الجمعة، 28 ديسمبر 2018

تراجع الأدباء والمثقفين عن آرائهم.. ردة فكرية.. أم تكفيــر لخطيئة؟!!


تراجع الأدباء والمثقفين عن آرائهم.. ردة فكرية.. أم تكفيــر لخطيئة؟!!
 

محمد عبد العظيم - القاهرة

حين النظر إلى خارطة الفكر والأدب العربي نلحظ ظاهرة تحول الأدباء والمثقفين والمفكرين من فكر إلى فكر، أو من منهج إلى آخر... وقد يكون هذا التحوّل في الأسلوب، أو في المضمون، أو في التخصص، وقد يكون التحوّل جزئياً أو كلياً، صراحة أو ضمناً، وقد يكون التحول تحت ضغط ظروف سياسية، أو أحداث وأزمات معينة، وقد يكون التحول بحثا عن الحق والصواب، أو بحثاً عن الشهرة والدويّ الإعلامي، وكثير من المثقفين تحولوا مع تحوّل الأنظمة الحاكمة وتغير أوضاع الحكومات والأحزاب الجديدة، وربما يكون لهذا التحول أسبابه الأخرى.

والتحول عن الآراء والاتجاه لغيرها ليس أمراً جديداً فالشواهد على ذلك في كتب الأدب والتاريخ العربي أكثر من أن تحصى، ولكن هذا التحول يتضح في صورة جلية في القرن العشرين على وجه الخصوص، حيث أخذت قضية تحوّل المثقفين وانقلابهم الفكري مناحي متعددة، وزوايا عديدة، وأشكالا مختلفة، وأبعادا جديدة، ربما بسبب انتشار وسائل الإعلام الحديثة والمتطورة، وتقدم وسائل الطباعة والنشر، وظهور كثير من الأحزاب والنظريات والفلسفات والأيديولوجيات الوافدة والراكدة... إلخ. وأعجب ما في الأمر أن هؤلاء المثقفين - في القرن العشرين - قد غيروا آراءهم وأفكارهم التي نافحوا عنها بضراوة، وأشعلوا بسببها نيراناً مازال دخانها يسد الأفق، كما تحولوا عن آرائهم حول مفاهيم الأدب ومناهج النقد التي وضعوها.

شواهد ونماذج

وتقف الكثير من الشواهد التي سنعرض لها دليلاً دامغاً على هذه التحولات التي يبدو بعضها منطقياً بينما يفتقر الآخر منها للموضوعية، فمن بين هذه الشواهد يطل المفكر الإسلامي سيد قطب الذي استهل حياته من باب الأدب والشعر وقضى فيها شطراً كبيراً من حياته، لكنه نفض يديه من الشعر والأدب، واتجه اتجاها إسلامياً صرفاً، ووصف حياته الأولى بأنها ضرب من ضروب اللهو!. ثم انخرط بعد ذلك في ميدان العمل السياسي والإسلامي الذي صار بعد ذلك ركناً من أركانه، وواحداً من رموزه الأساسية.

لماذا تراجع طه حسين ؟

و يعد الدكتور طه حسين أنصع الأمثلة في ظاهرة التحولات فقد غيّر رأيه في دراسة الأدب، بعد أن دعا في كتابه (ذكرى أبي العلاء) إلى دراسة الأدب على أساس علمي محض، عاد بعد ثلاثة عشر عاماً في كتاب (الشعر الجاهلي) فقال: إن الأدب لا يستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي الخالص وحدها، ولابد من اعتماده على الذوق الخاص.. وتحول طه حسين كذلك عن نقده للمنفلوطي، كما تحول عن رأيه في شوقي، وتحول فكرياً وصحّح موقفه الشعبي بكتابه ''على هامش السيرة'' وبذلك حول أنظار الناس عن مفاهيمه في كتاب (الشعر الجاهلي) كما صححه سياسياً بالخروج من حزب الأحرار والانضمام إلى حزب الوفد.

كذلك بدأ الدكتور ''زكي مبارك'' حياته منبهراً بالثقافة الغربية وآراء المستشرقين، ثم ارتدّ عن سائر هذه الآراء، وأقلع عنها وصار يهاجمها بضراوة شديدة!.

ويعد '' لطفي السيد '' من أبرز المثقفين الذين تحولوا فكريا تحولاً كبيراً، وتراجع عن ماضيه، أو كما يقول عنه الأستاذ أنور الجندي: إن هذا الذي أسموه ''أستاذ الجيل'' قد خدع الجيل كله، بل خدع الأجيال حين قدم لها الأفكار الخاطئة التي عرضها في ''الجريدة'' سنة 1913 م مدافعا عن العامية، تكريساً للخطة الاستشراقية التبشيرية التي قاد زمامها (ويلكوكس، مولار).

كما كان معارضاً لفكرة التعليم العام، وقصر التعليم على أبناء الأعيان فقط، وكان كارهاً معارضاً للتضامن العربي والإسلامي وحائلاً دون قيام الجامعة الإسلامية، لدرجة أنه عارض بشدة مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الاستعمار الإيطالي سنة 1911 م، ونعرته الإقليمية بأن ''مصر للمصريين''.. هذا في الوقت الذي كان يمدح فيه اللورد كرومر الذي أذل المصريين ويقول عنه: ''إنه من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأمور''!!. وكانت سقطة ''أستاذ الجيل'' الكبرى هي وضع اسمه على مجهود العشرات من المترجمين المجهولين الذين قضوا سنوات في ترجمة ''أرسطو'' ثم نسب هذا العمل إليه، فكان بذلك من الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا !!

وحسبنا ما قاله عنه معاصره عباس العقاد: ''لطفي السيد هذا مثال للعجز والاسترخاء، لم يفلح في مجلة الشرائع ولا في النيابة ولا في المحاماة ولا في الجريدة التي أنفقوا عليها ثمانين ألف جنيه ولا في الوفد المصري ولا في المكتبة الملكية ولا في الجامعة المصرية ولا نراه يصلح في شيء إلا أن يجلس على كرسيه ويفتي باستحقاق الأمة تارة وبعدم استحقاقها تارة أخرى والسبب واحد في الحالتين''

والحقيقة أن ''لطفي السيد'' ندم ندماً شديدا على آرائه... فلما تولى رئاسة المجمع اللغوي راح ينافح عن الفصحى تكفيراً لأخطائه وخطاياه، بل هو الذي نصح الكاتبة ''مي زيادة'' بقراءة القرآن لتتعلم اللغة العربية الفصحى وتكتب بها بدلاً من الفرنسية، كما تراجع لطفي السيد عن سائر الآراء التي اعتنقها من قبل ونافح عنها على صفحات الجريدة.

شوقي ينحاز إلى الشعب !

أما أمير الشعراء ''أحمد شوقي'' فقد اعترف صراحة أن نقطة التحول الرئيسية في حياته تتمثل في نفيه من مصر إلى أسبانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وقال في ذلك لصديقه حافظ إبراهيم: '' أعترف لك - يا حافظ بك - أنني استفدتُ من تجربة المنفى استفادة كبرى، ما كنت أتوقعها، فرب ضارة نافعة، فبرغم فراق الأحبة واشتياقي المستمر إليكم، إلا أن هذه الغربة القسرية كانت بعيدة الأثر في تطور حياتي الأدبية والثقافية، فقد أُتيح لي خلال هذه السنوات الخمس التي قضيتها هناك أن أعكف على قراءة كتب الأدب العربي، وقد طالعتها حتى أكاد أقول إنه ليس في الأدب العربي كتاب لم أستوعبه خلال السنين الخمس التي مكثتها بأسبانيا، وتوفرت على رياضة ذهنية من ثمرات القرائح العربية منثورها ومنظومها وحصلت على ثروة لم أفز بها من قبل. كما جادت عليَّ فترة المنفى بشيءٍ آخر وهي تعلُّمي أبعاد الوطنية التي صارت الآن عندي هي أهم من كل شيء ، أهم من القصر بمن فيه وما فيه''.

فريد وجدي من الشك إلى اليقين

أما الفيلسوف الإسلامي ''محمد فريد وجدي'' فيرى أن حادث التحول في حياته هو حادث الشك في العقيدة الذي ساوره في مطالع الشباب، نتيجة لحيلولة والده دون مناقشته في مسائل الكون والخالق، فقد كان إذا تعرض لذلك أقفل باب المناقشة، وأمره ألا يخوض في المسائل الدينية، يقول: ''وهنا تزلزلت عقيدتي وشرع الشك يتسرب إلى نفسي''، غير أنه لم يلبث أن تناول بالقراءة والدرس جميع الكتب الدينية والكونية والاجتماعية وسائر ما يتعلق منها بعلم النفس، فيقول: ''ولقد أفادني الشك استقلالاً في التفكير واعتماداً على النفس ورغبة في استيعاب ما يقع تحت يدي من الكتب''.

حكاية صاحب '' العبقريات ''

ولا شك أن كتابات ''العقاد'' عن الإسلام وعبقريات الإسلام هي تحول خطير في اتجاهه لم يلبث أن تعمق واتسع وأصبح له طابع واضح، وصار علماً عليه، وقد أغرى هذا الإنجاز الفكري الكثيرين إلى احتذائه ونهجه من كُتّاب وأدباء الجيل الماضي، أمثال: محمد حسين هيكل، وطه حسين، وعبد الرحمن الشرقاوي، وخالد محمد خالد... وغيرهم.

ففي بادئ الأمر، حمل العقاد حملات عنيفة على أصحاب الاتجاه الإسلامي، ووصف كتاباتهم بأنها محاولة من الاستعمار لخداع الناس وصرفهم عن التحرير الوطني، غير أن العقاد بعد سنوات وفي أوائل الحرب العالمية بدأ يكتب (العبقريات) ويوغل في دراسة الرعيل الأول من العصر الإسلامي، وبهذا أورد نفسه في نفس المورد الذي هاجمه من قبل! .

وقيل إن ''العقاد'' اتجه إلى كتابة التراجم الإسلامية والعبقريات الإسلامية بخاصة، بعد أن استقال من حزب الوفد الذي يمثل الأغلبية الشعبية، إذْ أحس أنه خسر جماهيرياً فوجد بديلاً للسياسة في قلب الجماهير، وكان هذا البديل هو الدين، بل لقد كان الدين أقوى تأثيراً من السياسة على الجماهير في مصر والوطن العربي كله. ومن يومها بدأ العقاد يقدم عبقرياته الإسلامية المختلفة، ومن خلال هذه العبقريات وجد الحل المثالي لأزمته مع الجماهير التي تخلت عنه بعد خروجه من الوفد، وارتدت إليه بصورة مضاعفة عندما دخل حظيرة الإسلام.. فللكتابة الدينية مكانة لدى الجماهير فاقت مكانته الأولى أيام كان كاتب الشعب الأول في مرحلة ثورة 1919 الوطنية. وهناك من يرى أن اتجاه العقاد إنما جاء في ظل استفحال المادية وتوسع الدعوة إلى الشيوعية ، فجاءت كتاباته كوسيلة من وسائل مقاومة هذا الاتجاه.

تراجع خالد محمد خالد

والمفكر الراحل خالد محمد خالد بدأ بكتاب (من هنا نبدأ) داعيا فيه إلى فصل الدين عن السياسة تماماً، ولكنه انتهى إلى موقف واضح يدعم تماماً حق الإسلام كدين ينظم شئون الحياة، حكومة وشعباً.. وقد أوضح خالد محمد خالد، سبب تغير موقفه عندما قال في كتابه (الدولة في الإسلام): ''كان الخطأ في المنهج نفسه، فقد جعلت ما تأثرت به قراءاتي عن الحكومة الدينية في المسيحية، وما تأثرت به من تحول بعض الشباب المسلم من نُسّاك إلى قتلة، جعلت هذا وذاك (مصدر) تفكيري لا (موضع) تفكيري، وفارق كبير بين أن تجعل الحدث أو الشيء (مصدر) تفكيرك وبين أن تجعله (موضع) تفكيرك. فعندما يكون مصدر تفكيرك فإنه يقودك في طريقه هو لا في طريق الحقيقة، وتبصر نفسك - من حيث لا تشعر - مشدوداً إلى مقدمات وسائراً نحو نتائج لم يأخذ الاستقلال الفكري حظه في إمعان دراستها. أما حين يكون الشيء موضع تفكيرك المحايد والمستقل بكل اعتبارات القضية المدروسة دون أن يلزمك بحكم مسبق يتحرك الفكر داخل إطاره الحديدي الصارم فإن النتيجة تختلف حتما. إلى هذا السبب الجوهري أردُّ خطئي فيما أصدرته قديماً من حكم ضد الحكومة في الإسلام ، هذه التي أسميتها خطأ بالحكومة الدينية ''.

مصطفى محمود يهجر الماركسية

والدكتور ''مصطفى محمود'' من أشهر المفكرين العرب المعاصرين الذين تحولوا من فكر إلى فكر آخر، ومن القلائل الذين أحدثوا دوياً في عالم الكتابة، ربما بسبب موسوعيته الثقافية، أو بسبب تأثير مقالاته سواء في السياسة أو الفكر أو الأدب أو غير ذلك من المؤلفات العديدة التي أنتجها طيلة رحلته التي تمتد إلى أكثر من نصف قرن من الزمان.

ففي مرحلة الشباب والمراهقة الفكرية أو التي أسماها هو ''مرحلة الشك والإلحاد'' أصدر كتاباً بين فيه صراحة عن كفره وإلحاده، وبمجرد رجعته إلى الصواب أصدر كتابه الشهير (الماركسية والإسلام) الذي اعترف فيه بخطئه في حق الله وحق المجتمع وحق نفسه، وأعلن عن توبته عما اعتنقه من فكر ضال، وفلسفة شاذة، وفي هذا يقول: ''عندما كنت في بداية مراهقتي الأدبية والثقافية، استهوتني الألفاظ الطنانة الرنانة، فسرتُ خلفها مفتوناً بضع سنوات''

المفكرون المصريون والتحول نحو الإسلاميات

فعن هذه التحولات وأسبابها يقول المثقف زكي الميلاد: لا شك أن هذه الظاهرة شديدة الأهمية وجديرة بالتأمل وإعمال النظر, وقد خضعت في وقتها وإلى سنوات بعدها لتفسيرات وتأويلات حاولت فهمها وتكوين معرفة بها, وتحددت هذه المحاولات في اتجاهين رئيسين: الاتجاه الذي يركز على المنحى الذاتي, وهو إما يرتبط بتحولات فكرية ونفسية عميقة, كالذي حصل عند الدكتور محمد حسين هيكل, وإما ان يرتبط بتغيرات في طبيعة الاهتمامات الفكرية والبحثية من جهة اتجاهات الكتابة والتأليف, كما حصل عند عباس محمود العقاد. وهناك من يضيف تفسيراً آخر يربطه أصحابه بالدكتور طه حسين تحديداً, وذلك في محاولة منه لإعادة الاعتبار إلى ذاته, وتجاوز ذيول وبقايا المشكلة التي تفجرت سنة 1926م مع كتابه (في الشعر الجاهلي), وهي المشكلة التي أثرت على وضعه الاجتماعي والمهني والأكاديمي, فأراد أن يصحح وضعه حسب هذا الرأي, فاتجه نحو الكتابة في الإسلاميات.

أما الاتجاه الثاني فيركز على المنحى الموضوعي, والذي يتحدد حسب هذا الاتجاه في النشاطات التبشيرية وتزايد نفوذها في مصر, وحمايتها في ظل وجود الانتداب البريطاني على مصر, والترويج للكتابات الغربية والاستشراقية المعادية للإسلام ورسالته ونبيه. الوضع الذي أثار حفيظة المصريين والكتاب والمفكرين منهم بالذات, حيث اتجه بعضهم نحو الرد على تلك الكتابات بالتأليف في حقل الإسلاميات.

هذه التفسيرات لا نريد أن نتوقف عند مناقشتها بالموافقة أو المخالفة, النسبية أو التامة, لا لأنها تلامس الظاهرة في نطاق زمنها السابق فحسب, وإنما لتعاقب تلك الظاهرة في مصر وتجددها وانبعاثها في أزمنة متتالية, الأمر الذي يستدعي تفسيرات أكثر شمولية, فبعد سنة 1967م بدأت إرهاصات لتحولات جديدة في هذا الشأن, وتأكدت في سنة1970م, وترسخت وتنامت في الثمانينيات, وتواصلت إلى التسعينيات من القرن العشرين. فكان من هؤلاء الدكتور مصطفى محمود الذي وثق تجربته في كتابه (رحلتي من الشك إلى الإيمان), وأوقف نشر كتابين من مؤلفاته هما (الله والإنسان) وكتابه (إبليس), وتركزت كتاباته بعد ذلك حول قضايا العلم والإيمان الذي عرف ومازال يعرف بها.

المتحمسون للمشروع الإسلامي

ويضيف الميلاد فيقول: ومن هؤلاء أيضاً المفكر الاقتصادي عادل حسين صاحب كتاب (الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية), الكتاب الذي قال عنه جلال أمين (إن أي عالم اقتصاد يتمنى أن ينسب هذا الكتاب له), وأصبح عادل حسين فيما بعد من أكثر المتحمسين إلى المشروع الحضاري الإسلامي, وهو الاصطلاح الذي كان يردده كثيراً ويتمسك به بشدة. إلى الدكتور طارق البشري المفكر والمستشار القانوني المعروف الذي عكس خبرته ومعرفته القانونية المتميزة في كتاباته ومؤلفاته الإسلامية لاحقا, إلى الدكتور محمد عمارة أحد أكثر الكتاب العرب تأليفاً وتصنيفاً في الإسلاميات. وهكذا إلى الدكتور عبد الوهاب المسيري أستاذ الأدب الإنجليزي وصاحب أشهر موسوعة عربية حول اليهود واليهودية والصهيونية. وهؤلاء تحولوا من اليسار والماركسية إلى الإسلام.

وشملت هذه التحولات أيضاً رائد الوضعية المنطقية في العالم العربي الدكتور زكي نجيب محمود, كما أوضح ذلك في كتابه (رؤية إسلامية), الذي كتب بلغة دينية تعبدية غير معهودة على الإطلاق في كتابات زكي نجيب محمود التي تنزع نحو العلم والفلسفة والمنطق, كما شملت رائد الوجودية في العالم العربي الدكتور عبد الرحمن بدوي, الذي تحول في كتاباته باتجاه الرد على المستشرقين الأوروبيين وأصدر في هذا الصدد كتابين, الأول في الدفاع عن القرآن ضد منتقديه, والثاني في الدفاع عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم, وعن هذا التحول في اتجاهات بدوي صدر كتاب في القاهرة بعنوان (عبد الرحمن بدوي فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام), الدكتور بدوي الذي كان يتهم بالدفاع والترويج لأفكار المستشرقين يتحول إلى ناقد لهم وبطريقة عنيفة, حيث يصف كتاباتهم بالضلال والخداع والتعصب والحقد ضد الإسلام وكتابه المقدس ونبي الإسلام. لا شك أن هذه ظاهرة غير عادية بكل المقاييس, ولم تحصل بهذا الشكل في أي بلد عربي آخر, وتتأكد قيمتها لكونها حصلت في مصر, البلد الذي يتأثر كل العالم العربي بثقافته ومعارفه, وتتضاعف هذه القيمة بالنظر إلى نوعية هؤلاء الأشخاص وهم من قمة المفكرين, ليس على مستوى مصر فحسب, وإنما على مستوى العالم العربي. وبإجمال شديد, يمكن أن نفسر هذا التحول عند هؤلاء من خلال فلسفة العودة إلى الذات بعد الوصول إلى قمة عالية في الفكر والمعرفة!.

القرآن من الشك إلى اليقين

وفي نفس الصدد ركز المفكر الدكتور محمد عماره على الدكتور طه حسين بوصفه المثال الناصع لهذه التحولات حيث قال: لقد عمل طه حسين لعلمنة الاسلام مالم يعمله علي عبدالرزاق، حيث تخرج الرجل من الازهر ثم نهل من علوم الغرب وآدابه الامر الذي يجعله - امام الرأي العام- خبيراً بالحديث عن الاسلام. وجهود الرجل في علمنة الاسلام لا تقف فقط عند اسهاماته - بالمقالات- في الدفاع عن علي عبدالرزاق إبان المعركة الفكرية التي اثارها كتاب الاسلام واصول الحكم ولا عند اخضاعه القرآن الكريم ''وحي الله'' الممثل لعلمه المطلق والمحيط لمناهج الوضعية الغربية، التي تجعل من الواقع المحسوس المصدر الوحيد للحقيقة العلمية ومن العقل والحواس السبل الوحيدة المعتمدة لتحصيل حقائق العلم والمعرفة - وما عدا ذلك فميتافيزيقا وخيلات فنية، وايمان ديني، يمثل طوراً من اطوار العقل الانساني!.

لقد تعامل طه حسين مع القرآن - وهو الوحي- مصدر المعرفة الغيبية- التي لا يستقل العقل الانساني بادراكها - تعامل معه- بالشك الديكارتي- على انه نص من النصوص ومن هنا كان تشكيكه عندما كتب كتابه (في الشعر الجاهلي) سنة 1926م - في العام التالي لصدور (الاسلام واصول الحكم).

فالرجل قد عاد في العقود الاخيرة من حياته الفكرية الى الحديث عن تميز الامة العربية قمياً وسياسياً على النحو الذي يجعل لهذا التميز مدخلاً لوحدتها القومية.. فتراجع بهذا التطور عن اهماله السابق للغات والاجناس كمقوم من مقومات السياسة والوحدة السياسية.

ثم ان الرجل قد كان في حياته يعيد طبع ما ينفذ من كتبه حتى كتابه (في الشعر الجاهلي) بعد ان حذف منه السطور الثمانية والعشرين التي تشكك في قصة ابراهيم واسماعيل وغير عنوانه الى (في الادب الجاهلي) ووثقه واضاف اليه عدداً من الفصول كما انه لم يعد طبع كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) بل لقد سئل في سنة 1971م عن رأيه فيما تضمنه من آراء الجدل عند صدوره في سنة 1938م فقال عنه : (ده كتب سنة 1936م قُدم قوي، عاوز يتجدد... ويجب ان اعود اليه واصلح فيه بعض حاجات واضيف). فكانه يعلن تراجعه عن مافي هذا الكتاب من آراء مثيرة للجدل واولها هذا التأسيس لعلمنة الاسلام.

ولقد جاء في كتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر) ليفلس هذه المماثلة بين الاسلام والمسيحية بل لقد بين العقل المصري والشرقي المسلم وبين العقل الغربي اليوناني المسيحي وجاء ليقول: ان عقلنا يوناني التكوين لانه العقل الاوروبي مرده الى ثلاثة عناصر:حضارة اليونان،حضارة الرومان، المسيحية. وانه كما لم يغير الانجيل عندما تنصرت اوروبا من الطابع اليوناني للعقل الاوروبي فكذلك القران لم يغير من الطابع اليوناني للعقل الشرقي لان القرآن انما جاء متمماً ومصدقاً لما في الانجيل واذا صحت هذه المماثلة بل هذه الوحدة بين مكونات العقل الشرقي والعقل الغربي فكلاهما يوناني المكونات والتكوين وصحة المماثلة بين القرآن والانجيل والاسلام والمسيحية في الموقف من السياسة والدولة فان العلمانية التي هي طبيعية تماماً في ظل المسيحية نزع مالقيصر لقصير وما لله لله تكون طبيعية تماماً في ظل القرآن لا فارق بينه في هذه القضية وبين الانجيل. وكان هذا هو مدخل طه حسين لتأسيس القواعد التي لابد وان تثمر وتفرز تلقائياً مقولات العلمانية كثمرات طبيعية ومنطقية مع هذه الاسس والقواعد. ويضيف عمارة'' لقد كان طه حسين في هذه القضية التي هي اخطر ما في كتبه وكتابه هذا يقيم قواعد العمانية على اعمدة المماثلة بل والوحدة بين العقل الشرقي والعقل الغربي وهما برأيه عقل واحد في مكوناته اليونانية وتلك خرافة تراجع عنها مبتدعوها.

وبعد العلمانية التي جعلته يقول - سنة 1936م - : (ان السياسة شيء والدين شيء اخر وان نظام الحكم وتكوين الدول انما يقومان على المنافع الزمانية والعلمية.. وليس على الدين..)، بعد هذه العلمانية التي رأت القرآن مجرد (متمم ومصدق للإنجيل) وجدنا طه حسين في سنة 1953م واثناء مداولات غير علنية لا سلطان على المشاركين فيها لغير فكرهم الذي به يؤمنون وجدناه يطلب النص في الدستور على حاكميه النص القرآني على سائر القوانين.. ويقول: ان احترام الاسلام يقتضي احترامه جملة وتفصيلاً وذلك حتى (لا يكون الايمان ايماناً ببعض الكتاب وكفراً ببعض الاخر) وهكذا فقدت العلمانية بعد هجمتها في سنة 1925م واحداً من ابرز فرسانها.

منبر السياسة

ويضيف الدكتور عمارة : ها هو المنبر الذي كان يدافع عن فكر علي عبدالرازق - صحيفة السياسة- ورئيس تحريرها محمد حسين هيكل يعود هيكل ليقود معركة الدفاع عن علمنة الاسلام.. فينشر هيكل كتابه (حياة محمد) سنة 1935م ويتراجع فيه عن رأيه القديم - علمانية الاسلام- ويكتب في كتابه حياة محمد عن التطور والجديد الذي مثله الاسلام بعد الهجرة من مكة الى المدينة فيقول: (هنا بدأ طور جديد من اطوار محمد لم يسبقه اليه احد من الانبياء والرسل هنا يبدأ التطور السياسي، وهكذا عدل هيكل عن رأيه فلم يعد محمد صلى الله عليه وسلم في رأيه كالخالين قبله من الرسل وانما اصبح في رأي هيكل الرسول والسياسي والمجاهد والفاتح والتي يتزاوج في رسالته الدين والحضارة حتى لا انفصال بينهما.
 

الاثنين، 17 ديسمبر 2018

الرقابة اللادينية!

الرقابة اللادينية!

 
أ. د. محمد يحيى
 اعتاد العلمانيون في العالم العربي في السنوات الأخيرة على الشكوى المنتظمة، مما يسمونه بالرقابة الدينية المفروضة على الإبداع والفكر. ومحور هذه الشكوى هو أن الإسلاميين (وهم في عرف العلمانيين من الجهلاء والظلاميين وأعداء العقل إلى آخر هذه الاتهامات الجوفاء) لا ينفكون يطالبون بمنع الكتب والكتابات والأعمال الرئيسة التي لا تعجبهم بحجة أنها تخالف الدين.

والعلمانيون يعدون أنفسهم في هذه المعادلة على أنهم الطرف المظلوم المضطهد الذي يدافع باستماتة عن التغرير والعقلانية والتقدم والعلم. والموضوع بأسره هو ضرب من الدعاية الكاذبة التي عودنا العلمانيون والمتغربون عليها لتغطية مواقفهم القمعية والضاربة للإسلام، والتي هي بالفعل أكثر مما يحصل. ولكن يشاء الله في الفترة الأخيرة أن يفضح الجانب العلماني نفسه في تطور مثير للاهتمام حدث في مصر؛ فخلال شهر مايو ـ 2004م ـ أخذت بعض الكتابات العلمانية تبشر بقرب إنشاء ما وصف بـ (المرصد الإعلامي للمرأة) أو المرصد النسائي الذي تحدد هدفه الأساسي في المتابعة الدقيقة لما يكتب ويثار في الإعلام حول المرأة لاتخاذ موقف منه بالمنع أو التحذير أو حتى الترحيب إذا كان مما يتماشى مع المفاهيم التي يقول دعاة النسائية أو النسوية أنها تخدم مصالح المرأة حسب مفاهيمهم هم التي هي مفاهيم حركات المرأة في الغرب. والطريف أن المرشح لرئاسة أو توجيه هذا المرصد هو رجل (وليس امـرأة)، كمـا أنـه هـو أعلـى الأصـوات العلمانية الداعية ـ بحكم منصبه الثقافي ـ إلى ضرب الإسلاميين بحجة رئيسية هي أنهم يحبذون ويروجون للرقابة الدينية أو محاكم التفتيش كما يسميها.

وهذا المرصد ليس أكثر من مجرد هيئة للرقابة، أو محكمة لكن أحداً لم يعترض عليها؛ لأنها محكمة تفتيش علمانية، وليست دينية رغم عدم وجود مثل هذه المحاكم على الجانب الإسلامي لا في الحاضر ولا في الماضي؛ فكل ما يخالف الأفكار الضيقة والخاصة عن المرأة التي يقول العلمانيون والنسويون أنها هي الحق المطلق والأبدي، سوف يختفي من وسائل الإعلام ودور النشر وصفحات الصحف وكل وسائل النشر والإعلان؛ بحجة أنها فكر ظلامي بائد يتنافى مع معايير العصر والعقل والاستنارة والإصلاح. أما كل ما يخدم هذا الفكر الضيق الخاص بدءاً من دعوة الاسترجال للمرأة، ونهاية بالشذوذ النسائي مروراً بكل دعوات الشقاق والصراع بين الرجال والنساء وهموم الأسرة، وقلب أدوار المرأة ونزع أوضاعها في كنف الإسلام وشريعته، فهو مقبول ومرحب به، بل شجع عليه باعتباره يخدم قيم العقل والاستنارة.. إلخ.

إذن نحن أمام جهة رقابة على الفكر والضمائر والتوجهات في كل شيء إلا في الاسم؛ حيث زينت بلقب ـ على (الموضة) السائدة ـ وهو «المرصد». لكن هذه الرقابة لها نفس الوضع الكريه والأفعال الشنيعة التي كانت تُلصق بمحاكم التفتيش الكاثوليكية، بل تتفوق ـ على العكس ـ من الكاثوليكية أو غيرها، وهي فئة ترفع للدعاية شعارات الحرية والعقل والديموقراطية، لكنها الآن تمارس عكس هذه الدعاية، وتفرض الرقابة الخانقة على كل ما يخالف آراءها الضيقة.

ولا يخلو هذا الكلام من الدليل؛ فعندما عرض التلفزيون المصري منذ سنوات قليلة مسلسلاً يظهر فيه شخص مقترن بأربع نساء، ويحيا حياة سعيدة معهن ثارت ثائرة أدعياء الدفاع عن المرأة (بدون توكيل من النساء) وطالبوا وطالبن بمنع هذا المسلسل، وطاردوا مؤلفه وممثليه (ولا سيما القائم بدور البطل)، ووصلوا إلى حد التهديد بقطع أرزاقهم وإيقافهم عن التمثيل. حدث هذا لمجرد أن المسلسل يقوِّم مفهوماً لا يخالف الشريعة، بل يوافقها ويظهر حسناته حتى وهو يفعل ذلك في قالب من الفكاهة لا يحبذ أبداً تعدد الزوجات. وخلال هذا وقبله وبعده لا ينفك أتباع مدخل ما يسمى بـ (صورة المرأة) في ملاحقة واصطياد كل صورة أو دور تظهر فيه المرأة محجبة، أو زوجة محبة متفانية، أو أمّاً مضحية أو متدينة، ويصورون ذلك كله على أنه تكريس لدونية واضطهاد وقمع للمرأة، ويطالبون بمنع هذه الصور أو «النماذج السيئة» بزعمهم، وإحلال أخرى محلها تتمثل في النساء المسترجلات السافرات الإباحيات اللواتي هن في عرف هؤلاء نموذج المرأة المصرية.

أليس في كل هذه التوجهات قمع وكبت يتجاوز أي رقابة أخرى دينية كانت (وهي غير موجودة) أو غير دينية (وهي السائدة).؟


ومما يلقي بأقوى الضوء على هذا التأسيس الجديد لرقابة علمانية أو نسوية جديدة وشرسة، ما حدث في مصر نفسها وفي نفس أيام طرح مفهوم المرصد النسائي. ففي أواخر شهر مايو نفسه خرج الأزهر فجأة وبدون توقع وعلى خلاف التوجه السائد فيه وخارجه بمؤتمر صحفي أعلن فيه عن حظر كتاب صدر منذ عشرين سنة لكاتبة علمانية على أنه يحتوي طعناً جوهرياً في الإسلام.

وقبل أن يفيق الناس من هذه المفاجأة التي تتناقض مع مواقف مشهورة أخيرة لشيخ الأزهر ليس أقلها موقفه من قضية الحجاب في فرنسا، نشرت الصحف المصرية أن وزير العدل سوف يفعِّل قراراً بمنح سلطة الضبطية القضائية لأعضاء في مجمع البحوث الإسلامية فيما يتعلق بالكتابات التي تحتوي مساساً بالدين.

وهنا نسي العلمانيون مطلبهم الجديد بإنشاء رقابة لا دينية لصالح فكرهم، وراحوا وسط مطالبهم بالقمع والكبت لما يخالف الفكر النسوي يتحدثون عن الرقابة الدينية وتدخُّلِ المشايخ الظلاميين في الإبداع وسيادة الجهل والقمع.. إلخ.

وطبعاً لم يهتم أحد أو يلاحظ أحد من العلمانيين وحتى من غيرهم هذا التناقض الصارخ بين إنشاء هيئة لقمع الكتب من ناحية، والهجوم على ما يسمونه كذباً بالقمع والكبت الديني من ناحية أخرى.


ويبدو أن العلمانيين في خضم الوقوع في هذا التناقض نسوا أن الهدف الحقيقي من وراء الإعلان المفاجئ والسائر ضد التيار عن حظـر الكتاب وإرسـاء الضبطـية القضـائية لم يكن بأي حـال مراقـبة من يهاجمون الإسلام، بل على العكس مهـاجمة الإسـلاميين والكتاب الإسلاميين أنفسم عن طريق فـرض الرقـابة الحكوميـة علـى الفـكر الإسـلامي، وإرغـامه علـى السيـر في ركاب عملية ما يسـمى بتجـديد الخطـاب الديني (أي علمنته وتغريبه) برفع سيف الرقابة الأزهرية المزعومة على كل ما يكتب عن الإسلام من الجانب العلماني (بحجة أنه اجتهاد وتجديد) بينما تنزل بيد القمع على الكُتَّاب والمفكرين الصادقين (بحجة أنهم متطرفون متشددون يسيئون إلى صورة الإسلام).


نسي العلمانيون هذا الهدف الواضح من التحرك المفاجئ ظاهرياً، وأثاروا ضجة حول ما أسموه بـ (الرقابة الدينية). ولسوء حظهم فإن هذه الثورة من جانبهم أجبرت الجهات الرسمية على رد فعل دفاعي زعموا فيه أن الهدف من مسألة الضبطية القضائية هو الرقابة على طبع المصاحف وكتب الأحاديث فقط لضمان خلوها من الأخطاء المطبعية. وربما تكون هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يتسبب فيها العلمانيون في خدمة للإسلام بإجبار المسؤولين على إخفاء حقيقة الهدف من مسألة الضبطية القضائية. لكن هذا لا يخفي أبداً التناقض الصارخ بين دعاواهم عن الحرية وممارساتهم القمعية «المرصدية».

(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.