الجمعة، 22 نوفمبر 2019

عندما تصبح الفنون الهابطة مصالح غربية عليا علينا تبجيلها

عندما تصبح الفنون الهابطة مصالح غربية عليا علينا تبجيلها

مسيرة عدوان وهبوط المصالح الغربية: من المواقع الاستيراتيجية والمواد الأولية والأسواق التجارية إلى الآيات الشيطانية

لا يخفى على المتأمل في تاريخ الشرق العربي الإسلامي
مقدار الأذى الذي ألحقته المصالح الغربية به وبأهله من جراء لهاثها خلف المواقع الجغرافية الاستيراتيجية والأسواق لبضائعها المصنعة، والمواد الأولية كالمنتجات الزراعية (الحمضيات والقطن مثلا) في البداية ثم النفط والغاز فيما بعد، ولن ننسى أنه في سبيل الحفاظ على هذه المصالح قام الغرب برعاية إنشاء الكيان الصهيوني ليكون كلب حراسة عليها.
هذا كله من المحفوظ في تاريخنا الحديث، ومعروف أيضا الضعف الذي واجهت به دول الاستقلال والتجزئة الهجوم الغربي لانتزاع هذه المصالح من أصحاب البلاد الشرعيين، فسلمت مواردها وأراضيها لقمة سائغة للمعتدين ولم تستطع الحفاظ على حماها بسبب الضعف البنيوي الذي ولدت به في إمكاناتها وقدراتها حتى هان على أعدائها أن يستخفوا بأكثر من مليار ونصف المليار مسلم لأجل حماية كيان يهودي صغير لا تتعدى ملايينه عدد أصابع اليد الواحدة ومع ذلك يقيم الغرب لهم من الوزن أكثر مما يأبه بالمليار مسلم، وقد وصل الأمر من الإسفاف إلى درجة التلذذ غير الضروري بإهانتهم واحتقارهم كما حدث عندما استقبل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مؤلف الآيات الشيطانية سلمان رشدي الذي استفز مشاعر مئات الملايين من المسلمين ولم يكن بالطبع مستواه الأدبي الفذ الذي لا يبارى هو الدافع إلى هذا التكريم المبالغ فيه، بل هو الاستفزاز المتعمد الذي اتخذ من الحرص المنافق على حرية التعبير برقعا يتخفى به في الوقت الذي حورب فيه مفكر بارز كروجيه غارودي رغم هذه الادعاءات ولم يحمه هذا الستار الرقيق من الحرية المدعاة.

بسبب فرقتنا، أصبح علينا احترام المصالح الغربية حتى لو كانت رسوما كاريكاتيرية

ووصلت المهزلة قعرا سحيقا عندما استقبلت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بنفسها رسام كاريكاتير مغمورا باسم حرية التعبير التي أساء بها لمشاعر المسلمين، رغم أن هذا غير مسموح به ضد القلة الصهيونية حتى تحت نفس التبرير، وبهذا أضيفت الرسوم الكاريكاتيرية إلى قائمة المصالح الغربية التي لا يجوز لنا العبث بها وإلا حلت علينا لعنة الفن السابع كما حدث في الفيلم الأخير وربما أُضفنا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بتهمة ارتكاب جريمة الامتعاض ضد الإنسانية المتمسكة بحرية الرأي والتعبير!

ألمانيا من التخلي عن المصالح الكبرى احتراما لنا إلى التباهي بالتافهات احتقارا لنا

أقول هذا وأنا أتطلع إلى الخلف قليلا لأرى ألمانيا التي استخفت بنا اليوم في ظل انقسامنا كيف كانت تعاملنا بالأمس في ظل وحدتنا، ففي نهاية القرن التاسع عشر كانت ألمانيا قد أنجزت وحدتها وبنت قوتها وتطلعت لمصالحها خلف حدودها متبعة سياسة التحالف مع الدولة العثمانية تحت عنوان"التوجه نحو الشرق" ولأجل ذلك تخلت عن مصالحها الأخرى في تأييد الاستيطان اليهودي بل وأيضا عن الاستيطان الألماني نفسه في فلسطين وأرجاء الدولة.
فقد قام الإمبراطور الألماني ولهلم الثاني بزيارتين إلى الدولة العثمانية (1889) و(1898)، وفي الزيارة الثانية حاول تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية الحصول على تأييد الإمبراطور لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، ولكن لوجود التعارض بين السياسة العثمانية والبرنامج الصهيوني فإن الإمبراطور خلص "إلى أن صداقة الدولة العثمانية أثمن لألمانيا من صداقة الحركة الصهيونية، ولذلك لم يكن في مقدور ولهلم الثاني أن يدلي في تلك الفترة بتصريح يرضي فيه الأماني الصهيونية، لأنه كان حريصا الحرص كله على تدعيم صلاته بالدولة العثمانية وبرعاياها المسلمين"[1]، رغم أن ويلهلم كان يرى في تأييد الصهيونية مكسبا كبيرا ومزايا كامنة لألمانيا[2]، فأين جبابرة سايكس بيكو الذين يرى الغرب كله صداقة الحركة الصهيونية اليوم أثمن من صداقتهم جميعا، بل تصبح صداقتهم مع الغرب تابعة لمدى حرارة علاقاتهم بالصهاينة وفي ذلك فليتنافس المهرولون، ويدلي قادة الغرب بالتصريح تلو الآخر في إرضاء الأماني الصهيونية ولا يبدون أي حرص على دعم صلاتهم بدول التجزئة ورعاياها؟
نعم لقد كان لألمانيا بالفعل مصالح في الدولة العثمانية أبرزها سكة حديد بغداد، ولكنها لم تكن أكبر من المصالح الغربية العريضة في زمننا هذا في الشرق العربي الإسلامي والتي بالرغم منها يفضل الغربيون المصالح الصهيونية على مصالح العرب والمسلمين ويمعنون في إهانتهم كما مر، "فقد كان (السلطان) عبد الحميد أدهى من أن تبهر بصره بطولات حاميه (الألماني) الجديد، ولكنه كان يدرك قيمة مثل هذا الحليف القوي في المحافل الأوروبية، وكان كذلك واثقا بقدرته على دفع جميع المخاطر التي قد تنشأ عن رغبة ألمانية في السيطرة"[3]، ولهذا فإن ألمانيا لم تستطع أن تفرض على العثمانيين استيطانا ألمانيّا - فضلا عن الاستيطان اليهودي- في بلادهم، رغم أهميته لها ضمن استيراتيجيتها الحيوية لمشروع سكة بغداد الذي تقيمه بأموالها وتصور ساستها أن يحمي طريقه مليونا مستوطن ألماني[4]، ورغم حاجة العثمانيين إلى تحالفهم معها في مواجهة بقية المصالح الأوروبية وبخاصة البريطانية والفرنسية، ولكن كل هذا لم يمنع السلطان من قول "لا" مدوية لا لبس فيها في مواجهة الاستيطان الألماني بتعبير أحد المؤرخين[5]، وذلك ليبقي أراضي الدولة مخزونا للمهاجرين المسلمين الفارين من الاضطهاد والاحتلال[6] الذي كان محتدما في القوقاز والبلقان، وأن يحتفظ لمشروع سكة حديد بغداد ببعده العثماني رغم أهمية الدور الألماني في بنائه[7]، فأين لنا اليوم مثل هذه المواقف القوية في مواجهة المصالح الأجنبية عندما تكون هي في حاجة إلينا فضلا عن أن نكون نحن في حاجة إليها؟

قبر صلاح الدين بين زيارتين

وفي نفس الزيارة قام الإمبراطور ولهلم بالمرور بدمشق حيث زار قبر السلطان صلاح الدين الأيوبي ووضع عليه إكليلا من الزهور آمرا بصنع مصباح فضي هدية للضريح بصفته معجبا بالقائد المسلم، ولعل مقارنة بسيطة بين هذا الاحتفاء و"زيارة" القائد الفرنسي غورو المهينة لنفس المكان عندما دخل دمشق فاتحا محتلا في عهد سايكس بيكو الذي دشنته ثورة العرب (1916) المتحالفة مع بريطانيا، هذه المقارنة كفيلة بإلقاء الضوء على مدى الانحدار الذي سقطنا فيه في مدى سنوات قليلة من التحالف مع الغرب.

النتيجة: سر الاحترام والاحتقار

إن هذا التباين الواضح في المواقف نجد تفسيره في خطبة الإمبراطور ولهلم في دمشق حيث ألقى خطابا قال فيه: "فليطمئن حضرة صاحب الجلالة السلطان، وليطمئن معه الثلاثمائة مليون مسلم الذين يحترمونه لأنه خليفة المسلمين، إلى أنهم سيجدون في إمبراطور ألمانيا الصديق الدائم لهم"[8]، فمخاطبة حاكم واحد يمثل أمة كبرى عدد أفرادها ثلاثمائة مليون- في ذلك الزمن- وتمتد بين المحيطات تفرض احترامه على مخاطبه وتختلف جذريا عن مخاطبة حشد من الأقزام أصحاب الهيلمان الكاذب والصولجان الزائف الذين لا يمثل الواحد منهم إلا أفرادا لا يزيد عددهم عن عدد سكان حي في مدينة ألمانية!
***********
 
الهوامش



[1] الدكتور حسن صبري الخولي، سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1973، ج1ص79.
[2] الدكتور عبد الوهاب المسيري، أرض الميعاد: دراسة نقدية للصهيونية السياسية، الهيئة العامة للاستعلامات، جمهورية مصر العربية، 1980، ص133.
[3] جورج أنطونيوس، يقظة العرب: تاريخ حركة العرب القومية، دار العلم للملايين، بيروت، 1978، ص147.
[4] Robert Aldrich (ed) , The Age of Empires, Thames & Hudson, London, 2007, p. 247.
[5] Jonathan S. McMurray, Distant Ties: Germany, the Ottoman Empire, and the Construction of the Baghdad Railway, Praeger, London, 2001, p. 10.
[6] السلطان عبد الحميد الثاني، مذكراتي السياسية، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1979، ص130.
[7] Jonathan s. McMurray, p. 1.
[8] الدكتور حسن صبري الخولي، ص79- 80.

الخميس، 7 نوفمبر 2019

القوالب العلمية وتأسيس الوعي

القوالب العلمية وتأسيس الوعي
محمد بن حسين الأنصاري
 
اللغة هي البنية الأساسية للتفكير الإنساني، وهي التي تبعث الروح في أفكاره وتوقظها، وتمنحها الفاعلية والتأثير في المشهد الثقافي والعلمي؛ فهي إذن ليست وعاء للأفكار فحسب، بل هي المؤثر الفعلي في بناء الأفكار وتَشكُّلها وتكوين القناعات، والإنسان (كما يقال عنه) ابن بيئته، يقال عنه أيضا:ابن لغته ومفرداته التي يستخدمها للتعبير عن أفكاره!
وفي تراثنا الإسلامي ثمة عبارات موجزة أشبه بالأمثال العربية، أصبحت كالقوالب الجاهزة تدور على الألسنة كثيرا؛ لرشاقتها وسبكها وسهولة تَذَكّرها لا يُلتفت في العادة لتأثيرها على الجانب الثقافي والوعي الإنساني؛ علماً بأن من هذه الكلمات ما يكون مُحمَّلا بخلفيات فلسفية، ومُشْبَعا بمفاهيم موغلة في السلبية والتضييق، وأفكار قد تكون مهترئة توجه مسار الذهن، وتؤطر حركته دون أدنى مستويات التفكير في صحة مضمونها!
ومن غرائب العقل الإنساني (المتأثر بتلك الكلمات) أن يحولها لبراهين عقلية، وحجج نصية يلوكها ويقذف بها في وجه كل من نازعه في صحتها، أو خالف دلالة منطوقها، فإذا قال لك المرء: "من تمنطق فقد تزندق" فهذا معناه القول الفصل الذي لا نقاش بعده، ولا سؤال أو استفسار فضلا عن النقد والتحليل!
وقد تجد الذين يُمسِّكون بها لديهم نوع من العجز اللغوي، وضعف الإدراك للمعاني، وعدم القدرة في الكشف عن رأيه والبرهنة عليه، فهو قد لا يُبينُ عن حجته إن وجدت؛ لهذا يسكن لمثل هذه القوالب التي تسعفه عند المحاججة ومضايق الخلاف؛ ليقطع النزاع، ويتشبث بها أكثر مَن مَنحَ إجازة مفتوحة لفكره، وخدّر ذهنه وعقله عن ممارسة أي نقد بَنَّاء للتراث البشري، وغالبا ما تجد مثل هذه العبارات سوقاً رائجة وفاعلاً عند المبتدئين في مراحل التحصيل العلمي؛ لنقص التجربة وعدم الممارسة للنقد، فالمتعلم للأسف يَبدأ رحلته العلمية بمثل هذه العبارات المجملة مستظلاً بظلالها دون محاولة تعليلها قبولاً أو رداً، فما إن يقطع شوطاً في العلم حتى تجده يضيق ذرعاً بكل مَن يُمارس نقداً أو استشكالاً لما اعتاد عليه سنين عددا، ومما ساهم في نشرها عند هؤلاء ما يسمى بكتب "آداب الطلب"، وهي تراث زاخر فيه الغث والسمين، وما يتقيد بحال دون حال!
والكلمات المقصودة بالخطاب كثيرة ومتعددة، وموضوعاتها في أبواب مختلفة، وعند التفصيل لا بد أن يتنوع التعامل معها من عبارة لأخرى، فمقام التفصيل ليس كمقام الإجمال، فمن تلكم الكلمات:
* لحوم العلماء مسمومة!
* من كان شيخه كتابه كان خطأه أكثر من صوابه!
* من تمنطق فقد تزندق!
* نضج واحترق هذا العلم!
* من حفظ الأصول حاز الفنون!
* لا تأخذ العلم عن صُحفي!
* احفظ فكل حافظ إمام!
* لا تقلْ قولا ليس لك فيه إمام!
* من كتب الحواشي ما حوى شيء!
* ما ترك الأول للآخر شيء!
* من تتبع رخص العلماء تزندق!
* كم ترك الأول للآخر.
* زلة العالم مضروب لها الطبل.
* هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
* ثَبِّت العرش ثمّ انْقُشْ.
* وهكذا...إلى آخر تلكم العبارات.
وربما يقال ابتداء (في بعضها دون الدخول في مضامينها وقراءة خلفياتها): إنها عبارات مسبوكة في المبنى، خفيفة على السمع، مثلها مثل أي نص أدبي تراثي رائق، لكنّ ذلك لا يمنع من وضعها على مشرحة النقد والتحليل متى تحولت لساناً ناطقاً، وضميراً مستتراً يعكس جملة من المفاهيم المعيقة للتفكير في فضاءات التراث الإسلامي؛ فمثلاً عبارة "لحوم العلماء مسمومة" يستتر خلفها سوء التعامل مع مفهوم "التقديس واحترام العلماء"، وهكذا في عدد من تلكم العبارات!
وفيما يلي سأكشف للقارئ عن سوء تعاملنا مع مثل هذه العبارات بالوقوف مع عبارة واحدة مما سبق، نُحللها ونفككها مجردة عن سياقها، ثم نعود لسياقها الذي وردت فيه؛ لنعرف مدى العجلة في الفهم، والخطأ في عدم مراعاة السياق، وهذه العبارة هي القول عن علم ما: "نضج واحترق" وسأتناولها في مقامين:
المقام الأول: تجريدها من سياقها:
أوّل من نقل هذه العبارة (حسب معرفتي) هو الزركشي (ت: 794هـ) في قواعده الفقهية، يقول: "كان بعض المشايخ يقول: العلوم ثلاثة:
1.علم نضج وما احترق وهو علم الأصول والنحو.
2.وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير.
3.وعلم نضج واحترق، وهو علم الفقه والحديث". المنثور في القواعد الفقهية (1/72)
أولاً: القائل مجهول، ونقلها ليس دليلاً على صحتها كما يَزعم البعض.
ثانياً: ما المراد بـ"نضج واحترق"، هل يعني الخدمة والتأليف مطلقا؟ أم يعني خدمة الفن المعيّن بالنسبة لغيره؟ أم يريد بذلك اكتمال قواعد العلم ومواده؟ أم يريد به بيان العلم ووضوحه؟
ثالثاً: هل التقسيم صحيح في ذاته ومناسب وحصري تنزلا مع هذا القائل المجهول!!
رابعاً: أين الأسس التي اعتمدها هذا المجهول في هذا التقسيم، وهذه الأحكام المطلقة العائمة!!
خامساً: ما الذي جعل هذا العلم في هذا المقام وذاك في مقام آخر؛ فمثلا: لماذا لم يحكم على التفسير بالنضج والاحتراق مع أنه حكم بذلك على الحديث؟!
سادساً: هل يمكن أن يقال عن علم مبناه على الفهم والاستنباط الأبدي كالفقه مثلا أنه احترق ونضج؟!
ثامناً: لكل علم أصول وفروع، وهو لم يُفرق! لماذا قال: عن الفقه والحديث أنهما نضجا واحترقا، فذلك يشمل الأصول والفروع! لأنه لم يبين مراده! ولم يقل ذلك: عن التفسير الذي ذكر ابن تيمية في مقدمته أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لم يمت حتى بينه كاملا!! لماذا لم يقل عنه نضج واحترق!! ولماذا لم يقل عن الأصول أنه احترق؛ لأنه في الجملة أصول وثوابت؛ ولأن الشاطبي ذكر في موافقاته أن أصول الفقه قطعية؟! كيف لم يحترق الأصول عنده ولا التفسير، واحترق عنده الفقه والحديث؟!
تاسعاً: أين العبارة الأخرى السائرة: "كم ترك الأول للآخر" فإذا كانت المسألة عبارات مرسلة بلا تعليل! فكيف نوفق بين هاتين العبارتين "نضج واحترق"و"كم ترك الأول للآخر"؟!
وفي هذا السياق يقول الألباني: قولهم في المثل السائر: (كم ترك الأول للآخر) يبطل قول بعض المقلدة (علم الحديث نضج واحترق!) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (12/511).
المقام الثاني: قراءتها في سياقها:
مما ابتُليَبه المشهد الثقافي المعاصر جزّ العبارات من سياقها، والتقاطها من بين أخواتها اللاتي يتضح بهن المعنى ويكتمل بمجموعها دون آحادها، فمن اقتبس كلمة أو كلمتين من كاتب أو باحث دون مراعاة سياقها كان كمن قرأ قوله - تعالى -: ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين) وسكتَ ولم يُكملْ، وفكرة السياق عموما واعتبارها في المعنى والكشف عن المراد لها شأن كبير في تراثنا العلمي؛ لهذا لا ينبغي للباحث إغفالها وعدم مراعاتها.
وهذه العبارة: "نضج واحترق" اقتطعت من سياقها، واشتُهر لها عند البعض معنى خاص غارق في السلبية بمعزل عن مضمونها الذي أتت فيه، فعند فئام من المحصلين للعلم أن الفن الذي قيل عنه: نضج واحترق كالحديث مثلا يُشاع أنه علم انتهى فيه البحث، ولا مجال للإضافة فيه بأي وجه من الوجوه، وعليه فالباحث حين يأتي لمثل هذه العلم مصطحبا معه هذه العبارة سيكون لمفهوم التقليد دور كبير في تشكيل وعيه وفكره دون مراعاة الدليل!!
وبالرجوع لسياق العبارة في مصدرها السابق نجد غير هذا المعنى، فالزركشي أورد العبارة في سياق ذكره لأنواع الفقه وتعداد المعاني التي يفيدها، حتى وصل به المقام للنوع العاشر، فيقول: (1/71) "العاشر: معرفة الضوابط التي تجمع جموعا، والقواعد التي تُردُّ إليها أصولا وفروعا، وهذا أنفعها وأعمها، وأكملها وأتمها، وبه يرتقي الفقيه إلى الاستعداد لمراتب الاجتهاد، وهو أصول الفقه على الحقيقة".
فقس هذا المعنى الذي ذكره الزركشي للفقه مع معنى العبارة تجد أن فقه الفروع خاصة ليس فيه ما يمكن اعتبار نضوجه واحتراقه على التمام (كما في العبارة، أو ما لا يمكن الإضافة فيه كما هو سائد!)، بل تأملاً لكلمات التي استخدمها للتعبير؛ تجد أن دلالاتها تُضاد المعنى السلبي للعبارة كقوله: الضوابط.. والقواعد.. والاجتهاد.. وأصول الفقه.. فأنت تلحظ أنّ هذه المفردات كالآلة والأداة التي تُحفِّز الذهن وتضبط حركته لتحقيق الاجتهاد واستنباط الأحكام، والإتيان بالجديد من الآراء دون توقف، وهذا من أتمّ المعاني للفقه وأنفعها، فكيف يقال: أنه نضج واحترق ولا يمكن الإتيان فيه بجديد، وقل مثل ذلك في علوم الحديث وغيرها؟!
ثم يُعْقب الزركشي حديثه السابق بقوله: فائدة.. ويذكر العبارة (نضج واحترق) بتمامها، ويقول بعدها مؤكِّدًا على معنى الإضافة والإبداع: (1/72) ".. قال صاحب الأحوذي: ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى إلى تصنيف أن يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعا ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد الورق والتحلي بحلية السرق".
فما قبل العبارة وما بعدها يُخالف القول المتداول الذي تُفهم به، وهذا ما يعني على الأقل إعادة النظر فيها وفي معناها، بل يمكن أن يقال للزركشي بناء على المعنى المستفيض لها: كيف ساغ لك أن تدعوَ للإبداع والاختراع في البحث عموما وقد نوّمتَ العقل وحقنتَ أوردته بـ"نضج واحترق"؟! فالمعنى المشهور للعبارة يحتاج للمراجعة والنظر، ولا يضير أحدا أن يكون لهذه العبارة معنى صحيح غير هذا عند الزركشي أو غيره، ولكن مما لا شك فيه بطلان المعنى الذي يشاع لها بناء على التقرير السابق، وهذا غاية ما يراد إيصاله هنا، مع الإشارة والتنبيه لما يمكن أن يحدثه عدم التدقيق والرجوع للأصول ومراعاة السياق من سوء الفهم والخطأ في التقرير.
وبعد، فالمحصّل أن من هذه العبارات التي شاعت على الألسنة ما هو متهافت ومتناقض، غير مبني على دليل ولا برهان ولا واقع، بل جلها مرسل هكذا دون محاولة الرجوع لمنشئها وأصلها، ولو لم تأخذ هذه العبارة (وما يماثلها) حجما كبيرا في الوسط الشرعي وتؤثر فيه، ما ذكرها أحد، ولا احتاج للرد عليها وبيان ضعفها.
وفي الختام لا أتمنى أن يقال: عقولنا هي التي احترقت ونضجت فلم تعد قادرة على البناء المعرفي الفاعل، ولا على البحث العلمي المجرد!! والحمد لله رب العالمين من قبل ومن بعد.

الأحد، 20 يناير 2019

قصة أول انقلاب عسكري في عالمنا الإسلامي

مختارات من مذكرات السياسيين
بشير زين العابدين
- الغوغائية
- قصة أول انقلاب عسكري في عالمنا الإسلامي
 
بمناسبة ما سماه نظام أسد (تجديد البيعة الرابعة للرئيس) زعم النظام أن مظاهرة قوامها أكثر من مليوني شخص خرجت في دمشق وحدها ناهيكم عن بقية المحافظات.
وفي جبلة مدينة من مدن الساحل السوري خرج النصيريون في مظاهرة وهم يهتفون (يا الله حلك حلك يجلس حافظ محلك) سبحان الله وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
لأسد ونظامه وكل نظام طاغوتي نسوق هذه اللفتة لرجل عركته الأيام وخدعته الجماهير كما خدعت غيره:
(كان جمال باشا يستقبل استقبال الملوك الفاتحين ويكيل له الشعراء والأدباء المديح شعراً ونثراً، حتى أن أحدهم وهو السيد خير الدين الزركلي (سفير السعودية في المغرب الآن) (توفي قبل بضع سنوات) ألقى أمام صورة جمال باشا في حفلة افتتاح جريدة الشرق قصيدة مطلعها:
احنوا الرؤوس ورددوا النظرات   هذا مثال مفرج الكربات
فشبهه بالباري عز وجل، وكانت أكف الجميع تدمى من كثرة التصفيق.
وقد تردد للخاطر سؤال: كيف يستطيع المرء التوفيق بين تنكيل جمال باشا بالعرب وبين احتفاء وجهائهم به في الاحتفالات؟ وهل اقتصر الترحيب على طبقة معينة من أهل البلاد أم تناول طبقات الشعب على اختلافها؟ فأقول بأن كل الطبقات في سورية، من طبقة الوجهاء والأغنياء، أي طبقة الارستقراطيين، إلى الطبقة الوسطى من الموظفين، بل حتى الطبقة العاملة، كانت تشترك باستقبال جمال باشا ووداعه في غدواته وروحاته، وكان الناس ولا يزالون لا يعتبرون الاشتراك بمثل ذلك تأييداً منهم أو دعماً لسياسة ما. كانوا يحضرون لمجرد الفرجة، وإلا فكيف نستطيع تفسير الاستقبال الرائع الذي قوبل به الجنرال الافرنسي غورو عند قدومه إلى دمشق إثر ظفر جنوده في معركة ميسلون؟ وكيف لانغطي وجوهنا خجلاً مما بدا من بعض المستقبلين، حين فكوا رباط خيل عربة الجنرال المشار إليه ووضعوا أنفسهم بدلاً عنها وجروها في الطريق، بين دوي المصفقين وهتافاتهم؟
هل بمقدورنا أن نحمل الجهل العام في الشؤون السياسية مسؤولية هذه الميوعة؟ إن أهالي باريز لم يكونوا في الشوارع عندما دخل إليها الجنود الألمان في 14 حزيران 1940، بل اعتصموا في دورهم وأغلقوا الستائر الخشبية، لكنهم بعد سنتين بدأوا يتعاملون مع ضباط الجيش المحتل وأفراده ويدعونهم ويقبلون حضور حفلاتهم ويشاركونهم أفراحهم وأتراحهم.
وأهل دمشق استقبلوا جمال باشا بالحماسة نفسها التي استقبلوا بها، فيما بعد، الأمير فيصل بن الحسين عندما انسحب الترك ودخل الإنكليز سورية، ثم حين عودته من باريز. ثم كان استقبال الجنرال كاترو بما لا يقل مهابة عن الاستقبالات الشعبية التي كان يقابل بها شكري القوتلي بغدواته المتكررة، أو غيره من كبار رجالات العرب، ولقد أشار الأمبراطور ويلهلم الثاني، عاهل ألمانيا، بحسن وفادة الدمشقيين له، حين زيارته في 1898، وأوصى بأن تؤخذ الدروس عن دمشق في كيفية استقبال الملوك.
ولهذا يحسن بالذين تستقبلهم هذه المدينة بحفاوة وروعة أن لا تأخذهم عاطفة الغرور، فيظنون أنفسهم حائزين على مرتبة خاصة في نظر الدمشقيين. وليعلم الجميع أن أهل دمشق يستقبلون، ويستقبلون بحفاوة كل من وفد إليها، عدواً كان أو صديقاً. فليمتع القادم (أياً كان مقامه) نظره بمشاهد نهر يردى الخلابة، لا أقل ولا أكثر، ليسعد بحفاوة الأهلين وليهنأ بها. ولكن حذار من الغرور ومن الاعتقال أنه وحده صاحب هذه الحفاوة والعناية. فدمشق تقدم لزوارها الاستقبالات كما تقدم لهم الماء القراح والطعام الشهي والهواء النقي. فهذه أمور عادية. وهي من عادات الاحتفاء بالضيف وإكرامه، انتقلت بالتوارث من جيل إلى جيل.
ومن جهة أخرى، لا بد من التنويه بأن أكثر الحكام الجدد أرادوا، زيادة في إظهار ترحيب البلاد بالقادم، أن يحملوا آلاف الفلاحين وغيرهم من الأهلين على ظهور السيارات، حاملين أنواع (الشراطيط) هازجين مادحين، فيقف هؤلاء القوم في الصف على أرصفة الشوارع التي سيمر بها الموكب، وذلك تحت أشعة الشمس المحرقة صيفاً ومزاريب مياه الأمطار شتاء، وهم يرددون العراضات والهتافات التي يتعلمونها من منظمي الاحتفاء. ويظل بهم الأمر إلى أن يصل صاحب المقام الرفيع، فيزداد هتافهم وتدمى أيديهم من التصفيق. ثم يلتفتون إلى السيارات التي أقلتهم في المجيء فلا يجدون أثراً لها في العودة، فيضطرون الرجوع خائبين راكبين متن أرجلهم، قائلين بحق: من خفف رأسه تعبت رجلاه. هذا هو حالنا في دمشق وحلب وسائر مدن سورية حتى السنين الحاضرة، حين جرى استقبال الرئيس جمال عبد الناصر بما لم ينقص عن استقبال من سبقه في دخول دمشق.وكان ذلك بالاضافة إلى الحشود التي نظمها عملاؤه في سورية سعياً منهم لحمل الرئيس على الإطمئنان والارتياح لتظاهرات شعبه في الإقليم الشمالي. فيرضى بدوره عنهم، ولو دارت الدائرة على سورية المسكينة، ولربما أراد أصحاب المقامات الرفيعة الآن في دمشق أن يضربوا على الوتر الحساس لدى رئيسهم، حين تبدى لهم هذا الطبع فيه. من ذلك أنه عندما وصل إلى حلب لأول مرة وتطلع من شرفة دار المحافظة. فلم يعجبه اتساعها قال لزلمه: (دي ما تسعش أكثر من عشرين ألف نفس أنا عايز ميدان أكبر). فعكف الاتباع على التشاور واستنجدوا بالمحافظ. فأشار عليهم بساحة فسيحة تملكها دائرة الأوقاف وليس عليها أي بناء، وعلى جانبها دار السيد سامي صائم الدهر. فأسرعوا إليها كلهم، وعلى رأسهم الرئيس، واضطروا للقفز معه مرتين من فوق جدار حديقة قصر المحافظة لكي يتجنبوا صعوبة اختراق الجماهير المحتشدة أمامه، إلى أن وصلوا إلى الدار المقصودة. ولما صعدوا إلى الشرفة تنفس الرئيس الصعداء، وقال: (ايوه كده دي تسع مئة ألف، ودا اللي إنا عايزه) ثم أمر بسوق الجماهير إلى الساحة وراح يكلمهم ثلاث ساعات متواصلة عن القومية العربية، والاستعمار، والعملاء، والاشتراكية الديمقراطية التعاونية، حتى تعبوا ولم يتعب.
بقدر ما كان جمال باشا شجاعاً مقداماً، كان متحسباً للطوارىء، يقظاً على حياته من أن تمسها يد قاتله. ولا غرابة في ذلك لمن كان مثله وترعرع في محيط ثورة الضباط الأتراك الذين حاربوا في ماكدونيا عصابات البلغار، ثم انتزعوا الملك من السلطان عبد الحميد وهجموا على الباب العالي وهو مقام الصدر الأعظم ووزير الداخلية وقتلوا وزير الحربية ناظم باشا وأجبروا كامل باشا على الاستقالة. وبذلك تم لحزب الاتحاد والترقي الاستيلاء على الحكم في 1913 والبقاء فيه حتى انهيار الدولة العثمانية في تشرين الثاني 1918. فهرب كبار أعضاء الحزب إلى خارج المملكة. غير أن جمعية الطاشناق الأرمنية لاحقت كل واحد منهم على انفراد. فصرع طلعت باشا في برلين، والبرنس سعيد حليم باشا في روما، وجمال باشا في بلاد الأفغان، وأنور باشا في القفقاس، وبذلك تم للجمعية الانتقام ممن نكلوا بأبناء الطائفة الأرمنية في الحرب العالمية الأولى وشردوهم خارج بلادهم.
وفي صيف 1916، طلب جمال باشا من والدي أن يقيم على شرفه مأدبة كبيرة. ولم يكن لاجابة رغبته بد، فدعا الوالي وكبار الموظفين والأمراء والوجهاء والعلماء لتناول طعام العشاء في صحن دارنا بسوق ساروجه.
قصة أول انقلاب عسكري في عالمنا الإسلامي:
هل تريدون أن تعلموا قصة أول انقلاب عسكري في عالمنا الإسلامي ثم تتابع هذه الانقلابات اسمعوا ما يقوله خالد العظم عن انقلاب قادة حركة الاتحاد والترقي عملاء الماسونية وسقوط السلطان عبد الحميد وما حل بالعالم الإسلامي. وتذكروا أن الكاتب علماني لكن الحقائق المرة أنطقته وكل إنسان يصحو ضميره لحظات وقد يعود إلى غيه.
(وأما الذكرى الثانية في مخيلتي فهي أصوات المدافع التي أطلقت في دمشق يوم الانقلاب التركي في 1908، وقيل لي: (أعلنت الحرية..) وطبعاً لم أكن أنا مدركاً ما هي الحرية، ولا أهلي كانوا مهتمين بإفهامي كنهها. وقد تعرفت بها فيما بعد، ولمست كم من المظالم ترتكب في سبيلها.
وأجزم بأن هذا الانقلاب الذي حصل في الدولة العثمانية كان بداية الهزات التي استمرت منذ 1908 ولا تزال تحول دون الاستقرار في الشرق الأدنى. فلا تكاد تمضي سنة دون أن يحدث في جزء من هذا الشرق ما يبعث الارتجاج في المجموع: ففي 1909 خلع السلطان عبد الحميد وتولى الاتحاديون الحكم، وفي 1911 استولت إيطاليا على طرابلس الغرب، وفي 1912 نشبت حرب البلقان، وفي 1914 انفجرت الحرب العالمية الكبرى ودامت حتى آخر عام 1918، وفي 1919 بدأت مناوشات حربية بين الافرنسيين والوطنيين السوريين استمرت حتى موقعة ميسلون، بتموز 1920، حينما تغلب جيش الجنرال غورو ودخل دمشق. ولم تهدأ سورية خمسة وعشرين عاماً قضتها تحت الانتداب الافرنسي. فكانت أولى المظاهرات ضده في 1922 حينما جاء مستر كراين الأمريكي، فاحتشدت الجماهير وألقيت الخطب ضد فرنسا وأوقف المرحوم الدكتور عبد الرحمن شهبندر ورفاقه. وكانت هذه أولى التفاعلات الشعبية ضد الاستعمار.
وقامت الثورة السورية ضد فرنسا في 1925 وظلت تشغل الافرنسيين حتى 1926، ثم اثيرت المظاهرات على أثر فشل دور تجربة الحكم الوطني الذي إقامه الافرنسيون في 1928.وظلت البلاد تتمخض بالمظاهرات والمناوشات حتى 1932، حين أقام الافرنسيون شبه حكم وطني لم يلبث أن واجه المظاهرات واقفال المخازن والدكاكين في 1933. ثم نشبت الثورة في فلسطين ضد الانكليز واليهود في 1935، وتجددت في 1938 بينما كانت القلاقل تملأ الجو إرهاباً في سورية حتى انفجرت الحرب العالمية الثانية وانقسم الفرنسيون قسمين، الواحد بقي مخلصاً لحكومته المركزية في فيشي والآخر اشترك مع الانكليز بمحاربة قوى الجنرال دانتز، الذي دخل دمشق واستولى على سورية ولبنان. ثم انتهى الأمر إلى قيام الحكم الوطني في سورية في 1943. إلا أن الافرنسيين لم يراعوا وعودهم باحترام استقلال سورية فكانت حوادث العدوان في 1945.
ولم يمض على العهد الوطني الذي قام في سورية ولبنان أكثر من عامين حتى دخلت قضية فلسطين في دورها الحاد، فقررت بريطانيا الغاء انتدابها وسحب جيوشها من تلك الربوع. وتدخلت الأمم المتحدة باقرار تقسيم البلاد إلى جزئين خصت اليهود بالجزء الأكبر الغني والعرب بالجزء الآخر. واعترض العرب شعوباً وحكومات ودخلت القوى العربية ألى الأراضي الفلسطينية ودارت بينها وبين اليهود معارك عديدة، فلم تنجح قوانا لأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن - في طرد اليهود. وتدخلت الدول الكبرى التي اتفقت كلمتها هذه المرة وأجبرت الدول العربية على قبول إيقاف القتال، ثم على توقيع اتفاقيات الهدنة.
وفي 1949 قام بسورية انقلاب عسكري تزعمه حسني الزعيم بناء على تشجيع الافرنسيين والأمريكيين، ثم قام انقلاب معاكس دعمه الإنكليز كاد يلقي بسورية في أحضان العراق لولا قيام أديب الشيشكلي بقلب الحكم القائم وتسلم قيادة الأمور. لكنه لم يلبث أن اضطر إلى الهروب من دمشق في 1954، فقام الحكم المدني الديمقراطي حتى أواخر 1957، غير أنه انهار بدوره بتأثير عوامل عديدة لا تبرىء الأمريكيين من التدخل بها. ثم كانت الانتفاضة العسكرية ضد الوحدة في 28 ايلول 1961.
وما حدث في سورية رافقته في بقية البلاد العربية حوادث لا تقل أهمية وتأثيرا على مجرى التاريخ، لا سيما في مصر حيث قام سعد زغلول بثورته التي استمرت حتى نوال الاستقلال. ثم لجأ عبد الناصر ورفاقه الضباط إلى قلب نظام الحكم بمعاونة الأمريكيين المعنوية. ثم كانت حوادث الهجوم على قناة السويس في 1956 وما عقب ذلك من حوادث هامة.
وأما في الجزئرة العربية فكانت حرب الهاشميين والسعوديين انتهت باحتلال عبد العزيز بن سعود الحجاز وإلحاقها بمملكته. وكذلك نشبت في العراق ثورات وانقلابات عديدة بدأت بالثورة الوطنية ضد الإنكليز ثم توالت الانقلابات العسكرية الواحدة تلو الأخرى: بكر صدقي، حكمت سليمان، ياسين الهاشمي، العقداء الأربعة (الصباغ ورفاقه)، نوري السعيد، الكيلاني، الوصي عبد الاله. وهؤلاء كلهم قاموا، وأحدهم ضد الآخر، فقتل أكثرهم وسجن الباقون، إلى أن انتهى الأمر بقلب النظام الملكي كله على يد عبد الكريم قاسم ورفاقه، فأبيدت العائلة المالكة وسجن من بقي حياً من الزعماء السياسيين. ثم عقب ذلك ما حصل في الموصل من ثورة عسكرية، تلتها محاولة قتل عبد الكريم قاسم نفسه. وهذا كله لم يضمن للعراق استقراراً مستمراً منذ قيام دولة العراق حتى الآن.
ولئن نعم لبنان بهدوء نسبي فإن الثورة التي قامت في 1958 واستمرت طويلاً خدشت سمعة ذلك البلد الذي سعى أبناؤه لاشاعة الهدوء والسكينة في ربوعه. وهكذا ابتلي لبنان بالانقسام الداخلي ومساوئه.
ولم ينج لبنان من ويلات الانقلابات العسكرية إذ حدثت محاولة لقب نظام الحكم في 31/12/1961 ولكنها باءت بالفشل.
وأما الأردن فقد نعم بقسط من الاستقرار النسبي مدة أصول من جيرانه، إلا أنه منذ حوادث فلسطين وانضمام المنطقة الغربية اليه بدأت مظاهر عدم الاستقرار تتجدد عاماً فعاماً. فقتل الملك عبد الله، ثم تنازل ابنه الملك طلال عن العرش. لكن حفيده الملك الحسين ظل عرضة لتيارات سياسية متضاربة جعلت بلاده غير هادئة من حيث الأمن والاستقرار السياسي. فهناك انتخابات 1955، وقيام حكومة النابلسي وسيرها إلى جانب سورية ومصر والسعودية، ثم ردة فعل الملك حسين بحل البرلمان وإسناد الحكم إلى سمير الرفاعي وهزاع المجالي، وسجن العقائديين، وتعثر الأمور بين المملكة الأردنية والجمهورية العربية المتحدة، واضطرب الحال حتى اغتيال المجالي. والحقيقة أن وضع الأردن مع سورية والعراق وتأليف دولة عربية قوية على طريقة الاتحاد الفدرالي، وهكذا تكون الأمور عادت إلى نصابها الطبيعي.
ولم تنج بلاد فارس من هزات عنيفة بدأت في العصر الحاضر بثورة رضا بهلوي وفوزه بعرش إيران، ثم صدامه مع الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى خلعه ونفيه إلى إفريقيا حيث توفي. ثم قام مصدق بحركته الشهيرة التي بذل الأمريكيون والبريطانيون جهدهم لقلب نظامه فنجحوا وتنفسوا الصعداء. ثم قامت مظاهرات جديدة وهرب الشاه ثم عاد، ولكنه لا يزال هو ونظام حكمه معرضين للانهيار. وفي أفغانستان قامت حركة معادية للأجانب على يد عاهلها أمان الله لم تلبث الدول الكبرى أن قضت عليها بواسطة باجا سقا. لكنه قتل وعادت الأمور لسيرها الطبيعي.
وباكستان، بعد استقلالها في 1947، لم تستقر فيها الأمور. فقامت ثورة تولاها قائد الجيش الذي سمى نفسه رئيساً للجمهورية، وتركيا كذلك، بعد أن حاربت اليونان وظفرت باستقلالها وسادت الطمأنينة فيها وسارت في طريق التقدم والرقي، انقسمت إلى فئتين: فئة برئاسة عصمت إينونو وفئة برئاسة عدنان مندريس الذي فاز بانتخابات 1950 النيابية وتسلم الحكم. لكنه أساء التصرف فانهارت اقتصاديات تركيا انهياراً خطراً. فقام الضباط عليه واعتقلوه وتسلموا زمام الأمور ثم أعدموه.
والسودان أيضاً لم تحرم من انقلاب تولى العسكريين بنتيجته شؤون الحكم برئاسة الفريق عبود، في 1958.
فإذا التفتنا حولنا في بلاد الشرق الأدنى، بحالته الحاضرة، رأينا حكومات عسكرية مستبدة تسيطر على أجزائه: تركيا ورئيسها الجنرال غورسيل، ولبنان ورئيسه فؤاد شهاب، والجمهورية العربية المتحدة ورئيسها البكباشي جمال عبد الناصر، والعراق ورئيسه اللواء عبد الكريم قاسم، والباكستان وعلى راسه الجنرال أيوب خان. أما الدول الأخرى فتحكم بطريقة لا تختلف عن الطرق المتبعة في البلاد المذكورة من حيث النظام الرئاسي الاستبدادي وهي لم تنج من عدم الاستقرار، رغم أن الحكم فيها حكم عسكري غير شوري باستثناء أسبانيا والبرتغال. والفضل في هذين البلدين يرجع إلى عقلية فرانكو وسالازار وطبيعة الشعبين الأسباني والبرتغالي.
ويبدو أن داء الحكم العسكري الذي استشرى في الشرق الأدنى انتقلت عدواه إلى أمريكا الجنوبية، حيث لا يستقيم الحكم لجنرال أو قائد حتى يقلبه زميل له، وهكذا دواليك. ولعل للغيرة والحسد أثرهما في اندفاع القواد العسكريين إلى الطموح للقبض على زمام الأمور واغتصاب السلطة، سواء من الحكام المدنيين أو من زملائهم العسكريين الذين سبقوهم في هذا المضمار.
وبأكثر الحالات، يسبق الانقلاب العسكري تردي الأمور الداخلية في البلاد، نتيجة لتزاحم المدنيين على الحكم ولجوئهم إلى إساءة استعمال صلاحياتهم، حرصاً منهم على استبقاء دفة الأمور في أيديهم. فتنتشر الفوضى ويعم التبرم والاستياء، فيهرع ضابط مهووس أو جماعة من صغار الضباط إلى عزل السلطة المدنية عن الحكم والحلول محلها، حاسبين أنهم بأسلوبهم الحديدي، وبما اعتادوا عليه من إصدار الأوامر التي لا مرد عليها لجنودهم يستطيعون املاء إرادتهم على مجموع الشعب. وهم يعتقدون أن إدارة سياسة الدولة، داخلياً وخارجياً واقتصادياً وعلمياً، امر سهل كإدارة حسابات فرقة عسكرية أو تمرين كتيبة على السير واخذ التحية أو إطلاق الرصاص. وأولئك الضباط خصوصاً في بلدنا الذين هربوا من المدارس الرسمية لعجزهم عن الحصول على شهاداتها والتجأوا إلى المدرسة العسكرية حيث لا تزيد مدة الدراسة فيها عن سنتين، ثم بدأوا يعلقون النجوم والنسور على اكتافهم بسرعة خاطفة، ظنوا أنهم يخدمون بلدهم باستيلائهم على قيادة البلاد وبإبعاد المجربين من المدنيين الذين مارسوا صناعة الحكم طويلاً وكانوا على علاتهم أكثر خبرة ودراية من هذه الطبقة اليافعة.
وفي جملة الأسباب الأساسية التي أدت إلى الانقلابات العسكرية كان ابتعاد الشعب وزعماؤه عن الرضوخ لمطالب الدول الاستعمارية وقبول اقتراحاتها المؤدية إلى ربط مصير الأمة الصغيرة بالدولة الكبيرة. فعندما يعجز عملاء تلك الدولة عن تسيير سياسة البلد في مثل هذا الاتجاه يعمدون إلى إغراء بعض الضباط للقيام بانقلاب عسكري يوقف، على الأقل، الاتجاه المعاكس لرغبة تلك الدولة، إذا هو لم يوجه الأمور في مصلحتها.
طبيعي ان جميع الضباط المشتركين في الانقلابات ليسوا عملاء للأجانب ولكنهم يخدعون بمظاهر الأمور، وبما ينفخه فيهم بعض رفاقهم من روح الحماس الوطني فيصحبون آلة تلعب بهم الأيدي الملوثة، ثم لا يلبث أكثرهم أن يفهم الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان.
أراني ابتعدت كثيراً عن نطاق البحث الذي حددته لنفسي في هذه الذكريات التي نويت فيها الابتعاد عن ذكر ما له صلة بالسياسة. ولكن هل بقدرة أي رجل سياسي أن يكتب صفحة دون انينساق قلمه أن ينساقاً آلياً إلى الجانب السياسي؟