الخميس، 17 مارس 2016

دار الكتب المصرية.. ذاكرة الأمة وتراثها


دار الكتب المصرية.. ذاكرة الأمة وتراثها

أحمد تمام
تعددت جوانب الإصلاح التي نهض بها "علي مبارك"، سواء ما اتصل منها بجانب العمران والتشييد، أو ما امتدت إليه يداه في جانب التعليم والتثقيف، وله في كل منها يد محمودة وفضل مشكور، وكان من مآثره الباقية إنشاء "دار الكتب المصرية" التي حفظت ذاكرة الأمة وتراثها.
وقد عرفت حواضر الخلافة الإسلامية ومدنها الشهيرة دور الكتب التي تفتح أبوابها لجمهور العلماء والباحثين، ولعل أقدم مكتبة أنشئت كانت "بيت الحكمة" التي بلغت ذروة مجدها وعطائها في زمن الخليفة "المأمون العباسي"، وكان شغوفًا بالعلم، مكرمًا لأهله يجلهم ويعرف أقدارهم، فجمع لها أهم الكتب الموجودة، وكلّف المترجمين بنقل أمهات المخطوطات اليونانية والسريانية إلى العربية، وظل العلماء يترددون عليها حتى نهاية القرن الرابع الهجري.
وكان من نصيب القاهرة أن أنشئت فيها خزانة كتب العصر الفاطمي، وكانت تضم كثر من ستمائة مجلد، حتى وصُفت بأنها من عجائب الدنيا، وأنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم منها، ثم بيعت بعد سقوط الدولة الفاطمية، وقيام دولة صلاح الدين الأيوبي، وانتقى منها القاضي فاضل مائة ألف كتاب قبل عملية البيع، ووضعها في مدرسته "الفاضلية".
ومع ظهور المدارس السنية ودور الحديث في مصر والشام في العصر الأيوبي والمملوكي حلت مكتباتها محل مكتبات قصور الخلفاء ودور العلم، وأصبحت تقدم خدماتها لطلابها وشيوخها، وقد لقيت تلك المدارس دعمًا من السلاطين والأمراء والأثرياء الذين كانوا يوقفون لها الأراضي والضياع والأموال؛ رغبة في استمرار وظيفتها، وحفاظًا على رسالتها. وحرص الواقفون على وضع الشروط التي تصون ذخائر مكتباتها من التلف والضياع، والقوانين والآداب التي يلتزم بها المترددون من نظم الاطلاع والاستعادة والنسخ، وغير ذلك من الأساليب التي تعد نموذجًا لما يعرف الآن باسم الخدمة المكتبية.
وفي أواخر العهد العثماني خرجت من مصر كثير من المخطوطات بطرق غير مشروعة استقرت في مكتبات أوروبا، ثم جاءت الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر لتستولي على العديد من المخطوطات النادرة التي عرفت طريقها إلى المكتبة الأهلية في باريس.
دواعي إنشاء دار للكتب
لم يكن هناك وعي تام بأهمية الكتب التي تمتلكها مصر والتي تتوزع في المساجد الكبيرة الجامعة وقصور الأمراء والأثرياء، وبيوت العلماء، ولم يكن هناك ما يمنع من الاتجار في تلك المخطوطات النادرة أو يحول دون نقلها، وأدى تردد كثير من التجار الأجانب على القاهرة لشرائها لصالح مكتباتهم الوطنية إلى تسرب كثير منها.
وانتبه إلى خطورة هذا الوضع الذي ينذر بضياع ثروة مصر الفكرية "علي مبارك باشا"، وكان يشغل رئاسة ديوان المدارس، فرأى ضرورة قيام مكتبة كبيرة تضم شتات الكتب المبعثرة في أماكن متعددة؛ صونًا لها وحماية من الضياع والتبدد، وسبق له أن شاهد في أثناء بعثته في فرنسا مكتبتها الوطنية في باريس فأعجب بها أيما إعجاب، فألقى برغبته إلى الخديوي إسماعيل، وكان يجيش في نفسه مثل هذه الرغبة، فتلاقت الرغبتان، فأصدر الخديوي قرارًا بإنشاء دار تجمع المخطوطات النفيسة التي سلمت من الضياع والتبديد.
نواة دار الكتب
تكونت النواة الأولى لدار الكتب من "الكتبخانة" القديمة التي أنشأها "محمد علي" وجعل مقرها القلعة، ومكتبات الجوامع التي قام ديوان الأوقاف في عام 1265 هـ = 1849م، بحصر محتوياتها، وما اشتراه الخديوي إسماعيل من مكتبة شقيقة "مصطفى فاضل"، وكانت مكتبة هائلة، تضم نوادر المخطوطات ونفائس الكتب، وتبلغ محتوياتها 3458 مجلدًا.
ومن هذه المجموعات وغيرها تكونت الكتبخانة الخديوية، وبلغ ما جمع لها نحو عشرين ألف مجلد، واتخذت من الطابق الأرضي بسراي الأمير مصطفى فاضل بدرب الجمامي.
وضع لائحة دار الكتب
وفي ( غرة جمادى الأولى سنة 1287 هـ = 30 من يونيو 1870م) انعقد بديوان المدارس اجتماع رأسه "علي مبارك" لوضع قانون دار الكتب الأول، ولائحة نظامها، الذي تكون من 83 مادة، حددت أقسام الدار، واختصاصات العاملين بها، وأوقات فتحها للمترددين عليها، ووضعت الضوابط التي يلتزم بها زوارها، مثل عدم التدخين، واصطحاب الكتب إلا بعد الحصول على إذن سابق، وبينت اللائحة طرق الاستعارة، ونسخ الكتب وغير ذلك، ثم افتتحت الدار لجمهور القراء في (غرة رجب 1287 هـ = 24 من سبتمبر 1870م)، وهي تعد بذلك أقدم مكتبة وطنية تنشأ في العالم العربي في العصر الحديث.
تطور دار الكتب
اعتبرت دار الكتب بعد إنشائها ملكًا لديوان الأوقاف؛ لأن الكتب موقوفة قبل خزنها، وأوقف الخديوي إسماعيل عشرة آلاف فدان للإنفاق من ريعها على دار الكتب، وابتدأت الدار تعمل منذ عام (1304هـ = 1886م) على إيداع جميع الكتب التي تطبع في مصر، ولما ضاق سرايا مصطفى بمحتويات الدار التي كانت تتزايد وتنمو، أصدر الخديوي "عباس حلمي الثاني" سنة (1321هـ = 1903م)، قرارا بإنشاء مبنى لائق للدار، غير أنه لم ير النور إلا في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني سنة (1321هـ = 1903م)، وخصص طابقه الأرضي لدار الآثار العربية (المتحف الإسلامي)، وجعل طابقه الأول وما فوقه لدار الكتب، التي فتحت أبوابها للجمهور في (1322هـ= 1904م) وهو مبنى فريد يقع في وسط ميدان باب الخلق، وظلت دار الكتب بهذا المبنى إلى أن انتقلت إلى مبناها الجديد على كورنيش النيل بمنطقة "رملة بولاق" سنة (1391هـ = 1971م)
محتويات دار الكتب النادرة
تضم دار الكتب مجموعات نادرة من المخطوطات العربية والشرقية، ومن أوراق البردي العربية، والنقود الإسلامية ولوحات الخط العربي وخرائط نادرة، ودوريات كثيرة، ويبلغ عدد المخطوطات التي تضمها دار الكتب الآن نحو ستين ألف مخطوط، بعد أن أضيف إليها مكتبات غنية أثرت رصيد الدار وضاعفت عدد مخطوطاتها، ويأتي في مقدمتها:
- مكتبة أحمد طلعت بك المُتوفّى سنة (1346هـ = 1927م)، وعدد مخطوطاتها 9549.
- والمكتبة التيمورية التي جمعها "أحمد تيمور باشا"، وضمت إلى الدار بعد وفاته سنة 1348هـ = 1930م، عدد مخطوطاتها 8673مجلدًا.
- والمكتبة الزكية التي جمعها أحمد زكي باشا، ونقلت إلى دار الكتب المصرية سنة (1353هـ: 1935م) وعدد مخطوطاتها 1843 مجلدًا.
وتمتلك الدار مجموعة نادرة من المخطوطات الفارسية المزدانة بالصور (المنمنمات)، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من المخطوطات التركية يبلغ عددها 5154 مخطوطًا.
وتحتفظ الدار بمجموعة قيمة من أوراق البردي العربية يصل عددها إلى نحو ثلاثة آلاف بردية، نشر منها أدولف جردوهمان 444 ورقة بعد أن توفر على دراستها، وصدرت في ستة مجلدات.
وتمتلك الدار مجموعة طيبة من النقود الإسلامية، نُشر فهرس لمجموعة منها سنة (1315هـ = 1897م) قام بها المستشرق الإنجليزي "لين بول"، وضم فهرسه وصفًا لألفين ومائتين وستين قطعة، يرجع أقدمها إلى سنة (77 هـ)، وهو درهم باسم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، ثم تضاعفت عدد قطع النقود والمكاييل التي تمتلكها دار الكتب.
وتحتوي الدار على مجموعة نادرة من لوحات الخط العربي، يبلغ عددها أكثر من (500) لوحة متفاوتة الأحجام، بالإضافة إلى المصاحف المكتوبة بخطوط مشاهير الخطاطين المجودين والمنقوشة بالذهب والألوان.
وبدار الكتب مجموعة لا نظير لها من الدوريات والصحف والمجلات العربية والأجنبية الصادرة في مصر والبلاد العربية والإسلامية وأوروبا، وتبلغ عدد الدوريات العربية 4200 دورية، في حين تبلغ الدوريات الأجنبية 5812 دورية.
وقد بدأت دار الكتب في التعريف بمقتنياتها منذ إنشائها، فأصدرت الفهارس المنوعة للتعريف برصيدها من المطبوعات والمخطوطات العربية والشرقية والدوريات التي تقتنيها.
دار الكتب ونشر التراث
نهضت دار الكتب منذ سنة (1329هـ = 1911) بالإشراف على مشروع إحياء الآداب العربية، فأخرجت عددًا من الكتب القديمة في صورة مشرقة، محققة الأصول على منهج علمي دقيق، مثل: الأصنام لابن الكلبي، والتاج للجاحظ، والجزء الأول من مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، وكلها من تحقيق "أحمد زكي باشا"، وكانت هذه الكتب تطبع في أول الأمر في المطبعة الأميرية، ثم تحول اسم اللجنة إلى "القسم الأدبي" سنة (1340هـ = 1921م)، ونقلت مطبعتها إلى دار الكتب المصرية للقيام بنشر مطبوعاتها، وقد جمع لهذه المطبعة كل أسباب الجودة والإتقان، بحيث صار الكتاب المطبوع بدار الكتب عنوانًا على حسن الإخراج وجمال الطباعة.
ومنذ ذلك التاريخ توالى صدور كتب التراث التي يراعى في إخراجها الالتزام بالنواحي العلمية، وقام عليها نفر من كبار المحققين، ومن أشهر الكتب التي أصدرتها الدار صبح الأعشى للقلقشندي، ونهاية الأدب للنويري، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي، والأغاني لأبي فرج الأصبهاني، وتفسير القرطبي، كما أخرجت طبعة رائعة للمصحف الشريف سنة (1371هـ = 1952م) عُرف باسم "مصحف دار الكتب"، ولا تزال دار الكتب تواصل رسالتها في هذا المجال، وتوالي إصدار أمهات كتب التراث، بالإضافة إلى نشاطاتها الأخرى، باعتبارها واجهة حضارية للأمة، ومجمعًا لتراثها القديم والحديث، وملجأ للباحثين والراغبين في القراءة والمعرفة.
 

الأربعاء، 16 مارس 2016

أول درس ألقيته

أول درس ألقيته[1]


للأديب الأستاذ أحمد حسن الزيات



أبداً  لا أنسى تلك الساعة الرهيبة العصيبة التي ألقيت فيه أول درس في أول فصل، كان ذلك منذ سبعة عشر عاماً، والسن حديثَة، والنفس غريرة، والنظر قصير، وكانت المدرسةُ ثانويةً أجنبيةً، تجمع أخلاطاً من الأجناس والأديان، وأنماطاً من الأخلاق والتربية، وكنت قد أدركت قسطاً  من العلم النظري على الطريقة الأزهرية، وشدوت طرَفاً من التعليم الفني على الطريقة اللاتينية،إلا أن ما حصَّلت منهما كان لا يزال طافياً في ذهني، متحيراً في فكري، لا يطمئن إلى ثقة، ولا يستقر على تجربة، أضف ذلك إلى طبع حيي، ولسان من الخجل عيي، ووجهٍ للقاء الناس هيوب.

قضيت موهناً من الليل في إعداد الدرس، أراجع مادته، وأرسم خطته، وأسدد خطاه، ثم احتفلت لكلام أقابل به التلاميذ قبل التمهيد للدرس؛ وغدوت إلى المدرسة أقرَعُ باب الأمل المرجو، وأستطلع ضمير الغيب المحجَّب.

دق الجرس؛ فجاوبه قلبي بدقات عنيفة كادت تقطع نياطه، وتشق لفائفه، وقمت أجر رجلي وبجانبي مفتش الكلية جاء يُقَدِّمني إلى الطلبة.

دخلنا الفصل؛ فحيانا التلاميذ بالوقوف، وقال المفتش، فأطال القول، وأجزل الثناء، ثم خَرَج وبقيتُ!!

أقسم لك أني أقول الحق، وإن كنت أجد بشاعة طعمه، ومرارة مذاقه على لساني؛ لقد نظرت إلى التلاميذ نظرةً حائرةً، ثم رجعت إلى نفسي أحاول إخراج ما فيها من الكلام المُهَيأ المحفوظ، فكأن ذاكرتي صحيفة بيضاء، وكأن لساني مُضْغَةٌ جامدة لا تحس.

السكون شاملٌ رهيبٌ، والأبصار شاخصة ما تكاد تَطْرُف، ووجوهُ الشباب ترتسم عليها ألوان مختلفة متعاقبة من خطرات النفوس، ونزوات الرؤوس، وأنا واقف منهم موقف المحكوم عليه، أعالج في نفسي الخَوَرَ والحَصَر، وأجهد في لم ما تَشَعَّثَ من ذهني، وتبدد من قواي، حتى هداني الله إلى طريق الدرس، فاعتسفته اعتسافاً دون مقدمةٍ ولا تمهيدٍ ولا عَرْض!!

أتريد أن تُعْفيَني يا صديقي من وصف هذا الدرس؛ إبقاءً عليَّ وصوناً لسر المهنة؟

ولكن لماذا نتدافن الأسرار، ونتكاتم العيوب، ما دامت هذه المجلة خاصةً بنا، مكتوبةً منّا ولنا؟

إن في الدلالة على أوعار الطريق ومضايقها ومزالقها تحذيراً للسالك البادئ، وتبصرة للناشئ الغَرِير.

بدأت الدرس بصوت خافض، وطرف خاشع، ولسان مبلبل، وسرت فيه وأنا واقف لا أدنو من السبورة؛ مخافة أن أحرك سكون الفصل، ولا ألمس الطباشير، خَشَاةَ أن أسيء الكتابة!!

كان من المعقول أن يعاودني الهدوء، ويراجعني الثبات بعد زوال دهشة الدخول ورَبْكة البَدْء، لو كنت واثقاً من نفسي، متمكناً من درسي.

ولكنَّ نظامَ الموضوع كان قد انقطع؛ فتبعثرت حَبَّاته، وتعثَّرت خطواتُه، ورُحْتُ أسرُد ما تذكرته منه، وأنا أشعر بكلماتي تُحْتَضَرُ على شفتي، وبِرِيقي يجمد في فمي، وبِعَرَقي يتصبَّب على جبيني، حتى فَرَغْتُ، ثم جلست أبلع ما بقي من ريقي، ونظرت فإذا الساعة لم يَمْضِ نصفُها، وإذا التلاميذ يتلاحظون ويتهامسون وعلى كل شفة بسمة خبيثة لولا تَعَوُّدُ النظامِ، وقوةُ التهذيب لعادت قهقةً صاخبة!!

ماذا أقول بعد أن نفد القول؟ وبماذا أملأ الفراغ الباقي من الوقت؟ وكيف أؤخر انفجار هذه الضحكات المكظومة؟

أسئلة كانت تضطرب في خاطري القَلِقِ؛ فلا أجد لها جواباً غير الحيرة!! حتى تطوع تلميذ جريء؛ لإنقاذ الموقف فقال:

"إحك لنا حكاية يا أفندي بأى[2]! ".

ولم  تكد  شفتاي  تنفرجان  عن  مشروع الرد حتى ابتدرني آخر: "لأَّ يا أفندي، اتكلم لنا شَوَيَّة إنشا شفهي".

وآخر: " حضرتك حتدِّينا على طول؟".

وآخر : "اسم حضرتك إيه يا أفندي، والله إنت راجل طيب !!".

وآخر : " فلان صوته جميل يا أفندي، خليه يغني شويَّة".

فقطعت سيل هذه الأسئلة المتجنية الساخرة بهذه الجملة الحيية المتواضعة: على كل حال كاد الوقت ينتهي؛ فلا يتسع لشيء من هذا.

ولكن صوتاً انبعث من أقصى الحجرة يقول: "أوه ! دا  لسه ساعة وربع! حصة العربي  ساعتين كل يوم !!"

ساعة وربع؟؟ نعم ساعة وربع! أقضيها على هذه الحال الأليمة كما شاء نظام (الفرير) أو كما قضى الجدُّ العاثر، وإذن لا مناص من انفجار البركان ووقوع الكارثة.

كأنك تريدني على أن أسوق إليك بقيةَ القصة!!

حنانيك، ولا تكلفني هذه الخُطة، واعتمد على نفسك وحَدْسِك في التخبر والاستنتاج!

لقد انحل النظام؛ فتشعَّث الأمر وانتشر؛ وأذكر أني حاولت الكلام مراراً، فلم أسمع صوتي من اللغط؛ فجعلت قيادي في يد أولادي، ثم سَكَتُّ حتى نطق الجرس.

خرجت من الفصل أَمِيدُ من الهمِّ، وأجرُّ ذيلَ الفشلِ السابغ الضافي، وفي نفسي أن أتركَ التعليمَ وهو حديثُ صباي، ومنتجع هواي إلى عمل آخر يصلح لي وأصلح له.. !

ولكني عُدْتُ إلى الفصل، ومضيت في التعليم، وكنت بعد شهرين اثنين مدرسَ الفصلِ الأخير ,وأستاذ الكلية الأول!!

فما الذي جعل من اليأس أملاً، ومن الفشل فوزاً، ومن الضعف قوة؟

اسمح لي أن أكون صريحاً فيما كان لي، كما كنت صريحاً فيما كان عليَّ.

لقد التمست الوِصْلَةَ إلى النجاح في أسباب خمسةٍ كلها معلوم بالضرورة مؤيدٌ بالطبع، ولكن العلمَ غيرُ العمل، والرأي خلاف العزيمة، والتجربةَ وجودُ الفكرة وواقعُ الحقيقة:

1- مواصلة الدرس وإدمان النظر: فلم أترك كتاباً في المواد التي أدرِّسها حتى تقصَّيْتُه، أو أَلْمَمْتُ به، واستفدت منه، وكان جدوى ذلك عليَّ وثوقَ الطلبة بما أقول، وظهورَ التجديد فيما أعمل، وتصريفَ الدرس وتنويعه على ما أحب.

ولن تجد أشفعَ للمدرس من سعة اطلاعه، وغزارة مادته.

2- إعداد الدرس وأداؤه: وكان يعنيني - على الأخص - ربطُه بالدروس السابقة، والسيرُ فيه مع الطلاب خطوةً خطوةً على الطريقة الاستنتاجية (inductive) ثم تلخيصه بطريق الأسئلة؛ فكان من حسن إعداده أن مَلأْتُ الوقت كله به، فلم يعد فيه فراغ لِعَبَثِ عابثٍ، ولا تَجَنِّي سفيهٍ، وجَرَرْتُ إليه أذهانَ الطلاب بالتشويق، والتطبيق، والسؤال؛ فلم يصبهم سأمٌ ولا ضِيْقٌ، وشغلتهم به عن أنفسهم وعني؛ فلم يفرغوا لاصطياد نكتةٍ؛ ولا لالتماس غَمِيزَة.

وليس أعون على حفظ نظام الفصل مِنْ مَلءِ الوقت بالمفيد الممتع، ولا أضمنُ لجودة شرح المعلم وحسن استماع التلميذ من فهم الموضوع.

3- مسايرة الترقي: فلم أتشَبَّث بالقديم، ولم أتعصَّب للكتاب، ولم أُعْنَ إلا بما له قيمةٌ عملية؛ فالموضوعات منتزعة من حياة التلميذ وحال المجتمع، والأمثلةُ مستنبطة من أساليب العصر ومواضعات أهله، والبحث حُرٌّ في حدود المنطق، يقوم على أساس التحليل والنقد والموازنة، وفي تشابه الفكرةِ والنزعةِ، والغايةُ توثيقُ الصلةِ بين المعلم والمتعلم.

4- حسن الخلق: ولعمري ما يؤتى المُعَلِّم إلا من إغفاله هذه الجهة؛ فالادعاءُ، والتظاهرُ، والكبرياءُ، والتفاخرُ، والبذاءُ، والتنادرُ، والكذبُ، والتحيزُ، والكسلُ، والتدليسُ - آفاتُ العلم، وبلايا المُعَلّم.

وما أسر  النفسَ الشابةَ الحرةَ كالخلق الكريم، ولا يَسَّر تعليمَها وتقويمَها كالقدوة الحسنة.

ناهيك بما يتبع ذلك من جمال الأُحْدُوثة، واستفاضة الذكر، وهما يزيدان في قَدْر المعلم واعتباره، ويغنيان التلاميذ الجُدُد عن اختباره.

5_ قوة الحزم: فكنت ألين في غير ضعف، وأشتد في غير عَسْف، وأسير بالطالبِ إلى الواجب عن طريق ضميره وحسه، لا عن طريق تأنيبه وحبسه، وأجعل رضاي عنه غايةَ ثوابِه، وسخطي عليه غايةَ عقابِه، وأَعِدُه الوَعْدَ فلا أَذْهَل عن تنجيزه، وأحكم عليه الحكم فلا أَنْكُل عن تنفيذه، وأستعين على فهم عقليته ودرس نفسيته بإنشائه، فأعامله بما يوائمه، وأعالجه بالدواء الذي يلائمه.

كل ذلك يسعده طبع غالب، ورغبة حافزة، ومِرَانَةٌ طويلة، وقدَر من الله جعلني أجد سعادتي وراحتي في الفصل وبين الطلاب أكثر مما أجدها في البيت وبين الأصحاب.

ولكن المعلمين - وا أسفاه - كما بدأهم الله يعودون! فليت شعري هل يكون الدرس الأخير في مبدإ مماتي، كما كان الدرس الأول في مبدإ حياتي؟





[1] نشرت في عدد يناير من السنة الأولى من مجلة التربية الحديثة 1928م، وانظر كتاب: في أصول الأدب، لأحمد حسن الزيات ص121-125.

[2] بأى: هي بلهجة إخواننا المصريين العامية بمعنى: إذن، أو نحوها (م).

الثلاثاء، 15 مارس 2016

رد الأديب عبدالكريم الجهيمان على افتراءات " دائرة المعارف " على ابن تيمية


رد الأديب عبدالكريم الجهيمان على افتراءات " دائرة المعارف " على ابن تيمية
سليمان صالح الخراشي
بسم الله الرحمن الرحيم

اشتُهر الأستاذ عبدالكريم الجهيمان – وفقه الله – ( وُلد عام 1333هـ ) عند الناس بالأدب الشعبي ( الأمثال – الأساطير ) ، وقد يستغرب كثيرٌ منهم لو قيل له بأن الجهيمان ألّف كتابًا في " التوحيد " ليُدرَّس في المدارس الحكومية بالمملكة ، وعمره حينذاك ( 22 عامًا ) ! ( انظر : رسائل لها تاريخ ص 32-37 ) ، وذلك بعد دراسته في المعهد العلمي السعودي في مكة . وقد كانت له مشاركات " شرعية " في تلك الفترة ، قبل أن يغلب عليه الأدب .
وقد أحببت أن أُتحف الإخوة بإحدى مقالاته الشرعية في جريدة " أم القرى " ( 25 ربيع الأول 1356هـ ) ، عن دفع افتراءات " دائرة المعارف الإسلامية " على شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :

 
ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية في دائرة المعارف الإسلامية

نشأ هذا الشيخ – رحمه الله رحمة واسعة – نشأة صالحة تحت يد والده الشيخ عبد الحليم ، وقد شب وترعرع بين أحضان أكابر علماء عصره، ورغب في العلم رغبة ملكت عليه مشاعره وامتزجت بلحمه ودمه، حتى كانت الكتب أنيسه في وحشته وقرينه في خلوته ولذته في دنياه، وقد آتاه الله ذكاء نادرًا، وفكرًا متوقداً، وفطنة عجيبة يعرفه بذلك كل من رآه وجالسه.
وفي أواخر العقد الثاني من عمره، بدأ نجمه في الظهور، وشمس علومه في الإشراق، ثم لم يزل أمره يزداد في الشهر تلو الشهر، والسنة بعد السنة حتى ضرب في كل فن بسهم، وحتى كان هو المفرد العلم، وصاحب اليد الطولى في جميع العلوم سواء في ذلك العلوم العقلية، أو العلوم النقلية.
ولقد ملك إعجاب الناس بلسانه الذرب وحججه الدامغة، وكتبه العجيبة المسلك، واطلاعه الواسع حتى إنك إذا سمعته يتكلم في فن حسبته قد تخصص فيه، وأنه لا يُحسن غيره، فإن تكلم في التفسير فبحرٌ زاخر، ومعين لا ينضب أو تكلم في الحديث ورجاله، فنقاد بصير وصيرفي بارع، أو تكلم في الفقه والفروع فاستحضار غريب، وموازنة بين أقوال العلماء نادرة، أو تكلم في النحو فأين منه سيبويه؟! أو في التاريخ فأين منه ابن جرير؟! أو في الآراء والمذاهب والملل والنحل رأيت العجب العجاب في سعة الاطلاع، وقوة العارضة، وإرجاع الفروع إلى أصولها، وحسن التعليل والجدل المقنع وللبراهين القاهرة، حتى لقبه أهل عصره بحق «شيخ الإسلام».
ولقد أثنى عليه علماء عصره فمن بعدهم، أمثال الحافظ الذهبي، وكمال الدين أبو المعالي الزملكاني والعلامة ابن دقيق العيد، وعماد الدين بن كثير، والحافظ بن حجر، وخلق كثير غيرهم لا يحصون كثرة من أكابر العلماء ولقد بلغ من إعجابهم به، إكبارهم له، وإقرارهم بسعة اطلاعه، إلى أن يقول فيه الحافظ الذهبي: «ما رأيت أشد استحضاراً للمتون وشروحها منه، وكانت السنة بين عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة» وإلى أن يقول فيه ابن دقيق العيد: «رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد» ، وبمثل هذه العبارات شهد له كبار العلماء في كل عصر ومصر.
وقد مني هذا الإمام الجليل بزعانف من الناس حسدوه على ما آتاه الله من العلم والحكمة، وقديمًا قالوا : كل ذي نعمة محسود، نقموا عليه طول يده في العلوم وقصر أيديهم، وذكاءه وبلادتهم، وسعة اطلاعه ، ورحابة أفقه وضيق اطلاعهم وقلة معرفتهم ، فجلسوا له بالمرصاد، وأخذوا يتقولون عليه ما لم يقله ويُحملون كلامه ما لا يحتمله ويفهمون من كلامه ما لم يقصدوه ، وقد أوتوا من النفاق والحفاوة لدى ولاة الأمور ما ترفع عنه الشيخ فحاكوا له أنواع الحيل ، وسلكوا للإيقاع به شتى السبل، وعقد له منهم مناظرات كثيرة، وكان يبزهم بالحجة، ويفحمهم بالبراهين وكانوا ينهزمون أمامه في كل معركة من تلك المعارك ويخرج هو فائزًا منتصراً، فلا يجدون بدًا من الافتراء عليه حتى يؤخذ بالقوة، ويقبض عليه بيد القهر، وذلك شأن أهل الباطل في كل زمان ومكان.
وقد امتُحن هذا الإمام بسبب هذه الطائفة من الناس بأنواع البلاء، وكان آخر تلك البلايا حبسه في قلعة دمشق تلك الحبسة التي فقد فيها العالم الإسلامي خير مدافع عن السلف وطريقتهم ، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما جزي به مجاهد على جهاده.
وقد قُدر لي في هذه الأيام أن أطلع على ترجمة لهذا الإمام في دائرة «المعارف الإسلامية» فرأيتهم نسبوا إليه أشياء لا تليق به ، وما كان ينبغي لهم أن ينسبوها إليه، ولئن كان لمن عادى هذا الإمام في عصره بعض العذر – مع أنه لا عذر له – في رميه بما هو بريء منه خوفاً على مراكزهم – فما عذر من يكتب للحقيقة والتاريخ؟ ويريد أن يعطي الناس صورة صحيحة من عالم من علماء المسلمين في هذا الكلام الذي قد تنكب عن الحقيقة، ولئن كان للأجانب الذين كتبوا عنه بعض العذر فما عذر المعرّبين؟ والمعلقين؟ في تبيين الصواب وإرجاع الحق إلى نصابه كما هي عادتهم في كثير من المواضيع وإليك بعبارة «الدائرة»:
«ولما كان ابن تيمية مسرفًا في التشيع لمذهب التجسيم: فقد كان يفسر الآيات والأحاديث التي تشير إلى الله تفسيرًا حرفياً ولقد تشبع بهذه العقيدة إلى درجة أنه – كما يقول ابن بطوطة – قال من منبر جامع دمشق: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ثم نزل درجة من درج المنبر».
«وطعن -يعني شيخ الإسلام -على الرجال الذين يعتبرون حجة في الإسلام فقال من منبر جامع الصالحية: إن عمر بن الخطاب وقع في كثير من الأخطاء، وقال أيضاً أن علي بن أبي طالب أخطأ ثلاثمائة مرة، ولم يتفق علماء المسلمين على سنية ابن تيمية، ومنهم الذين يرمونه بالزندقة على أقل تقدير».
ثم قال في موضع آخر، بعد أن وصفه بالبراعة في جملة من الفنون: «ولقد دافع عن سنن السلف الصالح من المسلمين بأدلة لم يسبق إليها مع أنها مستقاة من القرآن والحديث، ولكن حديثه في الجدل هو الذي جلب عليه عداوة الكثير من علماء المذاهب الآخرين».
انظر أيها القارئ الكريم إلى هذا الكلام فإنه سيبدو لك لأول وهلة، تناقض في القول، وحكم بالشيء ونقيضه.
إذ كيف يتفق أن يكون على أقل التقادير زنديقاً ، ثم هو يكون مع ذلك قد دافع عن مذهب السلف الصالح من المسلمين بأدلة لم يُسبق إليها !! لولا التخليط .
وبياناً للحقيقة، وإظهاراً للحق، نجيب على ما رمي به من الزور وألصق به مما هو بريء منه، فنقول:
إننا ننكر إنكاراً باتاً أن يكون شيخ الإسلام فسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزوله درجة من درجات المنبر، ونقول من غير أن يخالجنا شك: إن هذه من جملة المسائل الشنيعة التي ألصقها به خصومه، ليهيجوا عليه بذلك الرأي العام، حتى يوقع به الحكام، وخير شيء يعبر عن الرجل، ويوضح آراءه هي كتبه وأصحابه وهذه كتب الشيخ بين أيدينا، وهذا كلام أصحابه بمرأى منا ومسمع ، لا نجد فيه شيئًا من هذا ، بل نجد أن الأمر بالعكس، فنجده هو وأصحابه يُشنعون على المجسمة والمشبهة، وينكرون عليهم أشد الإنكار ، ويثبتون أسماء الله وصفاته الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة، إثباتاً حقيقيًا من غير تشبيه ولا تأويل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، ويقول إن هذه الصفات التي يشترك فيها الخالق والمخلوق لفظًا لا معناً كالوجه واليدين، والنزول والرحمة والكلام ونحوها يقول في هذه وأمثالها: إن صفات الخالق تليق بجلاله وعظمته وصفات المخلوق تليق بحقارته وضعفه، فكما أننا نثبت لله ذاتًا لا كالذوات كذلك يجب أن نثبت له صفات لا كالصفات «ليس كمثله شيء وهو السميع البصير».
هذه هي قاعدة الشيخ رحمه الله كما هي قاعدة أهل السنة والجماعة قاطبة، وكل كتاب من كتب الشيخ ينطق بهذا ويرد على من خالفه، ومن قال عليه غير ذلك فقد افترى عليه وبهته.
وأما نسبة الطعن في الصحابة إليه، فهو أشبه لما سبقه من الغراب وبالغراب، وننكر إنكارًا باتاً أن يكون شيخ الإسلام ينسب إلى الصحابة شيئًا يضع من أقدارهم، بل إن الأمر بالعكس، فنجد كتبه ورسائله، طافحة بالثناء عليهم، وذكر محاسنهم، والكف عن مساوئهم، وغض البصر عما وقع بينهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليك بكلام الشيخ في العقيدة الواسطية : "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله بقوله: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم} ثم أخذ في عد فضائلهم والثناء عليهم إلى أن قال: ونقول إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم – يعني أهل السنة – لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الأمم وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر.. الخ" .
هذه هي عبارات شيخ الإسلام في الصحابة، وهي كما يرى القارئ الكريم يفيض أدبًا معهم، وثناء عليهم وتقديرًا لهم وو... نعم! قد يكون شيخ الإسلام ترك قول عمر أو علي رضي الله عنهما لوجود حديث يعارض ما ذهبا إليه، فأتى به أعداءه في هذه الصورة الشنيعة، ويحملون ذلك على أنه يُخَطئهم، ويطعن فيهم، ويحط من أقدارهم، وليس كذلك ، فكلٌ يصيب ويخطئ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله باتفاق الصحابة والتابعين، والأئمة المهديين، ولا أظن أحدًا يخالف في هذا، وكون الصحابي يخطئ لا يضع من قدره، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يخطئ نفسه ويصوّب امرأة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمشهد من أصحابه ، ولم يحط ذلك من قدر عمر، ولا كانت المرأة بذلك أعلم منه أو أرفع منزلة.
وكثير من المسائل يقول بها الصحابة عن حسن قصد، فإذا بلغهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأوا كل رأي يخالفه، ولو كان قول أبي بكر أو عمر، وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه، والمنهج الذي لا يسلك عاقل غيره، ولشيخ الإسلام كلام نفيس في هذا الموضوع ذكره في كتابه «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» ولولا طوله لنقلته فارجع إليه إن شئت.
ومما تقدم تتحقق بطلان ما شنع به خصوم هذا الشيخ عليه، وأنه كان بحق «شيخ الإسلام» على رغم أنف من يكره له ذلك!!
مكة – عبد الكريم بن جهيمان

 
للفائدة

1- يُنظر لرد الافتراءات السابقة وغيرها بالتفصيل: رسالة " مفتريات وأخطاء دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية " ؛ للدكتور خالد القاسم ( 2 / 940 – 997 ) – مطبوعة عام 1431هـ في مجلدين - .
2- كاتب ترجمة شيخ الإسلام في " دائرة المعارف .." هو : الجزائري : محمد بن شنب ( ت 1929م ) ، وهو المسلم الوحيد الذي استعان به المستشرقون في كتابة بعض مواد الدائرة ، وقد خلط ابن شنب في ترجمته لشيخ الإسلام بين: المدح والقدح ؛ نظرًا لجهله ، واعتماده على بعض مصادر المناوئين لابن تيمية .
 

الاثنين، 7 مارس 2016

الذئـــب والجـــن


 الذئـــب والجـــن
 

الكاتب: سلطان عبدالهادي السهلي


هذه الآبدة من أشهر أوابد البدو، وأكثرها دوراً في أخبارهم وأشعارهم فهم يعتقدون أن الجن الذي هو: «نوع من العالم سموا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار ولأنهم استجنوا من الناس فلا يرون» إذا ظهر أكله الذئب لأنه لا يستطيع أن يستتر منه إذا رآه.
قال أبو عبدالهادي:
وكنت عرفت هذه الآبدة في صدر حياتي، حينما سمعت خبراً لبعض أجدادي القدامى وكان في سفر في البرية وراء نفود السرة، فسمع من يصيح مستغيثاً به مستئمنا إليه: «تكفى يا ابن رويضان فكني من الذيب»، فالتفت ـ وكان الشفق قد شارف على المغيب ـ فرأى جنيا في صورة رجل قزمة بطين، قليل الجسم، دقيق الساقين، صغير الرأس، جاحظ العينين. فنوخ رحوله، واستدناه، وأمنه، ثم شب النار، وسوى قهوة وطعاما، وأطعمه. وكان الذئب قد انبسط على الأرض غير بعيد منهما يرمقهما، يتحين الفرصة ليعدو على الجني ويأكله. فلما عزم على المسرى ارتدف الجني خلفه على الرحول، وسرى به إلى أن أبلغه مأمنا، ثم نزله، ومضى في طريقه.
وقد ورد ذكر هذه الآبدة عند غير واحد من الباحثين العرب: من الكويت، والسعودية، والعراق.
أقدمهم ـ فيما أعلم ـ الباحث العراقي الأستاذ أحمد حامد آل صراف، فقد قال في بحثه «الخرز ومعتقداته» الذي أدرجه في: مجلة لغة العرب، سنة 1346هـ «1927م» ما نصه:
«وأسطورة الخرزة هي أن النساء يعتقدن أن الذئب يأكل التراب ثلاثة أشهر، ويشرب الماء ثلاثة أشهر، ويبلع الهواء ثلاثة أشهر، والأشهر الثلاثة الأخيرة لتمام كمال السنة تأكل فيها بنات الجان. والذئب يعدو في الفيافي باحثاً عن بنات الجان، فإذا صادفنه انقلبن في الحال خرزة، فلا يبقى في وسعه أن يأكلهن، ولا يبقى في وسعهن أن ينقلبن بنات كما كن».
وقال أيضاً في بحث آخر عنوانه «العيافة عند عوام العراق، أدرجه في: مجلة لغة العرب، سنة 1346هـ «1928م».
«الذئب حيوان لا يتشاءم منه. وإذا وقع الطفل، أو زلت قدمه صرخت النساء: الذئب، الذئب. مستنجدات به لطرد الجان، لأن الذئب يأكل الجان بموجب اعتقادهن».
وقال الشيخ محمد بن ناصر العبودي، في شرح المثل:«جني وشاف ذيب»: «يقولون: إن الجني لا يطيق الصبر على الذئب، وإن الذئب مسلط على الجني فهو يطلبه إذا خالط جسم حيوان كثيف ويأكله وأن الجني لا يستطيع مفارقة ذلك الجسد إذا رأى الذئب. ولذلك يعتقدون أن المرء إذا كان يخاف من الجن فإنه إذا أكل من لحم الذئب ذهب عنه ذلك الخوف».
وقال الشيخ عبدالكريم بن جهيمان، في شرح المثل: «مثل الجني إلى شاف الذيب»:
«يقال إن الجني إذا تجسد في جسم أحد الحيوانات ثم رأى الذئب لم يستطع أن يتحرك من مكانه، ولا أن يتنصل من هيكله المستعار ليعود إلى جسمه الروحاني الذي لا يرى فيه، فيبقى الجني في مكانه إلى أن يأتيه الذئب فيأكله. كما يقال إن الذئب إذا بقي سبعة أيام بلا طعام أخرج الله له جنياً في صورة إحدى الحيوانات فيأكله».
وقال الأستاذ حسين بن سرحان ـ رحمه الله ـ في بحث له عن «اللفتات الذهنية في شعر ابن لعبون» أدرجه في مجلة العرب سنة 1388هـ «1968م».
«ومن خرافات العرب في أيامه أن الجن تهرب من الذئاب».
وقال المؤرخ الكويتي الأستاذ سيف مرزوق الشملان:
«أبناء البادية لهم حكايات عن الجن. فيقولون بأن الجني يخشى الذئب ويخاف منه خوفاً شديداً، وأن الأرض لا تنفتح له. ويذكرون أناساً منهم أنقذوا الجني من الذئب»، وحكى الشيخ عاتق بن غيث البلادي حكايتين عن أكل الذئب للجن، يحسن بي إيرادهما لطرافتهما. قال:
«حكى رجل اسمه عقيل كان نجّابا بين أمير العلا والمدينة، فقال: أرسلني أمير العلا بكتاب إلى أمير المدينة، فبينما أنا أحث مطيتي في منتصف الطريق وأنا عجل فإذا شخص يظهر لي ويناديني باسمي، ويطلب أن أردفه على ذلولي، قال: فتوقفت فجمع إلى ردوف المطية، فسرت في طريقي مسرعاً، وأخذت «أهيجن»، فإذا بالذي ورائي يقول كلما أكملت جملة: هـ ء هـه، الله الله في استهزاء وسخرية، فنظرت إليه فإذا هو خلق شنيع يقشعر منه بدن الإنسان، فتجاهلت، ذلك واستمريت أحث المطية وأهيجن، فأخذ يضرط بفمه تمادياً في السخرية بي وقال بلهجته: «فوقعت في بلشة» ووصل بي الغضب ما لم يصل بي من قبل فمددت يدي ورائي فقبضت على شوشته وبسرعة قذفت به إلى الأرض، ولم يصل الأرض إلا والذئب كأنه السهم مغير إليه فأخذ هذا يستنجد بي، فوقفت حتى رأيت الذئب يلتهمه».
وقال أيضاً:
«وحكى مولد اسمه جداوي، قال: كان بي مس من جنون، وكان من معي يأخذني أجوب في البراري حتى إذا تعبت نمت، فخرج الجني يتنزه قريباً مني، فإذا صحوت لا أجد في عقلي خللاً، ولكن ذلك الجني لا يلبث أن يسرع إلي فيلبسني. فآويت ذات مرة إلى قيف فنمت فيه، فخرج الجني كعادته، ولم يوقظني إلا صريخه وهو يقول: تكفى يا جداوي تكفى يا جداوي، الذئب سيأكلني. فنظرت فإذا بالذئب ينقض عليه كالسهم فيأكله، فقمت وليس بي شيء، فعدت إلى أهلي».
ومن شواهد هذه الآبدة من شعرنا العامي:
قول الشاعر محمد ابن لعبون ـ رحمه الله ـ .
مع صحصح كنه قفا الترس مقلوب
طرب به الجني على فقده الذيب
وقول الشاعر محمد بن مسلم الإحسائي ـ رحمه الله ـ:
نجل إلى لجلج بهن واضح الناب
أصير كما الجني إلى وافق الذيب
وقول الشاعر نبهان السنيدي ـ رحمه الله ـ :
مشاعيب أنا مثل الذي بات تايه
بداوية ما يرهب الجن ذيبها
وقول الشاعر محمد بن عبدالله القاضي ـ رحمه الله ـ :
أرى قلبي الين أرخى خداره
كما الجني إلى ما شاف ذيبه
وقول الشاعر ناصر بن ضيدان الزغيبي الحربي ـ رحمه الله ـ:
يجفل إلى شاف السبيبه تباريه
جني وذيب وطار عنه اليقين