الذئـــب والجـــن
الكاتب: سلطان عبدالهادي السهلي
هذه الآبدة من أشهر أوابد البدو، وأكثرها دوراً في أخبارهم وأشعارهم فهم يعتقدون أن الجن الذي هو: «نوع من العالم سموا بذلك لاجتنانهم عن الأبصار ولأنهم استجنوا من الناس فلا يرون» إذا ظهر أكله الذئب لأنه لا يستطيع أن يستتر منه إذا رآه.
قال أبو عبدالهادي:
وكنت عرفت هذه الآبدة في صدر حياتي، حينما سمعت خبراً لبعض أجدادي القدامى وكان في سفر في البرية وراء نفود السرة، فسمع من يصيح مستغيثاً به مستئمنا إليه: «تكفى يا ابن رويضان فكني من الذيب»، فالتفت ـ وكان الشفق قد شارف على المغيب ـ فرأى جنيا في صورة رجل قزمة بطين، قليل الجسم، دقيق الساقين، صغير الرأس، جاحظ العينين. فنوخ رحوله، واستدناه، وأمنه، ثم شب النار، وسوى قهوة وطعاما، وأطعمه. وكان الذئب قد انبسط على الأرض غير بعيد منهما يرمقهما، يتحين الفرصة ليعدو على الجني ويأكله. فلما عزم على المسرى ارتدف الجني خلفه على الرحول، وسرى به إلى أن أبلغه مأمنا، ثم نزله، ومضى في طريقه.
وقد ورد ذكر هذه الآبدة عند غير واحد من الباحثين العرب: من الكويت، والسعودية، والعراق.
أقدمهم ـ فيما أعلم ـ الباحث العراقي الأستاذ أحمد حامد آل صراف، فقد قال في بحثه «الخرز ومعتقداته» الذي أدرجه في: مجلة لغة العرب، سنة 1346هـ «1927م» ما نصه:
«وأسطورة الخرزة هي أن النساء يعتقدن أن الذئب يأكل التراب ثلاثة أشهر، ويشرب الماء ثلاثة أشهر، ويبلع الهواء ثلاثة أشهر، والأشهر الثلاثة الأخيرة لتمام كمال السنة تأكل فيها بنات الجان. والذئب يعدو في الفيافي باحثاً عن بنات الجان، فإذا صادفنه انقلبن في الحال خرزة، فلا يبقى في وسعه أن يأكلهن، ولا يبقى في وسعهن أن ينقلبن بنات كما كن».
وقال أيضاً في بحث آخر عنوانه «العيافة عند عوام العراق، أدرجه في: مجلة لغة العرب، سنة 1346هـ «1928م».
«الذئب حيوان لا يتشاءم منه. وإذا وقع الطفل، أو زلت قدمه صرخت النساء: الذئب، الذئب. مستنجدات به لطرد الجان، لأن الذئب يأكل الجان بموجب اعتقادهن».
وقال الشيخ محمد بن ناصر العبودي، في شرح المثل:«جني وشاف ذيب»: «يقولون: إن الجني لا يطيق الصبر على الذئب، وإن الذئب مسلط على الجني فهو يطلبه إذا خالط جسم حيوان كثيف ويأكله وأن الجني لا يستطيع مفارقة ذلك الجسد إذا رأى الذئب. ولذلك يعتقدون أن المرء إذا كان يخاف من الجن فإنه إذا أكل من لحم الذئب ذهب عنه ذلك الخوف».
وقال الشيخ عبدالكريم بن جهيمان، في شرح المثل: «مثل الجني إلى شاف الذيب»:
«يقال إن الجني إذا تجسد في جسم أحد الحيوانات ثم رأى الذئب لم يستطع أن يتحرك من مكانه، ولا أن يتنصل من هيكله المستعار ليعود إلى جسمه الروحاني الذي لا يرى فيه، فيبقى الجني في مكانه إلى أن يأتيه الذئب فيأكله. كما يقال إن الذئب إذا بقي سبعة أيام بلا طعام أخرج الله له جنياً في صورة إحدى الحيوانات فيأكله».
وقال الأستاذ حسين بن سرحان ـ رحمه الله ـ في بحث له عن «اللفتات الذهنية في شعر ابن لعبون» أدرجه في مجلة العرب سنة 1388هـ «1968م».
«ومن خرافات العرب في أيامه أن الجن تهرب من الذئاب».
وقال المؤرخ الكويتي الأستاذ سيف مرزوق الشملان:
«أبناء البادية لهم حكايات عن الجن. فيقولون بأن الجني يخشى الذئب ويخاف منه خوفاً شديداً، وأن الأرض لا تنفتح له. ويذكرون أناساً منهم أنقذوا الجني من الذئب»، وحكى الشيخ عاتق بن غيث البلادي حكايتين عن أكل الذئب للجن، يحسن بي إيرادهما لطرافتهما. قال:
«حكى رجل اسمه عقيل كان نجّابا بين أمير العلا والمدينة، فقال: أرسلني أمير العلا بكتاب إلى أمير المدينة، فبينما أنا أحث مطيتي في منتصف الطريق وأنا عجل فإذا شخص يظهر لي ويناديني باسمي، ويطلب أن أردفه على ذلولي، قال: فتوقفت فجمع إلى ردوف المطية، فسرت في طريقي مسرعاً، وأخذت «أهيجن»، فإذا بالذي ورائي يقول كلما أكملت جملة: هـ ء هـه، الله الله في استهزاء وسخرية، فنظرت إليه فإذا هو خلق شنيع يقشعر منه بدن الإنسان، فتجاهلت، ذلك واستمريت أحث المطية وأهيجن، فأخذ يضرط بفمه تمادياً في السخرية بي وقال بلهجته: «فوقعت في بلشة» ووصل بي الغضب ما لم يصل بي من قبل فمددت يدي ورائي فقبضت على شوشته وبسرعة قذفت به إلى الأرض، ولم يصل الأرض إلا والذئب كأنه السهم مغير إليه فأخذ هذا يستنجد بي، فوقفت حتى رأيت الذئب يلتهمه».
وقال أيضاً:
«وحكى مولد اسمه جداوي، قال: كان بي مس من جنون، وكان من معي يأخذني أجوب في البراري حتى إذا تعبت نمت، فخرج الجني يتنزه قريباً مني، فإذا صحوت لا أجد في عقلي خللاً، ولكن ذلك الجني لا يلبث أن يسرع إلي فيلبسني. فآويت ذات مرة إلى قيف فنمت فيه، فخرج الجني كعادته، ولم يوقظني إلا صريخه وهو يقول: تكفى يا جداوي تكفى يا جداوي، الذئب سيأكلني. فنظرت فإذا بالذئب ينقض عليه كالسهم فيأكله، فقمت وليس بي شيء، فعدت إلى أهلي».
ومن شواهد هذه الآبدة من شعرنا العامي:
قول الشاعر محمد ابن لعبون ـ رحمه الله ـ .
مع صحصح كنه قفا الترس مقلوب
طرب به الجني على فقده الذيب
وقول الشاعر محمد بن مسلم الإحسائي ـ رحمه الله ـ:
نجل إلى لجلج بهن واضح الناب
أصير كما الجني إلى وافق الذيب
وقول الشاعر نبهان السنيدي ـ رحمه الله ـ :
مشاعيب أنا مثل الذي بات تايه
بداوية ما يرهب الجن ذيبها
وقول الشاعر محمد بن عبدالله القاضي ـ رحمه الله ـ :
أرى قلبي الين أرخى خداره
كما الجني إلى ما شاف ذيبه
وقول الشاعر ناصر بن ضيدان الزغيبي الحربي ـ رحمه الله ـ:
يجفل إلى شاف السبيبه تباريه
جني وذيب وطار عنه اليقين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق