الجمعة، 22 يوليو 2016

تحليل نفسي لشخصية الحطيئة


تحليل نفسي لشخصية الحطيئة


محمد رجب البيومي


قارئ تاريخ الحطيئة – غالباً – لا يشعر ازاءه بعطف قليل أو كثير، فالشاعر فيما يقال هجاء خبيث اللسان كثير الشر ثلب أمه وأباه. وذم من أعانوه وناصروه بالعطاء، وأخذ يتربص الدوائر بمن لا تصله هداياه، كأنها ضريبة مفروضة يجب ان يمنحها الشاعر ليكف شره عن الغادين والرائحين، وانسان تطرد شمائله على هذا النحو الثالب الناقم، لا يُقبل بارتياح!

ونحن حين نرجع إلى بواعث هذه النقمة الشريرة في نفسه، نجد لها من الدافع المؤلم ما يبررها في أكثر الاحيان أو على الاقل ما يجعلها امراً متوقعاً لا حدثا شاذا ينظر اليه بعين الدهشة والاستغراب! فالرجل اولا وقبل كل شيء شاعر متميز بين اقرانه، يعرف لنفسه قيمتها العالية في دنيا الشعر، ويقيس نفسه بزملائه فيرى انه يعلوهم مكانة في مضمار الشاعرية وقد ثقف نفسه ثقافة جاهدة فروى اشعار سابقيه، وأخذ يوازن بين كل شاعر وشاعر معددا عوامل التفوق واسباب الضعف، وكان شديد الاعتداد برأيه، حتى في أنه احتضاره الأخير وهو وقت ينصرف فيه الراحل عن كل أمر من أمور الحياة كان يوازن بين الشعراء. ويفضل زهيرا على غيره من الشعراء كما أنه أثنى على النابغة وجعله دون زهير لضراعته ومذلته وطمعه، ثم قال عن نفسه فيما نقل الاغاني والله لولا الطمع والجشع لكنت أشعر الماضين!!

هذا الشعور الحاد بمكانته الشعرية ونفاذه الأدبي، قد احاطت به عوامل سيئة من شأنها أن تضائل صيته. وتهوى به في ملأ يعتمد على الفخر بالاحساب، ويرى شرف الاصل شارة الوجاهة وآية الخطوة بين العالمين! فالحطيئة قد فتح عينه على الحياة ليرى نفسه مغمور النسب لا يعرف أباه، فهو ينسب تارة إلى اوس وتارة إلى الأفقم، فإذا كان من أوس فقد جاء عن طريق الزنى لأن والده قد تبرأ منه وألحقه بسواه، وأمه امة ذليلة لا تجد من نفسها الجرأة على الاعتراف باب صريح للابن مخافة أن يؤذي ذلك شعور ساداتها الذين جروها إلى النكبة ومنعوها أن تعترف بما كان!! ثم هي لا تزال في حياة ابنها التعيس، ضارعة تائهة تتزوج بعبد متهم أيضاً في سمعته!! لقد نشأ الحطيئة في هذا المحيط، وآنس من نفسه قدرة على معارضة الفحول في مضمار الشعر، ولكن الناس لا يتركون بيئته وأهله ونبه في ميزان تقديره! فهم يغمزونه اذا وفد عليهم بقصيدة، وهم يذكرونه بما يزعجه من حقائق حياته وعوامل تكوينه!! وهو حينئذ بين وضعين متضاربين أما أنه يتضرع ويستكين كما يتضرع العبيد الاذلاء، فيقنع بما يقال عنه دون تطلع وطموح، واما أن يجابه العاصفة فيكيل بالصاع صاعين ويصبح شعره الهاجي نذير خطر ومصدر ارهاب وتخويف.

لقد جعل يسأل نفسه من أي ناحية ينالني الناس، ويرونني دونهم وضعاً ومكانة؟ اذا كانوا يعيروني بأمي وأبي! ويظنون ذلك مدعاة غيظ وباعث كمد والتباع فسأهجو انا شخصياً أبي وأمي! وسأسقطهما من حسابي! فكل هجاء يوجه الي من ناحيتهما فلن يكون بعد ذلك مصدر ايلام! لأني اتبرأ منهما، وأذمهما بأشنع مما يذمون! وعليم أن يلتمسوا بابا آخر لمكيدتي، فلم تعد أمي وأبي مبعث احترام في نفسي أغار عليهما اذا انتقصني بسببهما منتقص، يعمد إلى مغايظتي بما لم تقترف يداي!!

على انه في هجائه أمه، لم يكن يصدر عن نفس تريد لها المهانة بذكر المثالب الفاضحة وتعداد المساوئ الجارحة، ولو أراد ذلك لوجد من تاريخ حياتها ومرارة تجربته معها ما ييسير له طريق الاقذاع! وهجاء “قدير مثله لا يعوزه أن يسقط على العنيف المؤلم مما يقال في أمة متهمة ذات وضع منكود! ولكنه من وراء ذلك كله يعرف انه يركب الصعب مضطراً، وأنه يثور على أم تجري دماؤها في عروقه، وينازعه قلبه الحنين اليها، والعطف على محنتها التي التبست بمحنته في مجتمع طبقي يعترف بالرؤساء دون الاذناب! فكان قصارى أمره ان يقول:

تنحي فاجلسي عني بعيدا
   

أراح الله منك العالمينا

أغربالا اذا استودعت سرا
   

وكانونا على المتحدثينا

حياتك ما علمت حياة سوء
   

وموتك قد يسر الصالحينا

هذا موقفه من أسرته! وذلك تعليل أهاجيه فيها!

فما موقفه من الناس ولماذا اندفع إلى مهاجاتهم الحاقدة حتى تعرض للحبس في امرة عمر بن الخطاب، وحتى كاد الفاروق رضي الله عنه أن يقطع لسانه لولا انه أعلن التوبة، فأخذ عليه أوثق العهود وآكد المواثيق! .

أن خبرة الشاعر الصادقة بنفوس معاشريه أجبرته أن يقف أمامهم موقف المجابه العنيد، فالرجل شائه الخلقة دميم الصورة قصير القامة حتى ليكاد يقرب من الأرض، وهو يلمح اشارات التغامز ولفتات الغمز في وجه من يراه من المتشدقين بجهارة الحسب ووجاهة المظهر، وهؤلاء هم سادة القوم، وأصحاب العطاء والبذل، وقد أطلقوا عليه كلمة الحطيئة فكانت نبزا عرف به حتى كاد يضيع معه اسمه الحقيقي جرول وكنتيه ابو مليكة، ثم ان دراسته لهؤلاء الأجواد المساميح لا تجعله يصفهم بالكرام الطبع في سهولته ، فهم يزدرون المغمورين من الشعراء. وكم طرق ابوابهم خاملو الذكر من مجيدي القول فأطالوا مدائحهم ثم ما رجعوا بغير التافه الضئيل عن تجهم وانقباض اذ هم في أكثر أمورهم يبتغون مدائح ذوي الجهارة في القريض لتسير قصائدهم في كل حي وماذا عسى يبلغ الحطيئة في بادئ أمره، وهو ذلك الشائه الدميم القصير القمئ ذو النسب المدخول والمنبت الحقير!! لقد جرب الحطيئة ان يحسن القول في مدائحهم فكان لا يبلغ حاجته الا بذليل الالحاف ، ومقيت التضرع! فشنها حربا طاحنة في غير هوادة على هؤلاء الادعياء الذين ينفقون بعض ما يجدون لا عن طبع عريق في حب المآثر والمحامد بل عن هوى مغرض في الدعاية والاعلام ولا شيء أسير من الهجاء في البادية والحاضرة اذا رنت قصائده وطالبت قوافيه، وعند الشاعر البصير علم بنقائص كل حي ومثالب كل سيد، فلن يعجزه ان يقول قولا يرى الناس في بعضه لوامع الصدق فيجرون أكثره على بابه ويعدون الهجاء سجلاً لنقائص مستورة كانت شارات السيادة والوجاهة تخفيها عن الناس حتى لمحها الحطيئة فعرضها على الأنظار .

ولقد صدقت فراسة الحطيئة فما كاد يبدأ أهاجيه، حتى انذر السادة بشر مستطير لم يلبث شواظه ان احرق مآثرهم بلهيبه المتطاير في كل مكان!! ورأوا أنفسهم أمام داهية دهياء ترمي بالقول فتنداح دائرته حتى تشع الجزيرة العربية، ويصبح سمر الناس! واذ ذاك فقط عرفوا للرجل قدره، فساروا على استرضائه، وأخذت كل قبيلة تجمع له كرائم المال ليتحول بأهاجيه إلى غيرها وتستريح من القيل والقال، بل العجيب ان الحطيئة كان يقصد السيد الكريم بشعره – متنكراً – فيزدريه ويجتوبه ثم لا يسعفه ببعض ما يريد، فاذا أعلن اسمه أدركه مض الفزع وأقبل عليه يسترضيه ويعتذر بجهل شخصيته! فما معنى هذا لدى الشاعر؟ الا يرى أن سلاحه البتار قد واتاه بما يريد!

روى أبو الفرج عنه انه قصد ذات مرة عتيبة بن النهاس العجلي فسأله، فقال له، ما أنا على عمل فاعطيك من عدده ولا في مالي فضل عن قومي فأجاب الحطيئة لا عليك وانصرف! فقال بعض قومه: لقد عرضتنا ونفسك للشر! فرد عتيبة :وكيف، قالوا: هذا الحطيئة، وهو لا محالة سيهجونا أخبث هجاء فتعجل الرجل يصيح ردوه ردوه فلما عاد اليه هش له وسأله: لم كتمتنا نفسك كأنك تطلب العلل علينا! إجلس فلك عندنا ما يسرك! ثم قال عتيبة لوكيله اذهب معه الى السوق فلا يطلب شيئاً الا تشتريه له، فجعل يعرض عليه الخز ورقيق الثياب فلا يريدها ويومئ إلى النادر الثمين فيحرزه وحين رجع إلى صاحبه قال له في تذلل: هذا مقام العاذد بك يا أبا مليكة من خيرك وشرك وقد وهبتك ما تريد!

وقد تكرر هذا الموقف من غيره!! فجزم الحطيئة بصحة رأيه، ومضى يهجو الناس ليعيش !! لا أحب أن يفهم أحد أني أدافع عن سلامة منحى الشاعر فالهجاء المغرض دون شك امر مقيت لا ينحدر اليه فنان كريم! ولكننا هنا نفحص وضع الحطيئة في بيئة تحرشت به حين ازدرت هيئته، وغمزت نسبه، وحرمته بعض العطاء!! فهو اذن أمام موقفين لا ثالث لهما فإما أن ينزوي على أحزانه يجرع همومه، ويودع دنيا الشعر، ويرضى بالمنزل الحقير مما قنع به أمثاله من أبناء العبيد، حيث قضوا أعمارهم خدما يخفضون الرؤوس ويحنون الرقاب! وهذا ما تأباه طبيعة رجل شرس فطرة الله على الصيال والمقاومة وتحدي العقاب، وإما أن يعلنها ثورة على هؤلاء المترفعين. فيخشوا بأسه، ويقبلوا عليه مرغمين! وقد اختار لنفسه الموقف الأخير، فحفظ مكانه في الحياة والتاريخ وهو مكان أن وجد من يزدريه، فقد وجد أيضاً من يحلل أسبابه ويفحص دواعيه ثم لا يرجع باللائمة على الشاعر وحده بل على مجتمعه الذي جرفه إلى مأزقه الكريه!!

على ان نفس الحطيئة لم تكن مطبقة على الشر لا تتجه إلى غيره، بل كان لها هواتفها ايضاً، إلى الخير وهو ما نجده وراء اخباره وفي طيات احاديثه! وموقفه من الزبرقان بن بدر يشير إلى ذلك بوضوح، فقد كان الشاعر يسير بأسرته الكثيرة العدد في سنة مجدبة إلى العراق فلقيه الزبرقان في الطريق فسأله عن مقصده فقال الحطيئة وددت ان اصادف بالعراق رجلاً يكفيني مؤنة عيالي وأصفيه مدحي ابدا فقد حطمتني هذه السنة ، فقال الزبرقان قد أصبته فهل لك فيمن يوسعك لبنا وتمراً ويجاورك أحسن جوار وأكرمه، فصاح الشاعر هذا وأبيك العيش وما كنت أرجو هذا كله فأين محلك؟ قال اركب هذه الابل واستقبل مطلع الشمس وسل عن الزبرقان حتى تأتي منزلي، وكتب إلى زوجته ان تحسن إلى الشاعر حتى يؤوب! ولكن الزوجة ازدرته حين لمحت شخصه القمئ، ومنظره الشائه واحتوت مقامه! فجاء اعداء الزبرقان إلى الحطيئة يرجونه ان يفارق جوار الزبرقان اليهم بعدما أهين في حماه! ولو كان الشاعر خالص النفس إلى الشعر لاهتبل الفرص وسار معهم ثم بعث بأهاجيه إلى الرجل وزوجت! ولكن هواتف الخير قد لاحقته فقال للقوم ان من شأن النساء التقصير والغفلة ولن احمل على الرجل ذنب صاحبته! ثم جاهرته الزوجة بالعداء فارتحل، ولم يهج الزبرقان حتى جاءته أهاجي شاعر مغرض اصطنعه ابن بدر بعد عودته فعرض بالحطيئة وفتح أمامه الباب! فالرجل الذي يتحرج من هجاء انسان لم يسلف له ذنبا، وقد وجد المكافأة المغرية على ذلك، فآثر الرفض لا شك انه يحن إلى نوازع الخير، ولكنه يعتسف الشر في طريق يضطر اليه حين يبحث عن مأكله ومأواه.

لقد ذكروا من مثالب الحطيئة – انه مع سؤاله والحافه – شحيح بخيل! وليس بغريب على الشاعر الملحاح ان يبخل ويشح، بل ان كرمه هو الغريب حقاً فيبحث عن دواعيه اذا كان، ويخيل إلي ان تجربته المريرة هي التي فرضت عليه هذا البخل، فقد رأى بعينه انه قاسى المذلة والهوان لفقره وضيق يده!! وهو بعد ذو اسرة كبيرة بها الزوجة والبنات والأولاد! ولو أنه فقد الخير نهائياً في نفسه لتنكر لاسرته وترك اولاده نهب الضياع كما تركه ابوه تخلى عنه وجحد بنوته! وكما اتجهت امه إلى زوج آخر تقوم على حاجته تاركة اياه بمدرجة الضياع! ولكن شعوره بالابوة والزوجية كان اصيلاً في نفسه، وهو بعد من أسباب شحه وبخله ان لم يكن السبب الأول والأخير! بل انه حين اقام في محبس عمر بن الخطاب لم يتعاظمه الحبس الا لبعده عن أولاده الصغار! وكأنهم كانوا شغله الشاغل، في مصبحه وممساه لذلك بكى الفاروق رضي الله عنه حين سمعه يقول :

ماذا تقول لافراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

القيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر

ورجل هذا شعوره الحساس لن نخليه من نازع الخير! ولن يقول احد ان حب الولد غريزة فطرية لأنه بالنسبة لتجربة الحطيئة بالذات كان أمراً مشكوكاً في أطراده، ومن يدري لعل من أسباب حبه الزائد لاسرته ضياعه المرير في طفولته فقد دفعه إلى ان يكون على النقيض من ذويه فيرتفع امام نفسه على الأقل وهذا وحده كثير!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق