الثلاثاء، 5 سبتمبر 2017

"الفزي وزى - المقاتل البجاوي"، قصيدة شاعر : الامبراطورية البريطانية "روديارد كبلنج"

الفزي وزى - المقاتل البجاوي ... بقلم: جعفر بامكار محمد
سودانيل

قصيدة شاعر : الامبراطورية البريطانية روديارد كبلنج .

شاعر الامبراطورية البريطانية في عصرها الفكتوري وفي أوج عظمتها فى القرن التاسع عشرالميلادى حيث لم تكن الشمس تغيب عن ممتلكاتها وكانت الامبراطورية البريطانية القوة العظمى التي لا تقهر في العالم وكانت تسيطر على أجزاء واسعة من العالم بكل القارات وتخشاها القوى الأوربية وتضع لها ألف حساب . فى هذا الوقت العصيب كان من سوء حظ البجا أن يكونوا فى مواجهة مع الفرق العسكرية البريطانية وجنرالاتها من أمثال فالنتين بيكر وجراهام وماكنيل وبولر وغيرهم . إن حظ البجا دائما ماكان يضعهم فى مواجهة قوى أقوى منهم بكثير كالفراعنه والبطالسه والأكسوميين والرومان والعرب والأتراك والانجليز ولكن البجا كانوا دائما قدر التحدى مما جعلهم ينالون تقدير واعجاب أعدائهم .إن بسالتهم الفائقة وشجاعتهم المنقطعة النظير كانت مضربا للأمثال .لقد علموا أعدائهم كيف يكون الكر والفر وكيف تكون حرب العصابات وكيف يكون ثبات الرجال ساعة المعركة واللقاء .صحيح أن البجا قد خسروا الالاف من أنبل وأشجع الرجال ولكن يكفيهم فخرا أنهم قد منعوا الغزاة من دخول البلاد من بوابة الشرق وتركوا لنا عزا وفخرا يبقى على مر الزمان.
إن شهادة شاعر الامبراطورية البريطانية العظيم روديارد كبلنج تعتبر اعترافاً قيما وشهادة لا مثيل لها ببسالة وشجاعة المقاتل البجاوي وكما يقال فالفضل ما شهدت به الأعداء . إن قصيدة روديارد كبلنج هي القصيدة الوحيدة عن السودان في الأدب العالمي وهي موجودة في ديوان الشاعر المذكور.إن شهادة الشاعر روديارد كبلنج قد هزت الامبراطورية البريطانية .كيف للبجا البدائيين أن يتحدوا الفرق العسكرية البريطانية المدججة بأحدث الأسلحة وذات التاريخ العريق ؟ كيف للبجا البدائيين أن يكسروا المربع العسكرى البريطانى ويقتحموه رغم أن الدول الأوربية عجزت عن فعل ذلك ؟كيف للبجا البدائيين أن يمنعوا وبقوة السلاح والارادة الجيوش البريطانية من اقتحام السودان عن طريق الشرق؟ لقد جعل البجا من الجيوش البريطانية أضحوكة فى أوروبا وتسببوا فى إحداث جرح كبير فى كرامة الجيوش البريطانية.
كان ينبغي أن تكتب هذه القصيدة من قبل جميع السودانيين بماء الذهب ويتم تحفيظها لكل أجيال السودان فالذى ليس له تاريخ ليس له حاضر ولا مستقبل . إن أمجاد الأجداد يجب أن يكون فيها حافز للأحفاد ليسيروا على درب أجدادهم وليدافعوا عن تراب وطنهم كما فعل أجدادهم وبكل بسالة ونكران ذات .
تحية للأمير عثمان دقنه ورفاقه الأشاوس وهم في عليين مع الشهداء والصديقين وهم في حياتهم قد حموا حدود السودان الشرقية من الغزاة الأجانب وحطموا المربع الإنجليزي في معركة تاماي الكبرى. هذا المربع العتيد والذي كان مكان فخر الفرق البريطانية والذي عجز عن تحطيمه الإمبراطور نابليون بونابارت إمبراطور فرنسا في معركة وترلو الحاسمة رغم تكافؤ قوة النيران بين جيشه والجيش البريطاني وهذا دليل على أن العبرة ليست بالسلاح وحده بل باليد التى تحمل هذا السلاح .
إننا نتقدم بتحية خاصة خالصة للمرحوم المؤرخ الكبيرمحمد صالح ضرار و للأستاذ الكبير إبراهيم احمد شليه لجهدهما الكبير الذي بذلاه لترجمة القصيدة رغم صعوبة اللغة. جزاهما الله خيرا عنا وعن الشعب السوداني وأجياله القادمة .
توطئة
ربما أصبح البجا اليوم أكثر حاجة من أي وقت مضي لوقفة مع النفس وتأمل الماضي لاستخلاص العبر والدروس عسي أن يكون ذلك زاد لهم لما هم فيه من وحل الفرقة والشتات وتباين الآراء والأقوال وتكالب المتربصين بهم للنيل من نضالهم والعبث الجائر بقضيتهم والانتقاص من انجازاتهم . نريد أن نستحضر الماضي لا للركون إليه ولا لاجتراره ولكن من منطلق أن الحاضر هو امتداد للماضي وأنه في نفس الوقت جسر عبور للمستقبل المشرق. لا يخفي علي الجميع أن إنجازات الماضي في شرق السودان كانت جزءا من القوالب التي شكلت جغرافية وتاريخ السودان الحديث , وأن البجا تقاعسوا عن هذا الدور لأسباب لاتخفي للجميع والآن آن الأوان أن يستردوا هذا الدور لتكتمل استحقاقات المواطنة الحقة , ولن يحدث ذلك إلاّ بعد توحيد الكلمة ولم الشمل آخذين في الاعتبار أن الإنجازات الهامة في مسيرة الشعوب لا تحدث من فراغ وإنما هي نتاج طبيعي لتلاحم القيادة مع القاعدة في تفاعل عضوي لا انفصام عنه.
لهذا نود أن نستعرض قصيدة فيزي ويزي للشاعر البريطاني الكبير روديارد كيبلينغ التي نظمت في فترة هامة من تاريخ السودان . البجا في تلك الفترة ضربوا أروع الأمثلة للتضحية والاصطفاف الشعبي والانضباط العسكري خلف قيادة عسكرية وسياسية ذكية استطاعت أن تستثمر كل وقائع الميدان وتناقضاتها مما أهلها لتنجز نصرا غاليا , وإن لم يكن حاسما , علي جبهة هامة من جبهات حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني وهي البوابة الشرقية. تمثل هذا النصر في كسر المربع البريطاني وفي إرباك وذعر للقوات البريطانية وإحباط نفسي ومعنوي لهم. محاولتنا باستعراض هذه القصيدة تهدف إلي الإشارة إلي أن من مستوجبات النصر العسكري والسياسي وجود قيادة منضبطة متماسكة واعية تستطيع لمّ الشمل وتتنزل للقواعد أخذا وعطاءا لتحديد الأهداف ووضع آليات التنفيذ الممكنة لها. في قراءتنا لقصيدة فيزي ويزي علينا أن نتطرق لبعض الجوانب المرتبطة بها.
الشاعر
شاعر قصيدة فيزي ويزي هوالشاعر العظيم البريطاني روديارد كيبلينغ الذي ولد في الهند عام 1836وأُلحق بمدارس بريطانيا وبعد تخرجه رجع إلي الهند مرة أخري ليعمل مراسلا حربيا لصحيفة في لاهور( باكستان الآن). وفي الهند بدأت تظهر مقدراته الأدبية وعرف في تلك الفترة كواحد من أميز الأدباء والشعراء البريطانيين حيث نشرت أعماله الأدبية في كثير من الجرائد والمجلات وأخيرا طبعت في شكل كتب منفصلة. تعاطي كيبلينغ الشعر وكتابة القصة القصيرة ولا سيما قصص الأطفال ولكن شهرته كانت في الشعر مما أهله لنيل جائزة نوبل للآداب عام 1907 وبذلك كان أول بريطاني ينال هذه الجائزة الرفيعة .
من الناحية السياسية صنف كيبلينغ كواحد من غلاة المحافظين ( بتعبير اليوم) حيث نصّب نفسه مدافعا مستميتا للتاج البريطاني ومبررا لكل ما تقوم به بريطانيا والغرب بصورة عامة من غزو وحملات عسكرية في أرجاء العالم وكان من الذين يؤمنون إيمانا جازما بأن لبريطانيا رسالة حضارية وأخلاقية في نشر مفاهيم المجتمعات الأوروبي و هذا كان الاتجاه السائد في تلك الأيام وسط كثير من السياسيين والعسكريين الأوروبيين وربما إلي يومنا هذا.
القصيدة
استمدت قصيدة فيزي ويزي إسمها من اسم الحيوانات المنزلية الأليفة ذات الشعر أو الفراء الكثيف. ربما اختار كيبلينغ هذه التسمية لغرضين. الأول لتشبيه المحارب البجاوي الذي جمعتهم بهم معارك شرق السودان والذي تغطي رأسه كتلة كثيفة من الشّعر بتلك الحيوانات فان البجا وعلى رؤوسهم الشعر الكثيف كان منظرا ملفتا لكبلنج وغيره من الاوربيين .ان الشعر الكثيف على راس البجاوى والذى يسمى التلة هو مكان فخر البجاوى وعند كل ضربة بالسيف يهز تلته . الغرض الثاني أراد كيبلينغ أن يستخف ويقلل من شأن هذا المحارب بتشبيهه بهذه الحيوانات المنزلية الوديعة التي يتلهي بها الأطفال , كما أراد أن يعطي انطباعا بأن هذا البجاوي شخص وديع ولا يمكن أن يكون مصدر خوف أو قلق في أي معركة ومن ثم يمكن سحقه. غير أنه كان صائبا في تشبيهه الأول ومخطئا في تقديره الثاني كما روت لاحقا مجريات المعارك والمواجهات الشرسة في شرق السودان , إذ أن هذا الشخص الوديع , كما افترض كيبلينغ , أصبح أشرس ما لاقاه البريطانيون في حروبهم المختلفة وما اكثرها وقد ذكر كبلنج اسماء بعض اشرس الاقوام التى قاتلوها ومنها البشتون والزولو والبورميين وغيرهم .أن من دواعى فخر البجا أن يذكر اسمهم بجانب هؤلاء الاشاوس ويكفيهم فخرا أن يذكر اسمهم بجانب البشتون بافغانستان الين هزموا الاتحاد السوفيتى والآن يدوخون أمريكا ومعها ثلاث وأربعين دولة والحلف الأطلسى بجلالة قدره لذلك يحكي أحد البريطانيين علي لسان جده الأكبر ممن شهدوا هذه المعارك وأصيب بطعنة حربة في فخذه الأيمن " بأن محاربي هذه المناطق يمثلون بعض القبائل القليلة التي يخشي الإنجليز اللقاء بهم لشراستهم وبسالتهم They were one of the few tribes the English feared to fight due to their aggressive nature.”
أطلعت شخصيا علي ترجمتين مختلفتين للقصيدة , واحدة للمؤرخ الكبير صالح ضرار والأخري للأستاذ إبراهيم أحمد شلية ولكل منهما نكهتها الخاصة . . كتبت القصيدة بلغة إنجليزية كلاسيكية يصعب فهمها في الوقت الحاضر وهي لغة أشبه بلغة المعلقات في العصر الجاهلي . استقبل الوسط البريطاني القصيدة عند أول ظهورها بشعور تفاوت بين السخط والرضي. البعض صنفها علي أنها انجاز أدبي رفيع من شاعر مقتدر ملك ناصية الكلمة وقوة البيان, في حين أن البعض الآخر ولا سيما العسكريون وبعض السياسيين نظروا إليها وكأنها عمل , وإن كان أدبيا بحتا , إلا أنه يعبر عن وجهة نظر سياسية وعسكرية من الدرجة الأولي وأنه غير موفق من الناحية العملية لأنه يحتوى علي تمجيد الأعداء واعتراف لهم بمقدرات قتالية تنتقص من مكانة الجندي البريطاني.ومهما يكن رأي البريطانيين فيها إلا أنها , أي القصيدة , تمثل لنا نحن في السودان قلادة شرف في عنق المحارب السوداني ولا سيما البجاوي في شرق السودان تحت قيادة قائدهم الفذ عثمان دقنه الذي قال عنه أندرو بول" كان أذكي أمراء المهدية رغم أنه لم يحظ بالموقع الذي يليق به لأنه استطاع أن يصمد أمام جيوش اعتي منه قوة وعتادا. (تاريخ قبائل البجا)". الاعتراف الذي سجله الشاعر كيبلينغ في قصيدته المشهورة لم يكن منّة منه ولا من غيره وإنما كان اعترافا انتزعه المحارب السوداني عن قوة واقتدار, فضلا علي أنه اعتراف لم يمنح لأحد من الجيوش التي حاربها البريطانييون في تلك الحقبة إبتداءا من نابليون فرنسا في موقعة وترلو الفاصلة ومرورا بالبشتون في مرتفعات خيبر بافغانستان وكذلك البورميين وانتهاءا بقبائل الزولو الشرسة في الجنوب الإفريقي.
إضافة لذلك القصيدة كما قال أحد المعلقين والنقاد عنها إنها تمثل أول اعتراف بريطاني بهزيمتهم , حتي وإن لم تكن هزيمة عسكرية صرفة إلا أنها تمثل إقرارا بإفشال مخططاتهم العسكرية واختراقا لتحصيناتهم الدفاعية المنيعة المدججة بقوة ضاربة بشتي الأسلحة النارية الحديثة بما في ذلك المدافع الميدانية الثقيلة التي دخلت الميدان الحربي حديثا. يصف كيبلينغ بسالة المقاتل البجاوي فيقول " ما لا قيناه من شراسة في حروبنا في خيبر وبورما وجنوب إفريقيا لم تكن الا شربة واحدة( يعني بقة واحدة بالدارجي السوداني) من مشروب المياه الغازية مقارنة بما تجرعناه من علقم في حروبنا في شرق السودان". هذا اعتراف غال من مواطن بريطاني رصد المعركة عن كثب ولكنه لم يتعود تمجيد الآخر , ولكن الحق أبلج ولا يمكن نكرانه حتي وإن كان من العدو. كيبلينغ ,الذي لم يكن عسكريا محترفا , ولكنه كان مراسلا حربيا كلف بالتغطية الصحفية لمعارك بريطانيا في شبه القارة الهندية. يكون رأيه , حتي وإن لم يمثل القيادة العسكرية , إلا أنه رأي مطابق للواقع ورأي من عرك المعارك رصدا ونقدا. وفي المقابل جاء اعتراض بعض العسكريين للقصيدة أنها تحط من قدر جيش صاحبة الجلالة التي كانت جيوشها سيدة المعارك في ذلك الزمان .
الخلفية التاريخية للقصيدة
في نهاية العقد قبل الماضي واجهت بريطانيا مشاكل جمة في السودان حيث اندلعت الثورة المهدية هناك وأصبحت تدك معاقل خديوي مصر في السودان. انتصارات المهدي المتتالية في السودان أصبحت تهدد بقاء الاستعمار المصري الإنجليزي في السودان . بريطانيا في تلك الأثناء , تحت قيادة حزب الأحرار لم تكن متحمسة في التورط أكثر مما يجب في الشأن السوداني وكان رئيس وزرائها قلادستون يتمني أن يترك السودان وشأنه للمصريين. غير أن غوردون الذي كلف بإخلاء جميع الرعايا الأجانب في السودان تعنت ورفض مغادرة قصر الرئاسة في الخرطوم الذي حوصر فيه , فضلا عن شعبيته المتنامية في بريطانيا ( لدوره الهام في دحر الجيش الصيني) , كل ذلك أجبر بريطانيا أن ترسل حملة لإنقاذه سميت ب " حملة إنقاذ غوردون" . أوكلت قيادة هذه الحملة للورد ويسلي الذي وصل إلي مشارف الخرطوم في 28 يناير1885 فقط بعد يومين من اغتيال غوردون باشا . أجمع المعلقون العسكريون أن من الأسباب المباشرة التي أدت إلي حصار الخرطوم ومقتل غوردون الحصار الذي ضربه عثمان دقنه علي طريق الإمداد الحيوي بين سواكن وبربر والمعارك الدائرة بشرق السودان. مقتل غوردون خلّف موجة عارمة من السخط الشعبي في بريطانيا وانتقادا شديدا للحكومة والجيش لتقاعسهم عن نجدة غوردون في الوقت المناسب . زد علي ذلك عدم مقدرة الحكومة في تأمين موانئ البحر الأحمر . كل هذا شجع علي تورط بريطاني أكبر في السودان. لهذا سعت بريطانيا لتعزيز قبضتها علي السودان ولفك الحصار المضروب من قبل جيوش المهدي للطريق الرابط بين بربر وسواكن.
تتالت هزائم المصريين والإنجليز في المعارك الساحلية , بعد سقوط سنكات المخزي والمعارك الدامية في التيب وتوفريك وتاماى وهندوب وغيرها واستسلام حامية طوكر. لم يبق لبريطانيا نفوذ في شرق السودان غير حامية سواكن التي تحميها سفن الأسطول الملكي البريطاني . كل هذه الهزائم المتكررة حطت من سمعة بريطانيا مما أغضب الملكة وألب الصحافة والرأي العام ضد الحكومة . استجابة لكل هذه الضغوط وافق رئيس الوزراء قلادستون أن برسل قوات إضافية إلي سواكن ولكنها واجهت مقاومة شرسة من قوات عثمان دقنه في مواقع مختلفة علي الجبهة الشرقية وقتل فيها أعداد كبيرة من الجانبين وبالذات الجانب السوداني. قصد بهذه الحملة تأمين الساحل البحري لضمان انسياب الإمدادات للداخل السوداني , وكذلك لتأمين إي انسحاب محتمل عبر البحر الأحمر للرعايا والقوات الأجنبية إذا دعت الضرورة لذلك.
أظهرت وقائع الميدان أن التجهيزات العسكرية بين الطرفين لم تكن متكافئة بكل المقاييس. الجيش البريطاني كان يتفوق علي جيش الأنصار تدريبا وتجهيزا وخبرة فضلا علي امتلاكهم قوة ضاربة من أسلحة نارية من بنادق ومدافع ثقيلة. في الجانب الآخر جيش عثمان دقنه , كغيره من جيوش المهدي, لم يمتلك من العتاد الحربي غير الأسلحة التقليدية من سيوف وحراب وعصي وقليل من البنادق التي غنموها من الأعداء , غير أنهم أبدوا كفاءة عالية في استعمالها كما وصف أحد البريطانيين واحدة من تلك المعارك." إن المواجهة الحقيقية كانت من البجاويين المسلحين بالحراب حيث يوجهون رماحهم بدقة متناهية وفي الوقت المناسب نحو خيولنا فيصيبون منها مقتلا, كما كانوا يستعملون عصي معقوفة من السنط يصيبون بها ركبة الخيل مما يقود إلي سقوطها وشل حركتها. إضافة لذلك يعترف كبلينغ بمهارتهم في استعمال السيف " يجب أن نعترف بمقدراتك (البجاوي) العالية في استعمال السيف. يوضح هذا أن السلاح , وإن كان بسيطا إلا أنه يكون فعالا عندما يكون في يد من يجيد استعماله . لا يمكن التقليل من أهمية السلاح في حسم المعارك غير أن العبرة بالروح القتالية للجندي التي لها أيضا دور لا يقل أهمية من السلاح.
المربع البريطاني

قد لا يعلم الكثيرون ما هو المقصود بالمربع البريطاني , فكرة المربع تكتيك حربي بريطاني عريق يوفر الأمن والسلامة عندما يتحرك الجيش في أرض مكشوفة في مواجهة الفرسان والمشاة المسلحين بالأسلحة البيضاء وأثبت جدواه في معارك كثيرة وبالذات في حرب القرم مع الروس ومع الفرنسيين في معركة وترلو الشهيرة . ولكن كفاءته القتالية أكثر جدوي في حال أن الخصم لا يمتلك قوة نارية رادعة وهذا ما كان ينطبق علي جيش عثمان دقنه في شرق السودان. من الناحية العملية يوزع الجيش في التشكيلة العسكرية للمربع إلي مربع متساوي الأضلاع , كل ضلع فيه يتكون من صفين أو أكثر من الجنود , من المشاة والخيالة( الفرسان أو راكبي الخيل) . يتفاوت عدد الجنود في كل ضلع ما بين 1000-1500 جندي. داخل المربع يتحرك العتاد العسكري من مدافع وذخيرة كما توجد به المؤن وحيوانات النقل من جمال وبغال وحمير ومعها المشرفون عليها وكذلك بقية الجيش . بهذه التشكيلة يمكن تشبيه المربع بقلعة متحركة حيطانها من الجنود وتحمي أركانها مدافع جالينغ وجاردنر الرشاشة ومدافع الميدان زنة 7 رطل التي تشكل قوة نارية كافية لتمطر كل واجهة للمربع وتمزق أي هجوم للأنصار . يتميز الجنود في كل واجهة من المربع بمرونة في الحركة السريعة يستطيعون فيها الإستدارة السريعة عند الحاجة لتكوين صف للرماية في حال ما وقع هجوم علي المربع.
حصاد المعارك
كما ذكرآنفا أن معارك السودانيين مع البريطانيين كانت تنتقص إلي التكافؤ والتعادل. تفوقت الجيوش البريطانية بالعتاد الحربي المتطور وبالخبرة والتجربة اللتان تراكمتا من خلال حروبهم في شتي بقاع العالم ,إضافة لذلك أن قواد الجيش البريطاني الذين أرسلوا إلي السودان كانوا من النخبة وأفضل ما أنجبتهم المؤسسة العسكرية البريطانية مثل إستوارت وغراهام وماكنيل وبيكر وويسلي وغردون وبولر وغيرهم كثيرون الذين خاضوا حروب بريطانيا العظمي في شتي بقاع العالم . بسبب هذا الخلل في موازين القوي أصبحت المعارك الحربية مع البريطانيين في السودان مجازر أكثر من أنها مواجهات عسكرية, وأكبر دليل علي ذلك موقعة أمدرمان التي استمرت لفترة وجيزة وقتل وجرح فيها من الأنصار أكثر من 26 ألف سوداني مقابل 45 قتيلا و382 جريحا للبريطانيين. في هذه المعارك وغيرها من المعارك التي سبقتها والتي تلتها لم يقترب المحارب السوداني من البريطانيين أكثر من 400 متر قبل ان يردي قتيلا بسلاح ناري . ولكن بشهادة البريطانيين أنفسهم أن المقاتل السوداني أثبت كفاءة عالية عندما كان اللقاء وجها لوجه ,ورجلا لرجل. لذلك يقول كبلينغ عن البجاوي " إنك صرعتنا عندما كان اللقاء وجها لوجه:
But man for man the fuzzy knocked us ‘oller
إضافة أنه كان يقاتل حتي الرمق الأخير كما قال فيهم كيبلينغ في مكان آخر من قصيدته " إنه ممتلئ , أي المحارب البجاوي , بحرارة الصحراء وطعم الزنجبيل عندما يكون حيا ويكون أكثر خطورة عندما يحتضر". كيبلينغ كغيرة من عنصريي أوروبا يقحم تعابير الاستعلاء العرقي والديني في وصفه للبجا بأنهم همجيون ووثنيون ولكنه في النهاية يُجبر علي الاعتراف بأن الجندي البجاوي محارب من الدرجة الأولي وأنه رغم فقده لكثير من رفاقه إلا أنه يكفيه فخرا أنه كسر المربع الإنجليزي
You're a bore benighted ‘eathen but a first –class fightin'man
For If you'ave lost more than us, you crumplede up the squre!
من المعارك الهامة في تاريخ المهدية وفي شرق السودان بصفة خاصة معركة تأماي ( ثمانية وثلاثين كيلومترات من الجنوب الغربى لسواكن) في 13 مارس 1884 التي خلدها كيبلينغ بقصيدته الشهيرة " فيزي ويزي" والتي كُسر فيها المربع البريطاني. تقول دائرة .المعارف البريطانية عن هذه المعركة أن الجيش الإنجليزي بقيادة سير غراهام حامل وسام فكتوريا كروس, وهو أعلي وسام يمنح لقائد ميداني, يتكون جيش الجنرال جراهام من 3500بريطاني بين ضابط وجندي في حين أن جيش عثمان دقنه كان قوامه 10ألف شخص. تأكد عثمان دقنه بحسه العسكري الثاقب وبتحليله للمعارك السابقة بأن المواجهة المكشوفة مع البريطانيين غير ذات جدوي لأنها تعرض جيشه لوابل من السلاح الناري , لهذا أمر جنوده أن يختبئوا بين الشجيرات وفي خور يجري بمحاذاة طريق سير المربع البريطاني والانقضاض عليهم في هجمة واحدة عندما يصبحون علي مقربة أقل من مأتي ياردة وهذا هو الاسلوب التاريخى التقليدى للحرب عند البجا .الحرب عند البجا تعنى الالتحام لاثبات الشجاعة وفى حالة الصراع مع قوة تمتلك اسلحة نارية فالالتحام يحيد السلاح النارى .الالتحام يجب ان يتم باقصى سرعة لذلك فالفرسان يتسابقون نحو صفوف الاعداء ومن يبطىء منهم يلحق به عار الابد .ان الالتحام ايضا يقلل من الاصابات فى ميدان الرماية لان السرعة الفائقة للنهاحمين لا تسمح للحنود بالتصويب السليم . كان الهجوم مفاجأ وضاريا لدرجة أن هذه المباغتة لم تمكن البريطانيين من تركيز أسلحتهم الرشاشة التي أخطأ كثير منها العدو. لنقرأ هنا وصف غراهام للمعركة " مجموعة ضخمة من الوطنيين جاءت كسيل متدفق وهجمت بعزيمة لا تلين علي كتيبة اليوركشيرز واللانكشيرز مما جعل المربع ينهار ويتخبط في فوضي تامة". روح المبادرة والمباغتة غيرت أسلوب المواجهة بين الجيشين بحيث أصبح الرجال يتقاتلون فرادي أو في شكل مجموعات صغيرة ولم يكن هنالك مجال لممارسة أي تكتيكات حربية سابقة , فالقتال أصبح إلتحاميا بالأيدي وبالأسلحة النارية والبيضاء في أشرس صورة يتخيلها الانسان. بعد هذا القتال الضاري استطاع غراهام , بفضل القوة النارية الحاسمة , أن يسترد تشكيل قواته بعد أن انسحب جيش عثمان دقنه بطريقة منظمة ومشرفة ( كما قال أحد المعلقين) بعد كسرهم للمربع البريطاني , مهمة كسر المربع البريطانى فشل فيها من قبل الروس والفرنسيون علي السواء. محصلة المعركة مقتل أكثر من 120ضابط وجندي بريطاني وأكثرمن 300جريح , مقابل 4000بين قتيل وجريح من جيش عثمان دقنه . هذه المحصلة من القتلي والجرحي بين البريطانيين تعتبر أعلي خسارة للجيوش البريطانية في أي معركة من معاركهم في السودان بما فى ذلك معركة أمدرمان الشهبرة التي قتل فيها فقط 45 بريطاني وجرح فيها 382ضابط وجندي.
أكثر ما أحبط البريطانيين في هذه المعركة انهيار مربعهم الذي كانت مقدراته الدفاعية تراجع وتعدل بعد كل معركة يخوضها الجيش البريطاني في كل أرجاء المعمورة وفشل اختراقة الروس والفرنسيون أعظم قوتين حربيتن في ذلك العصر, لذلك لم يكن متوقعا أن يكسر هذا المربع في أي مجابهة عسكرية ناهيك أن المجابهة عندما تكون مع قبائل بدائية ( كما يصفونها) لا يملكون من العتاد الحربي إلا أسلحتهم التقليدية . لذلك كان مخزيا ومحزنا للبريطانيين في آن واحد أن يروا مربعهم الأسطوري ينهار ويُخترق بهذه البساطة . بهذا الخصوص علق مسؤول بريطاني قائلا " إن بريطانيا شعبا وحكومة رأت في المربع البريطاني إنجازا عسكريا خارقا ونموذجا للتفوق العسكري , وكونه ينهار أمام هؤلاء البجا يعتبر أمرا أشبه بالخيال - British army and its public saw the square as an almost legendary symbol of its supremacy . That it might be broken was unthinkable" . هذه البسالة وهذه الشجاعة من المحارب البجاوي لم تترك في نفوس البريطانيين ضباطا وجنود غير الإشادة والتمجيد كما رفعت الحرج عن كيبلينغ ليخلدهم بقصيدته المشهورة فيزي ويزي التي ختمها بالأبيات التاللية
لم يحرك الغزاة فيه غير نفرة إحتقار
لذا نزجي إليك مدحا في بلادك السودان
فأنت في الحياة معدم وجاهل
ولكن في الحروب قمة الفخار
نهديك ها هنا تحية يا أشعث الإهاب
يا من حكي وعاء التبن رأسه الدهين بالغبار
وأنت الأسود الوثاب الساغب الحشا
لأنك اقتحمت صف الإنجليز في اقتدار
“Fuzzy-Wuzzy”
We've fought with many men acrost the seas,
كانت لنا صولات حرب جمة عبر البحار
An'some of ‘em was brave an' some was not:
مع الكثير من الرجال منهم الشجاع والجبان
The Paythan an ‘the Zulu an' Burmese;
But the Fuzzy was the finest o' the lot
تعاركنا مع البيتان والزولو والبورميين ..
فكان اروع المقاتلين ذلك المغوار الأجعد الليفي الشعر .. الفزي وزي
We never got a ha‘porth's change of 'im;
‘E squatted in the scrub an' ‘ocked our ‘orses,
‘E cut our sentries up at Suakin,
An' ‘e played the cat an' banjo with our forces.
فقد عجزنا أن نفت في صموده إذ كان رابضا لنا يندس في سواتر الأشجار
ليعقر الخيول منا بغتة ويستبيح ساحة الحراس
في سواكن المحصنة
يعابث الجنود مثل قطة تداعب الأوتار
So ‘ere's to you, Fuzzy-Wuzzy, at your'ome in the Sudan;
لذا نهديك صادق التحايا في بلادك السودان
You're a pore benighted ‘eathen But a first- class fightin' man;
إن كنت في الحياة بائسا وجاهلا فأنت في الحروب قمة الفخار
We gives you your certificate, an' if you want it signed
إليكها شهادة البلاء في المنازلة وان اردتها ممهورة باسمنا .. نعطيكها من الاعجاب في إطار
We'll come an' ‘ave a romp with you whenever you're inclined
وإن جنحت للتصاخب والمزاح .. فإننا نتوق منك طيب الوصل والجوار
We took our chanst among the Khyber ‘ills,
فقد أخذنا في تلال (خيبر) نصيبنا من القتال
The Boers knocked us silly at a mile,
وألحقت بنا يد (البوير) لطمة انكسار
The Burman give us Irriwaddy chills,
و(البورميون) أرعدوا أوصالنا من فزع
An' a Zulu impi-dished us up in style:
وعانينا من (الزولو) المتاعب الكبار
But all we ever got from such as they
Was pop to what the Fuzzy made us swaller;
ولكن صار كل هؤلاء في جوار (الفزي وزي) قصار ..
وكل هذه الحروب في القياس فرقعات بجانب الذي تجرعنا على يديه في المسار
We ‘eld our bloomin' own, the papers say,
تذيع الصحف عنا بأس جندنا
But man for man
لكنه في ساحة النزال واحد بواحد
us ‘oller knocked the Fuzzy
أذاقنا من بأسه مذلة اندحار
Then ‘ere's to you, Fuzzy, an' the missis and the kid;
لك الإكبار أنت والصبايا والصغار تحية نسوقها في قالب اعتذار
Our orders was to break you, an' of course we went an‘ did. قد كان سحقكم (أوامرا) علينا لا خيار
We sloshed you with Martinis,
وهذا ما فعلنا ..إذ جعلنا لحمكم نثار
بالمدفع (المارتيني) يقذف الدمار
an' it wasn't ‘ardly fair;
ولم يكن من الإنصاف شيئا هذا الإنتصار
But for all the odds agin' you, Fuzzy-Wuz,
فأنت رغم فارق الصراع بين شفرة ونار
You broke the square.
كسرت حائط المربع المنيع في اقتدار
‘E ‘asn't got no papers of ‘is own,
هذا المقاتل المهيب .. لا يحمل الوثائق الشخصية المميزة
'E 'asn't got no medals nor rewards,
وليس في إهابه وسام أو شعار
So we must certify the skill ‘e's shown In usin' of ‘is long two-‘anded swords:
لذا نعطيه ما استحق من شهادة .. على مهارة القتال والمناورة بسيفه الطويل ذي الحدين
When ‘e's ‘oppin' in an' out among the bush
في وثبة السباع في الإحراج تستثار
With ‘is coffin-‘eaded shield an' shovel-spear,
خلف درع أحدب كحافر الحصان ورمحه الجراف ماضيا لا يعرف العثار
An ‘appy day with Fuzzy on the rush
Will last an ‘ealthy Tommy for a year.
يختال (تومي) يوم دفع خصمه ..
يجتره مفاخرا مدار عام في انبهار
So ‘ere's to you, Fuzzy-Wuzzy, an' your friends which are no more,
تحية نزفها إليك .. والرفاق.. رفاقك الذين لم يعودوا بالديار
If we ‘adn't lost some messmates
لو لم نكن فقدنا بعض صحبنا على يديك
we would ‘elp you to deplore;
لو آسيناك في أحزانك الكبار
But give an' take's the gospel,
ولكن سنة الحياة الأخذ والعطاء
an' we'll call the bargain fair,
فلنقتسم جراحنا في صفقة الشجار
For if you ‘ave lost more than us,
لإن خسرت فوق ما خسرنا إنما ..
you crumpled up the square!
لأنك اخترقت صفنا المربع الجدار
‘E rushes at the smoke when we let drive,
An', before we know, ‘e's ‘ackin' at our ‘ead;
شجاعة نظل في نسيجها نحار ..
فحين نطلق النيران في ساحاته يداهم الدخان والشرار
وقبل ان نرى سقوط ظله .. نلقاه في الوريد منا قد انفذ الشفار
‘E's all ‘ot sand an' ginger when alive,
إن عاش فهو شعلة يزيدها صدى المعارك استعار
An' ‘e's generally shammin' when ‘e's dead.
وفي مماته- على الأعم- خادع لأنه يريك وجه ميت مستعار
‘E's a daisy, ‘e's a ducky, ‘e's a lamb!
‘E's a injia-rubber idiot on the spree,
كزهرة الربيع رائع في صفوه .. وفي انفعاله تهتاج سورة انتحار
وداعة الحملان في سكونها شظية انفجار
‘E's the on'y thing that doesn't give a damn
لم يحتفل بسطوة المشاة الإنجليز
For a Regiment o' British Infantree!
ولم يحرك الغزاة فيه غير نفرة احتقار
So ‘ere's to you, Fuzzy-Wuzzy, at your ‘ome in the Soudan;
لذا نزجي اليك مدحا في بلادك السودان
You're a pore benighted ‘eathen but a first-class fightin' man;
فأنت في الحياة معدم وجاهل ولكن في الحروب قمة الفخار
An' ‘ere's to you, Fuzzy-Wuzzy
نهديك ها هنا تحية يا أشعث الإهاب
with your ‘ayrick ‘ead of ‘air…
يا من حكى وعاء التبن رأسه الدهين بالغبار
You big black boundin' beggar-for for you broke a British square!
وأنت الأسود الوثاب الساغب الحشا
لأنك اقتحمت صف الانجليز في اقتدار

الاثنين، 28 أغسطس 2017

الخيال الجامح عند الشاعر أبي حية النميري

الخيال الجامح عند الشاعر أبي حية النميري

أحمد الجدع
أبو حية النميري، ينتمي إلى قبيلة نمير بن عامر وهي إحدى قبائل هوازن، وقبيلة هوازن من أعظم قبائل العرب النجدية، وتمتد منازلها من نجد حتى تحاذي الحجاز، بل إن مدينة الطائف الحجازية من مدن هوازن إذ هي مدينة ثقيف، وثقيف إحدى قبائل هوازن.
وكان النسابون العرب يقولون: إذا كاثرت فكاثر بهوازن، إشارة إلى كثرة  أعدادها وبالإضافة إلى نمير وثقيف فإن من قبائل هوازن: بني هلال الذين اشتهروا بالتغريبة الهلالية وامتد نفوذ هلال حتى الشمال الإفريقي، ومنهم بنو قشير الذين ينتمي إليهم الامام مسلم بن الحجاج صاحب صحيح مسلم.
فالشاعر أبو حية ينتمي إلى إحدى قبائل هوازن الشهيرة، وهي من جمرات العرب، وجمرات العرب هي القبائل التي اعتمدت على قوتها الذاتية في حروبها ولم تلجأ إلى التحالف مع غيرها من القبائل.
وأبو حية كنية الهيثم بن الربيع بن زرارة بن كثير بن خباب بن كعب بن مالك بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وهوازن إحدى قبائل قيس بن مضر العدنانية.
وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، أي أنه عاش العهدين الأموي والعباسي، ومن البديهي أنه عاش أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، وقيل إنه عاش حتى أدرك وفاة المنصور ، ثاني خلفاء بني العباس ، وأنه رثاه بشعره.
وقدر الزركلي  وفاته نحو 183هـ 800م، أما ولادته فلم يشر إليها أحد.
وأبو حية شاعر مجيد ،أثنى على شعره عدد من علماء الشعر، منهم صاحب الأغاني، فقد وصف شعره فقال:
(أبو حية شاعر مجيد مقدم ، كان فصيحاً مقصداً راجزاً (أي يقول القصيد والرجز).
وكان أبو عمرو بن العلاء عالم اللغة يقدمه.
وأكثر الأمير الأديب الشاعر أسامة بن منقذ من الاختيار من شعر أبي حية في كتابه، "المنازل والديار".
وأثنى الأصمعي على شعره ، وعده وسطاً في الشعر وقال: أبو حية النميري كالرجل الربعة، لا يعد طويلاً ولا قصيراً ، فالأصمعي يريد أن يقول بأن أبا حية لا يرتفع بشعره إلى طبقة الفحول ، ولا ينحط به إلى طبقة المتشاعرين.
وقل أن تجد كتاباً من كتب الأدب القديمة إلا وفيه اختيارات من شعر أبي حية ، وهذا يدل على نفاسة شعره وتقدمه.
ثم إن صاحب الأغاني يقول: أبو حية من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية وقد مدح الخلفاء فيهما جميعاً.
أقول: إذا كان الخلفاء يستمعون إلى شعر أبي حية ويجيزون مدائحه فإن في هذا تزكية لشعره.
ولكن أبا الفرج يتناقض تناقضاً عجيباً وهو يصف أبا حية بأنه "كان أهوج جباناً بخيلاً كذابا" ويردف قائلاً: "وكان معروفاً بذلك أجمع".
أي أنه كان معروفاً  بين الخاصة والعامة بالهوج والجبن والبخل والكذب!
أقول: كيف يستمع الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية إلى شعر رجل : أهوج ... جبان... بخيل..... كذاب!!
وقد كرر هذه الأوصاف بعد صاحب الأغاني عدد كبير ممن تناولوا حياة أبي حية وشعره ، دون أن يتوقفوا عند تناقض صاحب الأغاني، ودون أن يسائلوا أنفسهم : كيف يكون هذا الرجل شاعراً  مجوداً مقدماً بين الشعراء ، يستمع إليه الخلفاء ويجيزونه على شعره وفي الوقت نفسه يكون أهوج كذاباً! وجباناً بخيلاً! لقد جعلوا الرجل ملتاثاً في عقله ، جباناً في مواقفه، بخيلاً بماله، كذاباً في منطقة! وفي الوقت نفسه شاعراً مجوداً مقدماً يروون شعره الرائق البديع!
أريد أنا أن أرفع الحيف عن سيرة هذا الشاعر المبدع، فأتناول ما قاله صاحب الأغاني بالتحليل والنقد، وأنا لست مع تقديس الرجال المتقدمين من علماء الشعر واللغة والنقد، فآراؤهم يجب أن تخضع للنقد والتحليل، وأنا قد قرأت كتاب الأغاني أكثر من مرة فرأيت مؤلفة أبا الفرج يطعن في كثير من الرجال دون وجه حق ، ورأيته يعمد إلى تشويه صور الخلفاء والسادة من العرب حتى لاحظ ذلك كثير من الدارسين، فنسبوه إلى الشعوبية!
روى صاحب الأغاني أنه كان لأبي حية النميري سيف يسميه لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة فرق ...ثم بعد هذه المقدمة الطاعنة بالشاعر يقول:دخل كلب على أبي حية ليلاً، فظنه لصاً فانتضى سيفه لعاب المنية وقال: أيها المغتر بنا، المجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته ،اخرج بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيساً لا تقوم لها، وما قيس؟ ثملأ والله الفضاء خيلاً ورجْلاً، سبحان الله ، ما أكثرها وأطيبها.
ثم قال أبو الفرج : وبينما هو كذلك (أي أبو حية) إذ خرج الكلب، فقال أبو حية: الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفانا حربا !!
أقول: لي أكثر من تعليق على هذا النص:
الأول: أن الصياغة فيه متينة السبك، واضحة المعاني، عليها من ظلال البلاغة ما يكفي لتزكيتها بيانياً، فإن كان قائلها أبو حية فقد أجاد ، ولا أظن رجلاً ملتاثاً يأتي بمثلها.
الثاني: أن أبا الفرج عمد إلى إرسال إضاءة على النص قبل، إيراده وضع فيها المتلقي (القارئ) في حالة الاستعداد للحكم المسبق على الشاعر بالاضطراب العقلي، ثم إنه ختم النص بتأكيد هذا الحكم عندما أنطق الشاعر بكلمة ساخرة تستجلب الضحك: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حربا.
الثالث: أن هذا النص يدخل في باب القصة والأحدوثة، وهي قصة متماسكة – على قصرها – وتعطي صورة هزلية أكثر منها صورة جادة.
وقد ظهر نوع من القصص يطلقون على القصة منه: القصة القصيرة جداً، وهذا النص الذي بين أيدينا من هذا الباب، فإذا كان قائله أبو حية فهو قد سبق كل من ألف في القصة القصيرة جداً ،وكل من دعا إلى هذا النوع من القصص، وعلينا أن نسجل له هذا السبق!
وسوف نرى فيما يلي من هذه الدراسة أن لأبي حية سبقاً آخر في مجال الخيال المتقدم جداً والذي جمح فيه جموحاً بعيداً.
روى أبو الفرج خبرين أسندهما إلى أبي حية، ورأى أنهما دليلان آخران على لوثة أبي حية، وما أوردهما أبو الفرج إلا ليستخف بالشاعر وينسبه إلى الجنون.
قال أبو الفرج راوياً على لسان أبي حية: عن لي ظبيٌ يوماَ فرميته (بسهم)فراغ عن سهمي ، فعارضه السهم ، ثم راغ فعارضه السهم، فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه!
لا شك أن أبا حية حين كان يروي هذا الحدث لم يكن جاداً ، وإنما متخيلاً لصورة يتمنى أن تدخل في باب الحقيقة، وعلى بعد أبي حية الزمني من تاريخنا ( عاش أبو حية قبل ألف ومائتي عام) فإن خياله هذا أصبح اليوم متحققاً فيما يدعونه بالصواريخ الذكية التي تلاحق الهدف حتى تدركه وتصيبه!
إذن لم يكن أبو حية ملتاثاً حين حدث بهذا الحديث، بل كان ذكياً ذكاءً مفرطاً، وذا خيال بعيد الغور لم يستطع أن يجاريه فيه أبو الفرج ومن جاء بعده، وكل من كان مثل أبي حية ذكياً ذا خيال جامح سخر منه أهل زمانه.
ومن خيال أبي حية الجامح الذي أصبح اليوم حقيقة قوله: ( رميت والله ظبية، فلما نفذ سهمي عن القوس ذكرت بالظبية حبيبة لي، فعدوت خلف السهم حتى قبضت على قذذه قبل أن يدركها).
نعم تخيل أبو حية أنه يستطيع أن يوقف السهم المنطلق باللحاق به، فهو يحتاج إلى سرعة أكبر من سرعة السهم... ونحن الآن نملك هذه المقدرة، وربما ذكرنا هذا بالصواريخ التي تعترض الصواريخ الأخرى فتوقفها ... بل تسقطها.
خيالات أبي حية بالأمس أصبحت حقائق اليوم.
ولم يكن أبو حية بدعاً في الخيال، فقد عدّ النقاد في قديم الزمان بيت شعر للمهلهل بن ربيعة بأنه أكذب بيت شعر قالته العرب، وهو قوله:
ولولا الريح اسمع من بحجر        صليل البيض تقرع بالذكور
ذلك لأن المسافة بين "حجر " و"الذكور" بعيدة جداً.
ونحن اليوم نسمع أصوات الإذاعات على مسافات أبعد كثيراً من مسافة المهلهل ، بل غدونا نسمع الصوت ونرى مع الصوت الصورة ومن مسافات لم يكن أحد يتخيل أن تصلنا منها.
وفي بيت المهلهل أمر آخر هو إدراكه أن الريح ربما أعاقت السرعة .
وما دمنا في الحديث عن الخيال، والجامح منه بخاصة، فأحب أن أذكر أن مؤلف "ألف ليلة وليلة" أورد قصصاً خيالية جامحة ، بعيدة المدى، أصبحت حقائق بعد قرون من هذا الخيال، منها بساط الريح الذي تخيل الكاتب أن هذا البساط يطير بقوة الريح فوق المدن والناس، وتحقق هذا اليوم في الطائرات، بل إن الطائرات أبعد خيالاً من بساط الريح.
وأخرى من ألف ليلة وعلي بابا الذي اخترع كلمة السرّ (password) لفتح كهفه: افتح يا سمسم، وتحقق هذا الخيال الجامح في عهدنا بأكثر مما تخيله مؤلف علي بابا في ألف ليلة.
ومثل هذه الخيالات التي تحققت ما أورده جول فيرن في روايته عشرين ألف فرسخ تحت سطح البحر، فإن الآلة التي تخيلها للسفر تحت سطح الماء تحققت فيما بعد باختراع الغواصة!
إذن، لم يكن أبو حية في خياله ملتاثاً ولا كذاباً، بل إنه كان سابقاً لزمانه في خيالاته سبقاً بعيداً.
يحتاج أبو حية من الدارسين المعاصرين إعادة قراءة، ويحتاج إلى أن ننظر بالأحكام السابقة للنقاد القدامى نظرة جديدة، ولنا أن نقول نظرة معاصرة ، فقد أُطلقت تلك الأحكام في زمان مغرق في القدم، ونحن الأن نعيش زماناً غير الذي عاشوه!
بعد هذا البيان الذي أوردته دفاعاً عن أبي حية كإنسان آتاه الله موهبة خيالية واسعة ،وبعد أن بينت أن النقاد القدامى كانوا يقدمون شعره ويقدرونه، وبعد أن بينت أن شاعراً يستمع إلى شعره عدد من خلفاء بني أمية وبني العباس لا يمكن إلا أن يكون إنساناً عاقلاً سوياً ذكياً مبدعاً ، أحب أن أعرض نماذج من شعره الرائق البديع، مع التنوية بأن الدكتور يحيى الجبوري الباحث العراقي القدير قد جمع شعره وحققه ونشره في دمشق عام 1975 وأن هذا الجمع ربما احتاج إلى مزيد من البحث والتقصي فلربما وجدنا شعراً  لأبي حية في مصادر لم يطلع عليها أستاذنا الجبوري، وقد لاحظت أنا أن اختيارات الأمير أسامة بن منقذ من شعر أبي حية في كتابه" المنازل والديار "كانت مقتصرة على مطالع قصائد طوال ذكر فيها أبو حية المنازل والديار على عادة الشعراء العرب القدماء في ذلك.

قال: أبو حية(1):
رمته أناة من ربيعة عامر
فجاء كخوط  البان ، لا متتابع
فقلن لها سراً: فديناك لا يرح
فألقت قناعاً دونه الشمس، واتقت
وقالت، فلما أفرغت في فؤاده
فودَّ بجدع الأنف لو أن صحبه
نؤوم الضحى، في مأتم أي ّ مأتم
ولكن بسيما ذي وقارٍ وميسم
صحيحاً، وإن لم تقتليه فألممي
بأحسن موصولين؛ كفٍ ومعصم
وعينيه منها السحُر:قلن له قم
تنادوا وقالوا في المناخ له:نم
وقال (2):

أخو الشيب لا يدنو إلى الحور بالهوى
يعاطينه كأس السلوّ عن الهوى
ليقرب، إلا ازداد في قربه بعدا
ويمنعنه وصلاً يعاطينه المردا
وقال(3):

ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة
لبسن البلى مما لبسن اللياليا
تقاضاه شيء لا يملُّ التقاضيا
وقال أبو علي القالي في أماليه:أنشدنا أبو بكر الأنباري على أبي العباس المبرد لأبي حية النميري وأنا أسمع(4):

وخبرك الواشون أن لن أحبكم
أصدُّ ، وما الصد الذي تعلمينه،
حياءً وبقيا أن تشيع نميمه
وإن دماً لو تعلمين جنيته
أما إنه لو كان غيرك أرقلت
ولكنه والله ما طلَّ مسلماً
إذاهن ساقطن الأحاديث للفتى
رمين فأقصدن القلوب، ولن ترى
بلى، وستور الله ذات المحارم
عزاءً بكم، إلا اتباع العلاقم
بنا وبكم، أفٍ لأهل النمائم
على الحيّ، جاني مثله غير سالم
إليه القنا بالراعفات اللهازم
كغرّ الثنايا واضحات الملاغم
سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
دماً مائراً إلا جوىً في الحيازم
ومن شعره يمدح الخليفة المنصور، ويهجو بني حسن في قصيدة مطلعها(5):

عوجا نحيي ديار الحيّ بالسند
وهل بتلك الديار اليوم من أحد
ومنها:

أحين شيم فلم يترك لهم ترةً
سللتموه عليكم يا بني حسن
قد أصبحت لبني العباس صافيةً
وأصبحت كلهاة الليث في فمه
سيف تقلده الرئبال ذو اللبد
ما إن لكم من فلاح آخر الأبد
لجدع آناف أهل البغي والحسد
ومن يحاول شيئاً في فم الأسد
وله أيضاً (6):

رمتني وستر الله بيني وبينها
رميم التي قالت لجارات بيتها
ألا رب يومٍ لو رمتني رميتها
يرى الناس أني قد سلوت، وإنني
عشية آرام الكناس رميم
ضمنت لكن أن لا يزال يهيم
ولكن عهدي بالنضال قديم
لمرميّ أحناء الضلوع، سقيم
              
الهوامش :
([1]) الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر، محمود شكري الألوسي ص94 وهامشها.
(2) حماسة البحتري ص197.
(3) المنازل والديار ج1 ص 206 ، أسامة بن منقذ (488-584هـ) والكامل للمبرد ج1، ص128 وفي سمط اللآلي بيتان آخران إضافة إلى هذين البيتين.
(4) الأمالي ، أبو علي القالي ج2 ص284-285.
(5) الأغاني ، لأبي الفرج الأصفهاني ج16 ص334.
(6) البيان والتبيين للجاحظ ، ج1 ص90.