بشير زين العابدين
- الغوغائية
- قصة أول انقلاب عسكري في عالمنا الإسلامي
بمناسبة ما سماه نظام أسد (تجديد البيعة الرابعة للرئيس)
زعم النظام أن مظاهرة قوامها أكثر من مليوني شخص خرجت في دمشق وحدها ناهيكم
عن بقية المحافظات.
وفي جبلة – مدينة من مدن الساحل السوري
– خرج النصيريون في مظاهرة وهم يهتفون (يا الله حلك حلك يجلس حافظ محلك) سبحان الله وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
لأسد ونظامه وكل نظام طاغوتي نسوق هذه اللفتة لرجل عركته الأيام وخدعته الجماهير كما خدعت غيره:
(كان جمال باشا يستقبل استقبال الملوك الفاتحين ويكيل له
الشعراء والأدباء المديح شعراً ونثراً، حتى أن أحدهم وهو السيد خير الدين
الزركلي (سفير السعودية في المغرب الآن) (توفي قبل بضع سنوات) ألقى أمام
صورة جمال باشا في حفلة افتتاح جريدة الشرق قصيدة مطلعها:
احنوا الرؤوس ورددوا النظرات هذا مثال مفرج الكربات
فشبهه بالباري عز وجل، وكانت أكف الجميع تدمى من كثرة التصفيق.
وقد تردد للخاطر سؤال: كيف يستطيع المرء التوفيق بين تنكيل
جمال باشا بالعرب وبين احتفاء وجهائهم به في الاحتفالات؟ وهل اقتصر الترحيب
على طبقة معينة من أهل البلاد أم تناول طبقات الشعب على اختلافها؟ فأقول
بأن كل الطبقات في سورية، من طبقة الوجهاء والأغنياء، أي طبقة
الارستقراطيين، إلى الطبقة الوسطى من الموظفين، بل حتى الطبقة العاملة،
كانت تشترك باستقبال جمال باشا ووداعه في غدواته وروحاته، وكان الناس
– ولا يزالون
–
لا يعتبرون الاشتراك بمثل ذلك تأييداً منهم أو دعماً لسياسة ما. كانوا
يحضرون لمجرد الفرجة، وإلا فكيف نستطيع تفسير الاستقبال الرائع الذي قوبل
به الجنرال الافرنسي غورو عند قدومه إلى دمشق إثر ظفر جنوده في معركة
ميسلون؟ وكيف لانغطي وجوهنا خجلاً مما بدا من بعض المستقبلين، حين فكوا
رباط خيل عربة الجنرال المشار إليه ووضعوا أنفسهم بدلاً عنها وجروها في
الطريق، بين دوي المصفقين وهتافاتهم؟
هل بمقدورنا أن نحمل الجهل العام في الشؤون السياسية
مسؤولية هذه الميوعة؟ إن أهالي باريز لم يكونوا في الشوارع عندما دخل إليها
الجنود الألمان في 14 حزيران 1940، بل اعتصموا في دورهم وأغلقوا الستائر
الخشبية، لكنهم بعد سنتين بدأوا يتعاملون مع ضباط الجيش المحتل وأفراده
ويدعونهم ويقبلون حضور حفلاتهم ويشاركونهم أفراحهم وأتراحهم.
وأهل دمشق استقبلوا جمال باشا بالحماسة نفسها التي استقبلوا
بها، فيما بعد، الأمير فيصل بن الحسين عندما انسحب الترك ودخل الإنكليز
سورية، ثم حين عودته من باريز. ثم كان استقبال الجنرال كاترو بما لا يقل
مهابة عن الاستقبالات الشعبية التي كان يقابل بها شكري القوتلي بغدواته
المتكررة، أو غيره من كبار رجالات العرب، ولقد أشار الأمبراطور ويلهلم
الثاني، عاهل ألمانيا، بحسن وفادة الدمشقيين له، حين زيارته في 1898، وأوصى
بأن تؤخذ الدروس عن دمشق في كيفية استقبال الملوك.
ولهذا يحسن بالذين تستقبلهم هذه المدينة بحفاوة وروعة أن لا
تأخذهم عاطفة الغرور، فيظنون أنفسهم حائزين على مرتبة خاصة في نظر
الدمشقيين. وليعلم الجميع أن أهل دمشق يستقبلون، ويستقبلون بحفاوة كل من
وفد إليها، عدواً كان أو صديقاً. فليمتع القادم (أياً كان مقامه) نظره
بمشاهد نهر يردى الخلابة، لا أقل ولا أكثر، ليسعد بحفاوة الأهلين وليهنأ
بها. ولكن حذار من الغرور ومن الاعتقال أنه وحده صاحب هذه الحفاوة
والعناية. فدمشق تقدم لزوارها الاستقبالات كما تقدم لهم الماء القراح
والطعام الشهي والهواء النقي. فهذه أمور عادية. وهي من عادات الاحتفاء
بالضيف وإكرامه، انتقلت بالتوارث من جيل إلى جيل.
ومن جهة أخرى، لا بد من التنويه بأن أكثر الحكام الجدد
أرادوا، زيادة في إظهار ترحيب البلاد بالقادم، أن يحملوا آلاف الفلاحين
وغيرهم من الأهلين على ظهور السيارات، حاملين أنواع (الشراطيط) هازجين
مادحين، فيقف هؤلاء القوم في الصف على أرصفة الشوارع التي سيمر بها الموكب،
وذلك تحت أشعة الشمس المحرقة صيفاً ومزاريب مياه الأمطار شتاء، وهم يرددون
العراضات والهتافات التي يتعلمونها من منظمي الاحتفاء. ويظل بهم الأمر إلى
أن يصل صاحب المقام الرفيع، فيزداد هتافهم وتدمى أيديهم من التصفيق. ثم
يلتفتون إلى السيارات التي أقلتهم في المجيء فلا يجدون أثراً لها في
العودة، فيضطرون الرجوع خائبين راكبين متن أرجلهم، قائلين بحق: من خفف رأسه
تعبت رجلاه. هذا هو حالنا في دمشق وحلب وسائر مدن سورية حتى السنين
الحاضرة، حين جرى استقبال الرئيس جمال عبد الناصر بما لم ينقص عن استقبال
من سبقه في دخول دمشق.وكان ذلك بالاضافة إلى الحشود التي نظمها عملاؤه في
سورية سعياً منهم لحمل الرئيس على الإطمئنان والارتياح لتظاهرات شعبه في
الإقليم الشمالي. فيرضى بدوره عنهم، ولو دارت الدائرة على سورية المسكينة،
ولربما أراد أصحاب المقامات الرفيعة الآن في دمشق أن يضربوا على الوتر
الحساس لدى رئيسهم، حين تبدى لهم هذا الطبع فيه. من ذلك أنه عندما وصل إلى
حلب لأول مرة وتطلع من شرفة دار المحافظة. فلم يعجبه اتساعها قال لزلمه:
(دي ما تسعش أكثر من عشرين ألف نفس…
أنا عايز ميدان أكبر). فعكف
الاتباع على التشاور واستنجدوا بالمحافظ. فأشار عليهم بساحة فسيحة تملكها
دائرة الأوقاف وليس عليها أي بناء، وعلى جانبها دار السيد سامي صائم الدهر.
فأسرعوا إليها كلهم، وعلى رأسهم الرئيس، واضطروا للقفز معه مرتين من فوق
جدار حديقة قصر المحافظة لكي يتجنبوا صعوبة اختراق الجماهير المحتشدة
أمامه، إلى أن وصلوا إلى الدار المقصودة. ولما صعدوا إلى الشرفة تنفس
الرئيس الصعداء، وقال: (ايوه كده…
دي تسع مئة ألف، ودا اللي إنا عايزه) ثم أمر بسوق الجماهير إلى الساحة
وراح يكلمهم ثلاث ساعات متواصلة عن القومية العربية، والاستعمار، والعملاء،
والاشتراكية الديمقراطية التعاونية، حتى تعبوا ولم يتعب.
بقدر ما كان جمال باشا شجاعاً مقداماً، كان متحسباً
للطوارىء، يقظاً على حياته من أن تمسها يد قاتله. ولا غرابة في ذلك لمن كان
مثله وترعرع في محيط ثورة الضباط الأتراك الذين حاربوا في ماكدونيا عصابات
البلغار، ثم انتزعوا الملك من السلطان عبد الحميد وهجموا على الباب العالي
وهو مقام الصدر الأعظم ووزير الداخلية وقتلوا وزير الحربية ناظم باشا
وأجبروا كامل باشا على الاستقالة. وبذلك تم لحزب الاتحاد والترقي الاستيلاء
على الحكم في 1913 والبقاء فيه حتى انهيار الدولة العثمانية في تشرين
الثاني 1918. فهرب كبار أعضاء الحزب إلى خارج المملكة. غير أن جمعية
الطاشناق الأرمنية لاحقت كل واحد منهم على انفراد. فصرع طلعت باشا في
برلين، والبرنس سعيد حليم باشا في روما، وجمال باشا في بلاد الأفغان، وأنور
باشا في القفقاس، وبذلك تم للجمعية الانتقام ممن نكلوا بأبناء الطائفة
الأرمنية في الحرب العالمية الأولى وشردوهم خارج بلادهم.
وفي صيف 1916، طلب جمال باشا من والدي أن يقيم على شرفه
مأدبة كبيرة. ولم يكن لاجابة رغبته بد، فدعا الوالي وكبار الموظفين
والأمراء والوجهاء والعلماء لتناول طعام العشاء في صحن دارنا بسوق ساروجه.
قصة أول انقلاب عسكري في عالمنا الإسلامي:
هل تريدون أن تعلموا قصة أول انقلاب عسكري في عالمنا الإسلامي ثم تتابع هذه الانقلابات… اسمعوا ما يقوله خالد العظم عن انقلاب قادة حركة الاتحاد والترقي
– عملاء الماسونية
–
وسقوط السلطان عبد الحميد وما حل بالعالم الإسلامي. وتذكروا أن الكاتب
علماني لكن الحقائق المرة أنطقته وكل إنسان يصحو ضميره لحظات وقد يعود إلى
غيه.
(وأما الذكرى الثانية في مخيلتي فهي أصوات المدافع التي
أطلقت في دمشق يوم الانقلاب التركي في 1908، وقيل لي: (أعلنت الحرية..)
وطبعاً لم أكن أنا مدركاً ما هي الحرية، ولا أهلي كانوا مهتمين بإفهامي
كنهها. وقد تعرفت بها فيما بعد، ولمست كم من المظالم ترتكب في سبيلها.
وأجزم بأن هذا الانقلاب الذي حصل في الدولة العثمانية كان
بداية الهزات التي استمرت منذ 1908 ولا تزال تحول دون الاستقرار في الشرق
الأدنى. فلا تكاد تمضي سنة دون أن يحدث في جزء من هذا الشرق ما يبعث
الارتجاج في المجموع: ففي 1909 خلع السلطان عبد الحميد وتولى الاتحاديون
الحكم، وفي 1911 استولت إيطاليا على طرابلس الغرب، وفي 1912 نشبت حرب
البلقان، وفي 1914 انفجرت الحرب العالمية الكبرى ودامت حتى آخر عام 1918،
وفي 1919 بدأت مناوشات حربية بين الافرنسيين والوطنيين السوريين استمرت حتى
موقعة ميسلون، بتموز 1920، حينما تغلب جيش الجنرال غورو ودخل دمشق. ولم
تهدأ سورية خمسة وعشرين عاماً قضتها تحت الانتداب الافرنسي. فكانت أولى
المظاهرات ضده في 1922 حينما جاء مستر كراين الأمريكي، فاحتشدت الجماهير
وألقيت الخطب ضد فرنسا وأوقف المرحوم الدكتور عبد الرحمن شهبندر ورفاقه.
وكانت هذه أولى التفاعلات الشعبية ضد الاستعمار.
وقامت الثورة السورية ضد فرنسا في 1925 وظلت تشغل
الافرنسيين حتى 1926، ثم اثيرت المظاهرات على أثر فشل دور تجربة الحكم
الوطني الذي إقامه الافرنسيون في 1928.وظلت البلاد تتمخض بالمظاهرات
والمناوشات حتى 1932، حين أقام الافرنسيون شبه حكم وطني لم يلبث أن واجه
المظاهرات واقفال المخازن والدكاكين في 1933. ثم نشبت الثورة في فلسطين ضد
الانكليز واليهود في 1935، وتجددت في 1938 بينما كانت القلاقل تملأ الجو
إرهاباً في سورية حتى انفجرت الحرب العالمية الثانية وانقسم الفرنسيون
قسمين، الواحد بقي مخلصاً لحكومته المركزية في فيشي والآخر اشترك مع
الانكليز بمحاربة قوى الجنرال دانتز، الذي دخل دمشق واستولى على سورية
ولبنان. ثم انتهى الأمر إلى قيام الحكم الوطني في سورية في 1943. إلا أن
الافرنسيين لم يراعوا وعودهم باحترام استقلال سورية فكانت حوادث العدوان في
1945.
ولم يمض على العهد الوطني الذي قام في سورية ولبنان أكثر من
عامين حتى دخلت قضية فلسطين في دورها الحاد، فقررت بريطانيا الغاء
انتدابها وسحب جيوشها من تلك الربوع. وتدخلت الأمم المتحدة باقرار تقسيم
البلاد إلى جزئين خصت اليهود بالجزء الأكبر الغني والعرب بالجزء الآخر.
واعترض العرب شعوباً وحكومات ودخلت القوى العربية ألى الأراضي الفلسطينية
ودارت بينها وبين اليهود معارك عديدة، فلم تنجح قوانا
–
لأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن - في طرد اليهود. وتدخلت الدول الكبرى
التي اتفقت كلمتها هذه المرة وأجبرت الدول العربية على قبول إيقاف القتال،
ثم على توقيع اتفاقيات الهدنة.
وفي 1949 قام بسورية انقلاب عسكري تزعمه حسني الزعيم بناء
على تشجيع الافرنسيين والأمريكيين، ثم قام انقلاب معاكس دعمه الإنكليز كاد
يلقي بسورية في أحضان العراق لولا قيام أديب الشيشكلي بقلب الحكم القائم
وتسلم قيادة الأمور. لكنه لم يلبث أن اضطر إلى الهروب من دمشق في 1954،
فقام الحكم المدني الديمقراطي حتى أواخر 1957، غير أنه انهار بدوره بتأثير
عوامل عديدة لا تبرىء الأمريكيين من التدخل بها. ثم كانت الانتفاضة
العسكرية ضد الوحدة في 28 ايلول 1961.
وما حدث في سورية رافقته في بقية البلاد العربية حوادث لا
تقل أهمية وتأثيرا على مجرى التاريخ، لا سيما في مصر حيث قام سعد زغلول
بثورته التي استمرت حتى نوال الاستقلال. ثم لجأ عبد الناصر ورفاقه الضباط
إلى قلب نظام الحكم بمعاونة الأمريكيين المعنوية. ثم كانت حوادث الهجوم على
قناة السويس في 1956 وما عقب ذلك من حوادث هامة.
وأما في الجزئرة العربية فكانت حرب الهاشميين والسعوديين
انتهت باحتلال عبد العزيز بن سعود الحجاز وإلحاقها بمملكته. وكذلك نشبت في
العراق ثورات وانقلابات عديدة بدأت بالثورة الوطنية ضد الإنكليز ثم توالت
الانقلابات العسكرية الواحدة تلو الأخرى: بكر صدقي، حكمت سليمان، ياسين
الهاشمي، العقداء الأربعة (الصباغ ورفاقه)، نوري السعيد، الكيلاني، الوصي
عبد الاله. وهؤلاء كلهم قاموا، وأحدهم ضد الآخر، فقتل أكثرهم وسجن الباقون،
إلى أن انتهى الأمر بقلب النظام الملكي كله على يد عبد الكريم قاسم
ورفاقه، فأبيدت العائلة المالكة وسجن من بقي حياً من الزعماء السياسيين. ثم
عقب ذلك ما حصل في الموصل من ثورة عسكرية، تلتها محاولة قتل عبد الكريم
قاسم نفسه. وهذا كله لم يضمن للعراق استقراراً مستمراً منذ قيام دولة
العراق حتى الآن.
ولئن نعم لبنان بهدوء نسبي فإن الثورة التي قامت في 1958
واستمرت طويلاً خدشت سمعة ذلك البلد الذي سعى أبناؤه لاشاعة الهدوء
والسكينة في ربوعه. وهكذا ابتلي لبنان بالانقسام الداخلي ومساوئه.
ولم ينج لبنان من ويلات الانقلابات العسكرية إذ حدثت محاولة لقب نظام الحكم في 31/12/1961 ولكنها باءت بالفشل.
وأما الأردن فقد نعم بقسط من الاستقرار النسبي مدة أصول من
جيرانه، إلا أنه منذ حوادث فلسطين وانضمام المنطقة الغربية اليه بدأت مظاهر
عدم الاستقرار تتجدد عاماً فعاماً. فقتل الملك عبد الله، ثم تنازل ابنه
الملك طلال عن العرش. لكن حفيده الملك الحسين ظل عرضة لتيارات سياسية
متضاربة جعلت بلاده غير هادئة من حيث الأمن والاستقرار السياسي. فهناك
انتخابات 1955، وقيام حكومة النابلسي وسيرها إلى جانب سورية ومصر
والسعودية، ثم ردة فعل الملك حسين بحل البرلمان وإسناد الحكم إلى سمير
الرفاعي وهزاع المجالي، وسجن العقائديين، وتعثر الأمور بين المملكة
الأردنية والجمهورية العربية المتحدة، واضطرب الحال حتى اغتيال المجالي.
والحقيقة أن وضع الأردن مع سورية والعراق وتأليف دولة عربية قوية على طريقة
الاتحاد الفدرالي، وهكذا تكون الأمور عادت إلى نصابها الطبيعي.
ولم تنج بلاد فارس من هزات عنيفة بدأت في العصر الحاضر
بثورة رضا بهلوي وفوزه بعرش إيران، ثم صدامه مع الحلفاء خلال الحرب
العالمية الثانية، مما أدى إلى خلعه ونفيه إلى إفريقيا حيث توفي. ثم قام
مصدق بحركته الشهيرة التي بذل الأمريكيون والبريطانيون جهدهم لقلب نظامه
فنجحوا وتنفسوا الصعداء. ثم قامت مظاهرات جديدة وهرب الشاه ثم عاد، ولكنه
لا يزال هو ونظام حكمه معرضين للانهيار. وفي أفغانستان قامت حركة معادية
للأجانب على يد عاهلها أمان الله لم تلبث الدول الكبرى أن قضت عليها بواسطة
باجا سقا. لكنه قتل وعادت الأمور لسيرها الطبيعي.
وباكستان، بعد استقلالها في 1947، لم تستقر فيها الأمور.
فقامت ثورة تولاها قائد الجيش الذي سمى نفسه رئيساً للجمهورية، وتركيا
كذلك، بعد أن حاربت اليونان وظفرت باستقلالها وسادت الطمأنينة فيها وسارت
في طريق التقدم والرقي، انقسمت إلى فئتين: فئة برئاسة عصمت إينونو وفئة
برئاسة عدنان مندريس الذي فاز بانتخابات 1950 النيابية وتسلم الحكم. لكنه
أساء التصرف فانهارت اقتصاديات تركيا انهياراً خطراً. فقام الضباط عليه
واعتقلوه وتسلموا زمام الأمور ثم أعدموه.
والسودان أيضاً لم تحرم من انقلاب تولى العسكريين بنتيجته شؤون الحكم برئاسة الفريق عبود، في 1958.
فإذا التفتنا حولنا في بلاد الشرق الأدنى، بحالته الحاضرة،
رأينا حكومات عسكرية مستبدة تسيطر على أجزائه: تركيا ورئيسها الجنرال
غورسيل، ولبنان ورئيسه فؤاد شهاب، والجمهورية العربية المتحدة ورئيسها
البكباشي جمال عبد الناصر، والعراق ورئيسه اللواء عبد الكريم قاسم،
والباكستان وعلى راسه الجنرال أيوب خان. أما الدول الأخرى فتحكم بطريقة لا
تختلف عن الطرق المتبعة في البلاد المذكورة من حيث النظام الرئاسي
الاستبدادي وهي لم تنج من عدم الاستقرار، رغم أن الحكم فيها حكم عسكري غير
شوري باستثناء أسبانيا والبرتغال. والفضل في هذين البلدين يرجع إلى عقلية
فرانكو وسالازار وطبيعة الشعبين الأسباني والبرتغالي.
ويبدو أن داء الحكم العسكري الذي استشرى في الشرق الأدنى
انتقلت عدواه إلى أمريكا الجنوبية، حيث لا يستقيم الحكم لجنرال أو قائد حتى
يقلبه زميل له، وهكذا دواليك. ولعل للغيرة والحسد أثرهما في اندفاع القواد
العسكريين إلى الطموح للقبض على زمام الأمور واغتصاب السلطة، سواء من
الحكام المدنيين أو من زملائهم العسكريين الذين سبقوهم في هذا المضمار.
وبأكثر الحالات، يسبق الانقلاب العسكري تردي الأمور
الداخلية في البلاد، نتيجة لتزاحم المدنيين على الحكم ولجوئهم إلى إساءة
استعمال صلاحياتهم، حرصاً منهم على استبقاء دفة الأمور في أيديهم. فتنتشر
الفوضى ويعم التبرم والاستياء، فيهرع ضابط مهووس أو جماعة من صغار الضباط
إلى عزل السلطة المدنية عن الحكم والحلول محلها، حاسبين أنهم بأسلوبهم
الحديدي، وبما اعتادوا عليه من إصدار الأوامر التي لا مرد عليها لجنودهم
يستطيعون املاء إرادتهم على مجموع الشعب. وهم يعتقدون أن إدارة سياسة
الدولة، داخلياً وخارجياً واقتصادياً وعلمياً، امر سهل كإدارة حسابات فرقة
عسكرية أو تمرين كتيبة على السير واخذ التحية أو إطلاق الرصاص. وأولئك
الضباط
– خصوصاً في بلدنا
–
الذين هربوا من المدارس الرسمية لعجزهم عن الحصول على شهاداتها والتجأوا
إلى المدرسة العسكرية حيث لا تزيد مدة الدراسة فيها عن سنتين، ثم بدأوا
يعلقون النجوم والنسور على اكتافهم بسرعة خاطفة، ظنوا أنهم يخدمون بلدهم
باستيلائهم على قيادة البلاد وبإبعاد المجربين من المدنيين الذين مارسوا
صناعة الحكم طويلاً وكانوا على علاتهم أكثر خبرة ودراية من هذه الطبقة
اليافعة.
وفي جملة الأسباب الأساسية التي أدت إلى الانقلابات
العسكرية كان ابتعاد الشعب وزعماؤه عن الرضوخ لمطالب الدول الاستعمارية
وقبول اقتراحاتها المؤدية إلى ربط مصير الأمة الصغيرة بالدولة الكبيرة.
فعندما يعجز عملاء تلك الدولة عن تسيير سياسة البلد في مثل هذا الاتجاه
يعمدون إلى إغراء بعض الضباط للقيام بانقلاب عسكري يوقف، على الأقل،
الاتجاه المعاكس لرغبة تلك الدولة، إذا هو لم يوجه الأمور في مصلحتها.
طبيعي ان جميع الضباط المشتركين في الانقلابات ليسوا عملاء
للأجانب ولكنهم يخدعون بمظاهر الأمور، وبما ينفخه فيهم بعض رفاقهم من روح
الحماس الوطني فيصحبون آلة تلعب بهم الأيدي الملوثة، ثم لا يلبث أكثرهم أن
يفهم الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان.
أراني ابتعدت كثيراً عن نطاق البحث الذي حددته لنفسي في هذه
الذكريات التي نويت فيها الابتعاد عن ذكر ما له صلة بالسياسة. ولكن هل
بقدرة أي رجل سياسي أن يكتب صفحة دون انينساق قلمه أن ينساقاً آلياً إلى
الجانب السياسي؟