى حققتها الطبقات الفقيرة تحت الحكم الجمهورى.

وطبقا للوثائق المتوافرة فقد شارك متطوعون عرب من فلسطين والجزائر والمغرب وتونس إلى جانب قوات الجمهورية ، لكن الوثاق الإسبانية لا تكاد تشير إلى تلك المشاركة وذلك لعدة أسباب منها:
1- قلة عدد المتطوعين العرب مقارنة بأعداد المتطوعين من جنسيات أخرى
2- كانت الدول العربية فى ذلك الوقت خاضعة للاحتلال ، ومن ثم فقد كان المتطوع العربى يدرج اسمه فى خانة الدولة التى تحتل بلاده. وقد اهتمت الدول الاستعمارية المشاركة فى حرب إسبانيا ببطولات أبنائها فقط ، ولم تكن الدول العربية فى وضع يسمح لها بفعل الشيء نفسهمع المتطوعين من أبنائها.
3- السبب الثالث ، وهو الأهم : لقد غطت مشاركة القوات النظامية المغربية إلى جانب فرانكو - وما ارتكبته من فظائع- على أنباء انضمام متطوعين عرب فى صفوف الجمهورية ، إذ تراوح عدد المغاربة فى قوات فرانكو بين سبعين ألفا (فى أقل التقديرات) و ثلاثمائة ألف ( فى أقصى تقدير) على أن رقم مائة ألف قد يبدو قريبا من الصواب.

مع الحرب الأهلية الإسبانية حدث تغير كامل فى موقف الفكر الإسبانى من الحضارة العربية الإسلامية ، فلأول مرة يقف اليسار الإسبانى موقف الرافض لثقافتنا: لقد أدت الفظائع التى ارتكبها الجنود المغاربة ، ثم ما أعقب ذلك من دخول فرانكو مدريد محاطا بجنود مغاربة…أدى كل ذلك إلى أن يتحول لفظ "مورو" إلى مرادف للوحشية والظلم والهمجية.

وربما لأول مرة فى تاريخ الفكر الإسبانى نجد اتجاها عاما مؤيدا للعرب والمسلمين بين المحافظين الإسبان. لقد دافع هؤلاء عن قيم الحضارة العربية الإسلامية وقالوا إنه من الطبيعى أن يشترك المسلمون والمسيحيون – وهم يؤمنون بإله واحد- فى وجه عدو مشترك لا يؤمن بإله ولا بدين. وقد تطوع البعض الآخر فزعم أن الإسبان والمغاربة كانا فى الأصل شعبا واحدا فى أحقاب سابقة ولم يفرقهما البحر إلا منذ زمن قليل نسبيا!

على أن المتأمل لتطورات الحرب واشتراك المغاربة فى الحرب إلى جانب فرانكو يجد أن الدين لا علاقة له بموقف المغاربة: كان هؤلاء يطمعون فى الاستقلال وحاربوا قوات الاحتلال الإسبانى من أجل ذلك الهدف ، فلما بدأت الحرب طالبوا الفريقين - كلا على حدة- بحقهم المشروع فى الحرية وتقرير المصير. راوغ الجمهوريون فى بداية الحرب ، أما فرانكو فقد كان واضحا فى عرضه: إنه " يتفهم" تطلعات شعب المغرب ورغبته فى الحرية، ولا يمانع فى منح الحكم الذاتى – بل والاستقلال – للمغرب. من أجل ذلك انضم المغاربة إليه.

ومما يؤكد مكانة فرانكو لدى المغاربة آنذاك أنهم أطلقوا عليه لقب"سيدى فرانكو". أما فى بقية الدول العربية فقد ذاع صيته كمناصر للشعوب المستعمرة ، وهكذا استحق لقب "صديق العالم العربى". الدراسة التى أقوم بها لم تكتمل بعد، ولهذا فإننى لا أدرى الترتيب الزمنى لبعض الأحداث ، لكن الشيء المؤكد هو أن فرانكو قد تحمل نفقات بناء مسجد ونفقات رحلة الحج لعدد كبير من الأشخاص.

وهناك عاملان آخران لا يمكن أن نغفلهما أديا إلى انضمام البعض إلى قوات فرانكو:
1- الفقر كنتيجة طبيعية للجفاف الذى تعرضت له مناطق مغربية قبيل اندلاع الحرب الأهلية ، وقد أدى الجفاف إلى انعدام وسائل المعيشة فى بلد يعتمد أساسا على الزراعة والرعى ، وهكذا أصبح التطوع فى جيش فرانكو الوسيلة الوحيدة تقريبا لإعالة الأسر المغربية المقيمة فى تلك المناطق.

2- رغبة أهل المغرب فى امتلاك السلاح لمحاربة المحتل ، فقد كان اشتراك المغربى فى الحرب يعنى بالضرورة تسلمه بندقية وتدريبه على استعمالها ، وكانت هذه هى الطريقة المتاحة آنذاك للحصول على سلاح.

3- بعض من ذهبوا إلى إسبانيا لم يذهبوا بمحض إرادتهم ، بل اختطفتهم قوات فرانكو من بيوتهم ومن مزارعهم ورحلتهم قسرا إلى إسبانيا ، وقد اعترف بذلك بعض الأسرى المغاربة الذين سقطوا فى قبضة الجمهوريين.

4- البعض الآخر ذهب إلى إسبانيا طمعا فى الحصول على المال ، وقد وعد فرانكو بعضهم وعودا مغرية.

إن موقف الجمهورية الإسبانية من المغرب قبيل الحرب الأهلية وفى أثنائها لم يكن يقدم للزعامات المغربية خيارات كثيرة ، فالجمهورية رفضت منح المغرب الاستقلال ، ثم هى سعت إلى استغلال المغرب –كمنطقة تابعة لها- كسلعة تبيعها لمن تشاء للحصول على مقابل ، وقد أبدت بالفعل استعدادها للتنازل عن المغرب لصالح فرنسا أوانجلترا فى مقابل ضمان مساندة إحدى الدولتين لها ضد فرانكو. إذن فلم يكن هناك خيار أمام المفاوض المغربى سوى خيار فرانكو.

إذا كانت هذه هى أسباب المغاربة فى الانضمام إلى فرانكو ، فما هى أسباب التى دفعت الجنرال الإسبانى إلى الاستعانة بالمغاربة؟
1- فى البداية لا يخفى على أحد أهمية العنصر البشرى، فالاستعانة بالمغاربة كانت تعنى ببساطة التضحية بهؤلاء حفاظا على حياة الإسبان من الجنود والضباط.
2- فى الوعى التاريخى الإسبانى كان "المورو" يثير الفزع لدى الإسبان ( راجع الحقيقة والأباطيل حول ما نسب إلى الموريسكيين خلال القرن السادس عشر وما صوره الكتاب فى أعمالهم) ومن هنا كان استخدام فرانكو لهم ضربا من الحرب النفسية ضد أنصار الجمهورية( بل إن الفظائع التى ارتكبوها كانت فى أحيان كثيرة بتحريض من الضباط الإسبان كنوع من الحرب النفسية)
3- أثبتت التجربة أن الجنود المغاربة كانوا أكثر فائدة فى الحرب ، فقد حدث أن حققت قوات فرانكو تقدما ملحوظا فى الجبهات التى كان المغاربة يحاربون فيها.

قابل الجمهوريون الحرب النفسية بحرب دعائية لا تقل أهمية ، فقالوا كيف يتأتى أن يحارب المغاربة جنبا إلى جنب مع جلاديهم مع أن الأحرى بهم أن يقاتلوهم ، ودعوهم إلى الانضمام إلى القوات التى تحارب فرانكو. قالوا كذلك إن وعود فرانكو لهم بالمال محض خيال،
وقالوا أيضا إن على المغربى أن يرحل من إسبانيا ، على أن يحمل سلاحه معه لكى يستخدمه ضد من يحتل أرضه.

وقد حققت الحملة الدعائية الجمهورية بعض النجاح وحدث أن استجاب البعض لنداء الجمهوريين وانضموا إليهم مما أدى إلى ضرورة الاستعانة بمترجمين.

يتحدث كثير من الناس عن وحشية الجندى المغربى التى ظلت عالقة فى أذهان الأدباء الإسبان ممن عاصروا الحرب الأهلية وشهدوا ويلاتها ، لكننا لو استعرضنا بعض المعلومات لتبين لنا أن الجندى المغربى كان ضحية أكثر مما كان جلادا:

- كانت حكومة الجمهورية الإسبانية هى التى بالغت فى الدور الذى لعبه المغاربة فى الحرب الأهلية ، وكان ذلك لإخفاء أخطاء استراتيجية وقع فيها قادتها العسكريون والسياسيون على السواء. ففى غمار الحرب كان أهل المغرب يطالبون بالاستقلال مقابل تخليهم عن مساندة فرانكو، لكن رد حكومة الجمهورية كان مدعاة للضحك: لقد اقترح أحد القادة تحمل نفقات سفر الزوجات المغربيات إلى إسبانيا لكى تقنع كل منهن زوجها بإلقاء السلاح والتخلى عن فرانكو.
- كان بعض المغاربة قد ذهبوا إلى الحرب كوسيلة يرتزقون منها ، وقد حدث أن تأخر فرانكو فى صرف رواتبهم مما أدى إلى تذمرهم وكان أن صرح بعض ضباط فرانكو للمغاربة بسلب ونهب بيوت الجمهوريين لضرب عصفورين بحجر واحد: كتعويض للجنود عن رواتبهم التى لم تصرف لهم ، ولإشاعة الفزع بين الجمهوريين واستغلال ذلك فى الحرب النفسية.
- الفظائع التى ارتكبت فى الحرب الأهلية الإسبانية لم تكن حكرا على المغاربة بل كانت قاسما مشتركا بين الجميع
- غالبية الجنود المغاربة الذين اشتركوا فى الحرب الإسبانية كانوا من بين القوات المحلية التى تلقت تدريبا على يد الضباط الإسبان المتواجدين فى المغرب ، وكان من الشائع آنذاك استخدام كل أساليب التنكيل ضد الوطنيين المغاربة من إحراق البيوت وقتل المدنيين والتمثيل بجثث الثوار، فلما اشترك الجنود المغاربة فى الحرب طبقوا نفس الأساليب التى كان يطبقها الضباط الإسبان فى المغرب.( هناك من يتحدث بالفعل عن دافع الانتقام: مادارياغا)

انعكس كل ذلك فى الأدب الإسبانى المواكب للحرب الأهلية كما سنرى فيما بعد. لدينا نماذج من الأدب الذى سطره المناصرون لكل طرف ، ولكننا سنكتفى الآن بعرض صورة الجندى المغربى كما ترد فى أشعار الجمهوريين.

القصيدة التالية تستعيد التاريخ وتشبه فرانكو بخوليان الذى استعان بالمسلمين ، والمسلم الذى تقدمه القصيدة إنسان يؤيد المعتدى الخائن:

"مدريد، حصن شهير"
(أوليسيس، يناير 1937)

واحسرتاه يا مدريد
فالمسلم قد حاصرك
من خلف مشربيات
تشكلها أغصان مغطاة
فى القرى والبلاد
.....
......
لا أوبا ولا خوليان
لا الألمان ولا المسلمون
ولا القادة الخائنون
سيطأون أرضنا الشريفة

والجندى المغربى لا يتورع عن اغتصاب النساء ، فهذه لينا أودينا نموذج الفتاة المكافحة التى تضحى من أجل الدفاع عن قضيتها. إنها شجاعة ولا يتمكن من قتلها سوى فرقة جنود كاملة:

لينا أودينا محاصرة
محاصرة من جهة شجر الصنوبر؟
يطاردها عشرون مسلما
يحملون عشرين سيفا
عيونهم فيها صورة الموت
دماؤهم فيها الوباء
يريدون أن يأخذوها حية
من أجل متعة همجية
اهربى يا لينا، اهربى ، اهربى
اركضى، فمن الممكن أن تنقذى
............
يسمع صوت رصاصة باردة
ويسقط جسدها الممشوق.

هناك قصيدة نلمح فيها نزعة عنصرية, الشاعر هنا لا يروق له أن يرى غرناطة وقد احتلها المغاربة السود:

"إعادة احتلال غرناطة"
(بلا إى بليران، سبتمبر 1936)

آه يا غرناطة، من يمكن أن يراك
ليس بنو سراج
هم الذين يحتلونك
نهر من الدم الثخين؟
يجرى فى شوارعك الضيقة
فتتشح بيوتك البيضاء
بالحزن والكراهية


أدى اشتراك عدد كبير من المغاربة المسلمين فى الحرب إلى وفاة الكثيرين ، مما استدعى أن تخصص مقبرة لهم. القصيدة التالية ينفر صاحبها من وجود المغربى حتى وإن كان ميتا، لأن هذا المغربى كان فى حياته يتصف بالوحشية:

"مقبرة المسلمين"
(فالنسيا، سبتمبر 1937، مجهولة المؤلف)

أيتها الفراشة السوداء
عودى إلى محبسك
عودى أيتها الفراشة السوداء
واتركى الموتى
الحديقة مليئة
بقبور بيضاء
ذكرى لمن كانوا يعيشون
.........
لا تقضى مضجع
من أجبرهم جبروتك على الصمت


القصيدة التالية تصور جانبا آخر من واقع الحرب الأهلية الإسبانية: ليس كل المسلمين الذين اشتركوا فى الحرب إلى جانب فرانكو سواء. نعم هناك المتطوع الذى يؤيد المتمرد ، لكن هناك المغلوب على أمره والمخدوع. نلحظ هنا أن الشاعر يفرق بين الشخصين: الأول "مورو" ، أما الثانى فهو "مسلم":

"قصيدة عن المسلمين"
(فالنسيا 1937، مجهولة المؤلف)

عد إلى إفريقيا أيها المورو
ففى أرجاء إسبانيا
لن تجد إلا حتفك
دون جدوى، ودون أجر.
قادة حمقى
نواياهم سيئة
وعودهم سراب
جاءوا بك إلى إسبانيا.
إسبانيا تحارب ببسالة
من أجل حريتها
والمسلمون الشجعان
يجب أن يساعدوها
....
عد إلى بلادك أيها المورو
وأرق دماءك الزكية
من أجل تحريرها
من الكلاب ومن الجبناء
ومن المستغلين الأشرار
الذين يستنزفون ثرواتك
ويعيشون من خيراتك
ويكافئونك بالموت
.........

لا تقبل وعودا كاذبة
بمنحك أرضا وأجورا
فهؤلاء القادة الفاشيون
لم يفوا بوعد أبدا

 
"المسلم المخدوع"
(إيميليو برادوس،نوفمبر 1936)
عد إلى إفريقيا أيها المسلم
فإسبانيا لا تناسبك
.....
عد إلى إفريقيا أيها المسلم
عد بسرعة، ارحل
النقود التى أعطوك إياها
أوراق مزيفة،
ووعودهم خداع
تهدد حياتك.
إنهم يخدعونك يا أخى
.....
عد إلى إفريقيا أيها المسلم
لكن لا تترك سلاحك
.....
عد إلى بلادك وحارب
ضد الكفار الكلاب
ليس من العدل أن تترك بلادك
وحيدة ليس بها إلا الضعفاء
بينما تدافع عن أعدائك
دون أن تدرى


لم تنقطع النداءات إلى المسلم لكى يتخلى عن فرانكو وينضم إلى الجمهوريين. القصيدة التالية تصور لنا كيف أن أحد الجنود استجاب للنداء

"المسلم الهارب"
(أنطونيو غارثيا لوكى، سبتمبر 1936)

صباح ريفى
والأسكوريال يبدو فى الخلف
نبح المدفع
صعدت أجساد بينها رجال
إسبان ومسلمون.
ومن أسفل
كان القديس رافائيل يحميهم.
صعدت قوات من العرائش كى تحاربنا
يقودها ضباط مجرمون
ويدعون أنهم مسيحيون.
مصطفى بن على محمد
أسود العينين، ولحيته سوداء
.......
زحف على الحشائش
ثم نهض فجأة ورفع قبضته عاليا
ووقف وحيدا أمام البنادق و قال:
أيها الرفاق، أنا يكون أحمر
لا تطلقوا النار، فأنا يكون أحمر
هذه السخرية من اللغة الإسبانية عند المغاربة سبق أن استخدمها كيبيدو ومعاصروه (كما يذكر خوليو كارو باروخا، ص. 134)
كانت الحرب الأهلية فى نظر اليساريين صراعا بين الثقافة والتعصب (الطرف الآخر قتل لوركا لأنه شاعر (Salaun, 300’ 301 ). إذن فإن اشتراك المسلم مع الطرف الآخر يؤكد أنه عدو للثقافة ، عدو للحرية ، عدو للمبادئ النبيلة عموما. لقد حزنت الجمهورية لمقتل لوركا ، وشددت الحماية على ماتشادو للسبب نفسه. لقد عينت سفراء من رجال الفكر(بيريث دى أيالا فى لندن)
ألم تتخذ الجمهورية الإسبانية شكلا متميزا؟ ألم يكن رئيسها من المثقفين؟ ألم يكن المحرك الأول لها مجموعة من رجال الفكر (أيالا ، أورتيغا، مارانيون) ألم تكرم الأدباء بشكل خاص؟

الأربعاء، 2 سبتمبر 2015

أوراق عمرها أكثر من 120 عاماً.. محمد ألكسندر ويب .. أول مسلم أمريكي أبيض يكتب عن: وقف الدعوة الإسلامية في أمريكا



أوراق عمرها أكثر من 120 عاماً.. محمد ألكسندر ويب .. أول مسلم أمريكي أبيض يكتب عن:
وقف الدعوة الإسلامية في أمريكا
د. صالح مهدي السامرائي

عمل ألكسندر ويب قنصلاً للولايات المتحدة في مانيلا عاصمة الفلبين عام 1891م، وأبدى اهتماماً بالدين الإسلامي، وكان ممن اهتم به السلطان عبدالحميد، وكذلك عملاق النقل البحري في مدينة جدة عبدالله عرب يرحمه الله الذي كانت له خطوط بحرية إلى الشرق الأقصى وأمريكا، ووضع في سجل الشرف في أرشيف النقل البحري في الولايات المتحدة.
لا أعلم كيف تم التنسيق بين عبدالله عرب والسلطان عبدالحميد، إلا أن المعلومات التي لدي، هي أن عبدالله عرب سافر إلى مانيلا، حيث أسلم ألكسندر ويب على يديه واتخذ اسم "محمد"، واستقال من منصبه، وعاد إلى نيويورك ومر في طريقه إلى حيدر آباد الدكن بالهند، وألقى محاضرة طويلة عن الإسلام أحتفظ معي بنسخة منها.

قام عبدالله عرب بإنشاء أول وقف للدعوة الإسلامية في الولايات المتحدة لدعم نشاطات محمد ألكسندر ويب، حيث أنشئ له مركز إسلامي في نيويورك من أربعة طوابق، أحدها مسجد وآخر للنشاط وطابق للسكن، وأصدر مجلة "العالم الإسلامي" وكتيبات أخرى عن الإسلام، كما أنه مثل الدين الإسلامي في أول برلمان للأديان في شيكاغو.
ومن جملة ما كتب، رسالة عنوانها "الإسلام في أمريكا" طبعت عام 1893م شرح فيها كيفية دخوله الإسلام، كما شرح مبادئ الإسلام، وفي الفصل الأخير أسهب في شرح الوقف الإسلامي للدعوة الإسلامية، وهذا ما كتبه في الفصل الذي عنوانه:
THE AMERICAN ISLAMIC PROPAGANDA

وقف الدعوة الإسلامية في أمريكا

اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) كلا إن الإنسان ليطغى" (6) أن رآه استغنى" (7) (العلق).
لقد نشرت أقاويل باطلة بشأن خطط المسلمين في الشرق للتعريف بالنظام الإسلامي في أمريكا، مما يستوجب علينا أن نضع النقاط على الحروف ونذكر بالتفصيل ما أوجزناه من قبل.
إن وقف الدعوة الإسلامية في أمريكا هو مشروع تعليمي تربوي خالص، رغم أن الدعاة المحمديين "المسلمين" سيأتون ويقومون بالدعوة في مختلف أنحاء البلاد عندما يتطلب الأمر ذلك، إلا أننا في الوقت الحاضر سنركز جهودنا على تعريف الجماهير الواعية بشخصية محمد والتعاليم التي جاء بها، والرد على الأكاذيب المفبركة والأغلاط التي وضعها ونشرها الكتاب المتعصبون ضد الإسلام لقرون عديدة.
إنه لا يوجد شخص مثلي ممن يدركون جيداً حجم هذه الهجمة، إلا أنني على ثقة تامة بذكاء وعدالة الشعب الأمريكي وبرغبته الصادقة في إعطاء أذن صاغية ونزيهة لأي فكرة تقدم له بصورة مناسبة.
إن أول خطوة في هذا الاتجاه هي إصدار مجلة أسبوعية توضح التعاليم الإسلامية وقوانين الشريعة، ومناقشة المسائل ذات العلاقة، كما تقوم بتسجيل الأخبار التي تهم المسلمين في بقاع الأرض.
إننا نأمل أن تكون هذه المجلة وسيلة لإقامة وتشجيع الحوار بين العالم المحمدي "الإسلامي" وغالبية الجماهير الواعية في بلدنا. إنها ستضم مقالات بأقلام أكبر علماء الهند ومصر وتركيا وترجمات لكتب ومقالات من العربية والفارسية والأردية والكوجراتية لم يسبق لها أن ترجمت للإنجليزية، وستؤدي هذه الأعمال إلى إثارة الاهتمام في دراسة الإنتاج الثقافي العربي والفارسي، وعمل أبحاث تجعل العالم الغربي على معرفة أكبر بالتاريخ "المحمدي" والقوانين الإسلامية، ولا يستطيع الحصول عليها بالوسائل الأخرى.
وبالإضافة إلى المجلة المذكورة فسوف تفتح للجمهور قاعة للمحاضرات ومكتبة يتمكن فيها من يشاء من الاطلاع على الكتب الإسلامية والتخاطب مع متمكنين من المتوقع وصولهم إلى نيويورك في شهري أغسطس وسبتمبر، كما سيتم إقامة دار نشر تطبع الكتب والنشرات الإسلامية.
إن هذه التحركات تمت دراستها بعناية في بلاد المشرق، وهي نتيجة لدراسات ناضجة.
إن كل الظواهر تشير إلى تفسخ المسيحية الكنسية وانسلاخ الكثير من المثقفين والتقدميين من النظام الكنسي في أغلب المدن الأمريكية الكبرى، وهذا مما يشجعنا على الاعتقاد بأنه قد حان الوقت لتمدد العقيدة الصحيحة من العالم الشرقي إلى العالم الغربي.
إن اعتناق الدين العالمي يبدو أنه مسألة وقت قصير، منذ خمس سنوات مضت بدأ هذا الدين مسيرته الحثيثة في إنجلترا، حيث اتبعه عدد قليل من الإنجليز في ليفربول، ويوجد هناك مسجد، ملحقة به مدرسة إسلامية وسكن داخلي، وإن أعداد المسلمين الإنجليز في تزايد مستمر، ويبدو أنه لا يوجد أي دليل معقول للشك في أن تقدم هذا الدين في أمريكا سيكون أسرع مما هو في بريطانيا.
إن الرجل الذي وراء الدعوة الإسلامية في أمريكا ومحركها والمتهم بها منذ بدايتها هو الحاج عبدالله عرب من أهالي المدينة في جزيرة العرب الذي توجد له مصالح تجارية في جدة وبومباي وكلكتا وسنغافورة، وهو ذو إخلاص قوي لدينه. إنه أعلى وأنبل مثل للرجولة صادفته في حياتي، وإنه مثل رائع لحقيقة أنه في إمكان الرجل أن يكون غنياً ورجل أعمال ناجحاً، وفي نفس الوقت يكون في صفاء أفكاره كالطفل، ويكون بإخلاصه في عبادة الإله الواحد الأحد كأقصى ما يتصوره الإنسان.
في أغسطس "آب" 1891م كنت أراسل السيد بدر الدين عبدالله كر، عضو المجلس البلدي في بومباي، وهو عالم على مستوى نادر، وجرت هذه المراسلة من أجل تبادل المعلومات، وبدأت بواسطته أراسل الحاج عبدالله عرب الذي زارني في مانيلا في مارس "آذار" عام 1892م وسكن في منزلي، حيث كنا نناقش تفاصيل وقف الدعوة الإسلامية في أمريكا.
وهنا قرر عبدالله عرب أن يوقف ثلث ثروته لهذا الوقف، وكان على ثقة بأن هناك آخرين سوف يشاركون بسخاء في هذا المشروع، ولم يكن مخطئاً، ففي ديسمبر "كانون الأول" الماضي تشكلت لجنة في بومباي انتخب السيد بدر الدين عبدالله كر سكرتيراً لها، وتعهدت اللجنة أن تقوم بنشر العقيدة الإسلامية وتوفير المبالغ اللازمة لتحقيق هذا الهدف. وأعضاء اللجنة هم من أغنى وأشهر التجار "المحمديين" في بومباي، ونذكر هنا مجلس إدارة هذا الوقف.
الرئيس: الشيخ جان محمد يوسف المحترم
نواب الرئيس: خان بهادر قاضي شهاب الدين
فضل بهاي وحاج يوسف محمد سليمان
مجلس أمناء الوقف:
الحاج جان محمد يوسف
فضل بهاي
حاج يوسف محمد سليمان
الحاج هاشم عبدالله صاحب نوراني
أمين الصندوق: حاج هاشم نوراني
السكرتارية:
بهاء الدين عبدالله كر، ومحمد علي دهر ماسي
أعضاء الوقف:
1 موسى بهاي تاريا توبان
2 الحاج عبدالرحمن قدواني
3 الحاج سليمان الياس
4 حاج آدم صديقي
5 دانيال بهاي
6 موسى بهاي سليمان عبدالواحد
7 رحمة الله داود باي قضا
8 حاج عمر جميل
9 مولوي عبدالقادر باي قضا
10 كريم بهاي إبراهيم
11 حاج عبدالله عرب
12 حاج يوسف حاج عبدالستار
وقد تشكلت لجان فرعية في كل مدينة مهمة في الهند وبورما، وتم وضع مخطط كامل للجان متشابهة في كل من مصر وتركيا وجزيرة العرب.
لقد ذكرنا هذه الحقائق والتفاصيل ليعلم القراء بأن وقف الدعوة الإسلامية في أمريكا ليس مشروعاً عابراً ومؤقتاً وقابلاً للزوال خلال سنة أو سنتين، بل إنه أنشئ على أساس دائم ومدعوم من قبل رجال أتقياء مخلصين لا لأنهم صادقون في اعتقادهم، بأن الإسلام هو دين الحق فحسب، بل إنهم كذلك عندهم الرغبة والإمكانات لأن يساهموا بأموالهم بكل سخاء من أجل نقل نور الحقيقة إلى العالم الغربي. إن هدفهم هو ألا يكونوا متصفين بالعنف في دعوتهم بل دعاة معتدلين، وأن يمدوا ذراع الحنان لتطويق رقاب كل الذين عندهم رغبة في الإحساس بهذا الحنان وكل الذين ينظرون بعين الاهتمام والعدل نحو المبادئ التي أوحيت للنبي العربي صلى الله عليه وسلم .