كيف يؤلفون الكتب ؟
كان من رأي أديبنا الكبير الاستاذ
امين الخولي رحمه الله ان توجد رقابة ادبية علمية على المؤلفات
التي يخرجها الكتاب، بمعنى أن تؤلف لجنة من كبار الاساتذة
المختصصين لفحص الانتاج العلمي والأدبي قبل ان يظهر للناس، فاذا
رأت به ما يستحق النشر لفائدته الجديدة أقرته وأذنت باذاعته، واذا
كان مجرد تكرار لما سبق، دون اضافة حقيقية لقضايا العلم والأدب
فالأولى به ان يريح الناس من وجوده! ولكن اسم الرقابة ثقيل بغيض،
وهو في مجال التأليف العلمي اشد ثقلاً وأكثر نقصاً لأنه يؤذن في
بعض دلائله بتقييد حرية الفكر، وقد تنقلب الرقابة الى هيئة متحكمة
غاشمة تمنع الجيد والردىء معاً لبعض الأغراض التي تسيطر على البشر
فلا يكاد ينجو منها الا من شذ وندر! لذلك كان اقتراح الاستاذ
الخولي رحمه الله وقد جهر به في بعض ندوات الهلال بعيداً عن
التنفيذ .
ولنا ان نحلل الباعث الملح الذي دفع
اديبا من قادتنا الموجهين كالاستاذ الخولي الى مثل هذا الاقتراح
لنلمسه واضحاً في اكثر ما تنشره المطابع اليوم من مؤلفات، فقد دأبت
أناس على التأليف المتتابع لا لشيء سوى أنهم يجدون النشر! أو
يملكون نفقات الطبع فإذا بحثت ما يكتبون فانك ترى غرائب من الفهم
وعجائب من التفكير تصبح مجال التندر والتهكم لا موضع الافادة
والتعليم، هذا اذا كان الكتاب يدور حول موضوع جديد لم تسبق
معالجته، أو عولج من زاوية غير الزاوية التي ينتجها المؤلف الجديد!
أما إذا كان الكتاب تكراراً لما سبق أن كثر الخوض في موضوعه فانك
في جميع صفحاته لن تعثر على شيء لا تعلمه!! وموضع الخطر في ذلك –
لدى الاستاذ الخولي ومن ينحو منحاه في الحرص على مستوى التاليف –
ان المؤلف من هذا الطراز لا يفتأ يتابع مؤلفاته التافهة دون سأم،
وسيقرؤها الناشئة على انها نماذج جيدة للتأليف، اذا ان الصفحة
الأخيرة من الكتاب من غلاف الكتاب تحمل فهرساً بأسماء المؤلفات
السابقة للكاتب، فتلقى في خواطر الناشئة ان الرجل كاتب كبير وانه
انموذج يحتذى ، وهو بعد لا شيء فإذا صار صاحب السفر الضخم من
المؤلفات نموذجا يحتذى، وذاع له بين القراء صيت مدو، ووجد بين
مقرظي الكتب في الصحف، وكاتبي المقدمات الكاذبة في صدور مؤلفاته من
يشيد بعمله، ويثني على موهبته! اذا صار صاحبنا كذلك فقد انتقلت
عدواه الى لباب الأدب والعلم، وهبط بمستوى التأليف الى قرار سحيق .
ونحن اذ يطول بنا العجب العجاب لهذا
الكاتب النهم على التأليف دون موضوع ودون كاتب حتى اصبح لدينا من
يجاهر بأن مؤلفاته قد جاوزت الثلاثين والأربعين من الكتب، متخذا
ذلك مجال فخره وموضع تعاليه انما نشير الى المقياس المضطرب الذي
يزن به الكاتب الدعي نفسه بين الكتاب والى النظرة الساذجة عند عامة
القراء تلك التي تجعل الكم العددي في التأليف مجال التقدير وموضع
الرجحان لدى المقارنة بين المؤلفين! وقد نسوا أن ما خطه الكاتب
المسكين في جميع مؤلفاته سراب بقيعه يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه
لم يجده شيئاً !إنهم نسوا ذلك لأنهم يجهلون حقيقته فقد لمع أمامهم
السراب في الصحراء فجزموا أنه ماء!
ونحن نعرف ان الكم العددي في التأليف
كما يدل على الغزارة والعمق، والتمكن من البيان وجودة القريحة وقوة
الاستعداد وكمال الموهبة عند الخاصة من الباحثين ذوي الصبر الدائب،
والفحص اللجوج – وما أقل هؤلاء في كل مكان – فإنه يدل على الخواء
والتخبط والسطو المقنع، والغثائة الركيكية لدى العامة من حاطبي
الليل في التأليف، ونستطيع أن نذكر ادباء مرموقين تسنم الأديب منهم
مجده العلمي بكتاب دسم واحد، أفرغ فيه جهد الحريص، وصبر على مشاق
البحث ومعاناة النظر حتى وصل الى نتائج جيدة تعزى اليه، وتقرن به،
وهو بعد صاحب كتاب واحد، لا خمسين كتابا، كما نعلم من متابعة
الحركة الثقافية في كل عصر أن مؤلفا واحداً يثير من الضجة والنقد
عاصفة تمتد سنوات وسنوات وتعقب كتبا كثيرة في مجال النقد والتمحيص
ما بين مؤيد ومعارف، ولست أرى في هذه الضجة الحادثة مثالاً يحسد،
أو امنية ترجى! وانما انبعث دويها عن ضرورات ملزمة احدثتها جدة
الآراء، وصعوبة منزعها، وقوة احتجاجها وفي ذلك ما يدل كل الدلالة
على تمكن المؤلف من موضوعه واستعداده له، وحشده جميع الطاقات
الممكنة لديه في اتمامه ونضوجه! وهذا وحده ما ينبغي لكل مؤلف جاد
ان يلتزمه، وإذا كان في هذه الآراء الجديدة ما ينقد ويخذل فتلك
طبيعة الاشياء، فلم لا يتأمل المكثرون ذلك ليعلموا أن البغاث كثير
العدد دون جدوى وأم الصقر مقلال نزور .
ونحن مع ما نشهد من تكالب الادعياء
على التأليف المتواصل دون أعياء، نشهد مع ذلك تقديراً للتبعة
وعزوفاً عن الضجيج الصاخب لدى بعض الاصلاء من المؤلفين، ممن يقدرون
مكانة التأليف، ويعرفون أن الكاتب الجديد لا بد أن يحمل اشياء
جديدة ذات بال! لذلك نرى فريقا من نابهي المفكرين لدينا لم يجرءوا
على متابعة التأليف وهم بعد اساتذة المادة، وأصحاب القيادة العلمية
في بيئاتهم الثقافية، كل في دائرة اختصاصه! بل ان فيهم من عكف
السنوات الطويلة على تأليف كتاب دقيق المنهج جديد المنزع، قوي
النتائج ثم سمح لنفسه ان يئد كتابه وأداً دون ان يخرجه للناس مع ما
تحمل فيه من معاناة البحث، وكد التأمل، وسد الثغرات، وتلمس الصوى
في بيداء مجهل يضل بها الدليل .
حدثني استاذي الكبير احمد حسن الزيات
أن المغفور له الاستاذ عبد الحميد العبادي قد الف كتاباً تاريخياً
يصور حوادث الصدر الاول من تاريخ الاسلام من الناحية السياسية، كما
فعل الاستاذ احمد أمين في تصوير هذا العصر من الناحية العقلية في
كتاب فجر الاسلام وكان العبادي واحمد امين وطه حسين قد اتفقوا على
اصدار موسوعة ثقافية كل في نوع اختصاصه، فثابر احمد امين حتى اصدر
الفجر والظهر والضحى في ثمانية أجزاء، وتنوعت أعمال الدكتور طه
فصرفته عن مشروعه! أم الاستاذ العبادي فقد اصدر الجزء الأول من
كتابه في ستمائة صفحة تنطق بالمعاناة المريرة والجهد الشاق ثم قرأه
على نفر من اصدقائه كان من بينهم الاستاذ احمد حسن الزيات فعدوه
مثالاً جيداً للتأليف التاريخي، ولكن العبادي تردد في نشره، وحدثني
الاستاذ الزيات انه استحثه على طبعه استحثاثاً ملحاً فلم يستجب،
ووأد كتابه العزيز وأداً، لأنه لم يبلغ المستوى المثالي الذي
يريد!!
فهذا مؤرخ جامعي عميد حاضر بالكليات
العالية اكثر من اربعين عاماً في دقائق التاريخ الاسلامي، ورأى من
تلاميذه وتلاميذ تلاميذه من يملئون المكتبة التاريخية بأبحاثهم! ثم
آثر مع هذه الاستاذية الجديرة بالنفع التريث في نشر مؤلف ضخم عالجه
في تمكن وخطه في حيطة، ودرس مواده في صبر تمده خبرات السنين الطوال
.. ومضى الى ربه دون أن يرى كتابه الضياء! ولو أقدم على طبعه
لتتالت طبعاته وكان أحد المراجع الهامة بالجامعة العربية .. ولجنى
من ورائه جهارة الصيت ووفرة الثراء!
هذا مثل نذكره في التحرج العلمي،
وتقدير التبعة القاسية للتأليف، وليس العبادي فريداً في ذلك بل ان
الصفوة من الاصلاء المعرقين يشاركونه تقدير التبعة وشدة التحرج فلا
يخرجون الا ما وثقوا بكماله وثوقاً لا يتطرق اليه فتيل من الشك
عالمين ان من ألف فقد استهدف، ولست أدعو الى الامتناع عن مواصلة
التأليف كما قد يقع في بعض الافهام ولكني ادعو الى التمكن والرسوخ
ثم الحيطة والحذر قبل المباهاة بغزارة الانتاج وتنوع التأليف!
وربما سألت؟ كيف يكون الكاتب خواء
الذهن ناضب القريحة، قليل الاطلاع، ركيك الاسلوب ضرير الاستنباط ثم
يصدر مؤلفاته تباعاً كما يتقاطر الغيث الهتون! ولك الحق ان تسأل؟
وواجبي ان اجيب في صراحة واضحة فاضحة فأقول: ان هذا النفر من
الادعياء، لا يستطيع ان ينهض بموضوع جديد على الاطلاق، فهو حين
تستولي عليه حمى التأليف ملهبة أحاسيسه بسياط لا تهدأ، انما يتجه
الى الفهارس العامة، فاذا كان ممن يدعو المشاركة في الدراسات
الادبية مثلاً فإنه يستنجد بالفهارس المكتبية ليقع على موضوع كثر
القول فيه وتعددت المؤلفات عنه فهنا مجال اصطياده، وموضوع حديثه،
ولنفرض انه إختار الجاحظ في كتاب خاص فيما نعلم فيتصفحه الكاتب
ويقف أمامه صحيفة المراجع التي دونها السندوبي وأشار اليها فيلم
بها ويستعير ما أمكن استعارته من كتبها في دور الكتب ثم يقرأ في
الفهارس أن زيداً وعمراً وخالداً مما لا ترى داعياً لتسطير اسمائهم
قد اصدروا مؤلفات حديثة عن الجاحظ، فيخف لطيته ويجمع كل ما يستطيع
أن يجمعه، وفي كل كتاب كتبه هؤلاء عن الجاحظ سجل من المراجع يرشد
صاحبنا الى الجديد حتى اذا استكمل استيعاب ما عثر عليه من المكتبة
الجاحظية، قرأ ما قرأ في عجلة لوضع الفهرس التقليدي للكتاب على نحو
مدرسي لا يكاد يخرج عن الحديث عن عصر الجاحظ ونشأته وبيئته وعمن
اتصل بهم من الخلفاء والرؤساء وعن مذهبه الكلامي ومؤلفاته وأسلوبه!
ثم يملأ كل موضوع بما تناثر في الكتب المعاصرة وحدها محاولاً خديعة
القارئ اذا يوهمه اطلاعه على بعض المصادر القديمة بترداد اسمائها،
وهو في واقع أمره ناقل ردىء عن ناقل مجيد!! فقل لي بربك الا يستطيع
دعي من هذا الطراز أن يكتب مائتي صفحة عن مثل الجاحظ! والمراجع
معدة، والتبويب مريح، والابتكار فقيد، والسطو واضح، ومن وراء ذلك
طبع فاخر، وورق لامع، ومقدمة يستجديها من كاتب جهير لسبب لا ندريه
.
هذه هي طريقة التأليف النشيطة كما
يعرفها هؤلاء، وقد يتطاول أحدهم فلا يكتفي بالتأليف في مجال
قراءاته ومراجعاته بل يقفز الى مجال آخر بمنأى عن حقله المعهود،
وأنا أعرف كاتباً ما ادعى الكتابة الادبية على طريقته المعروفة.
فأخذ يصدر كتبه المتوالية عما يزعمه من قضايا الشعر والنثر ثم شاء
أن يقفز فجأة إلى تفسير القرآن الكريم فجعل يصدر الجزء وراء الجزء،
وفي المكتبة القرآنية مئات التفاسير ما بين قديمة وحديثة، ولا بد
لمن يشرئب الى كتابة تفسير جديد، أن يفتح الله عليه بما أبرزه
الزمن المعاصر من فهم جديد لبعض قضايا الفقه والتشريع والأخلاق كما
تحدث عنها القرآن الكريم، لتظهر عظمة كتاب خالد يفيض على الاجيال
المتعاقبة من نوره كل صباح ما تفيضه الشمس على الغياهب كل يوم!
فبماذا فتح الله على هذا العلامة الجديد! لقد قرأت الجزء الأول من
تفسيره، وانا أعلم سلفاً أنه نقول مسطرة عن السابقين! وكنت اتصور
انه قرأ أمثال الطبري والنيسابوري والزمخشري والفخر الرازي .. الى
أمثال رشيد رضا وطنطاوي جوهري وفريد وجدي ثم تابع التلخيص، ولكن
الكارثة حارة اذا اقتصر صاحبنا على تفسير الالوسي وحده المسمى بروح
المعاني، وأخذ يعالج النقل المبتور بتصرف يضر أكثر مما يفيد! واذا
كنا نعلم ان الألوسي رحمه الله قد قدم في تفسيره الكبير خلاصة
لأكثر اقوال السابقين مشفوعة برأيه فان صاحبنا زعم في مقدته انه
قرأ اقوال السابقين ايضاً وقدم خلاصة لها! ليخدع السذج بأنه عانى
معاناة الصابر الدءوب! ولكن المقارنة بين تفسيره وتفسير الالوسي
تجعلنا نتساءل عن الامانة العلمية اين تكون، اذا لم تكن – لدى مفسر
القرآن الكريم! .
ولنا أن نقف قليلاً عند من يشجع هؤلاء
على الكثرة الكاثرة من الاجهاض الكتابي الشائه، فنعلم أنه الناشر!
والناشر وحده هو الذي يفتن في التوزيع والنشر افتتانا صار به
تاجراً كبيراً ذا ثراء وجاه! حين مد اخطبوطه المحكم الى جهات
كثيرة، فهو يتقدم بخدماته الى لجان فحص الكتب في وزارة التربية
والتعليم ليعلن استعداده لطبع مؤلفات ذوي الكلمة المسموعة من
حضراتهم مقدما من الأجر ما يقنع! ثم يلقى اليهم قوائم فهارسه لتكون
موضع عطفهم، وقد أسرهم بمعروفه، فيسارعون الى اختيار كميات وافرة
من مطبوعاته تخزن خزنا في مكاتب المدارس الثانوية والاعدادية
والتجارية والصناعية والزراعية ودور المعلمين والمعلمات بشتى
محافظات الجمهورية، ثم لا يقتصر على ذلك بل يلقي حباله الى اساتذة
الجامعات في شتى الكليات المختلفة، مرحباً بطبع محاضراتهم لقاء أجر
مقنع ثم ملتمساً النظر الى قائمة مطبوعاته فيما يختارونه لمكتبات
الكليات بالجامعة، فيرى التشجيع والاقبال، ولا ينسى ان يوثق
علاقاته بالقائمين على توزيع الصحف اليومية والمجلات، فيضع كتبه
الجديدة في ورق السلوفان الموصد، ويقوم بائعو الجرائد في كل مكان
بعرضها مع الصحف اليومية، وكثير من قراء هذه الصحف يسألون البائع
عما لديه ليختاروه بمظهره لا بمخبره، اذ ليسوا ممن يقرؤون
للاستفادة بل ممن يتباهون بالشراء، وتجميل المنزل بالحديث من
المؤلفات! فالكاتب لدى هؤلاء لا يزيد عن قدح او طبق او كرسي يجد
مكانة المعد في المنزل وان لم يحن ميعاد استعماله واذا كنت تعرف ان
كل شارع لا يخلو من بائع صحف! فانك تعرف ان اتساع منافذ العرض على
هذا النحو مما يحتم ان يتصيد الكتاب مئات الاغرار ممن يعتزون
بالورق المطبوع دون ارتقاء الى ما سواه! وبذلك يرجع الناشر بخيره
الجزيل فيلقي ببعضه الى صاحبه الذي تهيأ في نشوة التوزيع الى اصدار
كتاب جديد .
هذه خواطر متناثرة أسودها كما توالت
على النفس حين حملت القلم للكتابة! وقد وقفت في هذه الجلسة القصيرة
لدى هذا الحد المقتضب حين كَلَّ الذهن وما أكثر ما يدركه الكلال،
وانا أعلم جيداً أن الموضوع لم ينته بعد، فله معقبات وذيول ولا بد
من العودة اليه في مقال آخر اذا اتيح الصفاء!
بقلم الدكتور محمد رجب البيومي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق