الخميس، 28 يوليو 2016

لماذا الشناقطة يحفظون ؟

لماذا الشناقطة يحفظون ؟
محمود بن محمد المختار الشنقيطي
كثيرون أولئك الذين يَبْتدرونني بهذا السؤال حين يَضُمني وإياهم مجلسٌ ،
فيدور الحديث حول مسألة الحفظ باعتبارها من أهم قضايا طلب العلم الشرعي ،
فيسألونني عن أسباب ظاهرة قوة الحفظ عند قومي ، ولماذا كانت أهمّ سمةٍ في
علماء الشناقطة الذين رحلوا إلى المشرق واتصلوا بالأوساط العلمية القوة الفذة
والقدرة الفائقة على استحضار النصوص ؟ ويسألونني عن أعجب ما بلغني من
أخبار عن نوادر الحفاظ في الشناقطة .
وكنت أجيب بما يناسب مقام كل مجلس ويفيد منه الحاضرون ، دون تقص أو
تعمد بحثٍ عن الإجابة على هذه القضية ، وحين كتب الله لي أول زيارةٍ العام
المنصرم لبلاد الآباء والأجداد (شنقيط) ، ووقفت على بعض المحاظر الحية القائمة
على أطلال ورسوم المحاظر [1]  العتيقة ، وحظيت بلقاء أجلة فضلاء من علماء
الشناقطة [2]  ، أدركوا أواخر نهضة علمية ، كان من أبرز سماتها اعتمادها على
حفظ الصدور لما وجد في السطور ، وأن العلم هو ما حصل في الصدر ووعته
الذاكرة متناً ومعنى ، حتى غدا من أمثالهم التي تعبر عن هذا المعنى : (القراية في
الرّاسْ ماهُ في فاس ولا مكناس) أي العلم المعتبر هو ما في حفظك ، وليس في كثرة
الذهاب إلى المدن الحضارية ومؤسسات التعليم فيها . حين كتب الله لي تلك الزيارة
كان مما يدور في خلدي الجواب عن السؤال المتقدم من واقع تجربة طلاب العلم في
تلك المحاظر ، فتجمعت عندي طرق كانت وراء تيسير الله للشناقطة ملكة حفظ
نادرة ، وطاقة ذهنية عالية جعلتهم يفخرون في ثقة واعتزاز بقدراتهم على استذكار
عشرات الكتب ، وجعلت العلامة سيدي محمد ابن العلاّمة سيدي عبد الله ابن الحاج
إبراهيم العلوي رحمه الله (ت 1250ه) يقول : (إن علوم المذاهب الأربعة لو رمي
بجميع مراجعها في البحر لتمكنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو
نقصان ، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح) [3]  .
وجعلت العلاّمة محمد محمود التّرْكُزي رحمه الله ت عام (1322ه) يزهو
بحافظته متحدياً الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتهاد فيها منهم ؛ لأنه يحفظ
القاموس كحفظه الفاتحة ، فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهر ، فكان كما قال ،
فأقرّوا له وصاروا يصححون نسخهم من نسخة التركزي رحمه الله المحفوظة في
صدره [4]  .
وقبل أن أتحفك أخي القارئ بشيء من طرقهم وأساليبهم في الحفظ تتضمن
الإجابة عن السؤال المتقدم ، أتحفك بأخبار القوم ونوادرهم في الحفظ ، مما وجدته
مسطوراً في كتب التراجم ، أو محكياً على ألسنة الرواة ، وسيتملكك العجب ،
وتعتريك الدهشة لسماعه ، وتجزم معي بأن ما حباهم الله به من ذاكرة فذة ، وقدرة
على استحضار النصوص ربما لا توجد إلا في ذاكرة الحاسب الآلي ، حتى صارت
حكاياتهم في الحفظ غريبة تشبه الأساطير وما يجري مجرى خوارق العادات .
فمن ذلك ما ذُكر في ترجمة العلاّمة عبد الله بن عتيق اليعقوبي رحمه الله ،
(ت عام 1339هـ) ، أنه كان يحفظ لسان العرب لابن منظور [5]  .
وكان الغلام في قبيلة مُدْلِشْ يحفظ (المدوّنة) في فقه الإمام مالك قبل بلوغه ،
وكانت توجد في قبيلة (جكانت) ثلاثمائة جارية تحفظ الموطأ فضلاً عن غيره من
المتون ، وفضلاً عن الرجال ، ولهذا قيل : العلم جكني [6]  .
وروي عن الشيخ سيد المختار ابن الشيخ سيدي محمد ابن الشيخ أحمد بن
سليمان (ت 1397م) حِفظ كثير من كتب المراجع مثل : فتح الباري ، والإتقان
للسيوطي ، غير المتون والكتب التي تُدرّس في المحظرة [7]  .
ومن العجيب ما تجده من محفوظات فقهائهم غير متون الفقه والأصول وما
يتعلق بالتخصص ، فهذا قاضي (ولاته) وإمامها سيدي أحمد الولي بن أبي بكر
المحجوب كان يحفظ مقامات الحريري ، وليست من فنون القضاء ولا الفقه ،
وسمعتها عن الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب الأضواء رحمة الله
عليه [8]  .
وأما المتخصص في الأدب والشعر فلا يحفظ أقلّ من ألف بيت في كل بحر
من بحور الشعر العملية ؛ حتى تتهيأ له ملكة أدبية لينظم أو ينثر ما يريد .
فهذا العلامة الأديب محمد محمود بن أحمذيه [9]  الحسني رحمه الله ، كان
يحفظ في الأدب وحده مقامات الحريري ، والمستطرف ، وكامل المبرد ، والوسيط
في أدباء شنقيط ، وديوان المتنبي ، وديوان أبي تمام ، وديوان البحتري ؛ هذا في
الأدب وحده دون غيره من فنون ومتون المنهاج الدراسي المحظري [10] .
ومن نوادر نساء الشناقطة في قوة الحفظ ما حدّث به العلاّمة محمد سالم بن
عبد الودود أن أمه مريم بنت اللاّعمة كانت تحفظ القاموس ، وقد استوعبته بطريقة
غريبة ، حيث كان والدها يرسلها من حين لآخر إلى خيمة أحد علماء الحي تنظر له
معنى كلمة في القاموس وكان هذا العالم ضاناً بنسخته لا يعيرها فكانت البنت تحفظ
معنى الكلمة وتعود بها إلى والدها وهكذا حتى حفظت مادة القاموس كلها . وإن
تعجب أخي القارئ من المتقدمين فلعل ممن أدركنا من المعاصرين الأحياء من
يماثلهم في الحفظ ؛ فمن ذلك ما حدثني به والدي حفظه الله قال لي يا بني : لقد كنا
أيام طلبنا للفقه عند شيخنا الفقيه عبد الرحمن  ولد الداهي ، نتسابق في ختم
المختصر ليالي الجمع فيستفتح من (يقول الفقير المضطر) بداية الكتاب فلا يطلع
الفجر إلا وقد ختمناه لا نشكك إلا في مواطن قليلة في أقفاف [11] السفر نكرر ذكر
ذلك مرات ، وممن أدركناه من الأحياء العلامة الشيخ أحمدّو بن العلامة الشيخ محمد
حامد بن آلاّ الحسني نزيل المدينة النبوية متع الله ببقائه .
ولا أبالغ إن قلت : إن ما في صدره من العلم لو جلس يمليه عاماً كاملاً لما
كرر ولا أعاد منه شيئاً ؛ فمن محفوظاته في النحو والصرف طرة [12] ، ابن بونة
على الاحمرار [13]  يحفظها بنصها ، وطرة الحسن بن زين على احمراره للامية
الأفعال لابن مالك أيضاً ، والمقصور والممدود لابن مالك مع شواهده وهي تقرب
من ألفي بيت ، وضوابط وشواهد على مسائل ألفية ابن مالك بعضها له وبعضها
لوالده ولبعض العلماء الشناقطة تبلغ نحواً من ثلاثة آلاف بيت ، إضافة إلى بعضٍ
من ألفية السيوطي في النحو .
وفي غريب اللغة نظم ابن المرَحّلْ ، ونظم أبو بكر الشنقيطي كثيراً من مواد
القاموس ، وجل شواهد الغريب من تفسير القرطبي ، ومثلث ابن مالك وهو يبلغ
ثلاثة آلاف بيت مع شواهده . إلخ من العلوم والفنون ...
ومن المعاصرين الحفاظ أيضاً صاحب المحضرة العامرة العلامة محمد الحسن
بن الخديم وقد حدثني بعض تلامذته أنه يحفظ النص من مرتين فقط ، وأنه لا يكاد
يوجد فن إلا ويحفظ فيه ألفيةً ؛ حتى في الطب والعقيدة والقواعد الفقهية والقضاء ،
وأنه يحفظ كثيراً من كتاب سيبويه وتمنى لو جاءه في الصغر [14] .
ومن النساء المعاصرات : العالمة المفتية الفقيهة مريم بنت حين الجكنية والدة
الشيخ عبد الله بن الإمام ، حدثني بعض تلامذة ابنها أنها كانت تشرح له في ألفية
ابن مالك إذا لم يكن ابنها في البيت ، ورويت عن قريبات لي أنها تحفظ كثيراً من
المتون الفقهية وتفتي النساء في الحج والحيض ، ولها ألفية في السيرة  ولها
منظومات فقهية لبعض المسائل والنوازل . وهذه نتف مما وقفت عليه لعل فيها ما
يذكي الحماس لدى طلاب العلم المعاصرين .
طرق الحفظ لدى الشناقطة :
ولهم في الحفظ وسائل وطرق أجملها فيما يلي :
أولاً : التعليم الزّمَرِيّ أو ما يسمى بلغة المحاظر (الدولة) وهو دراسة جماعية
يشترك فيها مجموعة من الطلبة متقاربي المستويات يقع اختيارهم على متن واحد
يدرسونه معاً ، حصةً حصةً ، يتعاونون على تكراره واستظهار معانيه [15] ،
يتحاجون فيه ، ويُنَشّط بعضهم بعضاً على المواصلة والاستمرار ومدافعة السآمة
والملل . أذكر وأنا في المرحلة (المتوسطة الإعدادية) أنني أدركت مجموعة من
طلاب العلم الشناقطة ( دولة ) في المسجد النبوي في شعر المعلقات .
ثانياً : تقسيم المتن إلى أجزاء وهو ما يعرف بلغة المحاظر (الأقفاف) مفردها:
قُفّ . والمشهور في المحاظر أن متوسط درس أو قف المتن المنظوم خمسة أبيات
لا يزيد عليها إلا المبرزون الأذكياء . وأما المتون المنثورة فيتعارف أهل المحاظر
على تقسيم شائع بينهم ، فمثلاً مختصر العلامة الشيخ خليل عندهم ثلاثمائة
وستون [16]  قفاً ، ولا تخفى فائدة هذا التقسيم للمتن المراد حفظه ، فيعرف الطالب
مواضع الصعوبة من السهولة فيحتاط في المراجعة والتكرار ، كما أن تخزين
المادة في الذاكرة مرتبة منتظمة أيسر في استظهارها واسترجاعها .
ويرى الشناقطة وهم مضرب المثل في قوة الحافظة والذكاء أن (القف) الكثير
لا يستطيع استيعابه مع الاحتفاظ به في الذاكرة إلا قلة من الحفاظ ولذلك عمدوا إلى
تجزئة كل متن .
وسارت عندهم هذه العبارات مسار المثل : (قفْ أف) أي أنه بمثابة الريح
(أف اسم صوت) يمر عابراً فلا يستقر منه شيء في الذاكرة .
(نص لا بُدّ الُ يْخصّ) أي أن النصف لا يمكن الاحتفاظ به جملة فلا بد أن
ينسى قارئه بعضه أو يعجز عن استيعابه أصلاً .
(الثلث يوترث) أي أن ثلث القف يعلق بالذاكرة فلا ينساه قارئه حتى يموت
كأنه يورث من بعده [17]  .
ثالثاً : وحدة المتن واستيفاؤه : فينصحون الطالب أن يشتغل بدراسة متن واحد
يفرغ قلبه له ، ويستجمع قوته لحفظه ولا يجمع إليه غيره ، ولا ينتقل عنه حتى
يستوفي دراسته كله ، بل يرون أن جمع متنين معاً يحد من قدرة الطالب على
الاستيعاب فيظل جهده الذهني موزعاً بين عدة متون لا يكاد يتقن أياً منها ، كما أن
بتر المتن دون حفظه كله يضيع جهد الدارس هباءً ، وينم عن كسل وقصور في
همة الطالب ، ويمثلون لمن يروم حفظ نصين في وقت واحد بالتوأمين ؛ فلا سبيل
إلى خروجهما معاً في آن واحد ، بل لا بد أن يسبق أحدهما الآخر ، ونظموا هذا
المبدأ بقولهم :
وإن تُرد تحصيلَ فَنّ تَمّمهْ      وعن سواهُ قبل الانتهاءِ مَه
وفي ترادف الفنون المنعُ جا      إذ توأمان اجتمعا لن يخرجا [18]
رابعاً : صياغة المتن المنثور نظماً :
لقد وظف الشناقطة ملكَة الشعر كثيراً في تيسير العلوم للحفظ ، وضمان حظ
أوفر من القبول والبقاء له ، ولذا غلبت الصبغة النظمية في نظام الدرس المحظري .
وكما هو معلوم فإن النظم أسهل حفظاً واستحضاراً من النثر ، قال ابن معط رحمه
الله في خطبة ألفيّة في النحو :
لعلمهم بأن حفظ النظم      وفق الذكي والبعيد الفهم
لا سيما مشطور بحر الرّجز      إذا بُني على ازدواج موجز
وفي المحضرة قلّ أن تجد متناً يُدرس في فن إلا وجدت من نظمه حتى يسهل
حفظه على الطلاب ، فمن ذلك [19] أن أبا بكر بن الطفيل التشيتي رحمه الله
(ت 1116هـ) نظم كتاب (قطر الندى) لابن هشام رحمه الله .
والعلامة محمد المامي الشمشوي رحمه الله (ت 1282هـ) عقد كتاب
الأحكام السلطانية للماوردي بنظم سماه ( زهر الرياض الورقية في عقد الأحكام
الماوردية ) .
والعلامة الأديب عبد الله بن أحمد أُبّه الحسني نظم كتاب (مجمع الأمثال)
للميداني .
خامساً : تركيزهم على بداية الحفظ والمراجعة المستمرة للمحفوظ ، فعدد
تكرار الطالب المتوسط للقدر المراد حفظه من مائة مرة إلى ألف مرة ، ويسمونه
بلغة المحاضر (أَقَبّاد) فيجلس طالب العلم يكرر لوحة بصوت مرتفع في
الصباح [20] ثم يعود إليه بعد الظهر ثم بعد المغرب ثم من الغد يبدأ بمراجعته
وتسميعه قبل أن يبدأ في درس جديد ، وهكذا يفعل مع الدرس الجديد وفي نهاية
الأسبوع تكون مراجعة لما حفظ من بداية الأسبوع مع ما قبله من المتن حتى ينتهي
من المتن بهذه الطريقة ، ثم يأخذ متناً آخر وتصبح لهذا المتن الأول ختمة أسبوعية
يمر عليه كله ، وبعد تثبيته في الذاكرة ومزاحمة غيره له ، لا يصل الإهمال
والانشغال أن يترك ختمة شهرية للمتن ، وأعرف من المشايخ في المدينة
النبوية من عنده ختمة أسبوعية للألفية ولمختصر خليل وختمة شهرية للمتون
القصيرة كـ (لامية الأفعال) في الصرف لابن مالك والبيقونية والرحبية
وبلوغ المرام وغيرها .
سادساً : حفظ النص قبل الحضور إلى الشيخ ليشرحه ، وهذه من أهم الطرق
التي تعين الطالب على متابعة الحفظ دون انقطاع أو تأخر ، وكان شيخنا الشيخ سيد
أحمد بن المعلوم البصادي رحمه الله لا يشرح لأي طالب نصاً حتى يسمعه منه غيباً ،
فيبدأ الشيخ في شرحه وتفكيك ما استغلق على الطالب فهمه .
سابعاً : لا يحفظ الطالب إلا ما يحتاجه ويمارسه في حياته من العلوم
والأبواب في الفن . فالطالب إذا كان يقرأ مختصراً فقهياً مثلاً ، وبلغ في المتن
كتاب الحج ، ولم يكن من أهل الوجوب والاستطاعة فإنه يتعداه إلى غيره وهكذا
في أبواب الفرائض والقضاء والجهاد وقِس على ذلك بقية الأبواب في الفنون
المختلفة .
ثامناً : تأثر البيئة بالحركة العلمية : فقد خالط حفظ العلم في بلاد شنقيط حياة
الناس هناك ؛ ففي بلاد الزوايا [21] ، يعتبرون من تقصير الأب في حق ابنه إذا
بلغ وهو لا يحفظ القرآن حفظاً متقناً ولا يعرف من الأحكام ما يقيم به عباداته ، ولا
من العربية ما يصلح به لسانه ، بل ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار وأنه قد عق
ابنه وقصّر في تربيته . وكان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا
يتسرول [22] الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل ، فحفظ المختصر عندهم
شرط معتبر للرجولة وسمة للنضج .
وتجد أمثال العامة ومخاطباتهم خارج حلقات الدرس قد صبغت بلون المتون
السائدة ؛ فمن أمثالهم إذا أرادوا وصف الشيء بأنه بلغ إلى منتهاه يقولون : (لا حِق
فلا إشكال) أي وصل في كذا إلى ذروته وعبارة (لاحق فلا إشكال) هي آخر جملة
في مختصر الشيخ خليل .
ومن أمثالهم قولهم : (وحَذْفُ ما يُعلم جائز) وهو جزء من بيت من خلاصة
ابن مالك في الألفية .
تاسعاً : عقد مجالس للمذاكرة والإنشاد والألغاز في العطلة المحضرية . وهي
عطلة نهاية الأسبوع العمرية (الخميس وجناحاه مساء الأربعاء وصباح الجمعة) .
فيعقد طلاب (الدولة) أو المنتهون مجالس السمر وغالباً تكون ليلة الخميس أو
الجمعة يتذاكرون فيها ما درس خلال الأسبوع ويتبارون في تجويد حفظه وإتقانه ،
أو يحددون باباً أو فصلاً من كتاب يتحاجون فيه ، وأعرف عدة مجالس في المدينة
المنورة عقدت لهذا الغرض منها مجالس لبعض النساء عَقَدْنَهُ لمذاكرة حفظ القرآن
والفقه والسيرة النبوية ، ومن ذلك ما يُروى أن محمد بن العباس الحسني وهو راوية
شعر ادعى ليلة في مجلس سمر أنه لا يسمع بيتاً من الشعر إلاّ روى القطعة التي
هو منها ، وذكر الكتاب الذي توجد فيه ، فتصدى له حبيب ابن أمين أحد تلامذة
العلامة حُرْمة بن عبد الجليل رحمة الله على الجميع فسأله من القائل :
لو كنت أبكي على شيء لأبكاني      عصر تصرّم لي في دير غسّانِ
فقال ابن العباس : نسيت قائل هذا البيت وهو من قطعة أعرفها في حماسة
أبي تمام ، فدعي بالكتاب ، وقلب ورقة ورقة ، فلم توجد فيه فقال لهم حبيب :
هاهي بقية الأبيات وذكرها :
دير حوى من (ثمار) الشام أودها      وساكنوه لعمري خير سكان
دهراً يدير علينا الراح كل رشا      خمصان غض بزنديه سُواران
وقال : إن القطعة من إنشائه ، نظمها تعجيزاً لزميله ، وساق دليلاً على صحة
قوله أن دير غسان لا وجود له في أديرة العرب .
كان شيخ المحضرة الفقيه اللغوي الشاعر حرمة بن عبد الجليل
(ت 1234 هـ) رحمه الله حاضراً فالتفت إلى تلميذه حبيب وأنشأ على
البديهة :
لله درك يا غليّم من فتى      سن الغليم في ذكاء الأشيب
لستَ الصغير إذا تَنِدّ شريدةٌ      وإذا تذاكر فتيةٌ في موكب
إن الكواكب في العيون صغيرة      والأرض تصغر عن بساط الكوكب [23]
عاشراً : اغتنام لحظات السحر في تثبيت الحفظ ، فلا تكاد تجد طالباً من
طلاب المحضرة في وقت السحر نائماً بل يزجرون عن النوم في هذا الوقت .
حدثني الوالد حفظه الله قال : كان إذا صعب علينا حفظ شيء انتظرنا به
السحر فيسهله الله علينا ، ولا ريب أنها لحظات مباركة ؛ لأنها وقت النزول الإلهي ،
ووقت الهبات والأعطيات [24] . وساعات السحر هي لحظات الإدلاج التي
أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسير إلى الله فيها كما في صحيح البخاري
رحمه الله (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة) وهي سير آخر
الليل [25]  .
وذكر أهل العلم بالتفسير آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عن
الجميع في انتظار يعقوب عليه السلام لزمان الإجابة حين قال له أبناؤه : يَا أَبَانَا
اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف : 97] فقال : قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف : 98] أنه أخّرهم إلى وقت السحر [26]  .
وضابط وَقت السحر على الصحيح أنه قبل طلوع الفجر بساعة تقريباً على ما
حققه الحافظ رحمه الله في الفتح .
وبعدُ .. أخي القارئ الكريم :
بهذه العوامل والأسباب خطف علماء الشناقطة المتجولون الأضواء ، وبهذه
الطرق والأساليب في الحفظ بزّوا غيرهم في العلوم التي شاركوهم فيها ، فهل تجد
في هذه الإجابة المقتضبة ما يشحذ همتك ويحرك إرادتك ويكون مثالاً لك تحتذيه ،
ويستحثك لجعل الحفظ أهم طرق العلم الشرعي ؟ ! ذلك ما كنا نبغي ، وفضل الله
واسع ، وكم ترك الأول للآخر وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ [المطففين : 26] .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي وعلى آله وصحبه أجمعين .
________________________
(1) المحظرة : وأقرب تعريف لها : (أنها مؤسسة تعليمية بدوية متنقلة ، تكون متخصصة في فن
معين ، وأحياناً شاملة جامعة لشتى العلوم الشرعية ، تضم جماعة من الطلاب مختلفة أعمارهم تحيا
حياة اجتماعية بسيطة ، هدفها التفقه في الدين ، وتحصيل التقوى والخلق الكريم ، يديرها معلم في
فن أو فنون يسهر على التدريس فيها ، ورعاية هدفها حسبة ، وربما ضم إلى مهام التدريس إمامة
وقضاء القرية أو البلدة ويُلقب (بالمرابط) ؛ ولعلها جاءت من رباط المرابطين الذين كان رباطهم النواة
الأولى للمحاظر وقد يلقب : (طالبنا) ولعلها من طالب العلم ، وأصل الكلمة : (محضرة) وردت في
لسان العرب ، وفي كتب الأندلسيين والمغاربة ، منها كتاب المعيار المعرب ، ورحلة ابن جبير ، وفي
أبيات ابن حزم المشهورة : (مناي من الدنيا علوم أبثها) وهي تفارق من وجوه مصطلح الكُتّاب أو
الخلوات أو الزاوية في بعض البلدان الإسلامية اهـ ، بتصرف من (دور المحاظر في موريتانيا) بحث
تخرج مقدم للمعهد العالي الإسلامي بنواكشوط عام 1405هـ إعداد محمد المصطفى بن الندى ، ومن
(بلاد شنقيط المنارة والرباط) بحث موسع مقدم للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عن المحاظر
في موريتانيا للأستاذ الخليل النحوي ، طبع بتونس عام 1987م ، و (السلفية وأعلامها في موريتانيا)
للطيب بن عمر الحسين ، ص87 ، ط الأولى عام 1416هـ وأبيات ابن حزم التي ذكر فيها المحاظر
هي :         مناي من الدنيا علوم أبثها     وأنشرها في كل بادٍ وحاضرِ
دعاء إلى القرآن والسنن التي     تناسى رجال ذكرها في المحاضر
ديوان ابن حزم الظاهري ، 95 ، بتحقيق د رشاد ، ط الأولى .
(2) ممن تشرفت بلقائهم العلامة الفقيه الأديب ، الشاعر الأريب ، الموسوعي معالي الشيخ محمد بن
سالم بن عبد الودود ، من بيت علم عريق تقلد مناصب وزارية ، وعضوية بعض المجامع الفقهية في
مصر والمغرب والسعودية ، ومن أبرز مؤلفاته نظم كتاب مختصر خليل في أكثر من عشر آلاف بيت
قدم له بمقدمة ضمنها عقيدة أهل السنة والجماعة على خلاف السائد هناك من العقائد الأشعرية
والماتريدية .
(3) بتصرف : من بلاد (شنقيط المنارة والرباط) الخليل النحوي ، ص 231 ، ط الأولى ، تونس
1987م .
(4) العلامة اللغوي والشاعر الفذ الأبي محمد محمود بن التلاميد (بالدالة المهملة) ، انفرد في المشرق
باللغة والأنساب ، اتصل بالأوساط العلمية في الحجاز ومصر ، ممن ترجم له الزركلي في الأعلام ،
ولمعاصره وخصمه أحمد الأمين رحمه الله في الوسيط ترجمة له فيها تحامل عليه .
(5) معجم المؤلفين في القطر الشنقيطي) ، 68 ، تأليف سيدي محمد بن محمد عبد الله ولد بزيد ،
ط الأولى ، تونس ، 1996م .
(6) (موسوعة حياة موريتانيا) للمختار بن حامد رحمه الله ، ص 5 ، الجزء الثاني ، طبعة الدار
العربية للكتاب 1990م .
(7) بلاد شنقيط ، للخليل النحوي ، ص 233 .
(8) الغالب على علماء الشناقطة في القرآن وعلومه والفقه رواية الشعر وتذوقه وإنشاده فلو راجعت
كتاب (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) وكتاب : (الشعر والشعراء في موريتانيا) ، للدكتور محمد
المختار ولد أباه ؛ لوجدت معظم من تُرجم لهم من الشعراء هم علماء فقهاء .
(9) عالم وشاعر من بيت علم وأدب ، أخد عن بُلاّ الشقروي ، له مؤلفات منها طُرة على ألفية ابن
مالك ، ت1323م .
(10) بلاد شنقيط المنارة والرباط ، ص 231 .
(11) سيأتي الحديث عن تقسيم المحظر إلى أقفاف جمع قِف وهو اللوح والجزء من المتن بلغة
المحاظر والسفر والباب من أسماء أجزاء مختصر خليل .
(12) اشتهر بالطّرة وهو شرح نثري للعلامة اللغوي ابن بونة على ألفيته المتممة لألفية ابن مالك ؛
فصار الجميع 2080 ألفين وثمانين بيتاً ، وشرح الجميع بهذا الشرح النثري ويعرف بطرة ابن بونة
وبالجامع ، انظر للتعريف بالنحو الشنقيطي ومدارسه وكتبه ورجاله ما كتبه الأستاذ محمذن ولد أحمد
المحبوب في مجلة المنهل الأدبية السعودية العددان 547 ، 548 ، عام 1418هـ .
(13) ما يزيده المحشّي أو المعلق على المتن الأصلي يكتبونه باللون الأحمر تمييزاً له عن المتن
فيسمونه الاحمرار .
(14) العلامة محمد الحسن بن أحمد الخديم اليعقوبي الجوادي الشنقيطي ، له محظرة عريقة خرّجت
كثيراً من القضاة والأدباء المعاصرين ، ولا زال يدرس بها ، ترجم له بعض تلامذته ترجمة موسعة في
مقدمة كتابه (مرام المجتدي من شرح كفاف المبتدي) وهو شرح لنظم الكفاف في فقه المالكية لجده
العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله .
(15) بتصرف من : شنقيط المنارة والرباط ، ص 59 .
(16) والبعض يجعله ، 333 قفاً .
(17) بلاد شنقيط المنارة والرباط ، ص 200 .
(18) السلفية في موريتانيا ، ط الأولى ، ص 104 .
(19) معجم المؤلفين في القطر الشنقيطي ، وفيه كثير ممن نظم متوناً نثرية .
(20) مجلة الأمة القطرية ، العدد (60) ، ذي الحجة 1405هـ ، ص 54 .
(21) الزوايا : القبائل المختصة أو المهتمة بالعلم ، تعلماً وتعليماً ، ويقابلهم حسان وهم القبائل ذات
الشوكة والبأس .
(22) أي يلبس السروال .
(23) الشعر والشعراء في موريتانيا ، للدكتور محمد المختار ولد أباه ، تونس 1987م ، ص 36-37.
(24) كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ينزل
ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له) وصفة النزول هنا
في الحديث من الصفات الفعلية التي نقل عن السلف الإجماع على إثباتها حقيقة لله تعالى ، فهو
سبحانه ينزل لكل قوم في ثلث ليلتهم أي سدس الزمان ولا يخلو منه العرش جل شأنه وتقدست
أسماؤه ، فكما أن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ، كما قال جمهور السلف وقرر ذلك
شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع ، انظر شرح حديث النزول ضمن المجموع (5 31 132 ،
380 -396) .
(25) أورد الإمام ابن الأثير - رحمه الله - في النهاية (2/129) قول أمير المؤمنين علي رضي الله
عنه وأرضاه شاهداً على أن الإدلاج يكون في السحر
اصبر على السير والإدلاج في السحر     وفي الرواح على الحاجات والبكر .
(26) الدر المنثور (4/584) وتفسير الماوردي (3/79) .
 
(( مجلة البيان ـ العدد [‌ 135 ] صــ ‌ 100     ذو القعدة 1419  ـ  مارس 1999 ))
 
 

الجمعة، 22 يوليو 2016

تحليل نفسي لشخصية الحطيئة


تحليل نفسي لشخصية الحطيئة


محمد رجب البيومي


قارئ تاريخ الحطيئة – غالباً – لا يشعر ازاءه بعطف قليل أو كثير، فالشاعر فيما يقال هجاء خبيث اللسان كثير الشر ثلب أمه وأباه. وذم من أعانوه وناصروه بالعطاء، وأخذ يتربص الدوائر بمن لا تصله هداياه، كأنها ضريبة مفروضة يجب ان يمنحها الشاعر ليكف شره عن الغادين والرائحين، وانسان تطرد شمائله على هذا النحو الثالب الناقم، لا يُقبل بارتياح!

ونحن حين نرجع إلى بواعث هذه النقمة الشريرة في نفسه، نجد لها من الدافع المؤلم ما يبررها في أكثر الاحيان أو على الاقل ما يجعلها امراً متوقعاً لا حدثا شاذا ينظر اليه بعين الدهشة والاستغراب! فالرجل اولا وقبل كل شيء شاعر متميز بين اقرانه، يعرف لنفسه قيمتها العالية في دنيا الشعر، ويقيس نفسه بزملائه فيرى انه يعلوهم مكانة في مضمار الشاعرية وقد ثقف نفسه ثقافة جاهدة فروى اشعار سابقيه، وأخذ يوازن بين كل شاعر وشاعر معددا عوامل التفوق واسباب الضعف، وكان شديد الاعتداد برأيه، حتى في أنه احتضاره الأخير وهو وقت ينصرف فيه الراحل عن كل أمر من أمور الحياة كان يوازن بين الشعراء. ويفضل زهيرا على غيره من الشعراء كما أنه أثنى على النابغة وجعله دون زهير لضراعته ومذلته وطمعه، ثم قال عن نفسه فيما نقل الاغاني والله لولا الطمع والجشع لكنت أشعر الماضين!!

هذا الشعور الحاد بمكانته الشعرية ونفاذه الأدبي، قد احاطت به عوامل سيئة من شأنها أن تضائل صيته. وتهوى به في ملأ يعتمد على الفخر بالاحساب، ويرى شرف الاصل شارة الوجاهة وآية الخطوة بين العالمين! فالحطيئة قد فتح عينه على الحياة ليرى نفسه مغمور النسب لا يعرف أباه، فهو ينسب تارة إلى اوس وتارة إلى الأفقم، فإذا كان من أوس فقد جاء عن طريق الزنى لأن والده قد تبرأ منه وألحقه بسواه، وأمه امة ذليلة لا تجد من نفسها الجرأة على الاعتراف باب صريح للابن مخافة أن يؤذي ذلك شعور ساداتها الذين جروها إلى النكبة ومنعوها أن تعترف بما كان!! ثم هي لا تزال في حياة ابنها التعيس، ضارعة تائهة تتزوج بعبد متهم أيضاً في سمعته!! لقد نشأ الحطيئة في هذا المحيط، وآنس من نفسه قدرة على معارضة الفحول في مضمار الشعر، ولكن الناس لا يتركون بيئته وأهله ونبه في ميزان تقديره! فهم يغمزونه اذا وفد عليهم بقصيدة، وهم يذكرونه بما يزعجه من حقائق حياته وعوامل تكوينه!! وهو حينئذ بين وضعين متضاربين أما أنه يتضرع ويستكين كما يتضرع العبيد الاذلاء، فيقنع بما يقال عنه دون تطلع وطموح، واما أن يجابه العاصفة فيكيل بالصاع صاعين ويصبح شعره الهاجي نذير خطر ومصدر ارهاب وتخويف.

لقد جعل يسأل نفسه من أي ناحية ينالني الناس، ويرونني دونهم وضعاً ومكانة؟ اذا كانوا يعيروني بأمي وأبي! ويظنون ذلك مدعاة غيظ وباعث كمد والتباع فسأهجو انا شخصياً أبي وأمي! وسأسقطهما من حسابي! فكل هجاء يوجه الي من ناحيتهما فلن يكون بعد ذلك مصدر ايلام! لأني اتبرأ منهما، وأذمهما بأشنع مما يذمون! وعليم أن يلتمسوا بابا آخر لمكيدتي، فلم تعد أمي وأبي مبعث احترام في نفسي أغار عليهما اذا انتقصني بسببهما منتقص، يعمد إلى مغايظتي بما لم تقترف يداي!!

على انه في هجائه أمه، لم يكن يصدر عن نفس تريد لها المهانة بذكر المثالب الفاضحة وتعداد المساوئ الجارحة، ولو أراد ذلك لوجد من تاريخ حياتها ومرارة تجربته معها ما ييسير له طريق الاقذاع! وهجاء “قدير مثله لا يعوزه أن يسقط على العنيف المؤلم مما يقال في أمة متهمة ذات وضع منكود! ولكنه من وراء ذلك كله يعرف انه يركب الصعب مضطراً، وأنه يثور على أم تجري دماؤها في عروقه، وينازعه قلبه الحنين اليها، والعطف على محنتها التي التبست بمحنته في مجتمع طبقي يعترف بالرؤساء دون الاذناب! فكان قصارى أمره ان يقول:

تنحي فاجلسي عني بعيدا
   

أراح الله منك العالمينا

أغربالا اذا استودعت سرا
   

وكانونا على المتحدثينا

حياتك ما علمت حياة سوء
   

وموتك قد يسر الصالحينا

هذا موقفه من أسرته! وذلك تعليل أهاجيه فيها!

فما موقفه من الناس ولماذا اندفع إلى مهاجاتهم الحاقدة حتى تعرض للحبس في امرة عمر بن الخطاب، وحتى كاد الفاروق رضي الله عنه أن يقطع لسانه لولا انه أعلن التوبة، فأخذ عليه أوثق العهود وآكد المواثيق! .

أن خبرة الشاعر الصادقة بنفوس معاشريه أجبرته أن يقف أمامهم موقف المجابه العنيد، فالرجل شائه الخلقة دميم الصورة قصير القامة حتى ليكاد يقرب من الأرض، وهو يلمح اشارات التغامز ولفتات الغمز في وجه من يراه من المتشدقين بجهارة الحسب ووجاهة المظهر، وهؤلاء هم سادة القوم، وأصحاب العطاء والبذل، وقد أطلقوا عليه كلمة الحطيئة فكانت نبزا عرف به حتى كاد يضيع معه اسمه الحقيقي جرول وكنتيه ابو مليكة، ثم ان دراسته لهؤلاء الأجواد المساميح لا تجعله يصفهم بالكرام الطبع في سهولته ، فهم يزدرون المغمورين من الشعراء. وكم طرق ابوابهم خاملو الذكر من مجيدي القول فأطالوا مدائحهم ثم ما رجعوا بغير التافه الضئيل عن تجهم وانقباض اذ هم في أكثر أمورهم يبتغون مدائح ذوي الجهارة في القريض لتسير قصائدهم في كل حي وماذا عسى يبلغ الحطيئة في بادئ أمره، وهو ذلك الشائه الدميم القصير القمئ ذو النسب المدخول والمنبت الحقير!! لقد جرب الحطيئة ان يحسن القول في مدائحهم فكان لا يبلغ حاجته الا بذليل الالحاف ، ومقيت التضرع! فشنها حربا طاحنة في غير هوادة على هؤلاء الادعياء الذين ينفقون بعض ما يجدون لا عن طبع عريق في حب المآثر والمحامد بل عن هوى مغرض في الدعاية والاعلام ولا شيء أسير من الهجاء في البادية والحاضرة اذا رنت قصائده وطالبت قوافيه، وعند الشاعر البصير علم بنقائص كل حي ومثالب كل سيد، فلن يعجزه ان يقول قولا يرى الناس في بعضه لوامع الصدق فيجرون أكثره على بابه ويعدون الهجاء سجلاً لنقائص مستورة كانت شارات السيادة والوجاهة تخفيها عن الناس حتى لمحها الحطيئة فعرضها على الأنظار .

ولقد صدقت فراسة الحطيئة فما كاد يبدأ أهاجيه، حتى انذر السادة بشر مستطير لم يلبث شواظه ان احرق مآثرهم بلهيبه المتطاير في كل مكان!! ورأوا أنفسهم أمام داهية دهياء ترمي بالقول فتنداح دائرته حتى تشع الجزيرة العربية، ويصبح سمر الناس! واذ ذاك فقط عرفوا للرجل قدره، فساروا على استرضائه، وأخذت كل قبيلة تجمع له كرائم المال ليتحول بأهاجيه إلى غيرها وتستريح من القيل والقال، بل العجيب ان الحطيئة كان يقصد السيد الكريم بشعره – متنكراً – فيزدريه ويجتوبه ثم لا يسعفه ببعض ما يريد، فاذا أعلن اسمه أدركه مض الفزع وأقبل عليه يسترضيه ويعتذر بجهل شخصيته! فما معنى هذا لدى الشاعر؟ الا يرى أن سلاحه البتار قد واتاه بما يريد!

روى أبو الفرج عنه انه قصد ذات مرة عتيبة بن النهاس العجلي فسأله، فقال له، ما أنا على عمل فاعطيك من عدده ولا في مالي فضل عن قومي فأجاب الحطيئة لا عليك وانصرف! فقال بعض قومه: لقد عرضتنا ونفسك للشر! فرد عتيبة :وكيف، قالوا: هذا الحطيئة، وهو لا محالة سيهجونا أخبث هجاء فتعجل الرجل يصيح ردوه ردوه فلما عاد اليه هش له وسأله: لم كتمتنا نفسك كأنك تطلب العلل علينا! إجلس فلك عندنا ما يسرك! ثم قال عتيبة لوكيله اذهب معه الى السوق فلا يطلب شيئاً الا تشتريه له، فجعل يعرض عليه الخز ورقيق الثياب فلا يريدها ويومئ إلى النادر الثمين فيحرزه وحين رجع إلى صاحبه قال له في تذلل: هذا مقام العاذد بك يا أبا مليكة من خيرك وشرك وقد وهبتك ما تريد!

وقد تكرر هذا الموقف من غيره!! فجزم الحطيئة بصحة رأيه، ومضى يهجو الناس ليعيش !! لا أحب أن يفهم أحد أني أدافع عن سلامة منحى الشاعر فالهجاء المغرض دون شك امر مقيت لا ينحدر اليه فنان كريم! ولكننا هنا نفحص وضع الحطيئة في بيئة تحرشت به حين ازدرت هيئته، وغمزت نسبه، وحرمته بعض العطاء!! فهو اذن أمام موقفين لا ثالث لهما فإما أن ينزوي على أحزانه يجرع همومه، ويودع دنيا الشعر، ويرضى بالمنزل الحقير مما قنع به أمثاله من أبناء العبيد، حيث قضوا أعمارهم خدما يخفضون الرؤوس ويحنون الرقاب! وهذا ما تأباه طبيعة رجل شرس فطرة الله على الصيال والمقاومة وتحدي العقاب، وإما أن يعلنها ثورة على هؤلاء المترفعين. فيخشوا بأسه، ويقبلوا عليه مرغمين! وقد اختار لنفسه الموقف الأخير، فحفظ مكانه في الحياة والتاريخ وهو مكان أن وجد من يزدريه، فقد وجد أيضاً من يحلل أسبابه ويفحص دواعيه ثم لا يرجع باللائمة على الشاعر وحده بل على مجتمعه الذي جرفه إلى مأزقه الكريه!!

على ان نفس الحطيئة لم تكن مطبقة على الشر لا تتجه إلى غيره، بل كان لها هواتفها ايضاً، إلى الخير وهو ما نجده وراء اخباره وفي طيات احاديثه! وموقفه من الزبرقان بن بدر يشير إلى ذلك بوضوح، فقد كان الشاعر يسير بأسرته الكثيرة العدد في سنة مجدبة إلى العراق فلقيه الزبرقان في الطريق فسأله عن مقصده فقال الحطيئة وددت ان اصادف بالعراق رجلاً يكفيني مؤنة عيالي وأصفيه مدحي ابدا فقد حطمتني هذه السنة ، فقال الزبرقان قد أصبته فهل لك فيمن يوسعك لبنا وتمراً ويجاورك أحسن جوار وأكرمه، فصاح الشاعر هذا وأبيك العيش وما كنت أرجو هذا كله فأين محلك؟ قال اركب هذه الابل واستقبل مطلع الشمس وسل عن الزبرقان حتى تأتي منزلي، وكتب إلى زوجته ان تحسن إلى الشاعر حتى يؤوب! ولكن الزوجة ازدرته حين لمحت شخصه القمئ، ومنظره الشائه واحتوت مقامه! فجاء اعداء الزبرقان إلى الحطيئة يرجونه ان يفارق جوار الزبرقان اليهم بعدما أهين في حماه! ولو كان الشاعر خالص النفس إلى الشعر لاهتبل الفرص وسار معهم ثم بعث بأهاجيه إلى الرجل وزوجت! ولكن هواتف الخير قد لاحقته فقال للقوم ان من شأن النساء التقصير والغفلة ولن احمل على الرجل ذنب صاحبته! ثم جاهرته الزوجة بالعداء فارتحل، ولم يهج الزبرقان حتى جاءته أهاجي شاعر مغرض اصطنعه ابن بدر بعد عودته فعرض بالحطيئة وفتح أمامه الباب! فالرجل الذي يتحرج من هجاء انسان لم يسلف له ذنبا، وقد وجد المكافأة المغرية على ذلك، فآثر الرفض لا شك انه يحن إلى نوازع الخير، ولكنه يعتسف الشر في طريق يضطر اليه حين يبحث عن مأكله ومأواه.

لقد ذكروا من مثالب الحطيئة – انه مع سؤاله والحافه – شحيح بخيل! وليس بغريب على الشاعر الملحاح ان يبخل ويشح، بل ان كرمه هو الغريب حقاً فيبحث عن دواعيه اذا كان، ويخيل إلي ان تجربته المريرة هي التي فرضت عليه هذا البخل، فقد رأى بعينه انه قاسى المذلة والهوان لفقره وضيق يده!! وهو بعد ذو اسرة كبيرة بها الزوجة والبنات والأولاد! ولو أنه فقد الخير نهائياً في نفسه لتنكر لاسرته وترك اولاده نهب الضياع كما تركه ابوه تخلى عنه وجحد بنوته! وكما اتجهت امه إلى زوج آخر تقوم على حاجته تاركة اياه بمدرجة الضياع! ولكن شعوره بالابوة والزوجية كان اصيلاً في نفسه، وهو بعد من أسباب شحه وبخله ان لم يكن السبب الأول والأخير! بل انه حين اقام في محبس عمر بن الخطاب لم يتعاظمه الحبس الا لبعده عن أولاده الصغار! وكأنهم كانوا شغله الشاغل، في مصبحه وممساه لذلك بكى الفاروق رضي الله عنه حين سمعه يقول :

ماذا تقول لافراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

القيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر

ورجل هذا شعوره الحساس لن نخليه من نازع الخير! ولن يقول احد ان حب الولد غريزة فطرية لأنه بالنسبة لتجربة الحطيئة بالذات كان أمراً مشكوكاً في أطراده، ومن يدري لعل من أسباب حبه الزائد لاسرته ضياعه المرير في طفولته فقد دفعه إلى ان يكون على النقيض من ذويه فيرتفع امام نفسه على الأقل وهذا وحده كثير!!

الثلاثاء، 19 يوليو 2016

يوم بكى خير الدين الزركلي


يوم بكى خير الدين الزركلي
بقلم

أ.د: بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو اللجنة العالمية للغة العربية


تمنيت في حياتي أن أجلس ساعة بين يدي خير الدين الزركلي الذي هو صورة عن السلف الصالح ، أقبس من فضله ، وأرشف من علمه !
وكانت مني جرأة بالغة يوم أدرت قرص الهاتف في بيروت على رقمه في العشرين من رمضان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة بعد الألف للهجرة ، والموافق للسادس من شهر تشرين الأول ( أوكتوبر ) سنة أربع وسـبعين وتسعمائة بعد الألف للميلاد .
وما هي إلا لحظات حتى جاءني الصوت من الطرف الثاني يقـــول : أنا خير الدين .
ولم أدر حينئذٍ ما أقول ، ولكني أذكر أني قلت : سيدي ! أنا بشوق أن أتطلع إليك ، وأسمع منك كلمة ، وأعترف لك بفضلك الكبير عليَّ وعلى أمثالي .
وسمح لي بالمجيء .. وفتحت لي الباب امرأة ، وقادتني إلى غرفة المكتبة . وأذكر ـ يقيناً ـ أني لم أر للغرفة جدراناً ، لأن رفوف الكتب كانت تـحجز رؤيتها حتى السقف
وزاغت عيوني بين الكتب ، فلم أر إلا كتب التراث ، والتراجم .
وخطر لي في تلك اللحظة سؤال : هل يستطيع إنسـان فرد ، لم يـمتهن التجارة ، وليس له مورد إلا راتبه ، أو تقاعده من الراتب أن يقتني مثل هذه النفائس من الكتب والمخطوطات النادرة ، بل هل يمكن لدى صاحب هذه المكتبة قرش واحد مدخر لحاجات حياته اليومية ؟
ودخل الأسـتاذ الكبير ، هاشاً ، باشاً ، مسلّماً ، مرحّباً ، كأنه يعرفني من زمن بعيد ، وأجلسني على كرسي ، وجلس على آخر ، دون أن يفصل بيننا حاجز ، اللهم إلا ما يكون بين كرسيين متجاورين .
ذكرت له مقطوعته التي حفظناها في المدرسة الابتدائية والتي عنوانها
( عصفورة النَّيْرَبَيْن ) فطلـب مني إنشــادها.. فطرب ، وأشرق وجهه.. ثم أخرجت له مقطوعة ( يا زمان ) من كتاب حملته بيدي ، وكان عنوانه : ( من أحسن ماقرأت ) وهو مختارات لأكابر الأدباء العرب . وسألته : أتذكر هذه القصيدة ؟
أخـذ الكتاب ، ونظر في القصيدة ملياً ، ورفع رأسه وقال: كيف لا أذكرها ، وهي جزء من حياتي ، وهل ينسى الإنسان حياته ونفسه ؟
رجوته أن يقرأها بصوته ، ليكون لها لونان من الجمال : جمال الصوت ، وجمال القصيد . وراح ينشد :
متى ترى ، تبسم لي ، يازمان ؟- ألا حنـان ؟
أسلمتني ، لا أنس لي ، ولا أمان- للحـدثـان
عيناي ـ لما تبرحا ـ تـجريان- نضّـاختـان
أبكي ربوعاً ، لا تطيق الهـوان- رهن امتهان
أبكي دياراً ، خلقت للجمـال- أبـهى مثال
أبكي تراث العز ، والعز غـال- صعب المنـال
أبكي نفوساً ، قعدت بالرجـال- عن النضـال
وما إن انتهى الأستاذ من نشيدها حتى تـجرأت على سؤاله عن سبب تركه ساحة الشعر والقوافي ، مع أن قصائده الوطنية والعاطفية ما تزال تنضح بالمشاعر الدافئة ، والعواطف الصادقة ، والروعة ، وبديع الجمال ؟
وبتواضع الإنسان الكبير قال : ما رأيك إذا قلت لك : أنا لم أترك الشعر ، بل لم يتركني هو ، فما زال بيننا وصال ، فأنا إلى اليوم أنظم ، وأترنم بالقول الجميل ، ولكني إلى الإعراض عنه أميل .
هذا الإعراض ليس ابن الساعة ، ولكنه ذو عمر طويل ، يكاد يمتد إلى خمسين سنة إلى وراء … ولولاه ما خرجت إلى الناس بكتابي ( الأعلام ) ويـخيل لي أني خدمت به بلادي وأمتي بمثل ما خدمتها بالشعر .
لكني أرى أن نظم قصيدة واحدة يستغرق زمناً ، ويحتاج إلى تفرغ ، وخيال ، وابتعاد عن المشاغل . والعمل في ( الأعلام ) يستحوذ عليَّ ليلي ونـهاري ، ويغرقني في بـحر من القراءة والكتابة والتأليف ، لا أجد بعده سانـحة أتفرغ فيها لعمل آخر .
ثم إني أجد نفسي اليوم بعد أن أصدرت الطبعة الثانية للأعلام في عشرة أجزاء في مشكلة جديدة ، هي أنـي ما قمت بواجبي حق القيام … لقد كان عليّ أن أوفي ما استطعت حق الكتابة عن أشخاص ، لم أتعرض لهم في ( الأعلام ) في الطبعتين ، الأولى والثانية .
والذي أثار المشكلة الحادة في نفسي ذهابـي إلى المغرب منذ خمسة عشر عاماً ، وتمثيلي حكومة صاحب الجلالة الملك فيصل ـ رحمه الله ـ .
هذا الذهاب إلى المغرب أيقظ فـيَّ شيئاً غريباً .
تساءلت : أين أنا ؟ أبـحث عن علماء المغرب ، فأراهم كثيرين ، ورجالات المغرب في التاريخ العربـي كثيرون ، وشخصيات المغرب العربـي كثيرون.. كل هؤلاء ليس لهم تراجم عندي ..
هل أنا مقصر ؟ بالطبع : لا . لأني أخذت المصـادر التي حصلت عليها ، ونقلت منها . ومصادر المغرب العربـي ، وشخصياتـهم ، وكتبهم كانت غائبة عني حين كنت أعمل في مصر والحجاز والرياض وفي غيرها من البلاد .
عندئذٍ .. قررت ـ وأنا في المغرب ـ أن أشتغل في ( الإعلام بـمن ليس في الأعلام ) ليكون ملحقاً للأعلام ، وجعلت وقتي كله في استدراك ما فاتني . ورأيت أخيراً أن أسميه بدلاً من الإعلام بمن ليس في الأعلام : ( التعريف والإعلام بـمن ليس في الأعلام ) دفعاً للالتباس من قراءة (الإعلام ) المكسورة الهمزة :
( الأعلام ) بفتح الهمزة . والمستدرك هذا هو ، تستطيع أن تراه الآن . إنه في هذه الدفاتر ، أو في هذه المجموعات .
وقمت مع الأستاذ إلى زاوية الغرفة ، لأرى ثـماني وعشرين مجموعة ، كل مجموعة تـختص بـحرف من حروف الهجاء . فالأولى لمن يبدأ اسمه بالهمزة ، والثانية لمن يبدأ بـحرف الباء ، وهكذا .
وفتحت أحد هذه الدفاتر ، فوقعت عيني على ( السمنودي ) في ورقة مستقلة ، وبـجانبه تاريخ ولادته ووفاته بالسنوات الهجرية ، وتـحتها تاريـخها بالسنوات الميلادية مطبوعة على الآلة الكاتبة بالحبر الأحمر . ولاحظت الترتيب نفسه الذي في الأعلام . وكذلك الحاشية في أسفل الصفحة كحاشية ( الأعلام ) .
ونبهني الأستاذ الكبير إلى الحاشية ، وأنـها غير المصادر التي في الأعلام ، وأنـها من كتب المغاربة .
وأضاف قائلاً : هذه المجموعات تشكل ـ حتى الآن ـ ست مجلدات أو سبعاً ، أربع منها إذا لم أعملها فإن أحداً غيري ـ وسامحني إذا قلت : ـ لا يستطيع عملها . إنـي لا أشكو ، وإنما أحكي وأصف ما ألاقي وأعانـي . ولقد تستغرب إذا قلت : إنـي أعمل فيها ليل نـهار ، قدر استطاعتي . وإذا كان كثير من الناس يشتكي من الأرق فأنا لا أشكو منه ، بل أنا على العكس ، أفرح به وأرحب .. فغرفتي التي أنام فيها بـجوار هذه الغرفة ، وحين أحس بعدم قدرتي على النوم ، لا أتقلب ، ولا أتململ ، وإنما أنـهض حالاً ، وأضع على كتفي شيئاً يقيني من البرد ، وأجلس وراء طاولتي ، وأبدأ بالمراجعة والتدوين .. فتنقضي ساعة أو ساعتان أو أكثر أو أقل ، ثم أشعر أنـي بـحاجة إلى راحة ونوم ، فأعود إلى فراشي فإذا أنا غارق في نوم عميق .
حياتـي كلها وهبتها لهذا العمل . وكم أمني النفس أن يمد الله في أجلي أياماً ، أو شهوراً ، أو سنين ، كي أنـجز هذا العمل ، وأخرجه إلى الناس كاملاً .
وكم فكرت طويلاً : لو أن الله اختارنـي إلى جواره .. فماذا يكون مصير هذا كله بعدي ؟؟ وأتـمنى أن أعرف أحداً من الناس اليوم يستطيع أن يتسلم مني هذا ويكمله . وأنا أقدمه إليه بكل طيبة خاطر وسرور قلب .
ومع هذا ، فقد احتطت لطوارئ الأجل وساعة الموت ، ولا سيما أنـي تـجاوزت الثمانين ، إذ وضعت في أحد مصارف بيروت مبلغ خمسين ألف ليرة لبنانية وسجلت ، حسب الأصول القانونية والشرعية ، هذا المبلغ باسم
( مجمع اللغة العربية بدمشق ) لينفقه بعد وفاتـي على إنـجاز هذا المشروع ، واستكماله ، وإصداره إلى الناس ، لعلهم ينتفعون به ، ويدعون الله لصاحبه : خير الدين الزركلي .
الأمر الآخر هو أن لي مكتبة عامرة بالمخطوطات والمطبوعات في مدينة القاهرة ، ولسوف أسافر بعد مدة قريبة إلى مصر لأجمع ما فيها في صناديق ، ثم أرسلها هدية مني إلى المكتبة العامة في جامعة الرياض ، اعترافاً بـجميل المملكة عليَّ ، وخدمة لطلاب العلم ، وأملاً في ثواب الله ونيل أجره . أما هذه المكتبة ، فلسوف أقرر مصيرها بعد إصدار الطبعة الجديدة
( التعريف والإعلام بمن ليس في الأعلام )، إن شاء الله .
إنـي لأشعر شعوراً غريباً أنـي في سباق مع الزمن ، وأريد أن أنـجز عملي هذا على خير وجه ، قبل حلول الأجل . ولا أظنه إلا قريباً .. وأظنك توافقني على أن هذا خير من نظم قصيدة ، والوقت الذي أحتاجه لنظم قصيدة أوجهه إلى مراجعة أربعة أو خمسة كتب ، وكتابة ســيرة رجل لم يكتب أحـد عنه قبلي .
زد على ذلك أن مطابعنا ـ والحمد لله ـ تقذف لنا في كل صباح عشرات المؤلفات ، والدراسات ، والتراجم ، والبحوث ، والتحقيقات الجديدة … وهذا الإنتاج الجليل يحتاج إلى مراجعة ، واطلاع ، وتدوين .
والتقاليد الجامعية درجت على أن يكون عمل طالب شهادتـي الماجستير والدكتوراة ـ أحياناً ـ تـحقيق مخطوط ، أو جمع ديوان شاعر .. ولا بد من معرفة ما يـجـري في هذه الجامعات ، وما تنجز من أعمال ، ثم لا بد من تسجيل كل هذا في مواطنه المناسبة أولاً بأول ، كذلك الشأن في المجلات ، وما تقدمه من بـحوث ، أو إشارات .
ولا أكتمك أن هذا العمل لا يكفيه أن تقعد في بيتك ، وتنتظر أن يأتيك ساعي البريد بالجرائد والمجلات وجديد المطبوعات ، بل لا بد لك من أن تتحرك أنت ، وتذهب إلى هنا وهناك ، لترى ما لا يمكن أن تراه وأنت في بيتك .
ولهذه الغاية ، فأنا أسافر في كل عام ـ على الأقل ـ مرة إلى مصر ، ومنها إل أوربا ، وأعوج في طريق عودتـي على تركيا ، ثم أعود إلى بيروت .
وحين أزور تركيا وأكون في استانبول أزور ( السليمانية ) وأقصد مكتبتها النفيسة العامرة بالمخطوطات ، وفي غالب الأحيان أنتقل من السليمانية إلى الجبال وإلى مناطق لا تزال مجهولة إلــى يومنا هذا ، وفيها مخطوطات عربية نادرة ، لا أظن أن لـها نظيراً في العالم . وكثير منها مكتوب بـخط مؤلفيها أنفسهم ، وموضوعاتـها في التاريخ والأدب والفلسفة والدين .
حدث مرة أني كنت في استانبول أفـتـش عن كتاب خاص ، فلم أعثر عليه ، وفجأة رأيت صديقاً ، وسألته عن الكتاب ، فقال : إنه موجود في بلدة اسمها : ( مغنيسيا ) فركبت السيارة إلى مغنيسيا ، وقضيت إحدى عشرة ساعة في الطريق إليها ، ولما زرت مكتبتها رأيتها من أغنى المكتبات ، لكنها دون فهارس حديثة ، وإنما جذاذات في تصرف الباحثين ، وهي تملأ اثني عشر درجاً ، ورحت أستعرض الدرج الأول خلال صيف كامل ، وعدت في الصيف التالي لأستعرض مخطوطات الدرج الثاني ، وظللت أعاود الزيارة سنة بعد سنة إلى أن اطلعت عليها جميعاً .
ومع هذا ، فلا يزال أمامي زيارة بلاد عـدة ، فيها كنوز لم يكشف النقاب عنها بعد ، ولم يكتب أحد عنها سطراً واحداً .
وخطر في بالي سؤال يتصل بصور أصحاب التراجم الجديدة ، أو صور توقيعاتهم ، أو خطهم ، فلم أكتمه ، فقال ـ طيب الله ثراه ورضي عنه ـ: يـحزنني إذا قلت لك : إني بقدر ما كنت في الماضي متحمساً ومولعاً بـهذا الأمر غدوت اليوم زاهداً فيه إلى حد كبير .
والذي زهدنـي ما ألقاه من عقوق الأبناء للآباء ، وانتشار هذا العقوق في مستويات كثيرة .. وقد أرحت الأبناء من طلبي لصور آبائهم ، وخطوطهم ، وتوقيعاتهم .
وقد تتساءل عن سر هذا الزهد ، ولكنك لن تعجب إذا قصصت عليك بعض ما صرت ألقى .
أنت تعرف أنـي لا أترجم للأحياء ، وطلبي لصورة رجل ميت لا يداخله شك ، أو يعتريه ريب في حسن نيتي وصدق عملي .
اتفق لي مع عدد من الأشــخاص أن طلبت صورة لآبائهم ، أو قطعة من خطوطهم ، أو توقيعاتهم ، أو خطاباتهم … فما أجابوني بـجواب يرضيني .. وأيقنت أن هذا لون من العقوق .
في إحدى المرات هتفت إلى أحد الأشخاص في مصر ، وطلبت منه صورة والده ، بعد أن عرفته شخصي وهدفي . فأجابني ، على الهاتف ، بلهجة فيها كثير من التأنيب : قال : يا أخي ! تطلب مني مثل هذا الطلب مباشرة ، وبلا استئذان ؟ لقد كان عليك في البدء أن تقدم لي طلباً وتعرفني شخصك ، وقصدك كتابة ، وتطلب موعداً لمقابلتي ، حتى إذا أذنت لك ، طلبـت مني ما تريد . أما أن تأخذ الهاتف ، وتديــر القرص ، وتتحدث معي مباشرة ، وتطلب مني طلبات ، فذلك …. فما كان مني إلا أن اعتذرت إليه ، وقلت له : استغنيت عن الطلب . أفليس هذا عقوقاً ؟
في مرة أخرى ، أردت أن أترجم للشيخ مصطفى عبد الرازق في مصر ، بعد أن انتقل إلى جوار ربه ، وكنت أجهل اسم أبيه ، وأبيت أن أكتب الترجمة دون أن أذكر اسم والد هذا العالم . فلقد درجت على هذا في كل أعلامي .. كتبت إلى أخيه الشيخ علي عبد الرازق ، وهو رجل فاضل ، أســـأله عن اسم أبيه فقط ، وبينت له أني بصدد الكتابة عن أخيه المرحوم الشيخ مصطفى .
أتعرف بم أجابني ؟ لقد أرسل إليَّ رسالة مطولة ، يقول في جملتها : إني آسف جداً لعدم تلبية طلبكم ، لأني الآن بعيد عـن كتبي ومكتبتي وأوراقي ، وأنا الآن موجود اليوم في ( العزبة ) ، ولا بد لي بعد العودة إلى القاهرة أن أتصل بكم ، وأفيدكم فيما طلبتم .
وتساءلت : هل طلبت منه إلا اسم أبيه فقط ؟ وما معنى أنه الآن في العزبة ، وبعيد عن كتبه وأوراقه ؟ وهل يـجهل أحد اسم أبيه في العزبة ، ويعرفه في القاهرة ؟ ومع هذا ، فلسوف أترجم للشيخ علي عبد الرازق نفسه اليوم ، لأنه رجل فاضل ، رحمه الله ، وغفر له .

ورأيت أن الأوان حان لننتقل إلى موضوعات أخرى ، هي أشد اتصالاً والتصاقاً بـحياته الخاصة ، ومشاعره الإنسانية ، فقلت :
ألم تشتق ـ يا سيدي ـ إلى الشام التي طالما حننت إليها ، وغنيتها أعذب ألحانك ، وفديتها بأغلى ما يفدي الإنسان وطنه وبلده ؟
قال ـ رحمه الله ورضي عنه ـ : وكيف لا أحن إليها ، وهي الأم والأب ، وهي الماضي والذكريات ، وهي الشباب والجمال ؟ وكلما حننت إليها جئتها ، وطفت في حـاراتـها ، وصليت في مساجدها ، وتأملت في جبالـها وأشــجارها ، وطفت بضواحيها .. ولكنني اليوم أزهد في زيارتـهـا ، وأستوحش بـها ، لأنـي صرت أرى الجمادات فيها ، وأفتقد الأحباب ، والأتراب ، والأصحاب .. أفتش عنهم ، فلا أراهم ، وأسأل عنهم ، فيقال لي : ماتوا
لقد مات معظم أصحابي وأحبابـي ، وكلما سألت أحد الناس عن اسمه ، ذكره ، فعرفت أباه ، وجهلته . وأكثر من هذا : غاب عني الأب والابن اللذان كنت أعرفهما ، وواجهني الحفيد الجديد الذي أجهله .
الأشخاص الذين كنت أسعى إليهم في دمشق ، أرشف من علمهم ، أقتبس من فضلهم ، أتملى بطلعتهم … غابوا عني ، أو غاب معظمهم عن عيني ، وسمعي .. فأصابني الزهد ، واعتراني الفتور للعودة إلى دمشق ، وللبقية الباقية الصالحة فضل كبير إذ تزورني بين حين وآخر هنا في بيروت ، فتوفر عليَّ الزيارة ، وتغنيني عن مشقة ما عدت قادراً على احتمالها دائماً . وخير مثال على ما أقول : زيارتك الكريمة لي في هذا النهار المبارك الطيب .
وحانت مني التفاتة إلى النافذة ، فلحظت أن الشمس قاربت الغروب ، وأن الأدب يقضي أن أودع وأنصرف ، ولكن النفس كانت تأبـى أن أفارق هذا العالم الكبير ... وقبل أن أستأذن طلب مني إنشاد بعض ما أحفظ من قصيدته ( نجوى ) فلبيت طلبه وأنشدته :
العين بعد فراقهـا الوطنا ** لا ساكناً أَلِفَتْ ولا سـَـكَنـا
ريانـةٌ بالدمع ، أقلقهـا ** أن لا تحسَّ كرًى ولا وسَنـا
كانت ترى في كل سانحة ** حُسناً فعادت لا ترى حَسَنـا
ليت الذين أحبهم علمـوا ** وهُمُ هنالك ما لقيتُ هنــا
ما كنت أحسبني مفارقهم ** حتى تفارق روحــيَ البدنا
يا موطناً عبث الزمان به ** من ذا الذي أغرى بك الزمنا؟
ما كنتَ إلا روضة أنُفـاً ** كرُمت وطابت مغرساً وجنى
إن الغريب معذب أبــداً ** إن حل لم ينعم وإن ظعنــا
لو مثلوا لي موطني وثناً ** لَهَمَمْتُ أعبُـــد ذلك الوثنا
ولمحت عينيه تدمعان ، وصوته اختنق وهو يودعني.. وتمنيت أن أطلب منه صورة له موقعة بـخط يده .. إلا أن الحياء غلبني . وقلت في نفسي : حسبي أنه انطبع في قلبي ، وتمليت طلعته ، وقعدت بين يديه ، وسمعت صوته ، وكان لي وحدي ساعة من زمن ، كنت فيها جليسه الخاص .. فتلك خير صورة ، وأطيب ذكرى .

حلب المحروسة

20/7/2007م
بكري شيخ أمين