الاثنين، 19 مايو 2014

ماذا يريد الليبراليون من ابن عربي؟


ماذا يريد الليبراليون من ابن عربي؟

 
د. أحمد خيري العمري

لم يأت حين من الدهر، منذ أن عُرِف ابن عربي، دون أن يكون للرجل مريدوه ومعجبوه وأتباعه.. وذلك أمر طبيعي جداً طالما ظل للتصوف مساحة في عالمنا، وهي مساحة ظلت تمد وتجزر، لكنها بقيت موجودة وبقي في جزء معين منها، مكانٌ لابن عربي..

وابن عربي مختلف عليه دونما شك، والآراء حوله تتدرج من اعتباره (الشيخ الأكبر) إلى (من شك بكفره فقد كفر)!. وقد كفّرته طائفة من العلماء منهم العز بن عبدالسلام وابن حجر العسقلاني وابن كثير وابن تيمية، ونقل عن الإمام الذهبي قوله: «ومن أردأ تواليفه كتاب الفصوص وإن كان لا كفر فيه فليس في الدنيا كفر! »، بل إن السيوطي الذي لم يكفره وانتقد من كفّره عدّه مبتدعا وحرّم النظر في كتبه!..

وبغض النظر عن التكفير أو التبجيل، فإن التيار الإسلامي العام رفض «شطحات» ابن عربي حتى لو لم يكفره من أجلها، وهي شطحات ظلت هجينة عن التراكم الفكري الإسلامي وناشزة عن مجمله، وكان وضوح نشاز بعض هذه الشطحات محرجاً للمدافعين عنه، وقائمة الدفاع تتضمن القول إن الشطحات مدسوسة عليه (كالعادة!) وأنه قال في كتبه أشياء أخرى تناقض هذه الشطحات، أو أنهم يعتذرون عن ذلك بتعقيد لغته وغموضها وبالتالي عدم فهمها كما يجب، والفصل في كفر ابن عربي - كشخص - أو إيمانه أمر لا يخصنا حتماً، بل يخص الذي يعلم ما في صدورنا جميعاً، هذا مع العلم أن الكثير من الطرائق الصوفية السائدة حالياً قد نأت بنفسها عن شطحاته، أو على الأقل عن البعض من مؤلفاته.

إلى هنا والأمر عادي جداً، فلغة الرجل المميزة رغم تعقيدها وغزارة مؤلفاته منحت له مكانة معينة ضمن رفّ معين، له بالتأكيد رواده ومحبوه.

لكن غير العادي إطلاقاً، هو هذا الاهتمام الجديد بابن عربي من قبل تيار بعيد ليس عن التصوف فحسب، بل عن الدين ككل، تيار ظل يدعي العقلانية بمفهومها الغربي الديكارتي الذي لا يؤمن بغير التجربة ومعاييرها الواضحة، لكنه فجأة صار حريصاً على ابن عربي وذوقياته التي لا يمكن إخضاعها لأي معيار ومن أي نوع..

هذا الاستحضار الليبرالي-العلماني لابن عربي تجلّى في كتابات لكُتَّاب ليبراليي التوجه (هاشم صالح، وعبدالوهاب المؤدب، ونصر حامد أبو زيد، وسواهم)، وهو استحضار لا يمكن أن يكون بريئاً البتة، بمعنى أن ابن عربي يبدو هنا غريباً وشاطحاً حتى أكثر من ذي قبل، فقبل كل شيء، فإن انتماء ابن عربي إلى منظومة التصوف، ولو في طرف الغلو والشطط منها، سيكون أمراً مفهوماً داخل هذه المنظومة ككل، أما استحضاره داخل المنظومة الليبرالية، فأمر يشبه إقسار «كارل ماركس» أو «سيغموند فرويد» داخل منظومة الفكر الإسلامي..

والحقيقة أن (شطحات) ابن عربي التي كفّره من كفره من أجلها، هي بالذات ما يريده هؤلاء الليبراليون من ابن عربي المستحضر ليبراليا، أي إن موقفهم هنا لا يشبه موقف المدافعين التقليديين الذين يعتذرون عن شطحاته بهذا العذر أو ذاك، بل في الواقع هم حريصون على (تكريس) هذه الشطحات وتأكيدها، بل والتركيز عليها والدفاع عنها.

ولا شك أن ما يفعله الليبراليون ذكي جداً، فهم يدركون أن القارئ المعاصر لا يملك النفس اللازم لقراءة مجلدات الفصوص والفتوحات، بالذات مع لغة ابن عربي التي تميل إلى الغموض والتعقيد أحيانا، لذلك فهم يقدمون وجبة سريعة معاصرة من ابن عربي تحتوي على انتقاءات معينة مما قال، وهي انتقاءات مدروسة لخدمة منظومتهم الليبرالية، وتجعل من ابن عربي (حلقة وصل) بين تراكم (محسوب في نهاية الأمر على التراث الإسلامي) وبين منظومة غربية يحاول الليبراليون منذ عقود إدخالها إلى العقل المسلم وبوسائل شتى وبنجاحات متفاوتة، ويبدو ابن عربي اليوم وسيلة أخرى من تلك الوسائل، خاصة أن اسمه مدعوم (غربياً) من قبل دوائر عديدة ومؤسسات بحثية ومراكز دراسات.

يبدأ الليبراليون نهجهم هذا بما يعدونه «مسلمة» لا جدال فيها بينما هي ليست كذلك إطلاقاً، ألا وهي اعتبار ابن عربي (قمة نضج الفكر الإسلامي! في مجالاته العديدة من فقه ولاهوت وفلسفة وتصوف وعلم تفسير القرآن وعلوم الحديث واللغة والبلاغة) (أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي، ص 24).

هكذا مرّة واحدة وبحسم نهائي يعتبر ابن عربي قمة نضج الفكر الإسلامي في كل هذه المجالات! ما الدليل على كل هذا؟ سيلقمنا أبو زيد بمستشرقين اثنين يوافقانه على رأيه، أحدهما ياباني والآخر إسباني، وما داما ينتميان إلى المنظومة الغربية، فإنه يستغل عقدة نقصنا تجاههما، ويمرر الأمر كما لو كان (متفقاً عليه) بينما هو على الأغلب في النقيض من ذلك.

سيقول أبو زيد أيضا بلا مواربة: «إن استدعاء ابن عربي يمثل طلباً ملحاً بسبب سيطرة بعض الاتجاهات والرؤى السلفية على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الثلاثين الأخيرة» (أبو زيد، ص26)، وبعبارة أخرى فإن صورة ابن عربي (المتطرفة تسامحا وبلا حدود) هي البديل عن» صورة الإرهابي حامل البندقية والسكين» (المتطرفة عنفا وبلا حدود أيضا) «أبو زيد، ص 27».. كما لو أن علينا دوما الاختيار بين واحد من الطرفين بلا خيار ثالث مستمد من ثوابت وسط للأمة الوسط..

وهكذا سيتم إعادة إنتاج ابن عربي أو تحضير روحه من قبره في السوق الدمشقية القديمة، في حفلة زار عولمية الملامح من أجل أن ينضم صوته لجوقة المصفقين لها ولقيمها.. (حتى لو قيل ضمن ما قيل أشياء ضد العولمة ذرا للرماد في العيون).

وبين كل ما قاله ابن عربي، سيتم التركيز على أمور دون غيرها، ربما كانت أساسية في تكفيره بالنسبة إلى مناهضيه، لكن هذه المرة ليس لتكفيره، بل باعتباره النموذج الذي يجب ترويجه.

وهكذا سنرى أبيات ابن عربي التي كثيراً ما عُدت سبباً لكفره، تتحول لتصير مُعلَّقة من معلقات الليبراليين الجدد..

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة *** فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف*** ألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني

هذه الأبيات يحتفي بها الليبراليون لأنها ببساطة «تؤدي إلى تحويل الاعتقاد القرآني إلى اعتقاد نسبي عن طريق إعطاء الصدقية لجميع الأديان والاعتقادات الأخرى بما فيها الاعتقاد الوثني» (هاشم صالح، الانسداد التاريخي، ص 171)، « وهو يؤدي إلى المصالحة مع فلسفة التنوير على طريقة سبينوزا وفولتير وروسو»، بل الأكثر من هذا يهلل هؤلاء إلى أن هذا ما دفع «المسلمين المستنيرين!

لى تقبل الرسالة الماسونية! » (هاشم صالح، ص 171).

إذن فالهدف من كل هذا الاحتفاء معلن وصريح: تحويل الاعتقاد القرآني إلى اعتقاد نسبي يضع كل المعتقدات، حتى الوثنية، وأسهل منها الليبرالية، في سلة مقبولة واحدة!.

لكن هذا الانفتاح غير المشروط على كل العقائد الذي نظَّر له ابن عربي، سيكون له فيما كتبه شخصياً شواهد «عملية» مناقضة، فحينما تكون هناك مواجهة عسكرية بين المسلمين وغيرهم تنتهي بهزيمة المسلمين نجد أن ابن عربي (لا يحتمل رؤية الزور وأهله يعزون والدين القويم ذليل، ويحلم بأن يقام دين محمد، ودين المبطلين يزول)، وهو موقف إنساني وطبيعي تماما، لكن الليبراليين هنا يعتذرون لنا، بالنيابة عن الشيخ الأكبر«عن هذا التناقض الذي حول التسامح إلى تعصب» (أبو زيد، ص 71) فمجرد الرغبة بانتصار الإسلام يصبح تعصباً يستحق الاعتذار بالنسبة إلى هؤلاء! ولعل هؤلاء كانوا يفضلون لو أن ابن عربي خرج لاستقبال الغزاة بالورود، بالضبط كما روّجوا للغزاة الجدد ولطريقة استقبال مثلى تحقق عمليا قراءتهم المعاصرة لنظرية ابن عربي في التسامح!.

رؤية ابن عربي للكفر والإيمان، سيتم أيضاً تجييرها لصالح المنظومة الليبرالية عبر الوجبة السريعة دون أن نتمكن من معرفة إن كانت هذه رؤية ابن عربي حقاً، أم أنها القراءة الليبرالية لها، وهكذا «فالكفر بمعنى عدم الاعتراف بوجود إله لا وجود له عند ابن عربي، فالكفر بمعنى إنكار وجود الباري ليس إلا صفة عارضة ظهرت ظهور الشرائع السماوية على أيدي الرسل الذين صدقهم البعض -وكذبهم البعض- ولولا نزول الشرائع ما كان للكفر أن يظهر ولكن ذلك لا ينفي حقيقة أن العالم كله مؤمن في الباطن» (أبو زيد، ص 78).

إذن لا كفر هناك حقاً، حتى المشرك الذي يعبد الأوثان والأشجار والكواكب ليس كافراً حسب هذه المنظومة لأنه «يعبد تجلياً من تجليات الله! ».

ماذا عن الملحد الذي يزعم مطلق الكفر ويرفض الانتماء لأي دين؟.. حتى هذا «مؤمن رغم أنفه» حسب ما تحاول القراءة الجديدة لابن عربي إقناعنا «أي إنسان لا بد أن يكون مؤمناً بشيء ما، بمذهب فكري ما، وهذا في باطنه ليس إلا إيماناً بمجلى من مجالي الحقيقة الإلهية المطلقة» (أبو زيد، ص 19).. حتى الإلحاد، حتى الموقف الفكري الواضح الذي يتضمن الإنكار الصريح لوجود الله - تعالى -يعد إيماناً وفق هذه الرؤية!..

ماذا يريد الليبراليون أكثر من هذا؟

فكل ما سينتجونه، مهما كان بعيداً، بل ومناقضاً ومحارباً للدين وللقيم الدينية، سيكون إيماناً رغم كل النصوص الدينية، بل إن هذا المفهوم سينفي مفهوم الكفر من أساسه رغم تعارض هذا النفي مع القرآن الكريم ووضوح مفهوم الكفر فيه، لكن ستحصره القراءة الليبرالية لابن عربي في هامش ضيق واضح أن ابن عربي لم يقصده، ولكنهم يقوّلونه رغم أنفه (لا مجال للتكفير عند شيخنا، فالخطأ يقع فقط حين يزعم الزاعم أياً كان أن منظوره للحقيقة هو المنظور الكامل والنهائي!) (أبو زيد، ص96).

سيبدو ابن عربي هنا دمية صامتة يحاول الليبراليون عبرها أن يقولوا كل ما يريدون قوله دون أن يتمكنوا من ذلك، بالضبط سيكون وسيلة لشرعنة التفلت الفكري ومن ثم السلوكي باعتباره رمزاً محسوباً على التراث الإسلامي حتى لو كفّره أكثر من خمسين عالما من رموز هذا التراث!..

خلال كل ذلك، سيتضح إلى أي مدى يكون استعداد الليبراليين للتضحية بأبسط مبادئ العقلانية في سبيل تمرير جزء من منظومتهم، فمن أجل أن نروج لابن عربي، سنسكت عن خرافات وترّهات كتبها ابن عربي بمنتهى الجدية مثل لقائه المتعدد بالخضر، وعن بساط طائر.. إلخ، وكلام آخر يستحق قائله أن يرسل إلى مشفى الأمراض العقلية لكي يجد حلاً لمشاكله، لا أن يعد (قمة نضج الفكر الإسلامي)، ولكن العقلانية لا تهم، والتفكير السليم لا يهم، ونبذ الخرافات لا يهم، المهم أن نقبل الآخر، أن نتماهى معه، أن نقبل ما ينتجه من أفكار ولو كانت لا تقبل أبسط ثوابتنا.. وأن نرتكز على ذلك كله على شخص محسوب على التراث الإسلامي..

أمر أخير، لم يكتف أبو زيد بكل ما سبق، بل تجاوز ذلك إلى ذكر أبيات شعرية تغزل فيها ابن عربي بصبي تونسي، وذكر تفاصيل عن ذلك مثل اسم الصبي وعمره ومهنة والده وما يحبه ولا يحبه (أبو زيد، ص 42) وبعد أن ينهي هذه التفاصيل، يذكرنا أن هناك دلالات صوفية عميقة للتغزل بالغلمان ويفوته أن يقول لنا شيئا من هذه الدلالات! هل يمكن حقا فصل هذا بالذات عما يدور في الغرب من حديث عن «حقوق المثليين» وقوننتها، وارتباط ذلك بقدس الأقداس عند الليبراليين «الحرية الشخصية»، وبالتحديد بشق التفلت والانحلال من هذه الحرية؟

هل تكون هذه التفاصيل إلا لإثبات أن الأمر حقيقي، وأن الشيخ الأكبر كان يتغزل فعلا بصبي حقيقي وليس بغلام افتراضي؟ وبالتالي لتمرير موضوع الشذوذ الجنسي ولو بشكل غير مباشر؟

ابن عربي، في حفلة الزار الليبرالية هذه، ليس سوى باب من أبواب المشروع التغريبي، كل ما في الأمر أن الباب هذه المرة «بديكور تراثي»!..

الأحد، 11 مايو 2014

صفحات مشرقة من التاريخ العربي.. أطباء الحضارة العربية


صفحات مشرقة من التاريخ العربي.. أطباء الحضارة العربية
        
          الغرب مدين للحضارة العربية الإسلامية في إنارة أشد العصور الوسطى عتمة في جميع مجالات المعرفة بما في ذلك العلوم الطبية.
          من رواد الطب العربي - الإسلامي أبو بكر محمد ابن زكريا الرازي (850 - 932م) صاحب كتاب (الحاوي) الذي عرف في الغرب بـ (Continens), وكان المرجع في الطب في أوربا لفترة تزيد على (400) عام, والرئيس ابن سينا (980 - 1037م) واضع كتاب (القانون في الطب) الذي كان كتاب الطب المدرسي الوحيد في مكتبة باريس الطبية الصغيرة, وأحد المراجع في تعلم الطب في أوربا حتى القرن الثامن عشر, ويوضع في مرتبة واحدة مع أعمال أبقراط وغالن, وكذلك الجراح العربي الأندلسي أبو القاسم الزهراوي الذي عرض وصفًا ورسمًا لأدوات الجراحة في مقالته الثالثة عشرة, تكاد الأدوات الجراحية المماثلة الحديثة تكون نسخة عنها, وابن زهر (1113 - 1162م) مؤلف كتاب (التيسير) وابن النفيس (1210 - 1288م) الذي كانت له الأسبقية في اكتشاف دورة الدم الرئوية في كتابه (شرح تشريح القانون) وأخيرًا وليس آخرًا ممن له علاقة بهذا البحث, نذكر ابن القف (1233 - 1286م) صاحب كتاب (العمدة في الجراحة).
          هذا غيض من فيض من منجزات الطب العربي - الإسلامي, في الطب عامة وما يتعلق بفن التخدير خاصة, فقد قدم العلماء العرب والمسلمون إسهامات ذات أهمية خاصة عند أطباء التخدير. فقد وصف الرازي تفاعل الحدقة بالضوء, والفرع الحنجري للعصب الراجع. كما أنه وصف شخصًا كان يعاني زكامًا في فصل الربيع حين تتفتح الزهور في صيغة ما يعرف اليوم بـ (حمى التين), أو التهاب الأنف التحسسي. والرازي أول من وصف الحصبة والجدري, ورسالته التاريخية عن الجدري والحصبة التي طبعت ست مرات باللاتينية, ترجمت أيضًا إلى اليونانية والفرنسية والإنجليزية.
          كما أن الرازي كان أول من أجرى تجربة على الحيوانات, حين قام بتجربة تأثير أملاح الزئبق على القرود, كما أنه استعمل القساطر غير المعدنية وأمعاء الحيوان كرباط في العمليات الجراحية.
ابن سينا وتنبيب الرغامي
          يبدو أن الحنجرة كانت من جملة اهتمامات ابن سينا بنية وفاعلية. فقد ذكر د.مصطفى شحادة من جامعة الإسكندرية - مصر, في مقالة له بعنوان (الحنجرة في الطب الإسلامي) (إن ابن سينا أجرى دراسة مستفيضة للحنجرة, قدم فيها صورة دقيقة, ووصف فيها الغضاريف والعضلات والأربطة, وفعاليتها أثناء النطق والتنفس والبلع). ولم يقتصر الأمر على ذلك, فقد فوجئت الأوساط الطبية عام 1987 بتقرير لـ (إل. براندت) من (جامعة جوتنبرج) يعرض فيه مقطعًا عن تنبيب الرغامي, عثر عليه في نسخة البندقية عام 1507 لكتاب القانون في الطب لابن سينا ورد فيها عبارة: (وربما أدخل في الحلق قصبة معمولة من ذهب أو فضة ونحوهما بما يعين على التنفس).
          وذلك في النسخة العربية من كتاب (قانون في علم الطب).
          كما وردت في الترجمة اللاتينية في (Liber Canonis) التي نشرت في فيينا - النمسا عام 1507 وأعيد طباعتها عام 1963, وفيما يلي صيغتها مترجمة من اللغة الإنجليزية: (حين الضرورة يمكن إدخال قنية إلى الحنجرة, مصنوعة من الذهب أو الفضة: أو معدن مشابه تقدم لدعم التنفس).
          وهكذا تبين أن ابن سينا قد ابتكر تنبيب الرغامي بأنابيب من صنعه لإدخالها عبر الحنجرة قبل ألف عام من كل من (ماك أيون) عام 1880 و(آيزن منجر) عام 1893.
          وتنبيب الرغامي إجراء يومي يمارسه أطباء التخدير في التخدير العام لتأمين طريق هواء سالك وآمن.
          وأخيرًا فقد عرف العلماء العرب - المسلمون خزع الرغامى, ووصف كل من الزهراوي وابن زهر وابن القف, خزع الرغامى بالتفصيل لإنقاذ مرض الاختناق.
          ومن أهم الاكتشافات في تاريخ الطب العربي - الإسلامي, اكتشاف دورة الدم الرئوية من قبل الطبيب العربي الدمشقي مولدًا والمصري موطنًا علاء الدين ابن النفيس في القرن الثالث عشر الميلادي, السابع الهجري, إثر تجارب على الحيوان وقيل حتى على الإنسان, قبل ما يزيد على ثلاثة قرون من وصف وليام هارفي (1578 - 1657) في كتابه (دراسة تشريحية لحركة القلب والدم في الحيوان الذي ظهر في لندن عام 1628, وجاء وصفه مطابقًا لوصف ابن النفيس في كتابه (شرح تشريح القانون).
          ومع أن هارفي أمضى فترة من جامعة بادوفا حيث كان يوجد كتاب ابن النفيس اللاتيني الذي لاشك أنه اطلع عليه, فإنه مع الأسف أغفل ذكر مرجعية ابن النفيس. والواقع أن كل من تقلب على جامعة بادوفا ونهل من علمها واطلع على ما فيها من مراجع بما في ذلك كتاب ابن النفيس, نشر وصفًا للدورة الرئوية تمامًا كما وردت عند ابن النفيس, وهو الكتاب الذي ترجمه إلى اللاتينية الطبيب الإيطالي المستعرب وكان يلقب بالدمشقي مع عدد من الكتب الطبية العربية: أندريا ألباجو (1450 - 1521م) ونشره ابن أخيه باولو الباجو ثلاث مرات: الأولى عام 1527م والثانية عام 1544م والثالثة عام 1547م.
          ومن الوفاء أن نذكر في آخر الحديث عن ابن النفيس, أن الفضل الأول والأكبر في إعادة سيرة ابن النفيس إلى الأذهان, وفي إثارة اهتمام العالم به, يعود إلى العالم المصري المرحوم د.محيي الدين التطاوي (1896 - 1945م), وذلك إثر عثوره على مخطوطة (شرح تشريح القانون في برلين أثناء دراسته للطب في ألمانيا عام 1924.
التخدير الاستنشاقي
          أول ما وصل إلينا عن فضل علماء الطب العربي - الإسلامي في إدخال التخدير الاستنشاقي باستعمال الاسفنجة المرقدة, كان من قبل المستشرقة الألمانية (زيجريد هونكه) التي زارت حلب مشاركة في الندوة العالمية الأولى للجمعية السورية لتاريخ العلوم. فقد ورد في كتابها: (شمس الله تسطع على الغرب) قولها: (وعلم الطب حقق مكسبًا كبيرًا واكتشافًا مهمًا وذلك باستعمال التخدير العام في العمليات الجراحية. وكم كان تخدير المسلمين فعالاً فريدًا ورحيمًا بكل من يتناولونه. وهو يختلف كل الاختلاف عن المشروبات المسكرة التي كان الهنود واليونان والرومان يجبرون مرضاهم على تناولها كلما أرادوا تخفيف آلامهم.
          وينسب هذا الكشف العلمي إلى طبيب إيطالي مرة وإلى إسكندري مرة أخرى, في حين أن الحقيقة تقول والتاريخ يشهد أن فن استعمال الإسفنجة المخدرة إنما هو تقانة إسلامية بحتة لم تكن معروفة من قبل.
          وكانت الإسفنجة تغمس في مزيج من الحشيش والأفيون وست الحسن والزوان). وتضيف بعد فترة: (هذا الاكتشاف العظيم دخل أوربا وظل يستخدم فيها حتى القرن الثامن عشر حين عرف التخدير الاستنشاقي عام 1844م).
          إلا أن الأمور قد تغيرت الآن وأصبح لدينا المزيد من المراجع التي تقدم قرائن من باحثين غربيين منصفين تؤكد أن الاسفنجة ذات أصول عربية وأن العرب هم الذين أوجدوها وطوروها.
          وهكذا يبدو أن الاسفنجة انتقلت من إسبانيا أثناء فترة حكم العرب إلى مدرسة طب سالرنو مباشرة عن طريق العلماء العرب الذين كان منهم أعضاء في الهيئة التعليمية, أو عن طريق الكتب العربية التي ترجمها قسطنطين الإفريقي (1020 - 1087م) الرجل الذي بدأ موجة تدفق الطب الإسلامي إلى أوربا. ومن سالرنو انتقلت إلى مونتي كاسينو ومنها إلى بقية أوربا.
          وأقدم وصف للإسفنجة المرقدة كان في القرن التاسع في كتاب (بامبرج) ويؤكد (كامبل) أن كتاب (Antidora Parva) من أصل عربي. كما أن (طالبوت) يصف الإسفنجة بأنها طورت وأضيفت إليها الكثير من مصادر عربية.
          وهنالك قرائن تشير إلى أن علماء الطب الإسلامي هم الذين اكتشفوا الغول (الكحول) ومن المحتمل أيضًا أنهم وبصورة عفوية اكتشفوا الأثير. (الغول) وهو أصل تسمية الكحول, هو واحد من أكثر المواد الكيميائية والدوائية التي عرفت في العالم العربي والإسلامي واستعملت عبر السنين. فبالإضافة إلى كونه معقمًا جيدًا, فهو أيضًا أحد محتويات العديد من الخلائط الدوائية, وكمادة حالة يأتي بعد الماء, كما أنه المادة الأساسية لعدد من مواد التخدير الاستنشاقية الحديثة, وجميعها تحتوي على جذر الإيثر الذي هو نتاج تفاعل الغول مع حمض الكبريت, والذي هو أي (حمض الكبريت) من تركيب (الرازي).
تفسيرات خاطئة
          المؤرخ والمستشرق (إريك هولميارد), افترض مسبقًا في كتابه (صانعو الكيمياء) عام 1973, أن الكحول يجب بالضرورة أن يكون من أصل غربي, فأعاد الفضل في تسميته إلى (باراسلسوس) 1541, ذلك الفضل الذي لم يدعه هذا الأخير نفسه. ولتبرير هذا الادعاء, قام هولميارد بمحاولات يائسة للعثور على كلمة عربية يكن أن تكون الأصل لكلمة الكحول. وفي سبيل ذلك وقع في سلسلة من الأخطاء التي إن دلت على شيء فعلى أنه ليس لديه فكرة بأغوار اللغة العربية ومطباتها. ففي مقطع من كتابه نقرأ ما يلي: (لقد كان باراسلسوس أول من أطلق اسم الكحول لروح النبيذ. والكحول في الأصل يعني دهانا أسود للعين يستعمل من قبل النساء الشرقيات وبالتدريج اكتسب معنى مسحوق ناعم. وبتحوير طبيعي أخذ يعني أفضل أو أدق جزء من أي مادة. من المحتمل أن باراسلسوس اعتبر روح النبيذ كأفضل جزء فيه, ومن ثم دعاه كحول النبيذ او باختصار الكحول).
          لقد وقع هولميارد في خطأ إعادة أصل الكحول إلى الكحل (الدهان الأسود الذي تستعمله النساء الشرقيات في عيونهن للزينة) وعجز عن أن يميز بين كلمة (Fine) بمعنى الأجزاء المتناهية في الدقة و(Fine) التي تعني جيد وحسن. وفي هفوة أخرى عن الكحول, تبنى الأستاذ د.محمد يحيى الهاشمي وجهة نظر هولميارد ليقول إن للكحول ربما تكون صيغة الجمع للكحل. ومن الواضح أن كلتا المطالعتين بعيدتان عن الصواب.
          لا توجد هنالك كلمة (الكحول) في القواميس العربية الرئيسية أو في موسوعاتها, كما أن كلمة الكحل في اللغة العربية لا تجمع.
          وليس من عادة العرب أن يطلقوا على الجزء الأفضل في أي مادة سائلة عبارة حسن أو جيد كالكحل, وإنما يقولون ناعم كالكحل, بمعنى أنه مسحوق ناعم الأجزاء وذلك للمواد الصلبة.
          الغول, وهو أصل الكلمة التي أشرنا إليها من قبل, يشير إلى شيء مؤثر في الدماغ, ويؤدي إلى فقدان السيطرة على السلوك وخلل في التحكم, وهذه الكلمة ذكرت من قبل العرب قبل الإسلام, قال أبو عبيدة وهو من شعراء ما قبل الإسلام: الغول أن تغتال عقولهم. وأنشد: ومازالت الخمرتغتالنا وتذهب بالأول الأول, كما أنها وردت في القرآن الكريم الذي يصف خمر الجنة بأنها خالية من الغول, ولا تسبب الصداع الذي يعقب معاقرتها, وذلك في الآية الكريمة: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون}.
          ومع ذلك كله, تعرضت كلمة الغول للتحوير, لتصبح (الكوهول) باللغة الإنجليزية, والكوول باللغة الفرنسية.
          وكخلاصة لما تقدم, فإنه وفي إطار الاحتمال, يمكن القول إن الرازي قد أنتج الإيثر نتيجة معاملة الغول بحمض الكبريت, فهنالك ملامح تشير أنه كان يستخدم مادة تخدير تختلف عن المزيج المسبت, ومن الممكن أنه لم يكشف عن تركيبه - واسمه حينذاك (زيت الزاج الحلو) - كما فعل مورتون (1819-1868) الذي احتفظ بسر المادة المخدرة لفترة, وحين اكتشفها دخل في نزاع مع (جاكسن) (1805-1880), الذي زوّده بها, ولم يحسم إلا من قبل رئيس الولايات المتحدة, ولكن بعد وفاة كلا الرجلين. وبالمناسبة فإن نسبة هذا المركب بـ(إيثر) إنما أطلقها عالم ألماني يدعى (سيجموند أوجست فروبينوس) (1729) وكان طبيبًا وكيميائيًا وعالمًا في النبات من مدينة (ويللن برغ) في ألمانيا.
التصعيد والإنعاش
          ثمة مرجعان من الحضارة العربية والإسلامية جديران بالذكر. الأول كتاب (الخواص) لجابر بن حيان: وفيه نقرأ (اللهب الذي يشتعل في رءوس قوارير النبيد) في إشارة إلى ذلك الجزء من النبيذ القابل للاشتعال. الثاني: كتاب (كيمياء العطر والتصعيدات ليعقوب بن اسحق الكندي, وفيه يصف بالتفصيل طريقة التصعيد وتحضير الجهاز المستخدم لعدد كبير من العطور  ويضيف: (وهكذا يصاعد النبيذ ليخرج سائلاً خفيف الحمرة كما يصعد الخل ليخرج سائلاً فاهى الحمرة, وهذا دليل على أن الكيميائيين العرب والمسلمين كانوا على معرفة بتصعيد النبيذ, وأن الكندي قد استقطر الكحول في القرن التاسع, أي قبل 600 عامًا من باراسلسوس).
          أمافي مجال الانعاش, نرى المصادر الغربية ترد فضل استعمال المنفاخ - وهو الشكل البدائي لجهاز أمبو المستعمل حاليًا في الإنعاش التنفسي - إلى (جمعية انعاش الأشخاص الغرقى (في أمستردام عام 1767 أولا ومن ثم استعمل في (الجمعية الإنسانية الملكية) في إنجلترا عام 1771.
          والواقعة المختصرة التالية مأخوذة من كتاب (ابن أبي أصيبعة) والنسخة الإنجليزية منه بعنوان: Classes of Physicians والعربية (طبقات الأطباء), كتب في القرن الثالث عشر, وهذا المؤلف طبيب مدرسي وأخصائي في أمراض العيون, عاش بصورة رئيسية في القاهرة ومات عام 1270.م.
          يروي ابن أبي أصيبعة: (جاء في سيرة صالح بن بهلة أن هارون الرشيد كان لا يأكل إلا بحضور جبرائيل بن بختيشوع, وقد قدمت يومًا الموائد بين يديه, وجبرائيل غائب, فبحث عنه فلم يعثر له على أثر, مما أثار غضب الرشيد. وبينما كان الأمر كذلك, حضر وقال للرشيد معتذرًا بأنه كان يعالج ابن عمه إبراهيم, وبه رمق ينقضي وقت صلاة العتمة. وهنا تدخل جعفر بن يحيى وقال: يا أمير المؤمنين إن صالح بن بهلة عالم بطريقة أهل الهند في الطب ويحسن إحضاره, فأمر الرشيد بإحضار صالح وتوجيهه والمصير به إليه ورده بعد منصرفه من عند ابن عمه. ففعل ذلك جعفر, وقد التمس صالح بن بهلة أن يقابل الرشيد بالذات ليخبره عن حال ابن عمه إبراهيم. فقال صالح للرشيد: أنا أشهدك يا أمير المؤمنين. وأشهد على نفسي من حضرك أن إبراهيم بن صالح إن توفي في هذه الليلة, فإن كل دابة لي فحبيس في سبيل الله, وكل مال لي فصدقة على المساكين, ولم أقل ما قلت إلا بعلم. ولما كان وقت صلاة العتمة, جاء نعي إبراهيم ابن عم الرشيد, فأخذ يكيل اللوم لصالح بن بهلة, فلم يناطقه إلى أن سطعت روائح المجامر, صاح عند ذلك صالح: الله الله يا أمير المؤمنين, أن تدفن ابن عمك حيًا, فوالله ما مات فأطلق لي الدخول عليه وحدي ثانية, فأذن له بذلك. وأتى صالح بكندس ومنفخة من الخزانة ونفخ في أنف إبراهيم مقدار ثلث ساعة, اضطرب بعدها بدنه وعطس وجلس أمام الرشيد. وعاش إبراهيم بعد ذلك دهرًا, ثم تزوج العباسة بنت المهدي وولي مصر وفلسطين).
          وبعد, فإن العلم لا موطن له, ولكل إنسان الحق في طلبه, وإذا توافرت المؤهلات والظروف لامرئ فتح عليه. وعلماء العرب والمسلمين في طليعة تلك الأمم التي حملت مشعل العلم دهرًا, وساهمت بقسط وافر في تطوير وإرساخ دعائم العلوم التي قامت عليها النهضة الحديثة. وهم اليوم مدعوون إلى أن يضيفوا إليها المزيد, وإنهم لقادرون.









 
العربي
569

الخميس، 8 مايو 2014

كيف يؤلفون الكتب ؟


كيف يؤلفون الكتب ؟
 
كان من رأي أديبنا الكبير الاستاذ امين الخولي رحمه الله ان توجد رقابة ادبية علمية على المؤلفات التي يخرجها الكتاب، بمعنى أن تؤلف لجنة من كبار الاساتذة المختصصين لفحص الانتاج العلمي والأدبي قبل ان يظهر للناس، فاذا رأت به ما يستحق النشر لفائدته الجديدة أقرته وأذنت باذاعته، واذا كان مجرد تكرار لما سبق، دون اضافة حقيقية لقضايا العلم والأدب فالأولى به ان يريح الناس من وجوده! ولكن اسم الرقابة ثقيل بغيض، وهو في مجال التأليف العلمي اشد ثقلاً وأكثر نقصاً لأنه يؤذن في بعض دلائله بتقييد حرية الفكر، وقد تنقلب الرقابة الى هيئة متحكمة غاشمة تمنع الجيد والردىء معاً لبعض الأغراض التي تسيطر على البشر فلا يكاد ينجو منها الا من شذ وندر! لذلك كان اقتراح الاستاذ الخولي رحمه الله وقد جهر به في بعض ندوات الهلال بعيداً عن التنفيذ .
ولنا ان نحلل الباعث الملح الذي دفع اديبا من قادتنا الموجهين كالاستاذ الخولي الى مثل هذا الاقتراح لنلمسه واضحاً في اكثر ما تنشره المطابع اليوم من مؤلفات، فقد دأبت أناس على التأليف المتتابع لا لشيء سوى أنهم يجدون النشر! أو يملكون نفقات الطبع فإذا بحثت ما يكتبون فانك ترى غرائب من الفهم وعجائب من التفكير تصبح مجال التندر والتهكم لا موضع الافادة والتعليم، هذا اذا كان الكتاب يدور حول موضوع جديد لم تسبق معالجته، أو عولج من زاوية غير الزاوية التي ينتجها المؤلف الجديد! أما إذا كان الكتاب تكراراً لما سبق أن كثر الخوض في موضوعه فانك في جميع صفحاته لن تعثر على شيء لا تعلمه!! وموضع الخطر في ذلك – لدى الاستاذ الخولي ومن ينحو منحاه في الحرص على مستوى التاليف – ان المؤلف من هذا الطراز لا يفتأ يتابع مؤلفاته التافهة دون سأم، وسيقرؤها الناشئة على انها نماذج جيدة للتأليف، اذا ان الصفحة الأخيرة من الكتاب من غلاف الكتاب تحمل فهرساً بأسماء المؤلفات السابقة للكاتب، فتلقى في خواطر الناشئة ان الرجل كاتب كبير وانه انموذج يحتذى ، وهو بعد لا شيء فإذا صار صاحب السفر الضخم من المؤلفات نموذجا يحتذى، وذاع له بين القراء صيت مدو، ووجد بين مقرظي الكتب في الصحف، وكاتبي المقدمات الكاذبة في صدور مؤلفاته من يشيد بعمله، ويثني على موهبته! اذا صار صاحبنا كذلك فقد انتقلت عدواه الى لباب الأدب والعلم، وهبط بمستوى التأليف الى قرار سحيق .
ونحن اذ يطول بنا العجب العجاب لهذا الكاتب النهم على التأليف دون موضوع ودون كاتب حتى اصبح لدينا من يجاهر بأن مؤلفاته قد جاوزت الثلاثين والأربعين من الكتب، متخذا ذلك مجال فخره وموضع تعاليه انما نشير الى المقياس المضطرب الذي يزن به الكاتب الدعي نفسه بين الكتاب والى النظرة الساذجة عند عامة القراء تلك التي تجعل الكم العددي في التأليف مجال التقدير وموضع الرجحان لدى المقارنة بين المؤلفين! وقد نسوا أن ما خطه الكاتب المسكين في جميع مؤلفاته سراب بقيعه يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئاً !إنهم نسوا ذلك لأنهم يجهلون حقيقته فقد لمع أمامهم السراب في الصحراء فجزموا أنه ماء!
ونحن نعرف ان الكم العددي في التأليف كما يدل على الغزارة والعمق، والتمكن من البيان وجودة القريحة وقوة الاستعداد وكمال الموهبة عند الخاصة من الباحثين ذوي الصبر الدائب، والفحص اللجوج – وما أقل هؤلاء في كل مكان – فإنه يدل على الخواء والتخبط والسطو المقنع، والغثائة الركيكية لدى العامة من حاطبي الليل في التأليف، ونستطيع أن نذكر ادباء مرموقين تسنم الأديب منهم مجده العلمي بكتاب دسم واحد، أفرغ فيه جهد الحريص، وصبر على مشاق البحث ومعاناة النظر حتى وصل الى نتائج جيدة تعزى اليه، وتقرن به، وهو بعد صاحب كتاب واحد، لا خمسين كتابا، كما نعلم من متابعة الحركة الثقافية في كل عصر أن مؤلفا واحداً يثير من الضجة والنقد عاصفة تمتد سنوات وسنوات وتعقب كتبا كثيرة في مجال النقد والتمحيص ما بين مؤيد ومعارف، ولست أرى في هذه الضجة الحادثة مثالاً يحسد، أو امنية ترجى! وانما انبعث دويها عن ضرورات ملزمة احدثتها جدة الآراء، وصعوبة منزعها، وقوة احتجاجها وفي ذلك ما يدل كل الدلالة على تمكن المؤلف من موضوعه واستعداده له، وحشده جميع الطاقات الممكنة لديه في اتمامه ونضوجه! وهذا وحده ما ينبغي لكل مؤلف جاد ان يلتزمه، وإذا كان في هذه الآراء الجديدة ما ينقد ويخذل فتلك طبيعة الاشياء، فلم لا يتأمل المكثرون ذلك ليعلموا أن البغاث كثير العدد دون جدوى وأم الصقر مقلال نزور .
ونحن مع ما نشهد من تكالب الادعياء على التأليف المتواصل دون أعياء، نشهد مع ذلك تقديراً للتبعة وعزوفاً عن الضجيج الصاخب لدى بعض الاصلاء من المؤلفين، ممن يقدرون مكانة التأليف، ويعرفون أن الكاتب الجديد لا بد أن يحمل اشياء جديدة ذات بال! لذلك نرى فريقا من نابهي المفكرين لدينا لم يجرءوا على متابعة التأليف وهم بعد اساتذة المادة، وأصحاب القيادة العلمية في بيئاتهم الثقافية، كل في دائرة اختصاصه! بل ان فيهم من عكف السنوات الطويلة على تأليف كتاب دقيق المنهج جديد المنزع، قوي النتائج ثم سمح لنفسه ان يئد كتابه وأداً دون ان يخرجه للناس مع ما تحمل فيه من معاناة البحث، وكد التأمل، وسد الثغرات، وتلمس الصوى في بيداء مجهل يضل بها الدليل .
حدثني استاذي الكبير احمد حسن الزيات أن المغفور له الاستاذ عبد الحميد العبادي قد الف كتاباً تاريخياً يصور حوادث الصدر الاول من تاريخ الاسلام من الناحية السياسية، كما فعل الاستاذ احمد أمين في تصوير هذا العصر من الناحية العقلية في كتاب فجر الاسلام وكان العبادي واحمد امين وطه حسين قد اتفقوا على اصدار موسوعة ثقافية كل في نوع اختصاصه، فثابر احمد امين حتى اصدر الفجر والظهر والضحى في ثمانية أجزاء، وتنوعت أعمال الدكتور طه فصرفته عن مشروعه! أم الاستاذ العبادي فقد اصدر الجزء الأول من كتابه في ستمائة صفحة تنطق بالمعاناة المريرة والجهد الشاق ثم قرأه على نفر من اصدقائه كان من بينهم الاستاذ احمد حسن الزيات فعدوه مثالاً جيداً للتأليف التاريخي، ولكن العبادي تردد في نشره، وحدثني الاستاذ الزيات انه استحثه على طبعه استحثاثاً ملحاً فلم يستجب، ووأد كتابه العزيز وأداً، لأنه لم يبلغ المستوى المثالي الذي يريد!!
فهذا مؤرخ جامعي عميد حاضر بالكليات العالية اكثر من اربعين عاماً في دقائق التاريخ الاسلامي، ورأى من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه من يملئون المكتبة التاريخية بأبحاثهم! ثم آثر مع هذه الاستاذية الجديرة بالنفع التريث في نشر مؤلف ضخم عالجه في تمكن وخطه في حيطة، ودرس مواده في صبر تمده خبرات السنين الطوال .. ومضى الى ربه دون أن يرى كتابه الضياء! ولو أقدم على طبعه لتتالت طبعاته وكان أحد المراجع الهامة بالجامعة العربية .. ولجنى من ورائه جهارة الصيت ووفرة الثراء!
هذا مثل نذكره في التحرج العلمي، وتقدير التبعة القاسية للتأليف، وليس العبادي فريداً في ذلك بل ان الصفوة من الاصلاء المعرقين يشاركونه تقدير التبعة وشدة التحرج فلا يخرجون الا ما وثقوا بكماله وثوقاً لا يتطرق اليه فتيل من الشك عالمين ان من ألف فقد استهدف، ولست أدعو الى الامتناع عن مواصلة التأليف كما قد يقع في بعض الافهام ولكني ادعو الى التمكن والرسوخ ثم الحيطة والحذر قبل المباهاة بغزارة الانتاج وتنوع التأليف!
وربما سألت؟ كيف يكون الكاتب خواء الذهن ناضب القريحة، قليل الاطلاع، ركيك الاسلوب ضرير الاستنباط ثم يصدر مؤلفاته تباعاً كما يتقاطر الغيث الهتون! ولك الحق ان تسأل؟ وواجبي ان اجيب في صراحة واضحة فاضحة فأقول: ان هذا النفر من الادعياء، لا يستطيع ان ينهض بموضوع جديد على الاطلاق، فهو حين تستولي عليه حمى التأليف ملهبة أحاسيسه بسياط لا تهدأ، انما يتجه الى الفهارس العامة، فاذا كان ممن يدعو المشاركة في الدراسات الادبية مثلاً فإنه يستنجد بالفهارس المكتبية ليقع على موضوع كثر القول فيه وتعددت المؤلفات عنه فهنا مجال اصطياده، وموضوع حديثه، ولنفرض انه إختار الجاحظ في كتاب خاص فيما نعلم فيتصفحه الكاتب ويقف أمامه صحيفة المراجع التي دونها السندوبي وأشار اليها فيلم بها ويستعير ما أمكن استعارته من كتبها في دور الكتب ثم يقرأ في الفهارس أن زيداً وعمراً وخالداً مما لا ترى داعياً لتسطير اسمائهم قد اصدروا مؤلفات حديثة عن الجاحظ، فيخف لطيته ويجمع كل ما يستطيع أن يجمعه، وفي كل كتاب كتبه هؤلاء عن الجاحظ سجل من المراجع يرشد صاحبنا الى الجديد حتى اذا استكمل استيعاب ما عثر عليه من المكتبة الجاحظية، قرأ ما قرأ في عجلة لوضع الفهرس التقليدي للكتاب على نحو مدرسي لا يكاد يخرج عن الحديث عن عصر الجاحظ ونشأته وبيئته وعمن اتصل بهم من الخلفاء والرؤساء وعن مذهبه الكلامي ومؤلفاته وأسلوبه! ثم يملأ كل موضوع بما تناثر في الكتب المعاصرة وحدها محاولاً خديعة القارئ اذا يوهمه اطلاعه على بعض المصادر القديمة بترداد اسمائها، وهو في واقع أمره ناقل ردىء عن ناقل مجيد!! فقل لي بربك الا يستطيع دعي من هذا الطراز أن يكتب مائتي صفحة عن مثل الجاحظ! والمراجع معدة، والتبويب مريح، والابتكار فقيد، والسطو واضح، ومن وراء ذلك طبع فاخر، وورق لامع، ومقدمة يستجديها من كاتب جهير لسبب لا ندريه .
هذه هي طريقة التأليف النشيطة كما يعرفها هؤلاء، وقد يتطاول أحدهم فلا يكتفي بالتأليف في مجال قراءاته ومراجعاته بل يقفز الى مجال آخر بمنأى عن حقله المعهود، وأنا أعرف كاتباً ما ادعى الكتابة الادبية على طريقته المعروفة. فأخذ يصدر كتبه المتوالية عما يزعمه من قضايا الشعر والنثر ثم شاء أن يقفز فجأة إلى تفسير القرآن الكريم فجعل يصدر الجزء وراء الجزء، وفي المكتبة القرآنية مئات التفاسير ما بين قديمة وحديثة، ولا بد لمن يشرئب الى كتابة تفسير جديد، أن يفتح الله عليه بما أبرزه الزمن المعاصر من فهم جديد لبعض قضايا الفقه والتشريع والأخلاق كما تحدث عنها القرآن الكريم، لتظهر عظمة كتاب خالد يفيض على الاجيال المتعاقبة من نوره كل صباح ما تفيضه الشمس على الغياهب كل يوم! فبماذا فتح الله على هذا العلامة الجديد! لقد قرأت الجزء الأول من تفسيره، وانا أعلم سلفاً أنه نقول مسطرة عن السابقين! وكنت اتصور انه قرأ أمثال الطبري والنيسابوري والزمخشري والفخر الرازي .. الى أمثال رشيد رضا وطنطاوي جوهري وفريد وجدي ثم تابع التلخيص، ولكن الكارثة حارة اذا اقتصر صاحبنا على تفسير الالوسي وحده المسمى بروح المعاني، وأخذ يعالج النقل المبتور بتصرف يضر أكثر مما يفيد! واذا كنا نعلم ان الألوسي رحمه الله قد قدم في تفسيره الكبير خلاصة لأكثر اقوال السابقين مشفوعة برأيه فان صاحبنا زعم في مقدته انه قرأ اقوال السابقين ايضاً وقدم خلاصة لها! ليخدع السذج بأنه عانى معاناة الصابر الدءوب! ولكن المقارنة بين تفسيره وتفسير الالوسي تجعلنا نتساءل عن الامانة العلمية اين تكون، اذا لم تكن – لدى مفسر القرآن الكريم! .
ولنا أن نقف قليلاً عند من يشجع هؤلاء على الكثرة الكاثرة من الاجهاض الكتابي الشائه، فنعلم أنه الناشر! والناشر وحده هو الذي يفتن في التوزيع والنشر افتتانا صار به تاجراً كبيراً ذا ثراء وجاه! حين مد اخطبوطه المحكم الى جهات كثيرة، فهو يتقدم بخدماته الى لجان فحص الكتب في وزارة التربية والتعليم ليعلن استعداده لطبع مؤلفات ذوي الكلمة المسموعة من حضراتهم مقدما من الأجر ما يقنع! ثم يلقى اليهم قوائم فهارسه لتكون موضع عطفهم، وقد أسرهم بمعروفه، فيسارعون الى اختيار كميات وافرة من مطبوعاته تخزن خزنا في مكاتب المدارس الثانوية والاعدادية والتجارية والصناعية والزراعية ودور المعلمين والمعلمات بشتى محافظات الجمهورية، ثم لا يقتصر على ذلك بل يلقي حباله الى اساتذة الجامعات في شتى الكليات المختلفة، مرحباً بطبع محاضراتهم لقاء أجر مقنع ثم ملتمساً النظر الى قائمة مطبوعاته فيما يختارونه لمكتبات الكليات بالجامعة، فيرى التشجيع والاقبال، ولا ينسى ان يوثق علاقاته بالقائمين على توزيع الصحف اليومية والمجلات، فيضع كتبه الجديدة في ورق السلوفان الموصد، ويقوم بائعو الجرائد في كل مكان بعرضها مع الصحف اليومية، وكثير من قراء هذه الصحف يسألون البائع عما لديه ليختاروه بمظهره لا بمخبره، اذ ليسوا ممن يقرؤون للاستفادة بل ممن يتباهون بالشراء، وتجميل المنزل بالحديث من المؤلفات! فالكاتب لدى هؤلاء لا يزيد عن قدح او طبق او كرسي يجد مكانة المعد في المنزل وان لم يحن ميعاد استعماله واذا كنت تعرف ان كل شارع لا يخلو من بائع صحف! فانك تعرف ان اتساع منافذ العرض على هذا النحو مما يحتم ان يتصيد الكتاب مئات الاغرار ممن يعتزون بالورق المطبوع دون ارتقاء الى ما سواه! وبذلك يرجع الناشر بخيره الجزيل فيلقي ببعضه الى صاحبه الذي تهيأ في نشوة التوزيع الى اصدار كتاب جديد .
هذه خواطر متناثرة أسودها كما توالت على النفس حين حملت القلم للكتابة! وقد وقفت في هذه الجلسة القصيرة لدى هذا الحد المقتضب حين كَلَّ الذهن وما أكثر ما يدركه الكلال، وانا أعلم جيداً أن الموضوع لم ينته بعد، فله معقبات وذيول ولا بد من العودة اليه في مقال آخر اذا اتيح الصفاء!

بقلم الدكتور محمد رجب البيومي