عندما تصبح الفنون الهابطة مصالح غربية عليا علينا تبجيلها
مسيرة عدوان وهبوط المصالح الغربية: من المواقع
الاستيراتيجية والمواد الأولية والأسواق التجارية إلى الآيات الشيطانية
لا يخفى على المتأمل في تاريخ الشرق العربي الإسلامي
مقدار الأذى الذي ألحقته المصالح الغربية به وبأهله من جراء
لهاثها خلف المواقع الجغرافية الاستيراتيجية والأسواق لبضائعها المصنعة، والمواد
الأولية كالمنتجات الزراعية (الحمضيات والقطن مثلا) في البداية ثم النفط والغاز
فيما بعد، ولن ننسى أنه في سبيل الحفاظ على هذه المصالح قام الغرب برعاية إنشاء
الكيان الصهيوني ليكون كلب حراسة عليها.
هذا كله من المحفوظ في تاريخنا الحديث، ومعروف أيضا الضعف الذي
واجهت به دول الاستقلال والتجزئة الهجوم الغربي لانتزاع هذه المصالح من أصحاب
البلاد الشرعيين، فسلمت مواردها وأراضيها لقمة سائغة للمعتدين ولم تستطع الحفاظ
على حماها بسبب الضعف البنيوي الذي ولدت به في إمكاناتها وقدراتها حتى هان على
أعدائها أن يستخفوا بأكثر من مليار ونصف المليار مسلم لأجل حماية كيان يهودي صغير
لا تتعدى ملايينه عدد أصابع اليد الواحدة ومع ذلك يقيم الغرب لهم من الوزن أكثر
مما يأبه بالمليار مسلم، وقد وصل الأمر من الإسفاف إلى درجة التلذذ غير الضروري
بإهانتهم واحتقارهم كما حدث عندما استقبل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون
ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير مؤلف الآيات الشيطانية سلمان رشدي الذي
استفز مشاعر مئات الملايين من المسلمين ولم يكن بالطبع مستواه الأدبي الفذ الذي
لا يبارى هو الدافع إلى هذا التكريم المبالغ فيه، بل هو الاستفزاز المتعمد الذي
اتخذ من الحرص المنافق على حرية التعبير برقعا يتخفى به في الوقت الذي حورب فيه
مفكر بارز كروجيه غارودي رغم هذه الادعاءات ولم يحمه هذا الستار الرقيق من الحرية
المدعاة.
بسبب فرقتنا، أصبح علينا احترام المصالح
الغربية حتى لو كانت رسوما كاريكاتيرية
ووصلت المهزلة قعرا سحيقا عندما استقبلت المستشارة الألمانية
أنغيلا ميركل بنفسها رسام كاريكاتير مغمورا باسم حرية التعبير التي أساء بها
لمشاعر المسلمين، رغم أن هذا غير مسموح به ضد القلة الصهيونية حتى تحت نفس
التبرير، وبهذا أضيفت الرسوم الكاريكاتيرية إلى قائمة المصالح الغربية التي لا
يجوز لنا العبث بها وإلا حلت علينا لعنة الفن السابع كما حدث في الفيلم الأخير
وربما أُضفنا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بتهمة ارتكاب جريمة
الامتعاض ضد الإنسانية المتمسكة بحرية الرأي والتعبير!
ألمانيا من التخلي عن المصالح الكبرى احتراما
لنا إلى التباهي بالتافهات احتقارا لنا
أقول هذا وأنا أتطلع إلى الخلف قليلا لأرى ألمانيا التي استخفت
بنا اليوم في ظل انقسامنا كيف كانت تعاملنا بالأمس في ظل وحدتنا، ففي نهاية القرن
التاسع عشر كانت ألمانيا قد أنجزت وحدتها وبنت قوتها وتطلعت لمصالحها خلف حدودها
متبعة سياسة التحالف مع الدولة العثمانية تحت عنوان"التوجه نحو الشرق" ولأجل ذلك
تخلت عن مصالحها الأخرى في تأييد الاستيطان اليهودي بل وأيضا عن الاستيطان
الألماني نفسه في فلسطين وأرجاء الدولة.
فقد قام الإمبراطور الألماني ولهلم الثاني بزيارتين إلى الدولة
العثمانية (1889) و(1898)، وفي الزيارة الثانية حاول تيودور هرتزل مؤسس الحركة
الصهيونية الحصول على تأييد الإمبراطور لمشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، ولكن
لوجود التعارض بين السياسة العثمانية والبرنامج الصهيوني فإن الإمبراطور خلص "إلى
أن صداقة الدولة العثمانية أثمن لألمانيا من صداقة الحركة الصهيونية، ولذلك لم
يكن في مقدور ولهلم الثاني أن يدلي في تلك الفترة بتصريح يرضي فيه الأماني
الصهيونية، لأنه كان حريصا الحرص كله على تدعيم صلاته بالدولة العثمانية
وبرعاياها المسلمين"[1]،
رغم أن ويلهلم كان يرى في تأييد الصهيونية مكسبا كبيرا ومزايا كامنة لألمانيا[2]،
فأين جبابرة سايكس بيكو الذين يرى الغرب كله صداقة الحركة الصهيونية اليوم أثمن
من صداقتهم جميعا، بل تصبح صداقتهم مع الغرب تابعة لمدى حرارة علاقاتهم بالصهاينة
وفي ذلك فليتنافس المهرولون، ويدلي قادة الغرب بالتصريح تلو الآخر في إرضاء
الأماني الصهيونية ولا يبدون أي حرص على دعم صلاتهم بدول التجزئة ورعاياها؟
نعم لقد كان لألمانيا بالفعل مصالح في الدولة العثمانية أبرزها
سكة حديد بغداد، ولكنها لم تكن أكبر من المصالح الغربية العريضة في زمننا هذا في
الشرق العربي الإسلامي والتي بالرغم منها يفضل الغربيون المصالح الصهيونية على
مصالح العرب والمسلمين ويمعنون في إهانتهم كما مر، "فقد كان (السلطان) عبد الحميد
أدهى من أن تبهر بصره بطولات حاميه (الألماني) الجديد، ولكنه كان يدرك قيمة مثل
هذا الحليف القوي في المحافل الأوروبية، وكان كذلك واثقا بقدرته على دفع جميع
المخاطر التي قد تنشأ عن رغبة ألمانية في السيطرة"[3]،
ولهذا فإن ألمانيا لم تستطع أن تفرض على العثمانيين استيطانا ألمانيّا - فضلا عن
الاستيطان اليهودي- في بلادهم، رغم أهميته لها ضمن استيراتيجيتها الحيوية لمشروع
سكة بغداد الذي تقيمه بأموالها وتصور ساستها أن يحمي طريقه مليونا مستوطن
ألماني[4]، ورغم حاجة العثمانيين إلى تحالفهم معها في مواجهة بقية المصالح
الأوروبية وبخاصة البريطانية والفرنسية، ولكن كل هذا لم يمنع السلطان من قول "لا"
مدوية لا لبس فيها في مواجهة الاستيطان الألماني بتعبير أحد المؤرخين[5]، وذلك
ليبقي أراضي الدولة مخزونا للمهاجرين المسلمين الفارين من الاضطهاد والاحتلال[6]
الذي كان محتدما في القوقاز والبلقان، وأن يحتفظ لمشروع سكة حديد بغداد ببعده
العثماني رغم أهمية الدور الألماني في بنائه[7]، فأين لنا اليوم مثل هذه المواقف
القوية في مواجهة المصالح الأجنبية عندما تكون هي في حاجة إلينا فضلا عن أن نكون
نحن في حاجة إليها؟
قبر صلاح الدين بين زيارتين
وفي نفس الزيارة قام الإمبراطور ولهلم بالمرور بدمشق حيث زار قبر
السلطان صلاح الدين الأيوبي ووضع عليه إكليلا من الزهور آمرا بصنع مصباح فضي هدية
للضريح بصفته معجبا بالقائد المسلم، ولعل مقارنة بسيطة بين هذا الاحتفاء و"زيارة"
القائد الفرنسي غورو المهينة لنفس المكان عندما دخل دمشق فاتحا محتلا في عهد
سايكس بيكو الذي دشنته ثورة العرب (1916) المتحالفة مع بريطانيا، هذه المقارنة
كفيلة بإلقاء الضوء على مدى الانحدار الذي سقطنا فيه في مدى سنوات قليلة من
التحالف مع الغرب.
النتيجة: سر الاحترام والاحتقار
إن هذا التباين الواضح في المواقف نجد تفسيره في خطبة الإمبراطور
ولهلم في دمشق حيث ألقى خطابا قال فيه: "فليطمئن حضرة صاحب الجلالة السلطان،
وليطمئن معه الثلاثمائة مليون مسلم الذين يحترمونه لأنه خليفة المسلمين، إلى أنهم
سيجدون في إمبراطور ألمانيا الصديق الدائم لهم"[8]،
فمخاطبة حاكم واحد يمثل أمة كبرى عدد أفرادها ثلاثمائة مليون- في ذلك الزمن-
وتمتد بين المحيطات تفرض احترامه على مخاطبه وتختلف جذريا عن مخاطبة حشد من
الأقزام أصحاب الهيلمان الكاذب والصولجان الزائف الذين لا يمثل الواحد منهم إلا
أفرادا لا يزيد عددهم عن عدد سكان حي في مدينة ألمانية!
***********
الهوامش
[1] الدكتور حسن صبري الخولي، سياسة الاستعمار والصهيونية تجاه
فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1973،
ج1ص79.
[2] الدكتور عبد الوهاب المسيري، أرض الميعاد: دراسة نقدية
للصهيونية السياسية، الهيئة العامة للاستعلامات، جمهورية مصر العربية، 1980،
ص133.
[3] جورج أنطونيوس، يقظة العرب: تاريخ حركة العرب القومية، دار
العلم للملايين، بيروت، 1978، ص147.
[4] Robert Aldrich (ed) , The Age of Empires, Thames & Hudson,
London, 2007, p. 247.
[5] Jonathan S. McMurray, Distant Ties: Germany, the Ottoman
Empire, and the Construction of the Baghdad Railway, Praeger, London, 2001, p.
10.
[6] السلطان عبد الحميد الثاني، مذكراتي السياسية، مؤسسة الرسالة،
بيروت، 1979، ص130.
[7] Jonathan s. McMurray, p. 1.
[8] الدكتور حسن صبري الخولي، ص79- 80.