الجمعة، 28 ديسمبر 2018

تراجع الأدباء والمثقفين عن آرائهم.. ردة فكرية.. أم تكفيــر لخطيئة؟!!


تراجع الأدباء والمثقفين عن آرائهم.. ردة فكرية.. أم تكفيــر لخطيئة؟!!
 

محمد عبد العظيم - القاهرة

حين النظر إلى خارطة الفكر والأدب العربي نلحظ ظاهرة تحول الأدباء والمثقفين والمفكرين من فكر إلى فكر، أو من منهج إلى آخر... وقد يكون هذا التحوّل في الأسلوب، أو في المضمون، أو في التخصص، وقد يكون التحوّل جزئياً أو كلياً، صراحة أو ضمناً، وقد يكون التحول تحت ضغط ظروف سياسية، أو أحداث وأزمات معينة، وقد يكون التحول بحثا عن الحق والصواب، أو بحثاً عن الشهرة والدويّ الإعلامي، وكثير من المثقفين تحولوا مع تحوّل الأنظمة الحاكمة وتغير أوضاع الحكومات والأحزاب الجديدة، وربما يكون لهذا التحول أسبابه الأخرى.

والتحول عن الآراء والاتجاه لغيرها ليس أمراً جديداً فالشواهد على ذلك في كتب الأدب والتاريخ العربي أكثر من أن تحصى، ولكن هذا التحول يتضح في صورة جلية في القرن العشرين على وجه الخصوص، حيث أخذت قضية تحوّل المثقفين وانقلابهم الفكري مناحي متعددة، وزوايا عديدة، وأشكالا مختلفة، وأبعادا جديدة، ربما بسبب انتشار وسائل الإعلام الحديثة والمتطورة، وتقدم وسائل الطباعة والنشر، وظهور كثير من الأحزاب والنظريات والفلسفات والأيديولوجيات الوافدة والراكدة... إلخ. وأعجب ما في الأمر أن هؤلاء المثقفين - في القرن العشرين - قد غيروا آراءهم وأفكارهم التي نافحوا عنها بضراوة، وأشعلوا بسببها نيراناً مازال دخانها يسد الأفق، كما تحولوا عن آرائهم حول مفاهيم الأدب ومناهج النقد التي وضعوها.

شواهد ونماذج

وتقف الكثير من الشواهد التي سنعرض لها دليلاً دامغاً على هذه التحولات التي يبدو بعضها منطقياً بينما يفتقر الآخر منها للموضوعية، فمن بين هذه الشواهد يطل المفكر الإسلامي سيد قطب الذي استهل حياته من باب الأدب والشعر وقضى فيها شطراً كبيراً من حياته، لكنه نفض يديه من الشعر والأدب، واتجه اتجاها إسلامياً صرفاً، ووصف حياته الأولى بأنها ضرب من ضروب اللهو!. ثم انخرط بعد ذلك في ميدان العمل السياسي والإسلامي الذي صار بعد ذلك ركناً من أركانه، وواحداً من رموزه الأساسية.

لماذا تراجع طه حسين ؟

و يعد الدكتور طه حسين أنصع الأمثلة في ظاهرة التحولات فقد غيّر رأيه في دراسة الأدب، بعد أن دعا في كتابه (ذكرى أبي العلاء) إلى دراسة الأدب على أساس علمي محض، عاد بعد ثلاثة عشر عاماً في كتاب (الشعر الجاهلي) فقال: إن الأدب لا يستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي الخالص وحدها، ولابد من اعتماده على الذوق الخاص.. وتحول طه حسين كذلك عن نقده للمنفلوطي، كما تحول عن رأيه في شوقي، وتحول فكرياً وصحّح موقفه الشعبي بكتابه ''على هامش السيرة'' وبذلك حول أنظار الناس عن مفاهيمه في كتاب (الشعر الجاهلي) كما صححه سياسياً بالخروج من حزب الأحرار والانضمام إلى حزب الوفد.

كذلك بدأ الدكتور ''زكي مبارك'' حياته منبهراً بالثقافة الغربية وآراء المستشرقين، ثم ارتدّ عن سائر هذه الآراء، وأقلع عنها وصار يهاجمها بضراوة شديدة!.

ويعد '' لطفي السيد '' من أبرز المثقفين الذين تحولوا فكريا تحولاً كبيراً، وتراجع عن ماضيه، أو كما يقول عنه الأستاذ أنور الجندي: إن هذا الذي أسموه ''أستاذ الجيل'' قد خدع الجيل كله، بل خدع الأجيال حين قدم لها الأفكار الخاطئة التي عرضها في ''الجريدة'' سنة 1913 م مدافعا عن العامية، تكريساً للخطة الاستشراقية التبشيرية التي قاد زمامها (ويلكوكس، مولار).

كما كان معارضاً لفكرة التعليم العام، وقصر التعليم على أبناء الأعيان فقط، وكان كارهاً معارضاً للتضامن العربي والإسلامي وحائلاً دون قيام الجامعة الإسلامية، لدرجة أنه عارض بشدة مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الاستعمار الإيطالي سنة 1911 م، ونعرته الإقليمية بأن ''مصر للمصريين''.. هذا في الوقت الذي كان يمدح فيه اللورد كرومر الذي أذل المصريين ويقول عنه: ''إنه من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأمور''!!. وكانت سقطة ''أستاذ الجيل'' الكبرى هي وضع اسمه على مجهود العشرات من المترجمين المجهولين الذين قضوا سنوات في ترجمة ''أرسطو'' ثم نسب هذا العمل إليه، فكان بذلك من الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا !!

وحسبنا ما قاله عنه معاصره عباس العقاد: ''لطفي السيد هذا مثال للعجز والاسترخاء، لم يفلح في مجلة الشرائع ولا في النيابة ولا في المحاماة ولا في الجريدة التي أنفقوا عليها ثمانين ألف جنيه ولا في الوفد المصري ولا في المكتبة الملكية ولا في الجامعة المصرية ولا نراه يصلح في شيء إلا أن يجلس على كرسيه ويفتي باستحقاق الأمة تارة وبعدم استحقاقها تارة أخرى والسبب واحد في الحالتين''

والحقيقة أن ''لطفي السيد'' ندم ندماً شديدا على آرائه... فلما تولى رئاسة المجمع اللغوي راح ينافح عن الفصحى تكفيراً لأخطائه وخطاياه، بل هو الذي نصح الكاتبة ''مي زيادة'' بقراءة القرآن لتتعلم اللغة العربية الفصحى وتكتب بها بدلاً من الفرنسية، كما تراجع لطفي السيد عن سائر الآراء التي اعتنقها من قبل ونافح عنها على صفحات الجريدة.

شوقي ينحاز إلى الشعب !

أما أمير الشعراء ''أحمد شوقي'' فقد اعترف صراحة أن نقطة التحول الرئيسية في حياته تتمثل في نفيه من مصر إلى أسبانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وقال في ذلك لصديقه حافظ إبراهيم: '' أعترف لك - يا حافظ بك - أنني استفدتُ من تجربة المنفى استفادة كبرى، ما كنت أتوقعها، فرب ضارة نافعة، فبرغم فراق الأحبة واشتياقي المستمر إليكم، إلا أن هذه الغربة القسرية كانت بعيدة الأثر في تطور حياتي الأدبية والثقافية، فقد أُتيح لي خلال هذه السنوات الخمس التي قضيتها هناك أن أعكف على قراءة كتب الأدب العربي، وقد طالعتها حتى أكاد أقول إنه ليس في الأدب العربي كتاب لم أستوعبه خلال السنين الخمس التي مكثتها بأسبانيا، وتوفرت على رياضة ذهنية من ثمرات القرائح العربية منثورها ومنظومها وحصلت على ثروة لم أفز بها من قبل. كما جادت عليَّ فترة المنفى بشيءٍ آخر وهي تعلُّمي أبعاد الوطنية التي صارت الآن عندي هي أهم من كل شيء ، أهم من القصر بمن فيه وما فيه''.

فريد وجدي من الشك إلى اليقين

أما الفيلسوف الإسلامي ''محمد فريد وجدي'' فيرى أن حادث التحول في حياته هو حادث الشك في العقيدة الذي ساوره في مطالع الشباب، نتيجة لحيلولة والده دون مناقشته في مسائل الكون والخالق، فقد كان إذا تعرض لذلك أقفل باب المناقشة، وأمره ألا يخوض في المسائل الدينية، يقول: ''وهنا تزلزلت عقيدتي وشرع الشك يتسرب إلى نفسي''، غير أنه لم يلبث أن تناول بالقراءة والدرس جميع الكتب الدينية والكونية والاجتماعية وسائر ما يتعلق منها بعلم النفس، فيقول: ''ولقد أفادني الشك استقلالاً في التفكير واعتماداً على النفس ورغبة في استيعاب ما يقع تحت يدي من الكتب''.

حكاية صاحب '' العبقريات ''

ولا شك أن كتابات ''العقاد'' عن الإسلام وعبقريات الإسلام هي تحول خطير في اتجاهه لم يلبث أن تعمق واتسع وأصبح له طابع واضح، وصار علماً عليه، وقد أغرى هذا الإنجاز الفكري الكثيرين إلى احتذائه ونهجه من كُتّاب وأدباء الجيل الماضي، أمثال: محمد حسين هيكل، وطه حسين، وعبد الرحمن الشرقاوي، وخالد محمد خالد... وغيرهم.

ففي بادئ الأمر، حمل العقاد حملات عنيفة على أصحاب الاتجاه الإسلامي، ووصف كتاباتهم بأنها محاولة من الاستعمار لخداع الناس وصرفهم عن التحرير الوطني، غير أن العقاد بعد سنوات وفي أوائل الحرب العالمية بدأ يكتب (العبقريات) ويوغل في دراسة الرعيل الأول من العصر الإسلامي، وبهذا أورد نفسه في نفس المورد الذي هاجمه من قبل! .

وقيل إن ''العقاد'' اتجه إلى كتابة التراجم الإسلامية والعبقريات الإسلامية بخاصة، بعد أن استقال من حزب الوفد الذي يمثل الأغلبية الشعبية، إذْ أحس أنه خسر جماهيرياً فوجد بديلاً للسياسة في قلب الجماهير، وكان هذا البديل هو الدين، بل لقد كان الدين أقوى تأثيراً من السياسة على الجماهير في مصر والوطن العربي كله. ومن يومها بدأ العقاد يقدم عبقرياته الإسلامية المختلفة، ومن خلال هذه العبقريات وجد الحل المثالي لأزمته مع الجماهير التي تخلت عنه بعد خروجه من الوفد، وارتدت إليه بصورة مضاعفة عندما دخل حظيرة الإسلام.. فللكتابة الدينية مكانة لدى الجماهير فاقت مكانته الأولى أيام كان كاتب الشعب الأول في مرحلة ثورة 1919 الوطنية. وهناك من يرى أن اتجاه العقاد إنما جاء في ظل استفحال المادية وتوسع الدعوة إلى الشيوعية ، فجاءت كتاباته كوسيلة من وسائل مقاومة هذا الاتجاه.

تراجع خالد محمد خالد

والمفكر الراحل خالد محمد خالد بدأ بكتاب (من هنا نبدأ) داعيا فيه إلى فصل الدين عن السياسة تماماً، ولكنه انتهى إلى موقف واضح يدعم تماماً حق الإسلام كدين ينظم شئون الحياة، حكومة وشعباً.. وقد أوضح خالد محمد خالد، سبب تغير موقفه عندما قال في كتابه (الدولة في الإسلام): ''كان الخطأ في المنهج نفسه، فقد جعلت ما تأثرت به قراءاتي عن الحكومة الدينية في المسيحية، وما تأثرت به من تحول بعض الشباب المسلم من نُسّاك إلى قتلة، جعلت هذا وذاك (مصدر) تفكيري لا (موضع) تفكيري، وفارق كبير بين أن تجعل الحدث أو الشيء (مصدر) تفكيرك وبين أن تجعله (موضع) تفكيرك. فعندما يكون مصدر تفكيرك فإنه يقودك في طريقه هو لا في طريق الحقيقة، وتبصر نفسك - من حيث لا تشعر - مشدوداً إلى مقدمات وسائراً نحو نتائج لم يأخذ الاستقلال الفكري حظه في إمعان دراستها. أما حين يكون الشيء موضع تفكيرك المحايد والمستقل بكل اعتبارات القضية المدروسة دون أن يلزمك بحكم مسبق يتحرك الفكر داخل إطاره الحديدي الصارم فإن النتيجة تختلف حتما. إلى هذا السبب الجوهري أردُّ خطئي فيما أصدرته قديماً من حكم ضد الحكومة في الإسلام ، هذه التي أسميتها خطأ بالحكومة الدينية ''.

مصطفى محمود يهجر الماركسية

والدكتور ''مصطفى محمود'' من أشهر المفكرين العرب المعاصرين الذين تحولوا من فكر إلى فكر آخر، ومن القلائل الذين أحدثوا دوياً في عالم الكتابة، ربما بسبب موسوعيته الثقافية، أو بسبب تأثير مقالاته سواء في السياسة أو الفكر أو الأدب أو غير ذلك من المؤلفات العديدة التي أنتجها طيلة رحلته التي تمتد إلى أكثر من نصف قرن من الزمان.

ففي مرحلة الشباب والمراهقة الفكرية أو التي أسماها هو ''مرحلة الشك والإلحاد'' أصدر كتاباً بين فيه صراحة عن كفره وإلحاده، وبمجرد رجعته إلى الصواب أصدر كتابه الشهير (الماركسية والإسلام) الذي اعترف فيه بخطئه في حق الله وحق المجتمع وحق نفسه، وأعلن عن توبته عما اعتنقه من فكر ضال، وفلسفة شاذة، وفي هذا يقول: ''عندما كنت في بداية مراهقتي الأدبية والثقافية، استهوتني الألفاظ الطنانة الرنانة، فسرتُ خلفها مفتوناً بضع سنوات''

المفكرون المصريون والتحول نحو الإسلاميات

فعن هذه التحولات وأسبابها يقول المثقف زكي الميلاد: لا شك أن هذه الظاهرة شديدة الأهمية وجديرة بالتأمل وإعمال النظر, وقد خضعت في وقتها وإلى سنوات بعدها لتفسيرات وتأويلات حاولت فهمها وتكوين معرفة بها, وتحددت هذه المحاولات في اتجاهين رئيسين: الاتجاه الذي يركز على المنحى الذاتي, وهو إما يرتبط بتحولات فكرية ونفسية عميقة, كالذي حصل عند الدكتور محمد حسين هيكل, وإما ان يرتبط بتغيرات في طبيعة الاهتمامات الفكرية والبحثية من جهة اتجاهات الكتابة والتأليف, كما حصل عند عباس محمود العقاد. وهناك من يضيف تفسيراً آخر يربطه أصحابه بالدكتور طه حسين تحديداً, وذلك في محاولة منه لإعادة الاعتبار إلى ذاته, وتجاوز ذيول وبقايا المشكلة التي تفجرت سنة 1926م مع كتابه (في الشعر الجاهلي), وهي المشكلة التي أثرت على وضعه الاجتماعي والمهني والأكاديمي, فأراد أن يصحح وضعه حسب هذا الرأي, فاتجه نحو الكتابة في الإسلاميات.

أما الاتجاه الثاني فيركز على المنحى الموضوعي, والذي يتحدد حسب هذا الاتجاه في النشاطات التبشيرية وتزايد نفوذها في مصر, وحمايتها في ظل وجود الانتداب البريطاني على مصر, والترويج للكتابات الغربية والاستشراقية المعادية للإسلام ورسالته ونبيه. الوضع الذي أثار حفيظة المصريين والكتاب والمفكرين منهم بالذات, حيث اتجه بعضهم نحو الرد على تلك الكتابات بالتأليف في حقل الإسلاميات.

هذه التفسيرات لا نريد أن نتوقف عند مناقشتها بالموافقة أو المخالفة, النسبية أو التامة, لا لأنها تلامس الظاهرة في نطاق زمنها السابق فحسب, وإنما لتعاقب تلك الظاهرة في مصر وتجددها وانبعاثها في أزمنة متتالية, الأمر الذي يستدعي تفسيرات أكثر شمولية, فبعد سنة 1967م بدأت إرهاصات لتحولات جديدة في هذا الشأن, وتأكدت في سنة1970م, وترسخت وتنامت في الثمانينيات, وتواصلت إلى التسعينيات من القرن العشرين. فكان من هؤلاء الدكتور مصطفى محمود الذي وثق تجربته في كتابه (رحلتي من الشك إلى الإيمان), وأوقف نشر كتابين من مؤلفاته هما (الله والإنسان) وكتابه (إبليس), وتركزت كتاباته بعد ذلك حول قضايا العلم والإيمان الذي عرف ومازال يعرف بها.

المتحمسون للمشروع الإسلامي

ويضيف الميلاد فيقول: ومن هؤلاء أيضاً المفكر الاقتصادي عادل حسين صاحب كتاب (الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية), الكتاب الذي قال عنه جلال أمين (إن أي عالم اقتصاد يتمنى أن ينسب هذا الكتاب له), وأصبح عادل حسين فيما بعد من أكثر المتحمسين إلى المشروع الحضاري الإسلامي, وهو الاصطلاح الذي كان يردده كثيراً ويتمسك به بشدة. إلى الدكتور طارق البشري المفكر والمستشار القانوني المعروف الذي عكس خبرته ومعرفته القانونية المتميزة في كتاباته ومؤلفاته الإسلامية لاحقا, إلى الدكتور محمد عمارة أحد أكثر الكتاب العرب تأليفاً وتصنيفاً في الإسلاميات. وهكذا إلى الدكتور عبد الوهاب المسيري أستاذ الأدب الإنجليزي وصاحب أشهر موسوعة عربية حول اليهود واليهودية والصهيونية. وهؤلاء تحولوا من اليسار والماركسية إلى الإسلام.

وشملت هذه التحولات أيضاً رائد الوضعية المنطقية في العالم العربي الدكتور زكي نجيب محمود, كما أوضح ذلك في كتابه (رؤية إسلامية), الذي كتب بلغة دينية تعبدية غير معهودة على الإطلاق في كتابات زكي نجيب محمود التي تنزع نحو العلم والفلسفة والمنطق, كما شملت رائد الوجودية في العالم العربي الدكتور عبد الرحمن بدوي, الذي تحول في كتاباته باتجاه الرد على المستشرقين الأوروبيين وأصدر في هذا الصدد كتابين, الأول في الدفاع عن القرآن ضد منتقديه, والثاني في الدفاع عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم, وعن هذا التحول في اتجاهات بدوي صدر كتاب في القاهرة بعنوان (عبد الرحمن بدوي فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام), الدكتور بدوي الذي كان يتهم بالدفاع والترويج لأفكار المستشرقين يتحول إلى ناقد لهم وبطريقة عنيفة, حيث يصف كتاباتهم بالضلال والخداع والتعصب والحقد ضد الإسلام وكتابه المقدس ونبي الإسلام. لا شك أن هذه ظاهرة غير عادية بكل المقاييس, ولم تحصل بهذا الشكل في أي بلد عربي آخر, وتتأكد قيمتها لكونها حصلت في مصر, البلد الذي يتأثر كل العالم العربي بثقافته ومعارفه, وتتضاعف هذه القيمة بالنظر إلى نوعية هؤلاء الأشخاص وهم من قمة المفكرين, ليس على مستوى مصر فحسب, وإنما على مستوى العالم العربي. وبإجمال شديد, يمكن أن نفسر هذا التحول عند هؤلاء من خلال فلسفة العودة إلى الذات بعد الوصول إلى قمة عالية في الفكر والمعرفة!.

القرآن من الشك إلى اليقين

وفي نفس الصدد ركز المفكر الدكتور محمد عماره على الدكتور طه حسين بوصفه المثال الناصع لهذه التحولات حيث قال: لقد عمل طه حسين لعلمنة الاسلام مالم يعمله علي عبدالرزاق، حيث تخرج الرجل من الازهر ثم نهل من علوم الغرب وآدابه الامر الذي يجعله - امام الرأي العام- خبيراً بالحديث عن الاسلام. وجهود الرجل في علمنة الاسلام لا تقف فقط عند اسهاماته - بالمقالات- في الدفاع عن علي عبدالرزاق إبان المعركة الفكرية التي اثارها كتاب الاسلام واصول الحكم ولا عند اخضاعه القرآن الكريم ''وحي الله'' الممثل لعلمه المطلق والمحيط لمناهج الوضعية الغربية، التي تجعل من الواقع المحسوس المصدر الوحيد للحقيقة العلمية ومن العقل والحواس السبل الوحيدة المعتمدة لتحصيل حقائق العلم والمعرفة - وما عدا ذلك فميتافيزيقا وخيلات فنية، وايمان ديني، يمثل طوراً من اطوار العقل الانساني!.

لقد تعامل طه حسين مع القرآن - وهو الوحي- مصدر المعرفة الغيبية- التي لا يستقل العقل الانساني بادراكها - تعامل معه- بالشك الديكارتي- على انه نص من النصوص ومن هنا كان تشكيكه عندما كتب كتابه (في الشعر الجاهلي) سنة 1926م - في العام التالي لصدور (الاسلام واصول الحكم).

فالرجل قد عاد في العقود الاخيرة من حياته الفكرية الى الحديث عن تميز الامة العربية قمياً وسياسياً على النحو الذي يجعل لهذا التميز مدخلاً لوحدتها القومية.. فتراجع بهذا التطور عن اهماله السابق للغات والاجناس كمقوم من مقومات السياسة والوحدة السياسية.

ثم ان الرجل قد كان في حياته يعيد طبع ما ينفذ من كتبه حتى كتابه (في الشعر الجاهلي) بعد ان حذف منه السطور الثمانية والعشرين التي تشكك في قصة ابراهيم واسماعيل وغير عنوانه الى (في الادب الجاهلي) ووثقه واضاف اليه عدداً من الفصول كما انه لم يعد طبع كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) بل لقد سئل في سنة 1971م عن رأيه فيما تضمنه من آراء الجدل عند صدوره في سنة 1938م فقال عنه : (ده كتب سنة 1936م قُدم قوي، عاوز يتجدد... ويجب ان اعود اليه واصلح فيه بعض حاجات واضيف). فكانه يعلن تراجعه عن مافي هذا الكتاب من آراء مثيرة للجدل واولها هذا التأسيس لعلمنة الاسلام.

ولقد جاء في كتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر) ليفلس هذه المماثلة بين الاسلام والمسيحية بل لقد بين العقل المصري والشرقي المسلم وبين العقل الغربي اليوناني المسيحي وجاء ليقول: ان عقلنا يوناني التكوين لانه العقل الاوروبي مرده الى ثلاثة عناصر:حضارة اليونان،حضارة الرومان، المسيحية. وانه كما لم يغير الانجيل عندما تنصرت اوروبا من الطابع اليوناني للعقل الاوروبي فكذلك القران لم يغير من الطابع اليوناني للعقل الشرقي لان القرآن انما جاء متمماً ومصدقاً لما في الانجيل واذا صحت هذه المماثلة بل هذه الوحدة بين مكونات العقل الشرقي والعقل الغربي فكلاهما يوناني المكونات والتكوين وصحة المماثلة بين القرآن والانجيل والاسلام والمسيحية في الموقف من السياسة والدولة فان العلمانية التي هي طبيعية تماماً في ظل المسيحية نزع مالقيصر لقصير وما لله لله تكون طبيعية تماماً في ظل القرآن لا فارق بينه في هذه القضية وبين الانجيل. وكان هذا هو مدخل طه حسين لتأسيس القواعد التي لابد وان تثمر وتفرز تلقائياً مقولات العلمانية كثمرات طبيعية ومنطقية مع هذه الاسس والقواعد. ويضيف عمارة'' لقد كان طه حسين في هذه القضية التي هي اخطر ما في كتبه وكتابه هذا يقيم قواعد العمانية على اعمدة المماثلة بل والوحدة بين العقل الشرقي والعقل الغربي وهما برأيه عقل واحد في مكوناته اليونانية وتلك خرافة تراجع عنها مبتدعوها.

وبعد العلمانية التي جعلته يقول - سنة 1936م - : (ان السياسة شيء والدين شيء اخر وان نظام الحكم وتكوين الدول انما يقومان على المنافع الزمانية والعلمية.. وليس على الدين..)، بعد هذه العلمانية التي رأت القرآن مجرد (متمم ومصدق للإنجيل) وجدنا طه حسين في سنة 1953م واثناء مداولات غير علنية لا سلطان على المشاركين فيها لغير فكرهم الذي به يؤمنون وجدناه يطلب النص في الدستور على حاكميه النص القرآني على سائر القوانين.. ويقول: ان احترام الاسلام يقتضي احترامه جملة وتفصيلاً وذلك حتى (لا يكون الايمان ايماناً ببعض الكتاب وكفراً ببعض الاخر) وهكذا فقدت العلمانية بعد هجمتها في سنة 1925م واحداً من ابرز فرسانها.

منبر السياسة

ويضيف الدكتور عمارة : ها هو المنبر الذي كان يدافع عن فكر علي عبدالرازق - صحيفة السياسة- ورئيس تحريرها محمد حسين هيكل يعود هيكل ليقود معركة الدفاع عن علمنة الاسلام.. فينشر هيكل كتابه (حياة محمد) سنة 1935م ويتراجع فيه عن رأيه القديم - علمانية الاسلام- ويكتب في كتابه حياة محمد عن التطور والجديد الذي مثله الاسلام بعد الهجرة من مكة الى المدينة فيقول: (هنا بدأ طور جديد من اطوار محمد لم يسبقه اليه احد من الانبياء والرسل هنا يبدأ التطور السياسي، وهكذا عدل هيكل عن رأيه فلم يعد محمد صلى الله عليه وسلم في رأيه كالخالين قبله من الرسل وانما اصبح في رأي هيكل الرسول والسياسي والمجاهد والفاتح والتي يتزاوج في رسالته الدين والحضارة حتى لا انفصال بينهما.
 

الاثنين، 17 ديسمبر 2018

الرقابة اللادينية!

الرقابة اللادينية!

 
أ. د. محمد يحيى
 اعتاد العلمانيون في العالم العربي في السنوات الأخيرة على الشكوى المنتظمة، مما يسمونه بالرقابة الدينية المفروضة على الإبداع والفكر. ومحور هذه الشكوى هو أن الإسلاميين (وهم في عرف العلمانيين من الجهلاء والظلاميين وأعداء العقل إلى آخر هذه الاتهامات الجوفاء) لا ينفكون يطالبون بمنع الكتب والكتابات والأعمال الرئيسة التي لا تعجبهم بحجة أنها تخالف الدين.

والعلمانيون يعدون أنفسهم في هذه المعادلة على أنهم الطرف المظلوم المضطهد الذي يدافع باستماتة عن التغرير والعقلانية والتقدم والعلم. والموضوع بأسره هو ضرب من الدعاية الكاذبة التي عودنا العلمانيون والمتغربون عليها لتغطية مواقفهم القمعية والضاربة للإسلام، والتي هي بالفعل أكثر مما يحصل. ولكن يشاء الله في الفترة الأخيرة أن يفضح الجانب العلماني نفسه في تطور مثير للاهتمام حدث في مصر؛ فخلال شهر مايو ـ 2004م ـ أخذت بعض الكتابات العلمانية تبشر بقرب إنشاء ما وصف بـ (المرصد الإعلامي للمرأة) أو المرصد النسائي الذي تحدد هدفه الأساسي في المتابعة الدقيقة لما يكتب ويثار في الإعلام حول المرأة لاتخاذ موقف منه بالمنع أو التحذير أو حتى الترحيب إذا كان مما يتماشى مع المفاهيم التي يقول دعاة النسائية أو النسوية أنها تخدم مصالح المرأة حسب مفاهيمهم هم التي هي مفاهيم حركات المرأة في الغرب. والطريف أن المرشح لرئاسة أو توجيه هذا المرصد هو رجل (وليس امـرأة)، كمـا أنـه هـو أعلـى الأصـوات العلمانية الداعية ـ بحكم منصبه الثقافي ـ إلى ضرب الإسلاميين بحجة رئيسية هي أنهم يحبذون ويروجون للرقابة الدينية أو محاكم التفتيش كما يسميها.

وهذا المرصد ليس أكثر من مجرد هيئة للرقابة، أو محكمة لكن أحداً لم يعترض عليها؛ لأنها محكمة تفتيش علمانية، وليست دينية رغم عدم وجود مثل هذه المحاكم على الجانب الإسلامي لا في الحاضر ولا في الماضي؛ فكل ما يخالف الأفكار الضيقة والخاصة عن المرأة التي يقول العلمانيون والنسويون أنها هي الحق المطلق والأبدي، سوف يختفي من وسائل الإعلام ودور النشر وصفحات الصحف وكل وسائل النشر والإعلان؛ بحجة أنها فكر ظلامي بائد يتنافى مع معايير العصر والعقل والاستنارة والإصلاح. أما كل ما يخدم هذا الفكر الضيق الخاص بدءاً من دعوة الاسترجال للمرأة، ونهاية بالشذوذ النسائي مروراً بكل دعوات الشقاق والصراع بين الرجال والنساء وهموم الأسرة، وقلب أدوار المرأة ونزع أوضاعها في كنف الإسلام وشريعته، فهو مقبول ومرحب به، بل شجع عليه باعتباره يخدم قيم العقل والاستنارة.. إلخ.

إذن نحن أمام جهة رقابة على الفكر والضمائر والتوجهات في كل شيء إلا في الاسم؛ حيث زينت بلقب ـ على (الموضة) السائدة ـ وهو «المرصد». لكن هذه الرقابة لها نفس الوضع الكريه والأفعال الشنيعة التي كانت تُلصق بمحاكم التفتيش الكاثوليكية، بل تتفوق ـ على العكس ـ من الكاثوليكية أو غيرها، وهي فئة ترفع للدعاية شعارات الحرية والعقل والديموقراطية، لكنها الآن تمارس عكس هذه الدعاية، وتفرض الرقابة الخانقة على كل ما يخالف آراءها الضيقة.

ولا يخلو هذا الكلام من الدليل؛ فعندما عرض التلفزيون المصري منذ سنوات قليلة مسلسلاً يظهر فيه شخص مقترن بأربع نساء، ويحيا حياة سعيدة معهن ثارت ثائرة أدعياء الدفاع عن المرأة (بدون توكيل من النساء) وطالبوا وطالبن بمنع هذا المسلسل، وطاردوا مؤلفه وممثليه (ولا سيما القائم بدور البطل)، ووصلوا إلى حد التهديد بقطع أرزاقهم وإيقافهم عن التمثيل. حدث هذا لمجرد أن المسلسل يقوِّم مفهوماً لا يخالف الشريعة، بل يوافقها ويظهر حسناته حتى وهو يفعل ذلك في قالب من الفكاهة لا يحبذ أبداً تعدد الزوجات. وخلال هذا وقبله وبعده لا ينفك أتباع مدخل ما يسمى بـ (صورة المرأة) في ملاحقة واصطياد كل صورة أو دور تظهر فيه المرأة محجبة، أو زوجة محبة متفانية، أو أمّاً مضحية أو متدينة، ويصورون ذلك كله على أنه تكريس لدونية واضطهاد وقمع للمرأة، ويطالبون بمنع هذه الصور أو «النماذج السيئة» بزعمهم، وإحلال أخرى محلها تتمثل في النساء المسترجلات السافرات الإباحيات اللواتي هن في عرف هؤلاء نموذج المرأة المصرية.

أليس في كل هذه التوجهات قمع وكبت يتجاوز أي رقابة أخرى دينية كانت (وهي غير موجودة) أو غير دينية (وهي السائدة).؟


ومما يلقي بأقوى الضوء على هذا التأسيس الجديد لرقابة علمانية أو نسوية جديدة وشرسة، ما حدث في مصر نفسها وفي نفس أيام طرح مفهوم المرصد النسائي. ففي أواخر شهر مايو نفسه خرج الأزهر فجأة وبدون توقع وعلى خلاف التوجه السائد فيه وخارجه بمؤتمر صحفي أعلن فيه عن حظر كتاب صدر منذ عشرين سنة لكاتبة علمانية على أنه يحتوي طعناً جوهرياً في الإسلام.

وقبل أن يفيق الناس من هذه المفاجأة التي تتناقض مع مواقف مشهورة أخيرة لشيخ الأزهر ليس أقلها موقفه من قضية الحجاب في فرنسا، نشرت الصحف المصرية أن وزير العدل سوف يفعِّل قراراً بمنح سلطة الضبطية القضائية لأعضاء في مجمع البحوث الإسلامية فيما يتعلق بالكتابات التي تحتوي مساساً بالدين.

وهنا نسي العلمانيون مطلبهم الجديد بإنشاء رقابة لا دينية لصالح فكرهم، وراحوا وسط مطالبهم بالقمع والكبت لما يخالف الفكر النسوي يتحدثون عن الرقابة الدينية وتدخُّلِ المشايخ الظلاميين في الإبداع وسيادة الجهل والقمع.. إلخ.

وطبعاً لم يهتم أحد أو يلاحظ أحد من العلمانيين وحتى من غيرهم هذا التناقض الصارخ بين إنشاء هيئة لقمع الكتب من ناحية، والهجوم على ما يسمونه كذباً بالقمع والكبت الديني من ناحية أخرى.


ويبدو أن العلمانيين في خضم الوقوع في هذا التناقض نسوا أن الهدف الحقيقي من وراء الإعلان المفاجئ والسائر ضد التيار عن حظـر الكتاب وإرسـاء الضبطـية القضـائية لم يكن بأي حـال مراقـبة من يهاجمون الإسلام، بل على العكس مهـاجمة الإسـلاميين والكتاب الإسلاميين أنفسم عن طريق فـرض الرقـابة الحكوميـة علـى الفـكر الإسـلامي، وإرغـامه علـى السيـر في ركاب عملية ما يسـمى بتجـديد الخطـاب الديني (أي علمنته وتغريبه) برفع سيف الرقابة الأزهرية المزعومة على كل ما يكتب عن الإسلام من الجانب العلماني (بحجة أنه اجتهاد وتجديد) بينما تنزل بيد القمع على الكُتَّاب والمفكرين الصادقين (بحجة أنهم متطرفون متشددون يسيئون إلى صورة الإسلام).


نسي العلمانيون هذا الهدف الواضح من التحرك المفاجئ ظاهرياً، وأثاروا ضجة حول ما أسموه بـ (الرقابة الدينية). ولسوء حظهم فإن هذه الثورة من جانبهم أجبرت الجهات الرسمية على رد فعل دفاعي زعموا فيه أن الهدف من مسألة الضبطية القضائية هو الرقابة على طبع المصاحف وكتب الأحاديث فقط لضمان خلوها من الأخطاء المطبعية. وربما تكون هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يتسبب فيها العلمانيون في خدمة للإسلام بإجبار المسؤولين على إخفاء حقيقة الهدف من مسألة الضبطية القضائية. لكن هذا لا يخفي أبداً التناقض الصارخ بين دعاواهم عن الحرية وممارساتهم القمعية «المرصدية».

(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.
 

الجمعة، 2 نوفمبر 2018

قرنان على وعود بلفور!


قرنان على وعود بلفور
بحث وتجميع: د.إبراهيم حمامي
لحظة من فضلكم..... العنوان صحيح، وليس خطأ مطبعيا أو حسابيا، وأعلم أن تاريخ صدور الوعد المشؤوم هو 02/11/1917، ولكن هل هذا صحيح؟ ربما هذا ما نعرفه جميعا، ولكن ما إكتشفته عندما توجه أخي الذي يصغرني بسنوات ثلاث بطلب شخصي أن أكتب عن وعد بلفور، هو أن الوعد له قصة وتاريخ ومؤامرات لا حصر لها تعود بجذورها إلى الوراء أكثر مما نتصور جميعا، وما نعرفه لا يتجاوز ما نسمعه كل عام أن "اليوم تمر الذكرى كذا لصدور وعد بلفور"، وهو وللمفارقة لم يحدث هذا العام وكأن الوعد ألغي أو إنتهى أو لم يعد له وجود أو تأثير وهو ما يثير تساؤلات عدة حول محاولات طمس الحقائق وتزوير التاريخ و"إنساء" المحطات النضالية لشعبنا وتغيير المباديء، والتي صارت جميعها صفة وسمة واضحة لمن يدعون قيادة شعبنا.
حاولت أن يكون نشر هذا الموضوع يوم 02/11/2004 ولأقول كغيري "تمر اليوم الذكرى 87 لوعد بلفور"، ولكن ما أن بدأت في قراءة التفاصيل وما جمعته من معلومات وقصاصات وكتابات حتى تيقنت أن الموضوع سيأخذ أكثر مما كنت أظن، فالوعد المذكور هو وعود بدأت منذ القرن الثامن عشر وعلى شكل جرعات صغيرة متتالية ومتوالية لم تتوقف، ومن أطراف عدة ضمن مخطط غربي عالمي يصل لمستوى الحملة الصليبية المدروسة، وهذا ليس مبالغة أو تبني لنظرية المؤامرة كما سيتضح لاحقا، لكنه مخطط بنفس طويل جدا للوصول إلى الوعد الذي نعرفه، وبإعداد محكم في ظل تغييب لإرادة الشعوب في المنطقة.
لن أسترسل أكثر من ذلك وسأبدأ بالقصة، ولكن بشكل معكوس غير ما ألفناه، ستكون القصة لفترة ما قبل الوعد المشؤوم، والمؤامرات التي سبقته من قبل الجميع بمن فيهم أبناء جلدتنا، لينتهي السرد بدلا من أن يبدأ بإعلان يوم 02/11/1917، مع الشكر لأخي الذي جعلني أكتشف ضحالة ما أعرفه وجهلي بحقبة تاريخية هامة، بل ربما الأهم في تاريخ شعبي.
 
البدايات المعروفة:  صراع فرنسي- بريطاني
ترجع البدايات الأولى لفكرة إنشاء وطن خاص باليهود، يجمع شتاتهم ويكون حارسًا على مصالح دول (أوروبا) الاستعمارية في الشرق إلى ما قبل الحملة الفرنسية على مصر، وظهرت أولى العلامات في وعد "نابليون" بإنشاء دولة لليهود، وتصوروا أين؟ في فلسطين، حيث دعاهم "لإعادة بناء الهيكل بإعتبارهم ورثة إسرائيل الشرعيين!"، هذه الدعوة جاءت في شهر آذار/مارس من عام 1799 أي قبل أكثر من قرنين من الزمن وهو ما قصدته بالعنوان.
كان نابليون يحلم باقامة دولة تابعة له في فلسطين لتشكل شوكة في حلق غريمته انجلترا ولتصبح اداته في السيطرة على مصر وطرق المواصلات إلى الشرق، وبعد ان فشلت حملة نابليون إلى مصر عاد إلى اوروبا وحقق فيها انتصارات باهرة. وتألق تاج الامبراطورية على رأسه ولكنه ظل يحلم بمشروعه وخشي ان يستفيد الانجليز من فكرته ببناء دولة لليهود في فلسطين. ولكي يسد الطريق عليهم وانطلاقا من قانون المصلحة الاستعماري دعا في عام 1807 إلى اجتماع السانهدرن وهو المجلس الكهنوتي الاعلى لليهود في اوروبا. وجعل الكهنة يتخذون قرارا يعلنون فيه ان اليهود ينتمون إلى قوميات البلاد التي يعيشون فيها وان اليهودية هي دينهم فقط.
وقد وجدت هذه الدعوة صدى لها لدى كثير من اليهود، فقد كتب المفكر اليهودي (موسى هس) يقول: إن "فرنسا" لا تتمنى أكثر من أن ترى الطريق إلى "الهند" و"الصين" وقد سكنها شعب على أهبة الاستعداد لأن يتبعها حتى الموت.. فهل هناك أصلح من الشعب اليهودي لهذا الغرض؟!
 
لقد التقت المصالح الاستعمارية الاوروبية في انتزاع فلسطين من الوطن العربي مع المصالح الصهيونية بإقامة وطن قومي لليهود، بل إن قادة أوروبا هم الذين عرضوا على اليهود إقامة وطن لهم في فلسطين، قبل أن تطرح الحركة الصهيونية الفكرة بسنوات طويلة، وعلى الأخص من جانب فرنسا وبريطانيا في محاولة للتخلص من المشكلة اليهودية في أوروبا وتحقيق مكاسب استعمارية من الدولة اليهودية .
كان التنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا واضحاً في الشرق الأوسط، حتى قبل قيام الحركة الصهيونية، وكان هدف كل منهما حماية مصالحه في المنطقة، وملاحقة الدولة الأخرى من إجل إيذائها أو منافستها على تلك المصالح، وإيجاد الوسائل المختلفة التي تحمي مصالحها واعتقدت بريطانيا بعد فشل نابليون بونابرت في مصر وبلاد الشام، أنه من المفيد إيجاد بدائل اخرى في الشرق الأوسط، لاستمرار تفوقها على فرنسا. وقد وجدت في فلسطين مكاناً ملائماً لبسط نفوذها بسبب الموقع الجغرافي الذي تتمتع فيه وسط الوطن العربي وباعتبارها البوابة التي تربط بين أسيا وأفريقيا، ولهذا فإن من مصلحة الاستعمار الاوروبي والبريطاني بالذات، فصل الجزء الاسيوي عن الجزء الأفريقي من الوطن العربي، وخلق ظروف لا تسمح بتحقيق الوحدة بين الجزءين في المستقبل .
بدأ الموقف البريطاني يتضح بعد حملة محمد علي باشا والي مصر الى الشام، عندما أرسل ابنه ابراهيم باشا الى المنطقة، مما أثار بريطانيا لأنها خشيت أن تتوحد مصر مع بلاد الشام في دولة واحدة، لهذا ساهمت بريطانيا مع الدولة العثمانية في إفشال حملة ابراهيم باشا على بلاد الشام .
وبعد تدخل بريطانيا، أرسل بالمرستون رئيس وزراء بريطانيا مذكرة إلى سفيره في استانبول في عام 1840، شرح فيها الفوائد التي سوف يحصل عليها السلطان العثماني من تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين وقال :« إن عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين بدعوة من السلطان وتحت حمايته يشكل سداً في وجه مخططات شريرية يعدها محمد علي أو من يخلفه » .
وفي مارس / آذار 1840 وجه البارون اليهودي روتشيليد خطاباً إلى بالمرستون قال فيه : «إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين لأن هناك قوة جذب بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهون بإمكانيات اتصالهم واتحادهم، إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض، فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر وبين العرب في آسيا. وكانت فلسطين دائماً بوابة على الشرق. والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر في هذه البوابة، لتكون هذه القوة بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه، وإن الهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، وليست تلك خدمة لليهود يعودون بها إلى أرض الميعاد مصداقاً للعهد القديم، ولكنها أيضاً خدمة للامبراطورية البريطانية ومخططاتها، فليس مما يخدم الامبراطورية أن تتكرر تجربة محمد علي سواء بقيام دولة قوية في مصر أو بقيام الاتصال بين مصر والعرب الآخرين».
ذهبت احلام نابليون ادراج الرياح، وإصطدمت طموحات بالمرستون بالواقع، ذلك لان اليهود انفسهم لم يكونوا معنيين ولا راغبين بما يطرح عليهم، فلقد كانت حركة الاندماج اليهودية (هسكلاة) في اوج نشاطها وكان مجرد دعوتهم لمغادرة اوطانهم ليذهبوا إلى بلاد اخرى لا تربطهم بها اية مصالح يضربهم كمواطنين في البلاد التي ينتمون اليها.
إلا أن الفكرة لم تمت، ولم يستسلم خلفاء بالمرستون خاصة بعد افتتاح قناة السويس فعادوا للتمسك بمخططهم الصهيوني الاستعماري والدعوة لتوطين اليهود في فلسطين. ولقد تمكن ديزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا من شراء حصة الخديوي من قناة السويس عام 1875 وكان ديزرائيلي ووزير خارجيته اللورد سالزبري يتبنيان مشروع بالمرستون فشجعا اللورد لورنس اوليقانت بالتفاوض مع الحكومة العثمانية حول ارض يمكن لليهود استيطانها، ولكن الاحداث تلاحقت ففي عام 1880 فاز حزب الاحرار في الانتخابات وتولى غلادستون محل ديزرائيلي، وبحث الصهاينة اليهود عن صهاينة بريطانيا امثال (بالمرستون وشافنسري وديزرائيلي وسالزبري)… فلم يجدوهم!
 
الدور الأمريكي:
قد يستغرب القاريء وجود دور أمريكي في سياق الحديث عن "وعد أو وعود بلفور" ولكن الحقيقة أن الجميع تآمر، ويمكن تلخيص الدور الأمريكي في النقاط التالية:
        لقد كان المهاجرون البروتستانت الأوائل إلى أمريكا يؤدون صلواتهم باللغة العبرية ، ويطلقون على أبنائهم وبناتهم أسماء أنبياء ، وأبناء وبنات بني إسرائيل ، الوارد ذكرهم في التوراة ، كما قاموا بفرض تعليم اللغة العبرية في مدارسهم، حيث شبهوا خروجهم من أوربا إلى أمريكا ، بخروج اليهود أيام موسى عليه السلام ، من مصر إلى فلسطين ، حيث نظروا إلى أمريكا على أنها (بلاد كنعان الجديدة) أي فلسطين ، ونظروا أيضاً إلى الهنود الحمر وهم سكان أمريكا الأصليين – على أنهم الكنعانيون العرب ، وهم سكان فلسطين الأصليين!
- وعندما أسسوا جامعة (هارفارد) عام 1636م كانت اللغة العبرية هي اللغة الرسمية للدراسة في الجامعة ، وفي عام 1642م نوقشت أول رسالة دكتوراه في جامعة (هارفارد) وكان عنوانها (اللغة العبرية هي اللغة الأم).
- قامت أمريكا في عام 1844م بفتح أول قنصلية لها في القدس ، وهناك بدأت تقارير القنصل الأمريكي تتوالى على رؤسائه ، وقد كانت تتمحور حول ضرورة التعجيل في جعل فلسطين وطناً لليهود
- وفي عام 1891م قام أحد أبرز زعماء الصهيونية المسيحية في ذلك الوقت ، وهو القس (ويليام بلاكستون) بعد عودته من فلسطين برفع عريضة إلى الرئيس الأمريكي (بنيامين هاريسون) دعاه فيها إلى الاقتداء بالإمبراطور الفارسي ( قورش) الذي أعاد اليهود من السبي البابلي إلى فلسطين
- كذلك قام القس (بلاكستون) بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني اليهودي الأول عام (1897م) بتوجيه انتقاده إلى زعيم المؤتمر ( تيودور هرتزل) لأنه وجد منه تساهلاً في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين
هذه كانت أهم نقاط التوجه الأمريكي في مجتمع ودولة ناشئة، وبالتأكيد لم ينته الأمر هنا ولكن لنا عودة للموقف الأمريكي لاحقا.
 
الدور الروسي - الألماني:
وفي مواجهة دعاة الهجرة إلى امريكا من اليهود والذين كانوا يعتبرونها اورشليمهم ويعتبرون واشنطن بمثابة ارض صهيون. سعى هرتزل إلى التقرب من الامبراطور غليوم لدعم مشروعه وقد تحقق له اللقاء على رأس وفد صهيوني مع الامبراطور في مدينة القدس التي كان الامبراطور يزورها عام 1898. وقد اكد الامبراطور للوفد الصهيوني بان "المساعي الصهيونية في فلسطين التي تحترم سيادة حليفته تركيا تستطيع ان تعتمد على رعايته الكاملة" وقد ترجم الامبراطور وعده بهذه الرعاية بتوثيق العلاقة بين المستوطنين والصهاينة والمستوطنين الالمان من جماعة هوفمان الذين بدأوا عام 1870 بانشاء مستعمرات زراعية المانية في القدس وحيفا ويافا تنفيذا لمشروع القائد العسكري الالماني "مولتكه" بجعل فلسطين مستعمرة المانية.
 
وفي عام 1881 وقعت المذابح المعادية لليهود في روسيا اثر اغتيال القيصر. وقد نتج عن هذه المذابح هجرة واسعة من يهود روسيا إلى اوروبا الشرقية والغربية مما اسرع في انهيار حركة الاندماج كما ان صدور قوانين ايار في روسيا عام 1882 والتي تضيق الخناق على حياة اليهود زادت في هذه الهجرة. وتشكلت مراكز يهودية متبنية دعوة ليوبنسكر في كتابه (التحرر الذاتي) وظهرت منظمة احباء صهيون في أوكرانيا، الداعية إلى الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها.
حاول الصهاينة الألمان إدخال أطروحتهم القومية معلنين أنهم:
"مرتبطين سوية بانحدارهم وتاريخهم المشترك يؤلف يهود كافة الأقطار جماعة قومية. وهذا الاعتقاد لا يناقض بحال من الأحوال مشاعرهم الوطنية النشيطة وقيامهم بواجبات المواطنة وخاصة تلك التي يشعر بها اليهود الألمان حيال وطنهم الأم ألمانيا"
لقد كان مقر المنظمة الصهيونية في وقت اندلاع الحرب العالمية الأولى في برلين. وحاول قادتها، وجلهم من الصهاينة الموالين لألمانيا، أن يسخروها خدمة لأغراضهم ومطامعهم.
 
الموقف العثماني:
حاول الحركيون اليهود بزعامة هرتزل - بدعم أوروبي شاركت فيه آنذاك ألمانيا وبريطانيا - الضغط على الخلافة العثمانية لانتزاع ميثاق من السلطان عبد الحميد الثاني يمنح اليهود حق الإستيطان في فلسطين والسماح بهجرتهم إليها، غير أن السلطان العثماني رفض الضغوط الأوروبية وإغراءات اليهود .
وفي الفترة بين عامي 1900- 1901 أصدر السلطان عبد الحميد بلاغاً يمنع المسافرين اليهود من الإقامة في فلسطين لأكثر من ثلاثة أشهر، كما أمر بمنع اليهود من شراء أي أرض في فلسطين، خشية أن تتحول هذه الأراضي إلى قاعدة لهم تمكنهم من سلخ فلسطين عن بقية الجسد المسلم .
وفي عام 1902 تقدم اليهود بعرض مغر للسلطان عبد الحميد يتعهد بموجبه أثرياء اليهود بوفاء جميع ديون الدولة العثمانية وبناء أسطول لحمايتها، وتقديم قرض بـ(35) مليون ليرة ذهبية لخزينة الدولة العثمانية المنهكة، إلا أن السلطان رفض العروض وكان رده كما جاء في مذكرات ثيودور هرتزل: (انصحوا الدكتور هرتزل ألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع، لأني لا استطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الارض، فهي ليست ملك يميني بل ملك شعبي، لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الارض ورواها بدمائه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت امبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من الامبراطورية الاسلامية، وهذا أمر لا يكون، فأنا لا استطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة .. ).
وعندما أيقن اليهود بفشل جميع المحاولات الممكنة بدأوا بالعمل على إسقاط الخلافة العثمانية، حيث استطاعوا التسرب عن طريق طائفة يهود الدونمة التي تظاهر أفرادها بالإسلام وحملوا الأسماء التركية، ودخلوا في جميعة "الاتحاد والترقي" ووصلوا الى الحكم سنة 1907، وتصاعد النشاط الصهيوني في فلسطين بدعم من أنصار الاتحاد والترقي ويهود الدونمة الذين سيطروا على مقاليد السلطة في الاستانة حيث سمح الحاكم العثماني الجديد لليهود بالهجرة إلى فلسطين وشراء الأراضي فيها، مما فتح الباب أمام المنظمات الصهيونية للبدء بالنشاط العملي على نطاق واسع حتى سقطت الخلافة رسمياً سنة ( 1924).
 
في المقابل: الدور العربي
 
كان العرب وقبل صدور الوعد مباشرة مشغولون في قتال الدولة العثمانية/تركيا تحت مسمى الثورة العربية فتحالفوا مع بريطانيا تحديدا من أجل هذا الغرض، ومارست بريطانيا بدورها سياسات الخداع والمراوغة والوعود البراقة بالإستقلال والحرية والإنعتاق التي لم يتحقق منها شيء.
أما بخصوص ما نحن فيه فقد كان الناطق العربي الوحيد الذي له شأن وسلطة فيصل بين الحسين الذي قدم احتجاجاته بإلحاح، وقد نفض أولاً يديه، في رسالة رسمية إلى الحكومة البريطانية، بعد تسرب معلومات من مصادر يهودية بأنه "أقر" لهم بسياسة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقال في رسالته:"إن كل ما اعترفت به هو أن أؤمن حقوق اليهود في تلك البلاد بالقدر الذي أؤمن به حقوق السكان العرب المحليين". وجلب الانتباه إلى معارضة سكان عرب فلسطين القوية، وأكد وجهة النظر العربية بأن فلسطين هي ضمن المناطق التي وعدت بريطانيا بمنحها الاستقلال وعبر عن ثقته بأن ذلك الوعد البريطاني لا يلغيه وعد لاحق للصهيونيين. وأضاف أن والده (الشريف حسين) مخول، حتى بمقتضى اتفاقية سايكس – بيكو، أن يؤخذ رأيه بصدد مستقبل فلسطين، لكنه، ومما يثير للدهشة، لم يشر إلى الرسالة البريطانية إلى والده التي تلقاها بواسطة "هوغارت" والتي جعلت الوعد لليهود خاضعاً لحرية عرب فلسطين السياسية والاقتصادية. وختم فيصل رسالته قائلاً: إذا ما أمكن الإبقاء على وحدة سوريا وفلسطين، "فبوسعنا أن نتوصل إلى حل يؤمن مصالح جميع من يهمهم الأمر" .
أما الشريف حسين فقد غرق حتى أذنيه في الوعود والمراسلات التي عرفت بمراسلات "حسين-مكماهون" في تشرين أول/أكتوبر 1915 والتي إستطاعت بريطانيا من خلالها تخديره ومن معه حتى تطبيق المخطط الرهيب.
في المقابل، يلاحظ أن الفلسطينيين، وبعكس معسكر الشريف حسين، في تلك الفترة كانوا يصرون على اعتبار فلسطين جزءاً من سورية الكبرى، ويرفضون تجزئة النضال، أو طرح مطالب إقليمية خاصة بهم، على الرغم من خصوصية قضيتهم لاختلاف الخطر عليهم عن بقية أبناء سورية الكبرى حيث إنهم كانوا مهددين بالهجرة اليهودية إلى بلادهم، بينما كانت بقية الأقطار العربية تعاني من الاستعمار البريطاني او الفرنسي من دون أن تشكل الهجرة اليهودية أي تهديد ضدها.
لكن كيف إستطاعت الحركة الصهيونية بلورة المشروع الإستيطاني؟ وما هي الخطوات التي أوصلتها لإنتزاع وعد بلفور المشؤوم وما ترتب عليه؟ هذا ما ستشرحه النقاط السريعة التالية:
        رغم أن جذور إنشاء وطن لليهود سبقت بعقود الحركة الصهيونية إلا أن بدايات تنفيذ المشروع لم تتبلور إلا بهذه الحركة العنصرية الإستيطانية، والتي لم تترك بابا إلا طرقته ومشت حسب برنامج واضح وبخطوات سنوية محددة لم تخلو من الخلافات والنزاعات التي كانت تصب أساسا حول التطرف وسرعة تحقيق "الحلم" الصهيوني.
        الحركة الصهيونية، كجسم سياسي منظم، هي من صنع تيودور هيرتزل (1860 ـ 1904)، اليهودي المجري، الذي نشر في سنة 1896 كتابه "دولة اليهود" ، وعرض فيه مفهومه لجذور "المسألة اليهودية"، وبالتالي وجهة نظره في حلها، عبر انشاء "امة يهودية" مستقلة، على ارض تمتلكها. والمنظمة التي اسسها في المؤتمر الصهيوني الاول (بازل،1897) كانت من اجل تحقيق ذلك الهدف، ومن خلالها تحرك هيرتسل بين الجوالي اليهودية، كما على الساحة السياسية الدولية، داعياً الى مشروعه، كما بينّا سابقا،  بينما يقر في مذكراته بانه "يدير شؤون اليهود من دون تفويض منهم، لكنهمسؤول ازاءَهم عما يعمل." وفي المحصلة، فانه رأى في المسألة اليهودية قضية دولية، وعليه، يجب حلها في هذا الاطار، ومن على منبر السياسة الدولية. وادعى ان مسألة اليهود في العالم تخص جميع شعوبه، وبالتالي فعلى الامم المساهمة في حلها، وواجبه هو وضع المسألة في جدول أعمال السياسة الدولية، الامر الذي يستلزم اقامة هيئة منظمة لذلك الغرض.
        المؤتمر الصهيوني الأول عقد في مدينة بازل أيام 29 ـ 31 آب / أغسطس 1897، بحضور 204 مندوبين "ثلثهم من روسيا"، ومنه انطلقت الصهيونية السياسية وخرجت الفكرة الإستيطانية إلى حيز التنفيذ.
        المؤتمر الثاني: عقد هذا المؤتمر في بازل ايضاً ايام 28 ـ 31 آب/ أغسطس1898، وحضره 349 مندوباً، يمثلون 913 اتحاداً صهيونياً محلياً. قرر المؤتمر تأسيس صندوق الاستيطان اليهودي كما أعيد انتخاب هيرتزل رئيساً للمنظمة، ونوردو نائباً له، و تقرر ان يتمثل كل 400 عضو في اتحاد صهيوني، يدفعون الشيكل، بمندوب واحد الى المؤتمر الثالث، بدلاً من كل 100 عضو للمندوب الى المؤتمر الثاني. كا أسست في هذا المؤتمر "جمعية التخاطب باللغة العبرية".
        المؤتمر الثالث: عقد في بازل ايضاً ايام 15 ـ 18 آب/ اغسطس1899، وافتتح هيرتزل المؤتمر بتقرير عن لقاءاته مع قيصر المانيا، فيلهِلْم الثاني في القسطنطينية (8تشرين الاول/أكتوبر 1898) ثم في القدس (2 تشرين الثاني/نوفمبر1898). اتخذ المؤتمر قراراً بمنع استعمال اموال الصندوق لعمليات خارج فلسطين وسورية، كما اقر عدداً من الانظمة الداخلية المتعلقة بالجهاز الاداري، وتقسيم العمل بين هيئات المنظمة.
        توالت بعدها المؤتمرات واللقاءات وفي كل سنة كانت المنظمة الصهيونية تسجل إنجازا جديدا نحو تحقيق الهدف بإنشاء وطن قومي لليهود حتى افتخر زملاء هرتسل وتلامذته بأن إنجاز الزعيم الصهيوني تلخص في أنه "جعل الصهيونية عاملاً سياسياً تقر به دول العالم (الكبرى) وتبجح ماكس نوردو زميل هرتسل الأقرب في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني السادس (بال- 24 آب/ أغسطس 1903) بأن أربع دول هي أعظمها وتسيطر على الكرة الأرضية أعربت عن عطفها إن لم يكن على الشعب اليهودي فعلى الأقل على الحركة الصهيونية، الإمراطورية الألمانية أعربت عن عطفها.. بريطانيا قرنت عطفها بالاستعداد العملي لتساعد الصهيونية.. الحكومة الروسية (القيصرية) أعلنت خططها لمساعدتنا... والولايات المتحدة اتخذت خطوات دبلوماسية توحي بالأمل بأنها ستكون عطوفة حين يحين الوقت.
        لم يتوقف دور المنظمة الصهيونية بعد موت هرتزل بل إستمر بنفس الوتيرة ولنفس الهدف وبعد اتفاقية سايكس - بيكو (1916) التي حصلت فرنسا بموجبها على أجزاء من سوريا وجنوب الأناضول وعلى منطقة الموصل في العراق (لونت باللون الازرق)، وحصلت بريطانيا على أراضي جنوب سوريا إلى العراق شاملة بغداد والبصرة والمناطق الواقعة بين الخليج العربي والأراضي الممنوحة لفرنسا وميناءي عكا وحيفا (لونت باللون الأحمر) ، أما بقية مناطق فلسطين فقد لونت باللون البني، واتفق على أن تكون دولية. في أعقاب تلك الاتفاقية عمد قادة الحركة الصهيونية وعلى رأسهم اللورد روتشيلد وحاييم وايزمان لاجراء اتصالات مع بريطانيا أدت إلى إصدار وعد بلفور، وكان من الأسباب التي دفعت بريطانيا للموافقة على الوعد هو أن تكون الدولة اليهودية خط الدفاع الأول عن قناة السويس واستمرار تجزئة الوطن العربي.
إستمرت الضغوطات الصهيونية والمؤامرات الدولية دون توقف ومرت بعدة مراحل تمهيدا لصدور وعد بلفور المشؤوم وبمشاركة الجميع كما سبق وأوضحنا حسب تسلسل للأحداث سريع ومتلاحق في ظل غياب بل غيبوبة عربية وإسلامية، وكان الدور البريطاني في هذه المؤامرة حاسما بدعم وتأييد من الآخرين:
 
 
        ما إن وضعت الحرب تركة الإمبراطورية التركية على جدول الأعمال حتى تقدم هربرت صموئيل الذي اشترك في الوزارة البريطانية في هذه الفترة وكان أول مندوب سام بريطاني في فلسطين فيما بعد بمشروع يقوم على ضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية وزرع ثلاثة أو أربعة ملايين يهودي فيها وبذلك يتحقق حلف بين الفريقين يخدم مصالح بريطانيا
        وفي هذا الوقت بالذات في نهاية عام 1914 ومطلع عام 1915 كان حاييم وايزمن يكتب لأحد أساطين الإمبرياليين س.ب. سكوت محرر مانشستر غارديان: "في حالة وقوع فلسطين في دائرة النفوذ البريطاني وفي حالة تشجيع بريطانيا استيطان اليهود هناك.. فستستطيع خلال عشرين أو ثلاثين سنة من نقل مليون يهودي أو أكثر إليها فيطورون البلاد ويشكلون حارساً فعالاً يحمي قناة السويس" (كتابه التجربة والخطأ طبعة نيويورك شوكن 1966 ص 149).
        كتب رئيس وزراء بريطانيا هربت اسكويث في كتابه "شكريات وتأملات 1852-1928" تحت التاريخين 28 كانون الثاني/ يناير و 13 آذار/ مارس 1915 يصف بعض ملامح مشروع هربرت صموئيل ولاحظ أن "الغريب في الأمر أن يكون نصير المشروع الوحيد الآخر (في الوزارة) لويد جورج ولا حاجة بي للقول انه (لويد جورج) لا يهتم بالمرة باليهود، لا بماهيتهم ولا بمستقبلهم ولكنه يعتقد أنه من انتهاك الحرمة السماح بانتقال الأماكن المقدسة (في فلسطين) إلى حوزة أو حماية "فرنسا اللا إدارية الملحدة" (الجزء 2 ص 71 و 78). لقد تعلم الإمبرياليون منذ وقت طويل تغليف مطامعهم بغلافات الحماس الديني والقلق على مصيره. فلويد جورج، وفي عهد رئاسته الوزارة صدر وعد بلفور. كان في هذا الوقت المبكر من الحرب يرى فائدة العامل الصهيوني في ضم فلسطين للإمبراطورية البريطانية بشكل من الأشكال. وفي سبيل ذلك كان مستعداً أن "يمنح الأماكن المقدسة لليهود" حماية لها من "فرنسا اللا إدارية الملحدة"!!
        كما كتب لويد جورج الذي رأس الوزارة البريطانية في الفترة الأخيرة من الحرب وبعدها في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" (لندن 1938 المجلد الثاني ص 1115): ان نوايا الدول الحليفة بشأن فلسطين حتى عام 1916 جسدها اتفاق سايكس- بيكو بموجبه "كانت البلاد ستشوه وتمزق إلى أقسام لا تبقى هناك فلسطين".
        كان وزير الخارجية البريطانية عام 1917 من أكثر المتحمسين للفكرة الصهيونية وحاول إقناع أعضاء الحكومة في إجتماعهم يوم 04/10/1917 بأن يهود روسيا وفرنسا يدعمون فكرته بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين معتمدا على تقارير من الصهاينة المقيميين في لندن ومتجاهلا التقارير الرسمية من مندوبي وسفراء الحكومة في مواقع الحدث.
        وفي اجتماع الوزارة البريطانية بتاريخ 31 تشرين الأول/ أكتوبر أوضح بلفور نفسه ما يفهمه من التعبير "وطن قومي يهودي". يعني شكلاً من أشكال الحماية البريطانية أو الأمريكية أو غيرهما ستتوفر لليهود في ظلها مرافق وتسهيلات كافية تتيح له بناء مقومات خلاصهم الذاتي فيرسون بالمؤسسات التربوية والصناعية قواعد مركز حقيقي للثقافة  القومية وموئلاً للحياة القومية، وهو لا ينطوي بالضرورة على تأسيس دولة يهودية مستقلة في أمد قريب، إذ يتوقف هذا الأمر على التطور التدريجي وفقاً لسنة التطور السياسي المعهودة" .
 
 
هذه بإختصار مراحل الوصول لوعد بلفور الذي نسمه به كل عام في مثل هذا الوقت ولم نقرأ أو نسمع يوما عن الأحداث والمؤامرات التي أوصلتنا إليه. لكن يبقى السؤال: هل إنتهت المؤامرة بصدور القرار أو الوعد؟ الإجابة بكل تأكيد لا، ورغم أن الموضوع كان من المفترض أن ينتهي بحلول يوم 02/11/1917 إلا أنني أستميح القاريء عذرا لأستمر قليلا في الفترة التي تلت الإعلان/الوعد مباشرة لنعلم جميعا أن الجميع دون إستثناء شارك ويشارك في المؤامرة علينا، وهاكم باقي القصة:
 
        نص الوعد/الإعلان: نشر في الصحف البريطانية صباح (23 من المحرم 1336هـ : 8 من نوفمبر 1917م) وكان نصه:
وزارة الخارجية
2   من نوفمبر 1917م
عزيزي اللورد "روتشلد"
 يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرّته:
 "إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهومًا بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.
وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح.
 
المخلص
 
آرثر بلفور
- لقد حاول الكثيرون تبرير هذا الوعد بنظريات أسخف من السخف لتضليل الرأي العام عن الهدف الحقيقي المتمثل في المشروع الصهيوني الإستيطاني، إن بعض النظريات السخيفة حول دوافع بريطانيا لإعلان الوعد بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين ساعدت على تشويه الرؤيا والتشكيك بمحركات الوعد الحقيقية.
- ومن هذه النظريات أن بريطانيا أصدرت الوعد اعترافاً منها بخدمات البحاثة حاييم وايزمن في اكتشاف الاسيتون الاصطناعي (الحيوي جداً) في أدق مراحل الحرب.
- وتروي الأسطورة أن لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني آنذاك سأل وايزمن "بماذا يستطيع أن يكافئه" فأجابه وايزمن "اصنع شيئاً لشعبي" "فتأثر" أساطين الإمبراطورية وأصدروا الوعد. (حتى البحاثة المعاصر ميخائيل بار زوهر يقبل هذا التعليل في كتابه "النبي المسلح" حياة بن غوريون ص 33).
- وهناك النظرية الإنسانية التي روجها صاحب الوعد نفسه اللورد بلفور الذي زعم أن اليهود تعرضوا في أوروبا للطغيان والتعذيب ولذلك كان الوعد تكفيراً عن الجرائم التي ارتكبتها أوروبا بحقهم. (خطابه في مجلس اللوردات البريطاني في 21 حزيران/ يونيو 1922 كما أورده كريستوفر سايكس في كتابه "مفترق الطرق إلى إسرائيل" ص 18-19).
 
- وأبرز لويد جورج في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" بعض هذه العوامل، فأكد مثلاً أن بعض ما حفز بريطانيا إلى إصدار الوعد المعلومات بأن قيادة أركان الجيش الألمانية في 1916 ألحت على الأتراك أن يلبوا مطالب الصهيونيين بشأن فلسطين (ص 1116). وان الحكومة الألمانية كانت في أيلول/ سبتمبر 1917 تبذل مساعي جدية للاستيلاء على الحركة الصهيونية (ص 1121). واستطرد ان جمعية يهودية ألمانية تأسست في كانون الثاني/ يناير 1918 بعد وعد بلفور وان الوزير التركي طلعت، بإيعاز من الألمان، وعدها وعداً واهياً لتحقيق رغبات اليهود العادلة في فلسطين.
 
- ولكن العامل المقرر في نهاية المطاف كان مصلحة الإمبريالية البريطانية لا الآنية فقط، بل البعيدة المدى. وهذا ما أعربت عنه الصحافة البريطانية البرجوازية في الفترة التي سبقت الوعد وأعقبته، فتحت عنوان "سياسة بريطانيا في فلسطين- ضرورة عبرية بريطانية" كتبت ساندي كرونيكل" :
- "ولا يوجد جنس آخر في العالم كله يستطيع أن يقوم بهذه الخدمات لنا غير اليهود أنفسهم.. ولدينا في الحركة الصهيونية القوة المحركة التي ستجعل امتداد الإمبراطورية البريطانية إلى فلسطين- في غير هذه الحالة ضرورة غير مسرة- مصدر كبرياء وركن قوة".
 
- وقبل هذا الكلام دعت الصحف البريطانية الأخرى حكومتها إلى إعادة فلسطين إلى اليهود خوفاً من أن تقع في أيدي مؤذية (للإمبراطورية البريطانية)
- وكتبت "ايفننغ ستاندرد": "لقد أوضحت المصالح البريطانية منذ وقت طويل ضرورة قيام دولة حاجزة بين مصر وحكومة تركية معادية، والصهيونية تزودنا بالحل".
- وتجرأت الصحف البريطانية بعد صدور الوعد في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 فكتبت على سبيل المثال جلاسكو هيرالد تؤكد أنه سيكون للوعد أثر سياسي مباشر في أمريكا وروسيا وبولونيا والمجر ثم أضافت "ومن وجهة النظر البريطانية فالدفاع عن قناة السويس يتم على أفضل وجه بإقامة شعب في فلسطين ملتصق بنا، وإعادة اليهود إلى فلسطين تحت الرعاية البريطانية يضمن ذلك".
- وفي هذا الصدد كتب نورمان بنتويتش في كتابه "إسرائيل الناهضة" (لندن 1960): لقد ربط حاييم وايزمن عجلة الصهيونية بنجم إنجلترا معتقداً أن بناء فلسطين يجب أن يكون شراكة بريطانية- يهودية (ص 29).
 
- وشرح مدلول ربط عجلة الصهيونية بنجم إنجلترا ماكس نوردو في خطاب ألقاه في احتفال جرى في البرت هول عام 1919 بحضور كبار الإمبرياليين لويد جورج واللورد بلفور- آنذاك كان ماكس نوردو قد تخلص من ولائه لألمانيا المهزومة وأصبح يهتدي بالنجم البريطاني قال:"نعرف (أيها السادة) ما تتوقعونه منا. تريدون أن نكون حرس قناة السويس. علينا أن نكون حراس طريقكم إلى الهند عبر الشرق الأدنى. نحن على استعداد لأن نقوم بهذه الخدمة العسكرية ولكن من الضروري تمكيننا من أن نصبح قوة حتى نقدر على القيام بهذه المهمة".
 
- أوصد بلفور ومساعدوه في وزارة الخارجية منافذ عقولهم إلى واقع الأشياء وعميت بصيرتهم بحيث أنهم أثناء مداولاتهم بشأن تقرير مصير فلسطين ظلوا على اتصال وثيق بالصهاينة، ولكنهم رفضوا، بعناد وإصرار، أن يأخذوا بالاعتبار الاحتجاجات التي قدمها المسلمون المقيمون في لندن (لقد حالت ظروف الحرب دون الاستماع إلى رأي العرب أصحاب الحق الذين يعنيهم الأمر لأن معظمهم كانوا يقيمون في مناطق العدو). ففي حزيران/ يونيو 1917 ألقى مرمادوك بيكثول، الذي اشتهر فيما بعد بترجمته للقرآن، محاضرة في قاعة كاكستون نشرتها. فيما بعد، الجمعية الإسلامية المركزية في لندن في كراس بعنوان " المصالح الإسلامية في فلسطين"، والغرض من هذه المحاضرة كما قال صاحبها هو إزالة الجهل الخطير المتفشي، عندئذ، في بريطانيا ليس بين عامة الناس فحسب بل حتى بين الوزراء، بشأن ما ينطوي عليه تطبيق الخطة المقترحة "بإنشاء دولة يهودية في فلسطين في ظل سيادة إحدى الدول المسيحية"، من مضامين ومخاطر، واشتملت تلك المحاضرة على عرض واف لمكانة فلسطين والقدس في الإسلام وفي التاريخ العربي .
 
- وقد قدم نص هذه المحاضرة المطبوعة في كراس إلى وزارة الخارجية البريطانية كاحتجاج إسلامي، وأطلع عليها كبار المسؤولين في وزارة الخارجية ثم بلفور نفسه، أما ملاحظات السير مارك سايكس عندما اطلع على المحاضرة فتكشف الكثير من النوايا المبيتة، فعندما ما لم يجد في نص المحاضرة ما يعيب هاجم صاحبها من الزاوية السياسية دامغاً إياه بأنه موال لتركيا، وهي تهمة سيئة في ذلك الوقت وأن تكن قد فقدت معناها الآن، وكانت هذه التهمة كافية لإهمال النصيحة الهادئة التي محضها للحكومة البريطانية، وهي أن فلسطين مقدسة لدى أتباع الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن من الخطأ الاهتمام بمصالح الديانتين الأوليتين فقط وتجاهل الثالثة .
 
- وعادت الجالية الإسلامية في لندن إلى الهجوم من جديد، فبعد خمسة أيام من إصدار "وعد بلفور" قدمت احتجاجاً إلى وزير الداخلية البريطاني وطالبت بضمانات بشأن المسجد الأقصى وغيره من الأماكن الإسلامية المقدسة، ولكن، في هذه المرة، لم يعتبر السير مارك سايكس الموقعين على الاحتجاج مجرد موالين لتركيا فحسب، بل "عملاء" لتركيا وحض بقوة على تجاهل احتجاجهم، وكذلك لم تكن أسعد مصيراً من هذه رسالة الاحتجاج التي وجهها "السيد أمير علي" من مجلس شورى الملك في بريطانيا بتاريخ 10/11/1917، إلى اللورد هاردينج الوكيل الدائم لوزارة الخارجية ومندوب الملك السابق في الهند، وقد رغب السيد أمير علي على أن يسترعي انتباه بلفور إلى واقع أن "فلسطين هي في نظر المسلمين أرض مقدسة دون أدنى شك"، وأن مدينة القدس لا يفوقها قدسية وطهارة عندهم سوى مكة والمدينة، وبين أن من "الغبن والإجحاف" بالإسلام وضع أحد "أقدس أقداسه" تحت السيطرة اليهودية .
 
- وفور إعلان هذا الوعد سارعت دول أوروبا، وعلى رأسها "فرنسا" و"إيطاليا" و"أمريكا" بتأييده، بينما كان في مناطق العالم العربي وقع الصاعقة، واختلفت ردود أفعال العرب عليه بين الدهشة والاستنكار والغضب.
 
- كانت فرنسا صاحبة أول بيان صدر تأييدًا لتلك المبادرة الشائنة، فقد أصدر وزير الخارجية الفرنسي "ستيفان" بيانًا مشتركًا مع ممثل الجمعيات الصهيونية "سكولوف"، عبّرا فيها عن ارتياحهما عن التضامن بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في قضية إسكان اليهود في "فلسطين".
 
- وإزاء حالة السخط والغضب التي قابل العرب بها "وعد بلفور" أرسلت "بريطانيا" رسالة إلى "الشريف حسين" إمعانًا في الخداع والتضليل، حملها إليه الكولونيل "باست" تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالاستيطان في "فلسطين" إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، ولكنها - في الوقت نفسه - أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في "فلسطين" أن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة "حاييم وايزمان" خليفة "هرتزل".
 
- وفي عام (1918م) صادق الرئيس الأمريكي ( ولسون) رسمياً على وعد ( بلفور) في رسالته التي بعث بها إلى زعيم الصهيونية اليهودية في أمريكا ، حيث قال : ( أغتنم الفرصة لأعبر عن الارتياح الذي أحسست به نتيجة تقدم الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة والدول الحليفة ، منذ إعلان السيد بلفور باسم حكومته عن موافقتها على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ، ووعْده بأن تبذل الحكومة البريطانية قصارى جهدها لتسهيل تحقيق ذلك الهدف)
 
- بعد ذلك وافق الكونجرس الأمريكي على وعد بلفور ، وأصدر بياناً جاء فيه : (أن الولايات المتحدة الأمريكية ، تؤيد إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ، وفقاً للشروط التي يتضمنها وعد الحكومة البريطانية ، والمعروف بوعد بلفور)
 
- أما مجلس النواب الأمريكي فقد جاء في بيان موافقته ما يلي : (حيث أن الشعب اليهودي كان يتطلع لقرون طويلة ، ويتشوق لإعادة بناء وطنه القديم ، وبسبب ما تمخضت عنه الحرب العالمية ، ودور اليهود فيها ، فيجب أن يُمكّن الشعب اليهودي من إعادة إنشاء ، وتنظيم وطن قومي في أرض آبائه)
 
- أما مجلس الشيوخ الأمريكي فقد ألقى فيه رئيس لجنة العلاقات الخارجية ، الخطاب التالي : (إنني لم أحتمل أبداً فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين ، إن بقاء القدس وفلسطين المقدسة بالنسبة لليهود ، والأرض المقدسة بالنسبة لكل الأمم المسيحية الكبرى في الغرب ، في أيدي الأتراك ، كان يبدو لي ، لسنوات طويلة ، وكأنه لطخة في جبين الحضارة ، من الواجب إزالتها)
- في 11 كانون أول / ديسمبر1917 ، أي بعد أسابيع فقط من الوعد،دخلت الجيوش البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي القدس قائلا عبارته الشهيرة "الآن إنتهت الحروب الصليبية"، وبدأت في تنفيذ وعد بلفور عملياً وحدثت على أثر ذلك صدامات بين العرب واليهود وتشكلت جمعيات عربية ضد المشروع الصهيوني ،عندما أراد اليهود الاحتفال بمرور عام على وعد بلفور هدد العرب بالتظاهر غير أن المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل هدد بإلقاء القبض على كل عربي يتظاهر .
- وخلال انعقاد مؤتمر فرساي في كانون ثاني / يناير 1919 قدمت الحركة الصهيونية إلى المؤتمر خطة مدروسة واضحة المعالم لتنفيذ مشروعها، دعت إلى :
- إقامة وصاية بريطانية لتنفيذ وعد بلفور .
- أن تشمل حدود فلسطين ضواحي صيدا ومنابع الليطاني ونهر الأردن وحوران وشرق الأردن والعقبة وأجزاء من صحراء سيناء المصرية .
- في 27/01/1919 عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول وقرر رفض تقسيم الشام إلى دويلات، مع إعتبار فلسطين جزء من بلاد الشام وليست دولة مستقلة، كما شكل حكومة وطنية فلسطينية.
 
- في 02/02/1919 وفي باريس خلال إنعقاد "مؤتمر الصلح" تخلى الشريف حسين عن فلسطين مقابل إعطائه دولة على الأرض العربية ووافق على إعتبار فلسطين تحت وضع عالمي وليس بالضرورة تابعة للدولة العربية الجديدة، وهكذا تم أول تنازل عربي رسمي عن أرض فلسطين!
 
- بعد ذلك وجه فيصل بن الحسين رسالة إلى الزعيم الصهيوني الأمريكي "فرانك فورتر" يقول فيها: "نحن العرب وخاصة المثقفين منا ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية، وسوف نعمل كل ما بوسعنا لمساعدة اليهود، ونتمنى لهم وطنا ينزلون فيه على الرحب والسعة!"، ما أشبه اليوم بالبارحة.
-  وفي 31 أيار/مايو 1920م صدر إعلان الانتداب على فلسطين في مؤتمر سان ريمو وعين البريطاني الصهيوني هربرت صموئيل مندوباً سامياً في القدس، وكان وزيراً للداخلية البريطانية ومتعاطفاً مع الصهاينة
 
- وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان صك انتداب بريطانيا على فلسطين، كشفت بريطانيا عن مضمون وعد بلفور، واحتج الفلسطينيون وحدثت اشتباكات لأول مرة بين الحرس البريطاني والعرب . كما منعت بريطانيا المؤتمر الفلسطيني الثاني من الانعقاد في حيفا عام 1920 ، بعد أن أصبح تشرشل وزيراً للمستعمرات عقد مؤتمراً في القاهرة للعسكريين والموظفين البريطانيين لمراجعة الوضع البريطاني في المنطقة، حيث أوصى المؤتمر :
- الاستمرار في تنفيذ وعد بلفور، لأن بريطانيا ملزمة بإنشاء وطن قومي لليهود .
- ان تشكل في شرق الاردن مقاطعة عربية بقيادة الأمير عبدالله يكون مسؤولاً عنها أمام المندوب البريطاني دون أن تكون المقاطعة مشمولة في النظام الإداري لفلسطين، ودون أن تنطبق عليها شروط الانتداب. وليكون شرق الاردن مستعداً لاستقبال من يضطر من الفلسطينيين للمغادرة .
 
- وفي العام 1918 تشكلت جمعية الفدائية وهي جمعية سرية ضمت عدداً من رجال الشرطة الفلسطينية ، وقد لعبت الجمعية دوراً مهماً في الإعداد للثورة العربية في فلسطين وفي نشر الوعي بالخطر الصهيوني بين عشائر البدو في شرق الأردن ضد اليهود غير أن اعتقال زعمائها أضعفها وقضى عليها غير أنه لم يوقف جهاد الفلسطينيين والعرب ضد المخططات الصهيونية فكانت ثورة النبي موسى (4 -10 نيسان /أبريل 1920) وثورة يافا (1-5 أيار / مايو 1921)، ثورة البراق ( 15آب / أغسطس 1929) وهي مواجهات محدودة كانت دوافعها عاطفية، ولم تكن منظمة مما حدّ من إمكانات تطورها أو تحقيق أهدافها وان كانت لعبت دوراً في تأجيج الصراع وتعطيل المشروع الصهيوني جزئياً وبشكل مؤقت، ثم حركة الشيخ المجاهد عز الدين القسام (1935).
 
- أعلن الثوار في فلسطين الإضراب وحصلت معارك عنيفة بين الثوار والقوات البريطانية والصهيونية في شهر تشرين الأول عام 1935. وقامت وفود فلسطينية بزيارات إلى عمّان والرياض وبغداد، ونتيجة لضغوطات بريطانية، قام الملوك والرؤساء العرب بإصدار نداء مشترك في 10 تشرين أول/ أكتوبر 1935 دعوا فيه العرب إلى «وقف الثورة، والاعتماد على النيات الطيبة" لصديقتنا بريطانيا العظمى التي أعلنت أنها ستحقق العدالة». !!!ونتيجة لذلك دعت اللجنة العربية العليا إلى وقف الإضراب، وإلى حل التنظيمات العربية وعودة الثوار العرب إلى دولهم . وكانت حصيلة هذه الثورة : مقتل 16 رجل بوليس و22 جندياً بريطانياً، وجرح 104 رجال بوليس و148عسكرياً، ومقتل 80 مستوطناً صهيونياً وجرح 308 مستوطن صهيوني . أما العرب فقد استشهد منهم 145 رجلاً وجرح 804 آخرون . وأرسلت بريطانيا لجنة بيل الملكية لتقصي الحقائق إلى فلسطين، ولكن الفلسطينيين أرادوا عدم مقابلتها، فهدد الملوك العرب الفلسطينيين، وطلبوا منهم الموافقة على مقابلة اللجنة .
 
 
الوعد المشؤوم في كلمات حزينة:
لم يكن غريبا أن تقف قصائد شعراء فلسطين عند الحقيقة المرعبة المسماة وعد بلفور، فها هو شاعر فلسطين الأول إبراهيم طوقان والذي ولد قبل ذلك الوعد باثني عشر عاما يعيش هذا الحدث معه حتى في مناسبات أخرى، فتراه يقول في  الطوفان الذي حل بمدينته نابلس، متحاملا على جراحه الذاتية ومتذكرا بل ومذكرا بالوجع الذي حل بالبلاد، يخاطب الإنجليز المستعمرين وما صاغوه من آلام وجروه على البلاد من ويلات ومصائب بهجرة اليهود إليها:
 
                     منذ احتللتم وشؤم العيش يرهقنا       فقرا وجوعا وإتعاسا وإفسادا
                      بفضلكم قد طغى طوفان هجرتهم          وكان وعدا تلقيناه إيعادا
 
لكن شاعرنا يقف بصراحة أمام حادثة (الوعد الكئيب) الذي جر الكآبة إلى فلسطين فاصطبغت به فكانت قصيدته في تلك المناسبة التي حملت ذلك الاسم يؤرخها شعرا وتعكس لنا عظم الحدث وجلال المصاب في الذكرى التي مرت عام 1929فأعلنت فلسطين الحداد:
 
                              بلفور كأسك من دم    الشهداء لا ماء العنب
أما في البيت الثاني عشر من نفس القصيدة فإنه لا يأبه بالوعد إذا لم ينقضه صاحبه لأن  أبناء الوطن سيكونون جاهزين لنقضه بالقوة:
 
                                لا تنقض الوعد الذي     أبرمته فله نواقض
 
وهنا يأتي مطلع البيت الثالث عشر طبيعيا في هذا السياق المغمور بالوعيد والمدجج بالغضب:
 
                               ويل لوعد الشيخ من      عزمات آساد روابض
 
أما عبد الرحيم محمود " الشاعر الشهيد " فإن الوعد المشؤوم يعيشه ولا يفارقه، عبد الرحيم محمود هو أكثر من وجدُ له شعر في وعد بلفور، حيث يذكره صراحة في عنوان لقصيدته الرائية (وعد بلفور) في ثاني قصيدة له في الديوان، فالثلث الأخير مثلا من القصيدة عبارة عن تهديد ووعيد للمستعمر لكنه من نوع آخر غير الذي رأيناه عند إبراهيم طوقان، فهنا التهديد لكل من تسول له نفسه أن يطمع في أراضي وثروات العرب:
 
يا ذا الحليف سيوفنا ورماحنا       لم تنثلم فاعلم ولم تتكسر
بالأمس أبلت في عداك وفي غد    في كل قلب غادر متحجر
أما (عيد الجامعة العربية) فإنه ينثر القوافي التي تحكي عن الشتات الذي كان جمعُه على يد الجامعة،  إنها درر العروبة المنثورة، ومن النيل إلى المغرب إلى الشام يقر بخرافات الحدود التي تسعى لإزالتها أهداف الجامعة:
ذهبت خرافات الحدود فكلها     وطنٌ لنا لو صحت الأ فهامُ
وتتكرر قافية الأحلام مع شاعرنا ثلاث مرات في ستة عشر بيتا، لكنه يدخل صراحة بعد ذلك إلى وعد بلفور ومعاتبة الذات ولوم الأقربين قبل لوم الأعداء.
 
بلفور ما بلفور ماذا وعده    لو لم يكن أفعالنا الإبرام
إنا بأيدينا جرحنا قلبنا           وبنا إلينا جاءت الآلام
أما في قصيدته الثالثة حول الوعد المشؤوم فلقد أسماها الشاعر " أحاجي في ذكرى وعد بلفور "وقد جعلها على شكل ألغاز وأحاجي، كان أحد طلبته يقف ليجيب عنها بعد أن أعطاه أجوبتها، وكان قد ألقاها في فندق فلسطين سنة 1947وتوزعت هذه الأحاجي في أجوبتها بين (الإنجليز، اليهود، الثورة، هيئة الأمم، روزفلت " الرئيس الأمريكي آنذاك "، رئيس حزب العمال البريطاني، الزعماء الفاسدون، صندوق الأمة .
أما الحديث عن قصيدة (يا وعد بلفور) للشاعر يحيى برزق فلا تقل أهمية عن ما سبقها، وإذا كان ميلاد هذا الشاعر في العام الذي قيلت فيه قصيدة إبراهيم طوقان(البلد الكئيب) أي في عام  1929، فإن الوقوف عند هذه الأبيات يحمل أشياء يصعب أن تعبر عنه الكلمات:
وليس ينسى لديغ النار قسوتها        فكيف ينسى الذي يحيى على النار
ويواصل نزف الوجع والحديث عن شعبه وما يلاقيه من القريب قبل الغريب
وكل يوم له جار يصارعه             فدمعه وهو في حضن الردى جاري
يبيت في حيرة الملهوف ليس يعي       يشكو إلى الجار أم يشكو من الجار
وهو رغم ما يحمل في قلبه من ألم ورغم الوعد الذي أصاب بلاده وما فعل العداة بوطنه ورغم جراح صبرا وشاتيلا النازفة إلا أنه يحمل أملا بالفجر القادم:
  يا وعد بلفور لكنا وإن عبثت        بنا العداة وألوى كل جبار
ورغم صبرا وشاتيلا وما فعلت       يد التتار بأحرار وأبكـار
لا بد أن يشرق الفجر الندي على   ربوعنا بين أزهار وأشجار
سأتوقف هنا فالباقي نعرفه جميعا وما جرى بعد ذلك عاشه الكثيرون منا إما كشهود على الحدث نفسه أو ضحايا لنتائجه.
لنراجع سويا ما قرأناه حتى الآن:
        لكل تآمر وبشكل واضح وصريح وموثق دون إستثناء وكان أهم اللاعبين: بريطانيا، فرنسا، الولايات المتحدة، ألمانيا، روسيا بالإضافة للعرب ممثلين بالشريف حسين قبل الوعد وبالملوك العرب بعده
        الوعد كان ممن لا يملك لمن لا يستحق
          المشروع الإستيطاني الصهيوني تمتد جذوره لمئات السنين
        صدور الوعد كان نهاية للمرحلة وليس بداية لها
        لم تتغير الأساليب الخداعية يوما
        وعد بلفور سبقه وعود وتلاه وعود والشعب الفلسطيني كان دائما من يدفع الثمن
        ما سبق لا يعتبر مبررا للتباكي والنواح بل حافزا للعمل
        أبناء جلدتنا كانوا ولا زالوا جزءا من المخطط
        لقد بدأ الإعتراف بهذه الجريمة التاريخية وعلينا أن نمارس كل أنواع الضغوط لتصيحيها وإعادة الحق لنصابه وهذا مثال لذلك: وزير الخارجية البريطاني الحالي جاك سترو أقر بمسئولية بلاده التاريخية عن الكثير من النزاعات الحالية بالمنطقة العربية وخاصة القضية الفلسطينية والنزاع بين الهند وباكستان حول إقليم كشمير. وقال سترو في مقابلة مع مجلة "نيو ستيتمان" الأسبوعية الجمعة 15-11-2002: "إن الكثير من النزاعات الحالية بين الدول هي من نتائج ماضينا الإمبريالي، وينبغي علينا تسويتها". وأضاف قائلا: "إن بلاده أعطت وعد بلفور لليهود ، والذي يعدهم بوطن في فلسطين، وفي الوقت نفسه منحت ضمانات متناقضة لكل من الفلسطينيين واليهود .. هذه الأشياء تمثل تاريخا مهما لنا، لكنه ليس تاريخا مشرفا".
 
أخيرا:
منذ وعد بلفور وحتى الآن، دفع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً جداً لمواجهة المؤامرة والتصدي لها ولتأكيد أن حقاً لا يموت ووراءه مطالب. لقد أثبت الشعب الفلسطيني طوال سنوات نضاله المديد انه الشعب الحي الذي لا يموت، وأنه صاحب الحق الذي لا يساوم عليه، وأنه وحده صاحب الأرض التي لا يملك أحد ان يخضعها للقسمة، وأنه لن تستطيع كل قوى الأرض مجتمعة أن تنسينا حقنا في وطننا وترابنا وأرضنا ولو بعد آلاف السنين ولو إلى آخر العمر والدهر.
 
أهم المراجع:
ايميل توما، جذور القضية الفلسطينية (الأعمال الكاملة) المجلد الرابع، حيفا 1995.
وثائق فلسطين، دائرة الثقافة، منظمة التحرير الفلسطينية، 1987.\
وعد بلفور ... قصائد بلون الغضب بقلم : سمير عطيه – المركز الفلسطيني للإعلام – لندن
وعد بلفور .. من هنا كانت المأساة بقلم سمير حلبي
تاريخ فلسطين المصور، طارق سويدان، دار الإبداع الفكري 2004
مسؤولية بريطانيا في حرمان الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره الدكتور عبد اللطيف الطيباوي مجلة شؤون فلسطينية ، آب/ أغسطس 1972
دراسات وأبحاث لعدد من الأساتذة الأجلاء
معلومات صحافية و معلومات من من مواقع مختلفة على شبكة الإنترنت