الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

غموض مصطلحات اركون في نفسه..كشف من المصطلحات المُلفقة علمانيا

طارق منينة

غموض مصطلحات اركون في نفسه..كشف من المصطلحات المُلفقة علمانيا
 


كان أركون يخترع الألفاظ والمصطلحات التي لم يدري هو نفسه مدى مطابقة كثير من دلالاتها للحقائق الإسلامية التي كان يزيف مصدرها ومعانيها، ومن ثم يقوم بعمل " مغالطة إختزالية"، في صورة إصطلاح، وذلك عند كلامه عن (ماهو القرآن) الذي نزل على رسول الله ، ثم وضع أوصاف له تناسب عمليات أركون التلفيقية ،كما ان اركون كان يجد صعوبة، يمكن أن يلاحظها أي قارئ لتطبيقاته المتعسفة، في إيجاد مايلبي غرض تلك المصطلحات والتطبيقات في تنزيل تأويلاتها وتطبيق تعسفاتها على القرآن والإسلام والشريعة.
إن العمليات العقلية التي كان يجريها في عقله وينتج عنها مصطلحات، كانت تتم بعد أن يزيف معنى الأسماء والحقائق الإسلامية ويتصورها على غير حقيقتها وبعد أن يختصر العالم والكون والوحي والدين والنفس في تصورات مادية قاصرة لاتمت للحقيقة في شيء، كما أن طيشا دفعه لعمليات تطبيقية متسرعة نتجت عنها إتهاماته الهشة.. وعلى الرغم من أن المصطلح وفر له عمليات عقلية دائمة إلا أن تلك العمليات، لم تكن تامة ومنجزة وصحيحة، كانت تنتابها صور الغموض وذلك لخلل التصور -الذي ظهر ملامحه على المصطلح المضطرب ،الناقص ،الضعيف- صور الغموض والإفتعال التي يمكن ملاحظتها في كثير من مصطلحاته -من عدم المطابقة وعدم صحة التصور للمتقابلات- المنحوتة خصيصا لوصف الإسلام وصفا مزيفا بصورة جوهرية.


ففي محاولته تطبيق بعض المفاهيم الغربية على القرآن قام بفصل مدلول القرآن عن المصحف المكتوب فيه القرآن المنزل نفسه، محاولا بذلك أن يضع للقرآن الموجود بين دفتين مدلولا مرتبط بجملة من الإتهامات الحداثية والإسقاطات الإيديولوجية ،والنتائج المادية يقول عن الأوصاف التي وردت في سورة التوبة في شأن المشركين : (( نلاحظ أن وصف المعارضين يختزل إلى كلمة واحدة هي : المشركون , لقد رُمُوا كلياً ونهائياً وبشكل عنيف في ساحة الشر, والسلب , والموت دون أن يقدِّم النص القرآني أي تفسير أو تعليل لهذا الرفض والطرد" (الفكر الإسلامي،قراءة علمية لمحمد أركون،ص96)، وهو كذب مفضوح فالقرآن نفسه ذكر في كثير من الآيات الأسباب العديدة لإجرام قريش، واستغلالها البشع للبشر واحتقارها للحقيقة، بيد أن أركون أغفل هذا كله وراح يبني على مجموعة افتراءاته –كما بينت في الأقطاب 1- أن هذا الفعل من القرآن إنما هو ( تشنجات قاسية " (الفكر الإسلامي ص96)
ثم انه راح يطبق نتائجه الظالمة المتعسفة ويستخلصها بقوله أن الرهان الديني : ( يمارس قوله في كل الخطاب القرآني على هيئة دكتاتورية الغاية والنهاية المطلقة"(الفكر الإسلامي،قراءة علمية لأركون،ص 96)
فهذه القراءة إنما هي انعكاس لتصور أركون المادي عن موقف الإسلام من قريش وحربها على الإسلام وجشعها المادي.
أما الذي دعا أركون إلى وضع مصطلحات لاتليق بعلوم القرآن وحقيقته المنزله وشرائعه الفريدة فهو محاولته أولا: تفريغ الإسلام من حقائقه التي نزل بها، ولقد فضح الله هؤلاء الذين لايعلمون والذين يفترون بقوله" وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)" وفي الحقيقة فإنهم هم المبطلون وليس الإسلام الملئ بالمعاني الحقة ، والأسماء الصدق، قال تعالى" وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ"
وثانيا محاولة منه لإتهام القرآن المكتوب بما إتهمت به المناهج الغربية النصوص القديمة أو إسقاطه لتلك التفسيرات والتقسيمات(تراث شفهي-تراث مكتوب) على القرآن المجيد ، إنها عملية قسرية لتفسيرات علمانية لتراثات الأمم الماضية على القرآن الكريم..أي ماأطلقوا عليه(التراث الشفهي) و(التراث المكتوب) وبعد إجراء عملية التقسيم(شفهي-مكتوب) راح يدعي أن كتابة المصحف(المكتوب) أدى إلى تلاعب بالمؤمنين لأجل تدشين إيديولوجيا مغلقة وخاطئة معا.
وحيلة أركون هي الهجوم على المكتوب ومدح الشفهي مادام ينفتح على المطلق ولاشأن له بعالم الإنسان وإدارته!
وهنا تظهر فكرته عن مااطلق عليه عملية (إصلاح الإسلام!)
فيُبقي (الشفهي!) مع أنه لايشير ماهو!، ويهجم على (المكتوب) محاولا هدم المرجعية وهز الثقة في ماإتفقت عليه الأمة بالحق..
هنا تفتقت ذهنيته عن مصطلحات ملائمة لما هو مقبل عليه!
فهو من جهة راح يتكلم بمصطلحات مخترعة متسللا بها للتلبيس وهدم الحقيقة وإدعاء التنوير، فيتكلم مثلا عن قرآن طازج (وهذا هو مصطلحه) ، شفهي ،قبل المصحف، وغيره، قرآن مفتوح على المطلق ، مفتوح على مطلق المعنى وآفاق الوجود وطبعا هو لايفسر المطلق لا بالغيب ولا بالوحي ولا بالسماء!، وأنك تجده مرة يربطه بالروح المشتاقة، ومرة بالإسطورة، ومرة بالرجوع للنفس والمجتمع والأيديولوجيات المتصارعة داخله ، وهو يقصد أحيانا بالمطلق : :المجهول الذي تحاول النفس استكشافه!، قد تحاول ذلك في ظروف غير علمية ....اسطورية، وأحيانا يصفه بالخيال الرطب (باطلا من الخيال أو إبداعا من الخيال الباطل او غير ذلك كما فسر به أركون مفهوم الخيال بحسب النظريات الحديثة جدا ،النظريات التي فسرت الدين على أنه أشواق وخيال رطب وغير ذلك مما يتعلق بالروح وتطلعاتها.
راح أركون يخترع مفهوم عن القرآن غير مايعبر عنه قرآن الرحمن ، فصار عنده مايتصوره قرآنا (في عالم الأذهان العلمانية والإستشراقية، وخاصة تصوره هو له) قرآنا غير شفهي(تراث شفهي) غير مكتوب، كما أنه غالبا ليس هو المكتوب(في المصحف!)، اطلق عليه (طزاجة القرآن)، ولم يفصح لنا عن مضمون هذا القرآن الشفهي غير المكتوب وآياته المعينة!،بيد أن المهم عنده أن يظل هذا المعنى مفتوحا على التفسيرات العلمانية والنظريات المخترعة في عالم الموضة الغربية في مجالات الأنتربولوجيا وعلم النفس والمجتمع، مفتوحا من جهة على آفاق الوجود!!،على ماتتصوره العلمانية اخيرا عن الدين ومصدره!، ومن جهة أخرى على الأسطورة والخيال الرطب، وقد قام أركون بهذه المحاولة لترسيخ معنيين باطلين ،على الأقل، عند قراءه، المعنى الأول هو أنه كان هناك قرآن مفتوح على المطلق لم يعد له وجود،(واحيانا يصف الإسلام القرآني بذلك!) كان فيه أشواق الروح وقد قدم بهذه المقدمة ليسهُل له إتهام القرآن المكتوب بين الدفتين ألا وهو المصحف!، بأنه القرآن الإيديولوجي، الذي أغلقته المؤسسة السياسية لأغراض سياسية!، فمدح الأول مع أنه لاوجود له إلا في ذهنه(وهو إنما يفعل ذلك ليقول إن هناك إصلاحا تنويرا ممكنا داخل الإسلام كما كان من قبل في المسيحية)، وذم الثاني ورماه بالأيديولوجيا المتلاعبة بالوقائع!، المستبدة المتشنجة!، غير أنك إذا سألته ماهو هذا القرآن الطازج وعلى ماذا كان يدل؟ وماهي نصوصه ومفاهيمه وحقائقه ودلالاته التي فهمها هو نفسه-أي أركون- وعبر عنها بلظ (الطزاجة) إذا سألته عن ذلك فلن تجد له جوابا،ولا أظن أنه كان عنده جوابا داخليا، فالإجابة بالنسبة له غامضة باهتة، لقد حاول فقط إنتزاع الإتهامات في ظل تطبيقات عاثرة ومصطلحات غير مطابقة، فهو لم يجد بين يديه إلا أوصاف غائمة كأنه يصف صوفيه هندية أو رهبانية لاتعرف من الحياة إلا دير منغلق على صاحبه لاشأن للدنيا به ولا شأن له بالدنيا. فكلمات مثل الإنفتاح على المطلق والأشواق والوجود وآفاقه!،لاتعني في الإسلام معنى مفهوما مقبوضا عليه، واضح الملامح والمعاني، وإنك أحيانا تفهم من فكرته المخترعة عنده أن ظزاجة القرآن تعني مراوغة المعنى وانفتاحه على اي معنى لايتحدد على فكرة محددة او عقيدة ثابتة فأركون يرمي مفاهيم الثبات في الاسلام بأنها من اختراع العلماء والفقهاء...ولذلك فإما يفتح القرآن على آفاق روحانية هائمة في الخيال، أو على الأسطورة ووقائعها وارتباطاتها مع المال والكهانة والإستغلال الإنساني والسياسي.
يقول هاشم صالح تعليقا:" الفكرة المركزية لأركون هنا تتلخص في مايلي: القرآن كتاب الوحي، والوحي ذو لغة مجازية ورمزية منفتحة على شتي الآفاق، على كل الإحتمالات والدلالات. وبالتالي فلايجوز تحويل هذه اللغة العالية والمتعالية إلى لغة فقهية قانونية ضيقة، والقول إنه لامعنى لها. هذا تقييد للمعنى المجازي، وحصر للرمز، وفي نهاية المطاف خنق للفكر وحرية الفكر... وهكذا تتم عملية ايقاف الوحي الذي لاينبغي ألا يتوقف لأنه مفتوح على مطلق المعنى وآفاق الوجود"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ،هامش) ص 218) ) مع انهما هاشم واركون يطلقان على لغة القرآن ،من جهة ، لغة التحيز والتضليل كما فعل أركون مع مفاهيم سورة التوبة وموقف الإسلام من جاهلية العرب.
فأركون لم يكن يعرف معنى كليا لماحاكه في صدره ،لقد أراد أن يطبق على مفهوم الدين ذلك المفهوم الحديث الذي يضع (الدين) في الطزاجة والأشواق والخيال البشري والبحث عن المطلق (بعيدا نوعا ما عن نظريات وضع الدين كخرافة مخالفة للعلم ولطبيعة الإنسان وهي نظرة القرن التاسع عشر للدين، وفي نفس الوقت أراد أن يجد سبيلا إلى رفض الدين، خصوصا الإسلام، بصفته سلطة عليا في المجتمع والدولة، في القانون والشريعة!، كمقدس له سلطة على الحياة!،فهو يعكس مبدئيا المفهوم المادي الحديث للدين على الإسلام ويعتبر أنه الطريق لإصلاح الإسلام من الداخل، بيد أن ذلك جعله يحاول بتر حقيقة الإسلام وطبيعة الوحي الرباني والقرآن الذي أنزل بمبادئ للحياة تختلف عن ماعرفته البشرية من أديان روحانية منحرفة أو سماوية أصابها الخلل والتحوير، ومع ذلك تبقى محاولة تطبيق المصطلح متعسفة وباهتة وغامضة وغير متكاملة المعنى، فهو أولا –كما قلت-لم يحدد لنا ماهو هذا القرآن الذي يشير إليه بهذا اللفظ (طزاجة القرآن) مع العلم أنه ينفي هذا المعنى ،غالبا، عن المصحف، وكأن القرآن إختفى من القرآن ولم يبق في القرآن إلا ماهو ليس بقرآن!!، أو كأن الصحابة والدولة الأموية من بعدهم قاموا بعملية فرز بين الطازج وغير الطازج!، وهو من جهة أخرى لايتكلم عن المصحف إلا بنفس إتهامات المستشرقين له، من أنه مصحف الدولة الأموية ومن قبلها من أصحاب الأغراض الإيديولوجية! ، وأن هناك سور وآيات حذفت ولم توضع في المصحف!، وقد يضع تلك المجموعة من الإتهامات في سياق اتهامات أخرى ، أكثر حداثة، تحت مصطلح آخر لايدل على ضيق الإتهام الإستشراقي ،(بحسب أركون) غير المنفتح على الدراسات المادية الحديثة، فتراه يشير إلى خطاب قرآني شفوي مفتوح!!، فهذا الخطاب المفتوح –عند أركون-هو مفتوح على كل الدلالات!،(وطبعا يقصد بمفهوم الدلالات: الدلالات التي تنتجها المذاهب الحديثة لتحليل الأشياء والنصوص ) وبينما يبدو احيانا في مواضع من كلامه أنه يمدح القرآن بذلك تجد ان القصد في الباطن ذمه وهدمه ، فإذا كان ذلك مختبئ وراء وصف المدح ، فكيف وصف الذم المباشر؟
كما أن الرجل إذا تكلم عن المصحف ، لم يقل عنه ، غالبا، انه مفتوح على كل الدلالات الكونية والآفاق الوجودية! ، وأحيانا يقول ذلك إذا أراد الكلام عن الإصلاح التنويري في عالم الإسلام!
والسؤال الآن: هل ينفتح نص مغلق-وهذا هو إتهام أركون للقرآن الذي بين دفتي المصحف- على دلالات لاحدود لها، من آفاق الوجود .فكيف يكون على هذا الوجه منغلقا وهو مفتوح على مصراعيه لأي إكتشاف أو حتى للمعاني الروحية الرحبة!!، وفي الحقيقة فإنها كلها إتهامات عبثية تحاول ان تنفي علاقة القرآن بعالم الواقع وسلطة الحياة، إنه من جهة أخرى يجعل معنى الخطاب المفتوح هو إنفتاحه أو قبوله للتفسيرات التي تضعه في مصاف النصوص التاريخية التي أفرزتها البيئات والأساطير!! قال في كتابه الفكر الإسلامي نقد واجتهاد (ص175) :" وأنا إذ أتحدث عن وجود خطاب قرآني مفتوح معرفيا...أتصور القرآن على هيئة فضاء لغوي تشتغل فيه عدة أنماط من الخطاب(الخطاب النبوي، والخطاب التشريعي، والخطاب القصصي، والخطاب الوعظي، والأمثال...). فهذه الخطابات تشتغل في القرآن في ذات الوقت وتتقاطع أيضا.(أنظر بهذا الصدد كتابي: قراءات في القرآن).أن التحليل اللغوي والسيميائي البحت لهذه الخطابات يتيح لنا أن نستخرج البنية الأسطورية المركزية للقرآن، هذه البنية التي تستخدم الرمز والمجاز من أجل أن تخلع على العبارات القرآنية إمكانات افتراضية عديدة للمعنى والدلالة"
فهو خطاب مفتوح يقوم اركون بنقده،وإرجاعه إلى بنية اسطورية، وهنا لا يفسر مسألة ( الخطاب المفتوح) بالمعنى الذي يقول انه منفتح على المطلق والتطلع للمجهول بل انه يُغيب عن القارئ هذا المعنى (مؤقتا إلى أن يرجع إليه في مواضع أخرى يتيمة) ليقول انه منفتح على الثقافي واللغوي والرمزي المجازي والإسطوري فقط، وهو بذلك لا يتهم الوحي فقط، وإنما يتهم النفس بإن لها خيال ديني باطل ، تفضحه اللغة وتكشفه المكتسيات الحديثة.
فأركون لم يفسر فكرة الطزاجة و المطلق (الفكرة الحديثة في عالم الإكتشافات اليتيمة الغربية) اللهم إلا أنه يرجعه من ناحية إلى طلاقة الخيال وباطله المسكن للنفس!، وانفتاحه على مجالات الروح واشواقها الاسطورية!
وكما ترى فإنها كلمات عامة غامضة (طزاجة-شفوية-مطلق) ،إلا أنها مرتبطة بآخر التفسيرات الغربية للنصوص والوجود وأشواق النفس!
ومع ذلك يمدح أركون-في مواضع- آيات من المصحف، وكأنها فلتت -عنده!- من الإيديولوجيا؟ انه يريد ان يفتح المعنى القرآني على اي معنى بحجة انفتاح الدلالات ، الدلالات التي يغلقها على منتجات التفاسير العلمانية الحديثة(المنغلقة ماديا!) بينما هو يهدم تفاسير القرآن الكريم، ويهين اللمفسرين ويتهمهم بكل صور الجهل والغباء المعرفي.
لقد وصل الأمر عند أركون بإلقاء القرآن في عالم الأسطورة وتعمد التحريف والبغي على قريش والعرب وأن الرسول محمد كقوة مناهضة لقوة قريش عزل وأخفى طبيعة الصراع المادية والإجتماعية بينه وبين قريش، وأن القرآن سجل الوقائع بظلم للقوى المناهضة لمحمد ومن معه ورماه بأنه خطاب سلطوي ، غير عادل (انظر كتابه تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص 265،166، والنص في كتابنا أقطاب العلمانية ص 175)
هنا يضع اركون مصطلح(الخطاب القرآني المفتوح!) وكأنه يفتحه-من جهة- على الثقافي والإجتماعي وصراعات أرضية على هيمنة نفوس وإيديولوجيات، ومن جهة أخرى على الخرافة وأباطيل النفس وخيالاتها الرطبة المزعومة بالصورة الغربية والأركونية!
فأين الطزاجة التي حاول اركون أن يمدحها في القرآن الشفوي،الذي زعم أن الدولة الأموية أغلقته وسجلته منغلقا، مع إتهام القرآن نفسه بالتلاعب بالوقائع واتهامه برمزية خرافية واسطورية
لذلك قلت إن الأمور غائمة في نفس محمد اركون،وهو وإن كان قد صك بعض المصطلحات الخاصة بموقفه هو من الإسلام إلا أن وضوح الفكرة ليست ليست بالدرجة التي يظنها أتباعه.. وسبب ذلك انه يحاول تنزيل أفكار ونظريات حديثة على القرآن ونزوله وحقيقته ومعانيه..ليحدث خلخلة! مع عدم قبول القرآن لتلك الأفكار القاصرة والمصطلحات الباطلة، إن غرضه في إحداث خلخلة في مفهوم القرآن ،ويمكن تتبع منهجه وموقفه المسبق من بعض نصوصه الفاضحة ففي كتابه الفكر الإسلامي نقد واجتهاد يذكر اركون ان من المشاكل التي يجب على المفكر النقدي حلها هي:" مسألة تاريخ النص القرآني وتشكله...ثم مسألة الوحي... وكل هذه المسائل العديدة والتساؤلات لم تُمس الا مسا خفيفا من قبل الفكر القروسطوي أو البحث الأكاديمي الإستشراقي(الذي اهتم بشكل خاص بدراسة تاريخ النص القرآني..."(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص17)
فما فعله هو أنه حاول تطبيق بعض الأفكار الفلسفية (لمابعد الإستشراق والحداثة)بمصطلحاتها على القرآن، وعلى ماقسمته تلك الفلسفات تحت عنوان(تراث شفهي-تراث كتابي) او انفتاح الديني والاسطوري على (المطلق) بإعتبار أنه شوق الروح إلى المطلق بمزيته ودلالاته!
وكمحاولة ساذجة من اركون ،أقل مايقال عنها، انها يعوزها الإنسجام، ويحيط بها التناقض، هو تفريقه بين القرآن ك"نص" والقرآن ك "خطاب" (وهي مصطلحاته على كل حال) يقول:" فالفكرة الأساسية تكمن في التلاوة المطابقة للخطاب المسموع لا المقروء. ولهذا السبب بالذات أفضل التحدث شخصيا عن الخطاب القرآني، وليس النص القرآني، عندما أصف المرحلة الأولية للتلفظ (او التنصيص) من قبل النبي. ذلك أن مرحلة الكتابة ( أي كتابة الخطاب القرآني) قد جاءت في مابعد في ظل الخليفة الثالث عثمان (بين عامي 645-656م). ولاريب في أن التمييز بين مفهومي الخطاب والنص يتخد أهمية أكبر على ضوء الألسنيات الحديثة(وأحب أن أُحيل القاريء، هنا، إلى كتابي قراءات في القرآن)"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص73)
وهكذا فغموض الفكرة وتناقضاتها الداخلية تلف عمل أركون التلفيقي كذلك ،فعملية الإسقاط الأركونية لمااعترى فكره من أفكار عن القرآن بدأت واستمرت معه حتى النهاية إلا أنها كما قلنا لم تكن –لافي مصطلحاتها ولا في تطبيقاتها-بالوضوح الكامل لديه وإلا فكما قلنا ماهو القرآن الطازح المفتوح على كل الدلالات كما يزعم اركون، وأين هو؟ فوصفه يعني وضع اليد عليه من قبل خبير في عالم الإركيولوجيا، خبير يقوده الطيش والتسرع في حك مصطلحات والقيام بتطبيقات خائبة كبديل حداثي عن مناهج المستشرقين الباطلة والنص التالي يبين قصدنا، يقول:" حالتي أنا، كان التحرير الفكري والعقلي للجزائريين ولعموم المسلمين:" وعندما أصبحت مدرسا في السوربون في بداية الستينات اتبعت فورا(!) المنهجيات التي تختلف جذريا عن منهجيات المستشرقين."الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص264) فقد راح اركون وقد عرف هدفه الذي كان يحاول دائما ان يجد له مناهج غربية معينة ففي البداية كان يقرأ على طلبته نصوصا من كتب روبير ماندرو(منذ عام 1960)، يقول:" وأنت تعرف أن ماندرو من جماعة" التاريخ الجديد" في فرنسا، أي جماعة مدرسة الحوليات...ثم طرأت في مابعد أثناء مساري العلمي مشكلة أخرى تخص النص القرآني وكيفية تشكله وفهمه. فبعد أن أتممت أطروحتي عن" الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري" واستكملت دراسة الفكر الإسلامي الكلاسيكي بدا لي أنه ينبغي أن أعود إلى الوراء، أي إلى لحظة القرآن التأسيسية لكي أفهم الأمور على وجهها الصحيح، ولكي تكون دراستي لتاريخ الفكر الإسلامي مرتكزة على أسس قويمة ومتينة"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص266)
يفهم الأمور على ماانتهت إليه قراءاته العلمانية وليس كما عليه الأمور على حقيقتها.
ومثل الطزاجة موضوع المطلق، وآفاق الوجود!، فاركون يريد من جهة أن يصب مااسماها بتجربة محمد مع المطلق لكن في (الموضوع الغربي المكتشف حديثا)وهو اشتياق الروح للمطلق، (البراءة الساذجة الموجودة عند الإنسان!) ونفي نفس الوقت إتهم الرسول بأنه (بتجربة المدينة) قام بمؤامرة وتحريف واغتيال للعقل العربي المناهض له مع اخفاء لحقيقة الصراع ماجعله يقوم بتلاعبات في النصوص القرآنية المواجهة لقريش ، ولذلك ترى اركون يقوم بتحليل سورة التوبة على هذا الأساس!
وتعجب عندما تجده يقول وكأنه يعرف قرآنا آخر غير الذي نعرفه، مع أنه لايدلنا عليه وإنما كما قلت إنه يعيش على الإسقاطات ومحاولة إختراع فكرة أن هناك قرآن شفوي مفتوح على المطلق وآخر إيديولوجي موجود في مصحف(ومع ذلك يقول عن القرآن ككل!!، وايضا مافي المصحف!!!" من الواضح أن الإسلام القرآني يركز على المطلق والتعالي اكثر بكثير مما يفعله الإسلام الإمبراطوري المهووس بالسلطة وتأسيس الدولة وتشكيل قوة عظمى للمسلمين، الإسلام في القرآن ينفجر كالنور أو كالضياء أو كالشعلة المقدسة، ولا يهتم إطلاقا بالاعتبارات المادية أو السلطوية. إنه تأسيس لعلاقة المعنى وللميثاق الإلهي في اللغة العربية. أما الإسلام الفقهي أو الطقس- الشعائري أو الإمبراطوري، فهو وإن لم يكن قد فقد بعده الديني بعد، إلا أن هموم القوة والتوسع على حساب الآخرين تبدو غالبة عليه " (محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الأولى 1993، ص144.)
إنه مرتبك، ولذلك تراه يتهم مرة مايمكن أن يمدحه مرات أو العكس!!
فالرجل يحاول أن يطبق نظريات ومصطلحات انتجتها بعض المذاهب الأنثربولوجية عن الجماعات البدائية مثل موضوع(الشفهي والكتابي) يطبق ذلك على القرآن، فيقسمه إلى قرآن طازج يتفاعل مع المطلق(ولايشير إلى:اين هو) وقرآن في المصحف، المصحف الذي قال اركون انه تدشين رجال تعمدوا وضع نصوص معينة هي كل المصحف تخدم ايديولوجية الدولة!!!
هذا هو (الكتاب) الأيديولوجي!
ويتعلق أمر القرآن الطازج والمطلق عند اركون(ايضا) بمااكتشفته بعض العلوم الأنثربولوجية والإجتماعية من ان العقل الاسطوري متعلق دوما منذ الأزل بخيالات بشرية تواقة إلى عالم متسامي!، وأن هذا العقل لايختلف في منطقه عن العقل العلمي!، ثم في نفس الوقت يتهم التجربة من خلال صراعاتها لكن يمدحها من خلال روحانيتها... ومن هنا يدعو إلى احترام الدين.. على أن يكون في اشواقه الروحية وشعائره التي لاتتعدى حدود عمل الروح والخيال.. اما الواقع وصراعاته فقد كشفت الحداثة المؤامرات والتلاعبات في النصوص وفي المصجف وفي تجربة المدينة.. وعلى ذلك فليترك الدين العالم المادي للعلمانية والحداثة الجديدة.. قال اركون ان العلم الحديث :"اعترف بالأسطورة أو بالمتخيل كحقيقة واقعة، ويدرجها داخل نظام العقلانية ويُدجنها ما إذا جاز التعبير "(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 328) ويقول أيضا:"... العمليات النفسية التي يموضعها القرآن في القلب، والتي يحاول علم الأنتربولوجيا الحالي إعادة الاعتبار لها وادخالها تحت اسم المخيال أو المتخيل"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 84)
ومعلوم ان اركون استفاد من تفسير معنى الاسطورة من كلود ليفي شترواس، وفي ذلك يقول هاشم صالح تعليقا على استخدام اركون لنص شتروس عن الاسطورة:" هاتان العبارتان الموضوعتان بين قوسين هما لكلود ليفي ستراوس في تعريف الأسطورة. فالأسطورة بالمعنى الأنتربولوجي للكلم-هي عبارة عن تجميع ذكي لنتف متفرقة من حكايات قديمة تعود إلى عهود قديمة. ولايهم في الأسطورة مطابقتها للواقع والتاريخ، وإنما في تشكيل "قصر إيديولوجي" منيف وناجح من عناصر متفرقة"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص208) وفي نفس الصفحة يزعم هاشم صالح عن القرآن:"انه قد تأثر بما سبقه من توراة وأناجيل فهذه حقيقة واقعة" واما نص اركون وداخله نص سترواس فهو كالتالي:"أن التاريخ يعلمنا أن الإسلام قد احتفظ بالكثير من الشعائر الخاصة بالدين العربي السابق عليه. فمثلا شعيرة الحج إلى مكة، والإيمان بالجن، والتصورات الاسطورية المشكلة عن الشعوب القديمة، والكثير من القصص ذات العبرة، كل ذلك مرتبط بثقافات سابقة على الإسلام. ولكن القرآن يستولي من جديد على" أنقاض الخطاب الاجتماعي القديم هذا" من أجل بناء"قصر إيديولوجي" جديد، كما تشهد على ذلك سورة أهل الكهف... وبهذا المعنى نقول إن القرآن هو خطاب ذو بنية اسطورية...إني أنتهز هذه المناسة للتأكيد على هذه النقطة لأن كثير من قراء كتبي قد ارتكبوا خطأ فادحا، إذ فهموا الأسطورة بمعنى الحكاية الأسطورية أو الخرافة التي لاأساس لها. وهذا يؤدي بالطبع إلى تدمير الغني الأسطوري للقصص القرآنية"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص 141)
فأركون كما نرى لايقوم بأكثر من عمل تلفيقي مصطنع يجمع بين الإستشراق وخرافاته وعلم الإجتماع الغربي وآخر موضاته الباطلة، والرجل حاول جاهدا أن يخترع المصطلحات المناسبة لتلفيقيته مثل مثلا (التطبيقيات الإسلامية) او( الإسلاميات التطبيقية) أي أنه يطبق تلك المستجدات في عالم الاجتماع والنفس والأنثربولوجيا وغير ذلك على الإسلام والقرآن وماتخيله عنه من نصوص طازجة شفهية(هي القرآن عنده) لم يعد لها وجود بحسب اكتشافاته!!.
يقول هاشم صالح في تعريفها:" يقصد اركون بالإسلاميات التطبيقية تلك المنهجية الجديدة التي اخترعها هو شخصيا لكي يتجاوز منهجية الإسلاميات الكلاسيكية الخاصة بالمستشرقين بعد أن يأخذ كل ماهو مفيد منها للمزيد من الإطلاع انظر بهذا الصدد كل الفصل الأول من كتاب" تاريخية الفكر العربي الإسلامي" وهو بعنوان" نحو إسلاميات تطبيقية. أي في الواقع تطبيق علوم الإنسان والمجتمع على دراسة الإسلام"(الفكر الإسلامي نقد واجتهاد(هامش) ص 193)
 

السبت، 24 أكتوبر 2015

خاطرة في أنماط القراءة ومسالك القراء

خاطرة في أنماط القراءة ومسالك القراء
إبراهيم السكران

الحمد لله وبعد،،



القراءة وسيلة للعلم، ووسائل العلم، بل الوسائل المحضة التابعة للاجتهاد البشري عموماً، كالوسائل الإدارية والإجرائية والفنية الخ؛ من حصرها أو رام تحديدها فالغالب عليه أن يكون كلامه غير دقيق، لأنها متنوعة وغزيرة بحجم غنى النفس البشرية ذاتها وشدة تنوع نزعات الناس وأجناس طبائعهم، وما يذكره بعضهم من وجود "نظرية في القراءة" أو ما يسمونه القراءة الاستكشافية والنقدية الخ مما يضعونه في مستويات القراءة، هي اجتهادات فكرية وليست حقائق، بل هي قابلة للمزيد من التنظير إلى ما هو أدق من ذلك.

وأما الذي يلفت انتباهي دوماً فهو أنماط الناس في القراءة والمطالعة، ومساراتهم التي تغلب عليهم وتستتبع أساليب تعاملهم مع العلم، ومن ذلك هذه الأنماط القرائية الخمسة: (القراءة المُلَحية، القراءة الورّاقيّة، القراءة المُستهلِكة، القراءة التحصيلية، القراءة البحثيّة) وسأعرض هاهنا توضيحاً لوجهة نظري حول هذه الأنماط والمسالك، وأُنبِّه قبل ذلك أنه ليس المقصود أن هذه الأنماط القرائية مستقلة كلياً عن بعضها، بل يجتمع في بعض القراء عدة أنماط:



1-القراءة المُلَحيّة:

المُلَح هي اللطائف التي ترعى في حمى العلم، وأكثر مواردها المواقف والأخبار الاجتماعية للمؤلِّفين، كالقرابة بين مُصنِّف وآخر مثلاً، أو مأزق وقع فيه أحد المؤلفين، وممن ميّز بين صلب العلم وملحه الشاطبي في الموافقات، فقال (من العلم ما هو من صلبه، ومنه ما هو مُلَح العلم) وضرب الشاطبي لمُلَح العلم تسعة أمثلة، ومنها: مسائل النزاع اللفظي، والتماس الحكم في الشعائر التعبدية، والمكاثرة بطرق الأسانيد، والمنامات والرؤى، والوعظ بالأشعار، ونحوها.

والقراءة المُلَحية فيها ميزة الترويح عن النفس وتزويد المتحدث بمادة للمسامرات اللطيفة مع شركاء الاهتمام المعرفي، لكن فيها عيب ينبغي الاحتراس منه، وهو أنها إذا جاوزت حدها ترهّلت معها لياقة الدرس العلمي الجاد، فيستثقل ما كان فيه سابقاً من التحفظ وكد الذهن والتحرير والمدارسة، ويصبح غاية رصيد المرء من العلم قصص وأخبار ولطائف وغرائب.



2-القراءة الورّاقية:

هذه طائفة من القراء لديها خبرة عجيبة بخصائص الكتب في شتى الفنون، أو في فنون متعددة كثيرة، فيعرفون أسماء الكتب والمصنّفين، وإذا ذكر لهم اسم متن ذكروا كل شروحه، وربما أتبعوا ذلك بالحديث عن فروق طبعاته، ويذكرون خصيصة كل شرح وثغراته، ومراتب الكتب بحسب هذه الخصائص.

لكن طريقتهم ليست قراءة كل كتاب وشرح ومتن فإن هذا من المعلوم أن الزمن لا يجود به، وإنما طريقتهم في بناء الخبرة بخصائص الكتب هي آلية "فحص العينات"، فيأخذ الكتاب ويقرأ مقدمته وفهرسه ومواضع مُنتخبة منه، ويفتش عن تقييمات أهل الخبرة للكتاب، ثم يصدر حكمه على الكتاب ويعطيه تقييماً بذلك، وهكذا، فيصبح لديه خبرة واسعة بأسماء الكتب وخصائص كل كتاب، لكن ليس لديه خبرة موازية بمضامينها ومحتوياتها التفصيلية.

وهذا اللون من القراءة هو من جنس الوراقة، فالوراقة حرفة قديمة صاحبها له خبرة بأسماء الكتب وموضوعاتها العامة ويعمل في نشرها، لكنه ليس من أهل الاختصاص بمضامينها.

وهذه الشريحة من القراء لديها ميزة وهي أن حديثها ممتع مشوّق في الحديث عن الكتب والمصنفات والمؤلفين والطبعات، ودلالة المبتدئين إلى أسماء المصنّفات ونحو ذلك، ولذلك فإن أصحاب القراءة الورّاقية أكثر قدرة وإبهاراً في التواصل مع المتلقي العام من تواصل المتخصص العلمي الذي يتحدث عن تفاصيل دقيقة غير محببة للجمهور العام.

وأما الثغرات في هذا الباب فهي أن كثرة الحديث عن الكتب والمقارنة بينها يجر إلى استثقال نفي العلم ببعض ما تتضمنه، فتؤدي بصاحبها إلى التزيّد والتكثّر فيغتر المتلقي بذلك وتجوز عليه دعاوى العلم أو المحتويات المغلوطة بجاه العناوين.

ومن ثغرات هذا الباب الاستسلام للمتداولات الشائعة في تقييم الكتب نتيجة عدم التوفر على الدراسة المكرسة لكل كتاب.

وأصحاب هذا الخط من القراءة يلذ لهم التجول بالساعات بين المكتبات وبين رفوف الكتب للتعرف على المزيد من العناوين، واقتناء بعضها دون قراءة موضوعية لكل كتاب.

وهذا الخط القرائي فيه تقابل بين المكسب والضريبة، فصحيح أنه يدفع ضريبة في ضعف العلم بمحتويات الكتب والعلوم لكن يكون هذا لحساب توسيع أكبر قدر ممكن من معرفة أسماء المصنفات وأفكارها العامة في شتى الفنون والتخصصات، لذا تجد من يميل للقراءة الورّاقية أغزر بكثير في معرفة أسماء الكتب من القارئ المتخصص في علم ما، لكن القارئ المتخصص أخبر منه بتفاصيل وفروقات العلم نفسه.

وبلا مماراة ولا ريب، فإن مدار آفات هذا الخط القرائي هو "التزيّد"، فمن سلم منه فسيقدم خدمة وراقية كبيرة للقراء المبتدئين.



3-القراءة المُستهلِكة:

هذا النمط من القراءة له شريحة واسعة جداً، بل هي أوسع الشرائح القرائية، وهي طريقة يسلكها "المستهلك النهائي" للعلوم والمعارف، وهي شريحة قرائية تستخشن العودة للمصادر الأصلية في العلوم وتشعر إزاء لغتها الفنية بالإرهاق، وتبحث عن "أطروحات" خفيفة، والأطروحات يقوم بها المؤلفون المنتجون الذين يتصلون بالمصادر الأصلية في العلوم ويصنعون منها إشكالية جديدة، أو جواباً على إشكالية حية وعصرية.

وهذه الشريحة، أعني (المستهلك النهائي للسلع الثقافية) هي التي يُطلق عليها أحياناً: القارئ العام، ويسمى نمط قراءتها أحياناً: القراءة الحرة.

وبسبب أن هذه الشريحة القرائية في طبيعتها هي "مستهلك نهائي للسلع الثقافية" فإنها تتأثر جداً بالدعايات الكتبية والتسويق الطباعي، وأشد أساليب التسويق التي تخلبها أسلوب الضجيج، أعني "إثارة الجدل حول الكتاب"، فترى أمثال هذه الشريحة أرتالاً أمام محاسب الكتب في غضون يومين أو ثلاثة: عندك كتاب كذا؟.

ولذا يعمد الناشر التجاري المحض إلى البحث عن المؤلفين المثيرين للجدل طلباً لرفع الأرباح من جيوب هذه الشريحة القرائية.

لكن لماذا يجذب هذه الشريحة القرائية هذا الأسلوب؟ هذا قد يكون له عدة عوامل، ومنها: تشوف النفوس وفضولها لأخبار النزاعات وهذا في النفوس البشرية من جنس لذة التجمهر حول الحوادث المرورية.

ومن عوامل ذلك أن هذه الشريحة القرائية مادة أحاديثهم في مسامراتهم الثقافية هو نظير هذه الكتب، فيدفعهم توق المشاركة إلى استخبار مادة الحديث والنقاش.



4-القراءة التحصيلية:

وهذا النمط من القراءة يكون لدى الشخص الذي يريد أن يدرس علماً من العلوم، فيبحث عن كتاب يقرب له مجامع الفن بأسلوب مرتب، إما شرح متن معتمد، أو كتاب مدرسي منظم على الهياكل العصرية.

وهذه الكتب المؤلفة بغرض التعليم المنظم كانت تسمى سابقاً "شروح المتون"، وتسمى اليوم الكتب الجامعية أو المدرسية، وهي نظير ما يسمى في الثقافة الغربية (هاندبوك/تكستبوك). وربما يدخل فيها المؤلفات التي تسمى "كتب المداخل إلى العلوم"، مثل: المدخل إلى علم الاقتصاد، المدخل إلى علم النحو، الخ.

وهذه القراءة في الكتب المدرسية والجامعية والهاندبوك ونحوها فيها ميزة مهمة وهي توضيح مجامع الفن في فترة وجيزة، ولكن هناك أخطاء في تعامل بعض القراء مع هذه الكتب المدرسية، منها: العزو في البحوث المتخصصة لها بينما هي تعتبر مصادر ثانوية.

ومن أكثر الأخطاء الشائعة في التعامل مع "شروح المتون" الاستغراق والانهماك في "دوامة المقارنة بينها"، وسأضرب مثالاً عملياً لذلك:

يضع لنفسه خطة لدراسة ألفية ابن مالك، فتارة يبدأ بابن عقيل، ثم يرجع للمكودي إذ يريد شرحاً أخصر لا يشغله عن المتن، ثم يسأم من اختصار المكودي ويريد تصور خلفيات بعض المسائل فيذهب للأشموني، ثم يسمع محاضرة لبعض متخصصي النحو يدلق فيها مقطوعات الإطراء على شرح الشاطبي فيترك كل ما بيديه ويذهب للمكتبات من فوره يبحث عن شرح الشاطبي ليقتنيه فإذا وجده بعد بعض العناء وبدأ فيه اكتشف أن الجادّة طويلة وأنه يخوض في تفاصيل لم يعرف هو بعض بدهياتها، فربما ترك الألفية وقال: "أوضح المسالك" لابن هشام أفضل فهو ينثر أصل المسألة دون ارتباط مباشر بالنظم، فإذا بدأ بأوضح المسالك شعر بعسر العبارة، فقال سأعود له، لكنني أحتاج الآن أن أتصور العلم من كتاب معاصر مبسط ليكون مدخلاً لي للكتب الأصيلة، فترك كل هذه الكتب وبدأ يقارن بين الكتب العصرية: حفني ناصف، الجارم، الغلاييني، الأفغاني، عباس حسن، الخ.

وربما تنقّل بينها نظير ما تنقّل بين شروح المتون السابقة، وهكذا تحترق "المرحلة الذهبية للتحصيل العلمي" وهو يجول في دوارات المقارنة بين الكتب التحصيلية ولم يسلك الطريق ويمضي فيه بعد.



5-القراءة البحثية:

هذا النمط من القراءة يسلكه عادة المؤلفون المعاصرون وهو الأغلب عليهم، وخصوصاً الأكاديميين، فيحددون لهم فناً معيناً، أو ميدان اهتمام (وإن لم يكن مرسوماً بحدود فنية رسمية بل مزيج من عدة فنون)، ويجردون الكتب ذات الصلة بنطاق اهتمامهم، وينقّبون فيها عن المعلومات التي تعنيهم ويؤلفون على أساسها دراساتهم وبحوثهم، فالقراءة هاهنا هي بغرض التنقيب والتفتيش داخل الكتب عن معلومة أو سؤال أو فكرة لا للتلقي المباشر من المؤلف.

وهذه الطريقة القرائية لها مزايا وثغرات:

فأما مزاياها فإنها مفتاح أكثر التحقيقات والتحريرات للمسائل، لأن القراءة البحثية تقود لمقارنة المصادر، ومقارنة المصادر وفركها ببعضها هو الذي ينخل التصورات الدقيقة وغير الدقيقة في العلوم.

ومن مزاياها أنها تبعث في كثير من النفوس النشاط للاطلاع والقراءة، فبعض الناس يستثقل قراءة التلقي من المؤلف، ويكل ذهنه ويشرد تركيزه، فأما إذا وضع أمامه إشكالية وبدأ يجرد الكتب يبحث عن جوابها فإنه يشعر بطاقة المستكشف ويذهب عنه نعاس المتلقي، وتزداد حدة تركيزه لاقتناص المطلوب.

وأما عيوب هذه الطريقة فإن من سلكها في بداية طريق العلم قبل أن يبني نفسه بشكل علمي متوازٍ سيتفاجأ أن تكوينه العلمي غير متناسق وفيه فجوات، فيعرف أدق التفاصيل عن مسألة ويجهل أظهر البدهيات عن المسألة المجاورة لها.

ومن عيوبها أنه تصبح خبرته بالقدر المشترك في العلم أضعف بكثير من القدر المختلف، لأن المنطقة الجاذبة لمقارنة المصادر عنده هي نقاط الاختلاف، وأضرب مثالاً لذلك بصاحب قراءة بحثية يدرس كتاب الزكاة، ستراه يستحضر بصورة مبهرة أدق التفاصيل في زكاة الدين بسبب قوة الخلاف فيها، ولا يستحضر بدهياتها مثل المقادير الرقمية لأنصبة زكاة الإبل والبقر والغنم، وما يجب في كل عدد منها.

هذا تأمل في بعض أنماط القراءة.

وأكرر أن هذه الأنماط والمسالك الخمسة السابقة ليست أقساماً مفترقة، بل قد يجتمع في القارئ الواحد منها نمطين أو ثلاثة أو غير ذلك، وإنما فرزتها إجرائياً بهدف الاستيعاب والتحليل فقط.

كما أكرر أن المراد هنا ليس حصر مسالك القراءة ومستوياتها، فهذه الخاطرة مبنية أصلاً على انتقاض ذلك، وأن مسالك القراءة ومناهجها لا تنحصر لاختلاف نزعات وطبائع الناس، وإنما المقصود فقط أن هذه المسالك والأنماط القرائية لفتت انتباهي في الواقع العلمي فأحببت تقييدها.

والله أعلم،،

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،

أبو عمر

ليلة عاشوراء 1437هـ

الجمعة، 23 أكتوبر 2015

الشركس.. كيف أخرجوا من ديارهم؟


الشركس.. كيف أخرجوا من ديارهم؟
الجروح تفتح الجروح.. وجرح إخراج أهالي البوسنة والهرسك من ديارهم يذكرنا بالعديد من حالات التهجير القسرية في العديد من البلدان. ولكن لعل مأساة الشركس واحدة من المآسي التي غفل عنها الزمان.
         كنا عصبة من الرفاق يتطاير الحديث بينها من شقة إلى شقة حول مأساة البوسنة والهرسك. وتصطدم الكلمات بعضها مع بعض في صخب وتتطاير مزقا ولكل رأيه:
         - يا أخي، إنها مؤامرة صليبية، أحكم إعدادها. تمثيلية وكل دولة في أوربا وأمريكا لها دور.. ألم تر أن..
         - أريد أن أفهم فقط كيف يكون الصرب بهذه القوة الهجومية الشرسة وهذا الحقد، وأهل البوسنة والهرسك بهذا الضعف، وهما، حتى الأمس القريب، قطعتان من بلد واحد وتعايشا مدة نصف قرن!.. وفي سلام!
         - الجرائم.. الجرائم اللا إنسانية هي التي تجلب الانتباه. والتدخل الدولي تجاهها أبطأ من البطيء.. أليس في ذلك سر؟
         - أثارني تدخل البابا في الفتوى ضد الإجهاض في البوسنة!
         - بل أثارتني عمليات الاغتصاب التي لم تعرف الإنسانية مثيلا لها.
         في وسط هذا الصخب والجدل العبثي قال أحد الأصحاب الحضور:
         - على رسلكم. مصيبتنا نحن المسلمين أننا نغفر، ننسى. ولعلنا ننتظر عدل الآخرة وهو أبقى.
         وصمت المتحدث قليلا ثم قال ببطء:
         - أريد أن أذكر مأساة أخرى قبلها. لعلكم تنسون أو قد لا تعرفون أني شركسي الأصل!
         واستدارت عيوننا عجبا. حقا لم نكن، أو لم يكن معظمنا على الأقل يعلم أن هذا الصديق القديم المشتعل حماسة قومية هو شركسي الأصل! ما سأله أحد ولا هو قال لأحد منا ذلك. وصمتنا جميعا لحظات قطعها بقوله:
         - أنا لمعلوماتكم أعتبر شركسيا. لقب شركسي لا تعرفه الشعوب التي تسمى شركسية. لا توجد قبيلة واحدة في شمال القفقاس كله- وهي مهد تلك الشعوب وأرضها منذ الأزل - تحمل هذا الاسم. إنما يطلقه الناس من خارج المنطقة على مجموعات شتى من سكان تلك البقاع المثلجة الغابية المختنقة بالصخور والأودية المرعبة، كالداغستان والشيشان والديقور والأديفة والأباظة والقبرطاي والأبخاز والششن وما لست أحفظ من أسماء الأقوام الصغيرة الأخرى.. جدي كان صغيرا يوم أخرجنا من ديارنا ومن ورائنا الرصاص الروسي يلعلع وأمامنا الطريق الطويل إلى المجهول.. ولكن جدي احتفظ من طفولته وفتوته بآلاف الصور المرعبة المبكية. وقد تحدث وتحدث إلى أبي عن هجرته مع أهله في علم مكسور وأم ماتت مع أختين على فراش من الثلوج، وأرجل تتقصف فلا تعاود القيام أبدا وظهور تنوء بأحمال من الحاجات والملابس.. ثم عن المركب الهزيل الذي قذفوهم به في البحر، حشروهم عدة مئات كبقر الذبح فوق أكداس الصرر والحقائب والمركب لا تحمل مائة. وتعاورتهم العواصف تارة والموج أخرى حتى انتهوا إلى شبه مرفأ وتهالكوا على البر.. أي بر؟ كان شاطئا رمليا لبعض الصيادين. كانوا يخشون أن يكونوا قد وقعوا على بعض الأرض الروسية. حين أدركوا أنهم على أرض الدولة العثمانية، خر بعضهم يقبل التراب. لقد نجوا. لكن كان أمامهم مسيرة عشرة أيام ليصلوا إلي المعمور. وفي خلال هذه المسيرة لم يبق منهم إلا الخمس. لكنهم ظلوا يمشون قدما لا يعرفون إلى أين؟ يمشون ويشحذون- إن وجدوا- بعض الغذاء. إنها غريزة البقاء هي التي كانت تقود الخطى المنكودة!..
         وقد تتساءلون. ما الدوافع إلى تلك الهجرة وشمال جبال القفقاس مأزق داخلي مغلق في قلب البر الأوربي الآسيوي؟ تهوي الكلمات فيه فتتجمد قبل أن تصل الأذن. وتضرب الأودية في أنحائه، فالصدى يهرب فيها فلا يعود أبدا. وتمتد المناطق الغابية العمياء في أطراف السفوح حتى ليضيع فيها الضياع.. تتساءلون فأسألكم أولا: وما الداعي إلى هجرة هذه المئات من ألوف البوسنيين وأهل الهرسك، وتشريدهم في كل اتجاه، ولو ترك القطا ليلا لنام؟!
آلام الشركس
         بدأت آلام هذه المنطقة القفقاسية مع ظهور العثمانيين في جوارها في القرن الخامس عشر أيام محمد الفاتح وظهور الروس الجيران الآخرين في القرن السادس عشر على عهد إيفان الرهيب. وتضاربت مصالح الطرفين. العثمانيون يريدون الاتصال بتركستان عن طريق شمال القفقاس كيدا بإيران. ولذلك فرضوا نفوذهم الكامل سياسيا ودينيا على شبه جزيرة القرم المسلمة. والروس يريدون الوصول إلى المياه الدافئة في الجنوب. وبين هذا وذاك هناك الكسب الأهم، الذي كان بشمال القفقاس وهو الممر الطبيعي للتجارة البرية بين الصين وأوربا وبين الهند وأوربا. الطرق البرية كلها تمر منها ومن حولها. والسيطرة عليها- حسب مفاهيم عصرنا الحاضر- سيطرة على عقدة كبرى من عقد المواصلات العالمية.
         اتخذت كل من الدولتين الدين وسيلة لهذه السيطرة. وكان العثمانيون بالطبع أكثر نجاحا، لأن ثم كتلا مسلمة واسعة تعمر المنطقة ولانحياز رجال الإقطاع إليهم ودعاية رجال الدين من الشيوخ والقضاة في عروق الشعب وتخلي الروس بعد سنة 1735 وبعد موت القيصر بطرس الأكبر عن شمال القفقاس لفترة طويلة ثم تخلي العثمانيون بدورهم- وقد بدأ الضعف في دولتهم- عن هذه المنطقة بالمقابل في اتفاقية بلغراد مع روسيا سنة 1739. ثم ظهر الضعف فيهم أكثر فأكثر فدمغوا عليه بخاتمهم في معاهدة كوتشوك قنيارجي سنة 1774 التي سلم فيها العثمانيون منطقة القرم للروس، واعترفوا في الوقت نفسه باستقلال شمال القفقاس (منطقة القبرطاي). واحتل الروس سنة 1873 القرم، وطوق الشركس من الشمال، ولما كانت قمم القفقاس الثلجية من ورائهم، لم يبق لهم من منفذ سوى شواطئ بحر قزوين المغلق وشواطئ البحر الأسود. وهم فهود البر والصخر. أما البحر فمن ذا الذي يمسك مجاديفه وسكانه؟ في السنوات الثمانين التالية (بين سنتي 1783 و 1864) وضعت الخطط الروسية لأحد أمرين: إما تنصير الشركس أرثوذكسيا أو إخراجهم من الأرض! وخلال هذه الفترة شرب الشراكسة من وعود الدولة العثمانية حتى الثمالة ولكن.. في أكواب فارغة! هل كان العثمانيون وحدهم هم الذين يعدون؟ أبدا. كانت إنجلترا أيضا معهم!! وما شأن إنجلترا هنا؟ في القرنين الماضيين كانت إنجلترا (ومثلها فرنسا) الإمبراطورية التي لا تغيب عن مستعمراتها الشمس. ولا تغيب أصابعها الدساسة عما تحت الشمس! وكان في كل عرس لها قرص. وفي كل واد أثر من ثعلبة! مصالحها التجارية المتصلة في البر من الهند إلى أوربا أوصلتها إلى شمال القفقاس وإلى التظاهر بالصداقة للشركس!
         وهكذا كان..
         كان هم العثمانيين أن يعززوا القوة العسكرية في جيوشهم بهذا الشعب المقاتل المتين الإسلام. لا سيما بعد أن توقفت الفتوح تماما وانقطع تجنيد الإنكشارية. وكانت تبذل لهم الوعود للانتقال إلى الأناضول وللتجنيد بالجيش: الإعفاء من الضرائب بالمجان. حماية كاملة من السلطان. تجنيد بعد ست سنوات إلى 12 سنة. وكان العثمانيون لا يزالون يحلمون بجعل الشركس جسرا إلى مسلمي تركستان وإقامة قناة بين. نهري الدون والفولغا فهي الطريق المباشر لذلك الحلم!..
         وكان هم إنجلترا منع روسيا من الاقتراب من طرقها التجارية الرئيسية في شمال القفقاس. بذلت في ذلك أعسل الوعود. اللورد بالمرستون قال مرة: " لقد تركنا الشركس وحدهم أمام الروس، مع أننا نحن الذين طلبنا مساعدتهم ضدهم، واسمحوا لي أن أقول: إننا استطعنا أن نستغل تضحياتهم هذه لمصالحنا على أفضل شكل. وبدون أي خسارة من جانبنا!!"
         أما هم الروس فكان احتلال شمال القفقاس للتقدم نحو البحار الدافئة. ومراقبة مضائق البوسفور والدردنيل والسيطرة على تجارة المرور.. كانوا يرسلون إليها الجيش تلو الجيش ولكن إلى الفناء! كانت المنطقة مقبرة الجيش الروسي. ربع هذا الجيش ارتمى أشلاء مبعثرة على تلك الصخور الثلجية. مليون ونصف مليون جندي دفعهم القياصرة إلى هناك ما بين تولي كاترين العرش سنة 1762 وحتى سنة 1864.. ما رجع منهم أحد!
وحشية السلاف
         توقف المتحدث يلتقط أنفاسه، ونلتقط نحن بدورنا أنفاسنا، ثم تساءل:
         - لماذا أقص عليكم كل هذا القصص؟ أهي للتخفيف من مأساة البوسنة والهرسك أم لإثارتها؟ إنها من التاريخ السابق المنسي. ولعلي أردت أن أقول إن المأساة الحالية هي كمأساة الشركس ليست بنت اليوم، ولكنها عميقة الجذور في التاريخ. الصرب سلاف الجنوب (يوغوسلاف) ليسوا أقل وحشية من أقربائهم الروس، سلاف الشمال الشرقي. إنهم أرومة واحدة، في مواجهتهم عرفت مناطق الشركس ويلات الحروب كافة. من إحراق القرى بمن فيها إلى اكتساح الناس بالسيف والرصاص وهم خروج من الصلاة، إلى الأمعاء تلتصق بالجدران والأغصان إلى الجماجم تتدحرج على السفوح والصخور إلى السنابك ما تفتر تهز الأرض، إلى بطون تبقر عن الأجنة إلى الأعراض المباحة.. عمليات سحق لإنسانية الإنسان، والإذلال حتى ليخجل الذل!
         وثار الشركس مرات. قام فيهم الإمام منصور من الشيشان سنة 1783. كان أول من بدأ حركة المريدين الصوفية المقاتلة. وحد قوى القبائل، قاوم بشراسة المحارب الجريح. طرد الروس من معظم الأقاليم، أوقعهم في كمائن على مهاوي الوديان. وأرسلت الدولة العثمانية سنة 1790 بطال باشا واليا، فتابع القتال إلى أن التمع له الذهب الروسي فإذا به يتوقف قبل سحق الروس ثم يأخذ 800 كيس من الذهب ويهرب إليهم.. ولكن هذه الخيانة- ويا للعجب- جاءت بعد أن أسر الروس الإمام منصور، وأصدرت الدولة العثمانية عفوا عاما عن بطال باشا الذي عاد.. وعين واليا في طرابزون!!
         ومع ذلك تابعت المقاومة الشركسية مسيرتها بزعامة غازي محمد مولى ثم الإمام حمزات، كانت شعارات المريدين المتصوفة شعارات حرب:
         - من لا يحارب الروس فمصيره إلى جهنم.
         - الجنة تحت ظلال السيوف
         - أمة محمد لا تعيش تحت ظل الكفرة!
         فأقام الروس مقابلها حركة الزباروز التي جعلت شعارها حربا أشد وأكثر عماية:
         - أفضل الأديان النصرانية
         - يجب قتل كل قفقاسي لا يقر بذلك
         - وهذه أولى مهمات الزباروزي!
         وصار الصراع في المنطقة كلها صراعا دينيا سافرا. وإذا شغلت روسيا عن حروب القفقاس في مطلع القرن التاسع عشر بسبب حروب نابليون، وهدأت المنطقة بعض الهدوء فقد عاد الشر يجتر حين أضحى نابليون منفيا في سانت هيلانة! عاد الروس إلى عدوانهم عليها واحتلوا بالقوة أقساما منها سنة 1822 ثم جاءت معاهدة أدرنة سنة 1829 التي أنهت حرب الأفلاق والبغدان في رومانيا فكان من بنودها تسليم شمال القفقاس للروس!! ولست تدري العلاقة بين هزيمة في غرب البحر الأسود وبين تسليم المناطق الشرقية المطلة عليه إلا إذا أنزلت في الحساب المطامع الروسية!
         لم يكن هذا يعني سحب الجيش العثماني من المنطقة. أبدا، فلم يكن هناك جيش ولكنها منطقة إسلامية تركها العثمانيون لمصيرها، استرضاء للروس. وتحركت البلاد لحماية هذا المصير. ظهر فيها الشيخ شامل يقود المقاومة وفي لبها حركة المريدين.
         كان الشراكسة يعدون في التقدير أربعة ملايين وحشدت روسيا 125 ألف جندي لخنقهم في قراهم الجبلية. وهرعوا يناشدون الدولة العثمانية المعونة. قالوا إن الدم الشركسي يملأ أوردة السلطان فأمه وزوجته شركسيتان ودماء الحاشية والوزراء والقادة وكثير من رجال الدولة. ما بين سنتي 1560 و 1908 كان الشراكسة عصب الجيش العثماني. وصل 400 من رجالهم رتبة الباشوية فيه وكان 12 منهم من الصدور العظام وحوالي مائة وخمسين ضابطا رتبة مارشال عدا المئات بعد المئات من الوزراء والقادة والولاة والسفراء.. وعبثا كانت المناشدة والاستنجاد. لم يكن لشيء أن يحرك ذلك العملاق الخدر القابع تحت قباب طـوبقبوسراي أو ضولمه بفجه!! كان يفضل ألف مرة أن يسمع هذا الصوت الضئيل البعيد من وراء البحر الأسود عن أن يسمع هدير المدافع الروسية قرب البوسفور والدردنيل!
         وفت في عضد الشيخ شامل أن بعض الشركس من القبرطاي تقاعسوا عن نصرته هددهم بأنه سوف ينقض عليهم كالغيوم السوداء التي تقدح شررا وصواعق فتاكة. وأن الدم سيسيل على جوانب طريقه إليهم وسوف يتبعه الهلاك والخوف وأنه حين يعجز الكلام تبدأ القوة.. ولكن تهديده ذهب أدراج الرياح بل إنه بالعكس خسر حملته عليهم. كان شامل يحاول لم الشمل الشركسي كله وأرسل قائدين من عنده: محمد أمين وسليمان يمثلانه لدى بعض القبائل الشركسية الكبيرة سنة 1848..
الشركس ومصيرهم الغامض
         وتوقف صاحبنا "الشركسي" عن الكلام مرة أخرى وبقينا سكوتا نستمع حتى قال: قضيت فترة من حياتي أدرس هذه المأساة كلما وجدت فراغا. إنها المأساة التي عاشتها أسرتي قبل أن أعرف الدنيا بقرن أو نحوه. كانت هواية وحكا على الجراح القديمة. أبي سجل الكثير مما رواه جدي من ذكرياته ولكن.. بالشركسية! لم يكن هناك تكافؤ بين رقعة صغيرة من الأرض وقبضة أقوام قليلة، وبين روسيـا في اتساعها ومواردها وجيشها الذي صار جيشا حديثا في القرن الماضي يزيد على مليون ونصف المليون.. أكثر عددا من المقاومة الشركسية كلها. المأساة الحقيقية للشركس بدأت بعد حرب القرم سنة 1856 التي غرقنا فيها نحن الشركس حتى الأذقان. حاربنا مع الحلفاء العثمانيين والإنجليز والفرنسيين. قاومنا، دمرنا. حسبناها فرصة العمر. وحين توقفت الحرب وترقبنا الجزاء الأوفى من مؤتمر باريس لم يأت أحد عنا بكلمة! ولا الدولة العثمانية نفسها! وحين سئل المندوب الإنجليزي عن نصيبنا من هذه الحرب قال: لا يمكن أن نكون مسلمين أكثر من المسلمين أنفسهم! تماما كما هو لسان حال زعماء أمريكا وأوربا اليوم. هل يمكن. أن يكونوا مسلمين أكثر من الألف مليون مسلم المنتشرين في الأرض! ومرة أخرى تركت المنطقة الشركسية لمصيرها وأمام 280 ألف جندي حشدتهم روسيا لسحق المقاومة هناك لم يجد شامل إمام المريدين إلا الاستسلام (أيلول سنة 1859)، ثم تبعه محمد أمين فاستسلم بدوره. وانقلب الروس وحوشا في جلود إنسانية.
         لم تكن عملياتهم إخماد ثورة، ولكن عمليات إبادة منظمة. هذا الشعب الشركسي لا نريده في إطار روسيا. فإما أن يسحق، وبدون قبور، وإما أن يهاجر. كان هذا هو مبدأ الجنرال ميشيل كراندوك الحاكم العسكري العام للمنطقة. الحقول المحروقة دبيب المشردين على الثلوج، تسلل الهاربين في الغابات أقبية التعذيب البربري، التمثيل حتى بالجثث، هدم المساجد، سحل الشيوخ، تقصف الأكواخ كالهياكل العظمية الباكية. كل ذلك كان بعض العمل اليومي للجندي الروسي، سبع سنوات ونيف. حتى أعلن الجنرال كراندوك "نهاية حرب القفقاس" سنة 1864. صارت المنطقة- في مفهومه- روسية!! وساد فيها السلم سلم القبور!! ولكن بعد مائة سنة من القتال!
         حرب المائة عام الشركسية هذه لم يتحدث عنها أحد في التاريخ بوصفها أحد فصوله المخجلة المرعبة. انتهت بانهيار المقاومة في صمت. وإعلان نتيجتها في صمت أكبر. والناس يذكرون الفظائع الاستعمارية للفرنسيين والإنجليز، ولكن من ذا الذي يذكر الاستعمار الروسي وفظائعه في القرم وشمالي القفقاس وفي التركستان؟ مع أنها كانت أكثر مرارة وأشد نكالا!
         الروس لم يكونوا يريدون الأرض، وكذلك الصرب اليوم في البوسنة والهرسك. أراضيهم واسعة وخالية ولكنهم لا يريدون هذه "الملة" الإسلامية الموجودة عليها. ولذلك أمر الجنرال الروسي كارتسوف قادته بتسفير الشركس "إلى أبعد ما يستطيعون"! وكان هذا الأبعد يعني عنده أقاصي الأرض العثمانية!.. وكان هذا فقط هو "الجزاء الأوفى" الذي ناله الشركس من الحلفاء!!
         وأفهم الروس الشركس أن عليهم أن يرحلوا، طوعا أو كرهـا. عليهم الهجرة، إلى البلاد العثمانية أو إلى غيابة المجهول! لا فرق. ودبت صيحة الرحيل في البلاد من أقصاها إلى أقصاها. كأنها صرخة العويل. وبدأ الزحف باتجاه الغرب نحو شواطئ البحر الأسود الذي ازداد على سواده سوادا في الأعين. وتساءل شركي قبل أن يخوض المياه إلى مركب الهجرة ألهذا سموه بالبحر الأسود؟.. أتسمون هذه صليبية؟ سموها إذا شئتم ولكنها لن تكون آخر الصليبيات. ولا أقصد الصليب نفسه، فهو منها براء. ولكن الروح الحاقدة المتعصبة ضد العقائد الأخرى، وإغلاق الروح على فكرة واحدة متقوقعة!
         ورسمت الأقدام الشركسية آلاف الدروب إلى شواطئ البحر. الموانئ عليه اكتظت بالمهاجرين الذين ينتظرون فرصة السفر. الموت من ورائهم والبحر من أمام. نصف مليون إنسان مروا على هذه الدروب الوعرة يجرون الأقدام والعربات والأطفال والعجزة، موانئ آنابه، تـوابسه، سوجي أولر. بوتي، باطوم كانت تقذفهم إلى الماء في أنواع المراكب. وموانئ طرازون. سمسون سينوب، اسطنبول. فارنا. بوغاز. كوستنجه تتلقاهم قادمين ثقلاء!
         كان هذا أول الأمر ولمدة سنوات.. ثم بعد سنة 1866 اكتفوا بدفعهم عن طريق البر، عبر الأودية والثلوج ومجاري السيول والأنهر والصخور المسنونة والأحذية الممزقة والمخيمات المرتجلة والأمطار والوحل. وهل الطرق عبر أرمينية وجبال أرارات بالسهلة العبور؟ كانوا قرابة المليون و 400 ألف يزحفون، وصل منهم مليون ومائة ألف فقط وسقط الباقون على الدروب.
         أنقول وصلوا؟ الواقع أنهم سيقوا سوقا يزرعون الجثث المعروقة حتى العظم حيث مروا. ولقد تمنى معظمهم العودة ليموتوا على ترابهم الوطني ولكن.. كان الطريق أمامهم وحده هو المفتوح، اتجاه واحد. وكل الطرق الأخرى مغلقة. النظرة إلى الوراء هي المحرمة! اليوم تقدم الدول الأمريكية والأوربية الباصات والمعونات المالية، لا ليتمكن أهل البوسنة والهرسك من الدفاع المجدي ولكن لنقل أهل المدن التي يحتلها الصرب إلى المناطق النائية في المجر وإيطاليا وفرنسا والنمسا واليونان والتسليم للصرب بالاحتلال. قبل قرن لم يكونوا بهذا الكرم. تركوا لأقدام الشركس أن تهترئ على الطرق لعلها تصل مناطق الأمان.. لماذا؟ ليجبني من عنده الجواب!
         ولعب المكر العثماني دوره في عملية الإسكان. كانت البلقان بخاصة وبعض البلاد العربية في الفترة الحرجة التي تتحرك فيها لطلب الاستقلال عن "الرجل المريض"!
         أسكنوا بعض الشركس على مدن الحدود المتاخمة لروسيا ليكونوا في وجهها عند الحرب فكأنهم نقلوا من جبهة قتال إلى أخرى والعدو هو العدو!
         وأسكنوا بعضهم الآخر على الشريط الفاصل بين القرى التركية والبلغارية لكيلا يجد البلغار سواهم إن هموا بالقتال. وأنزلوا بعضهم حول اسطنبول ليكونوا درع الحماية في الأخطار، على مداخلها والطرق المؤدية إليها. أما المهاجرون التالون في البر فوطنوا بعضا منهم في القرى والأماكن ذات الأغلبية المسيحية مثل مالا زكـرد في قلب أرمينية وجبال ساسون لا ليخلقوا التوازن بين السكان فقط ولكن ليهددوا بعضا منهم ببعض. لا يهمهم أيهم المقتول. ورسموا بالشركس خطا من السكان يفصل ما بين الأكراد والأرمن من جهة وبين الأتراك في الأناضول من جهة أخرى اعتبارا من مدينة سينوب وسمسون حتى أنطاكية والإسكندرونة.
         وأرسلوا قسما إلى قبرص ورودوس وإلى لبنان في البحر. وحين احتجت هذه البقاع ورفضت استرضاها العثمانيون بإحراق سفن اللاجئين بمن فيها! ألم تحرق سفينتان محملتان باللاجئين أمام الأعين في شواطئ لارنقة. والناس ينظرون أخذ النيران بالركاب؟!
         مصير أهالي كريت المسلمين كان أفضل فيما بعد سنة 1899. اختاروا الهجرة إلى "شام شريف" (دمشق) لأنها في اعتقادهم لا يدخلها الكفار. في دمشق تعرفون الحي الذي يدعى بالمهاجرين. إن اسمه الحقيقي حي المهاجرين الكريتية. هناك أنزلوا في بقعة جرداء على سفح قاسيون وفي تلك الفترة من أواخر القرن الماضي ومطالع هذا القرن كانت ألمانيا قد أخذت جانب العثمانيين (كيدا بالإنجليز) ووقفت بجانب هؤلاء المهجرين تدعمهم. قبل ذلك وقبل عهد بسمارك لم تكن ألمانيا "كقوة" أوربية موجودة أو موحدة، ولم يكن لها أطماع استعمارية تطلب فيها مكانا تحت الشمس كما صارت فيما بعد.
هل تكفي الدموع؟
         وكان للهلال الخصيب نصيب من هجرة الشركس. في العراق مد العثمانيون خط سكناهم من ماردين إلى الحلة وكربلاء ليقفوا ضد تحرك الأكراد والشيعة!! وفي بلاد الشام مدت خط السكنى على امتداد خط المدن الداخلية من منبج إلى حلب حتى جنوب عمان والكرك والطفيلة بما في ذلك الجولان. لكي يشقوا الجبهة العربية المتحركة ثم ليحموا طريق سكة حديد الحجاز..
         وفي منطقة أضنة وكانت تعتبر من الشام وزع الشركس على حوضي النهرين: سيحان وجيحان (يشيل إيرماق) و (قيزيل إيرماق) لعلهم يصلحون الأراضي هناك. فالمنطقة مرزغية موبوءة بالملاريا المهلكة.. أنزلوا فيها 74 ألفا في مرسين. فلم يبق منهم سوى 4 آلاف!!
         كان الشركس، في هذه الفترة، مادة حية محاربة قيد المساومة والاستغلال الدولي. حتى عدوتهم روسيا فاوضتهم. عرضت عليهم إنشـاء دولة لهم في جنـوب تركستان، على حدود أفغانستان، وتدفع روسيا كل تكاليفها. على أن يكونوا بجانبها. وذلك لا لكي يقفـوا في وجه الإنجليز فقط ولكن في شرق إيران أيضا ولكيلا يكونوا أعوان العثمانيين في حروبهم ضدها!! ورفض العرض!
         واستغلت روسيا حربها مع العثمانيين في البلقان سنة 1877 وثورة الحاج علي بك بالشركس لتتكرر عمليات التدمير الشامل للمنطقة وليساق عشرات الألوف من أبنائها الباقين إلى داخل روسيا والمناطق الجرداء فيها. ولتفرض على العثمانيين ترحيل 150 ألف مهاجر شركسي من البلقان. وسيق هؤلاء من جديد إلى الأناضول وإلى بلاد الشام. كان نصيب حلب ودمشق منهم 15 ألف أسرة، ونصيب أضنة خمسة آلاف! وكان الترحيل الثاني أقسى من الأول وأشد مرارة. وصاح شركسي ضاعت صيحته مع ضجيج الناس: هل نحن غنم؟
         وعاد المتحدث فتوقف وتوقفت معه الأنفاس. قال:
         - أسرتي كانت واحدة من هذه الأسر التي أصابها الترحيل الثاني من البلقان. كنا حول كوستنجه. فأنزلنا في كفر لما بفلسطين ثم الريحانية. في سنة 1948 كان تهجيرنا الثالث، وفي سنة 1967 كان الرابع، والحبل على الجرار. هل تكفي الدموع؟ وصمت الجميع!
شاكر مصطفى   
مجلة العربي
عدد 417

الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

نافذة للأمل



نافذة للأمل
 
الكـاتب : مصطفى السيد
 


 1- قالت: حُبِسْتَ، فقلت ليس بضائرٍ *** حبسي، وأي مُهَندٍ لا يغمدُ

2- أوَ ما رأيتِ الليثَ يألفُ غِيلَه *** كِبراً وأوباشُ السباعِ تَرَدَّدُ

3- والشمسُ لولا أنها محجوبةٌ *** عن ناظريك لما أضاءَ الفرقدُ

4- والبدرُ يُدرِكُهُ السِّرار فتنجلي *** أيامُهُ وكأنهُ متجدِّدُ

5- والنارُ في أحجارها مخبوءةٌ *** لا تُصْطَلَى إن لم تُثرها الأزنُدُ

6- والزاعبيةُ لا يقيم كُعوبَها *** إلا الثقافُ وجَذوةٌ تتوقَّدُ

7- غِيَرُ الليالي بادئات عُوَّدٌ *** والمال عاريةٌ يعادُ وينفَدُ

8- ولكل حالٍ مُعْقِبٌ ولربما *** أجلى لك المكروه عما يُحْمَد

9- كم من عليلٍ قد تخطاهُ الردى *** فَنَجَا ومات طبيبُه والعوَّدُ

10- والحبسُ ما لم تغشَهُ لدنيةٍ *** شنعاءَ نعم المنزلُ المتَوَرَّدُ

11- بيتٌ يُجَددُ للكريم كرامةً *** ويُزارُ فيه ولا يزورُ ويُحْفَدُ

12- لو لم يكن في السجن إلا أنَّها *** يستذلُّك بالحجابِ الأعبُدُ
 

  شرح الأبيات:

 1- عيرتني أن أصبحت رهين الحبس، ولكن كما أن السيف لا عار عليه إذا أدخل في غمده؛ فكذلك أنا لا يضيرني أن دخلت السجن.

 2- ولئن صرت نزيل السجن فلا تعجبين من ذلك، فالأسد قد يأوي إلى غيله، بينما ضعاف السباع وأوباشها تروح وتغدو حرة طليقة.

 3- وحتى يرى الناس ضوء الفرقد (وهو نجم صغير) لابد من غياب الشمس، وإلا لما عُرف ضوء هذا النجم. (يشبِّه نفسه بالشمس المحجوبة، وأعداءه بالفرقد).

 4- وعندما يعود البدر هلالاً آخر الشهر، فليس معنى هذا أنه سيستمر إلى آخر الدهر هكذا، وإنما سيرجع ليكون بدراً من جديد.

 5- والنار، وهى عنصر ضروري للحياة، لا تنبعث شرارتها من الحجر إلا بعد استثارتها وضربها بالزند.

 6- والرماح المستوية لا تصبح هكذا، إلا بعد عملية شاقة، حيث يقوِّم اعوجاجها الثقاف، وتزال عقدُها بالحك والقطع، ويشحذ نصلها بإحمائه في النار المتوقدة.

 7- ومصائب الأيام ليست مقصورة على أحد، بل تبدأ بواحد وتثني بآخر، والمال الذي يتباهى به كثير من الناس إن هو إلا عارية مستردة، (وقد أخذ الشاعر وصف المال من كلمة أبي طالب حين خطب السيدة خديجة -رضي الله عنها- للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: وإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة).

 8- إن مجيء الليالي بالسراء مرة وبالضراء مرة أخرى سنة ثابتة، وربما كان الخير فيما تكرهه من الملمات والمصائب.

 9- كم من مريض أشرف على الهلاك، ولكنه أبَّل من مرضه، وعوفي من علته، بينما مات قبله الطبيب الذي عالجه، ومن عاده أثناء مرضه.

 10- والحبس منزل كريم، وعنوان فخر لنازله، إن كان دخوله بسبب رأي أو عقيدة، لا بسبب فعلة شنيعة.

 11- فهو بيت يحفز الكريم على التمسك برأيه ويجدد له صبره وصموده، ويزوره فيه أصحابه ويكرم فيه. (وهذا كان عندنا في العصور الوسطى -التي يسميها الجهلة: عندنا عصور الظلام-، حيث يكرم سجين الرأي ويزار، أما في سجوننا التي شيدت في القرن العشرين، هل بنا حاجة إلى وصف إكرام نزلائها؟ ! وهل يجرؤ أهلهم وذووهم على السؤال عنهم فضلاً عن طلب زيارتهم؟ ! ).

 12- وللسجن ميزات كثيرة عند الشاعر، ولو لم يكن للسجن من فائدة إلا أنه يكفيك شر الحجاب وسفاهتهم وغلظتهم حيث يدفعون الناس عن الوصول إلى أولي الأمر، لكانت فائدة عظيمة.

  حول الأبيات:

 تفردت بالألم العبقري *** وأنبغ ما في الحياة الألم

 التحدي مستنبط كوامن العبقرية، ومنبع خبء [1] الذكاء، وكم نازلة حلت بأمة فكانت نقطة تحول في تاريخها، ومبعث رقدتها من مجثمها [2]، وكثيرة هي الروائع الأدبية التي كان الباعث عليها السجن أو المرض، أو ما سواها من مكدرات العيش ومنغصات الحياة.  والقصيدة التي نقدمها اليوم تسايلت معانيها من ذلكم الوادي، وسُقِيَتْ صوب [3] ذاك الغمام.  فمن وراء القضبان أرسل الشاعر علي بن الجهم هذه التأملات المعمقة عن السجن، وإذا ما سُجنت الأُسْد فهي مخوفة، لا خائفة، وكم من طليق سجين، وكم من سجين طليق!. وعلي بن الجهم من فحول شعراء العصر العباسي الأول، تميز عن شعراء ذلك العصر بعقيدة سليمة، على ندرة ذلك في أقرانه الذين تقاسمت أكثرهم ساحة الاعتزال مع حلبات اللهو والمجون والانحلال.

وهو أحد رجال الطبقة الأولى من طبقات الحنابلة، وعلى الرغم من أن المعتزلة والروافض قد انخفض صوتهم في عهد المتوكل، ولم تعد لهم تلك الصولة التي كانت لهم زمن المأمون والمعتصم والواثق، إلا أن بقاياهم ظلت في دوائر الحكم بعد ذلك، واستمر تأثيرهم من وراء حجاب، وكانوا لا يفتأون يدبرون المكائد لخصومهم من أهل السنة، وما حصل لعلي بن الجهم مثال على ذلك، فقد ائتمر به » بعض ندماء المتوكل وبعض المعتزلة وأصحاب البدع، واجتمعوا على الإغراء بقتله « [4].
 واختلاب الفرص من قِبَل أهل البدع خُلقٌ ثابت لهم، شأنهم في كل عصر ومَصر، ولهم أسلوبهم المميز في التخلص من كل حاجز من الحواجز التي تحول بينهم وبين بدعهم.  وبسبب من هذا الحقد البدعي الأعمى وجد علي بن الجهم نفسه نزيل السجن، فلم يتضعضع لهذه الصدمة القاسية، بل نجده يضيء السجن بمصابيح عبقريته، ويمتعنا -على بعد الشقة- بنبل هذا الموقف.  وبالرغم من انحسار المد الاعتزالي، وعودة الأمور إلى نصابها في خلافة المتوكل، إلا أن ذلك لايعني أن دوائر الحكم العباسي قد كنست كلها، أو صفيت جلها من عقابيل هذا الفكر التفتيتي التقزيمي، بل بقيت زمرٌ تعمل وراء الكواليس لتصفية الحساب مع بعض رموز أهل السنة. 
ولعل في ذلك إيماءةً تاريخية، وإشارة فقهية لمن يتصدون للبحث التاريخي، وهي: أن سقوط هيكلية أي فكر لا تعني زواله تماماً. وفي ضوء هذه المقولة نفهم كيف تمكن أعداء الاتجاه السني من الزج بابن الجهم في غياهب السِّجن.  وبسبب من شعلة الإيمان التي لم تخبُ جذوتها في فؤاده، وعدالة موقفه، وشعوره بالظلم الفادح النازل به، اجتمعت هذه الأمور لتكون مصهراً لشاعريته.  إن سجنه كشخص، لم يحبس عواطفه شاعراً، بل أطلق لهذه الأخيرة العنان، لتصوغ لنا هذه الدرة اليتيمة التي تعد من أدب المقاومة للظلم، ومن أدب الدفاع عن حقوق الإنسان، كما في سطورها من (الحداثة) الحقيقية -وليست الوهمية الغائبة أو المغيبة كما في شعر مُدَّعى الحداثة في هذا الزمن-، فيها  من الحداثة الدائمة التأثير والصادقة التعبير ما يضمن لها حضوراً متجدداً وتأثيراً متصلاً. 
كما تقول لنا -القصيدة- بوضوح: إن السجن -على ضيقه- بوابة إلى عالم أوسع، ومرقاة إلى مرتبة أرفع، فقد يكون إحدى مراحل اختبار الإيمان، وتوضيح الرؤية، وجزى الله الشدائد كل خير ففيها تعرضٌ لثواب الصبر، وإيقاظٌ للقلب من الغفلة، وادِّكارٌ للنعمة في حال الصحة واستدعاء للتوبة، وفي قضاء الله وقدره بَعْدُ الخيار.

 ----------------------------------

(1) خبء: مدّخر: مخبوء.

(2) المجثم: أسم للمكان الذي يُجْثَم فيه.

(3) الصوب:المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي.

(4) الأغاني: 1/230.