سلامة موسى
بقلم : حبيب الزحلاوي
أعتقد أنه لم يعد لي حق الإطالة في الكلام عن المرحوم
سلامة موسى بعد وفاته؛ إذ آل هذا الحق إلى الأستاذ الزركلي صاحب كتاب " الأعلام"
الجامع لأسماء الأموات من الكتاب دون الأحياء.
كما لم يعد لي ولا لسواي أن يتكلم في مخلوق عاش فمات
وماتت معه كتبه ومؤلفاته ولحدوا جميعاً في عالم النسيان. ولكن موقف الدكتور حسين
فوزي رئيس تحرير "المجلة" واختياره الأستاذ وديع فلسطين دون سواه من الأدباء،
وتكليفه كتابة دراسة في صديقه سلامة موسى الراحل لتنشر في العدد القادم من "المجلة"
واستجابة الأستاذ فلسطين للطلب فوراً، ونشر تلك المقالة الفياضة التي سجلت للمجلة
سبقاً صحفياً قصر عن بلوغه مصطفى وعلي أمين النشيطين البارعين في فن الصحافة، وسرعة
نشر الخبر، كل ذلك دعاني بل حفزني إلى كتابة كلمة إلى رئيس تحرير المجلة أعقب فيها
على مقال الأستاذ وديع فلسطين قلت فيها:
إن الكلمة التي نشرت في العدد الأخير من "المجلة"
جمعت فوعت كل ما يمكن أن يكتب في مناقب المرحوم سلامة موسى، وكل ما يمكن أن يقال
أيضاً فيمن لم تعد تجوز عليهم سوى الرحمة تمشياً مع الوصية "اذكروا محاسن موتاكم"
وكان الأخلق بالأستاذ وديع فلسطين أن يجعلها دراسة تتناسب مع مقام المجلة الرصينة
يتناول فهيا أعمال الفقيد كلها، وألا يقصرها على ذكر الكتب التي جمع أكثرها من
التعليقات التي كان ينشرها في الصحف السيارة.
لا جدال في أن سلامة موسى كتب كثيراً في كل موضوع،
ونشر كثيراً في كل صحيفة، ولكن تلك الأكداس من الورق قد لا تعين المؤرخ للأدب
الحديث إلا قليلاً، ولا تظهر من مناقب كاتبها ومثالبه ومحاسنه ومساويه إلا الأقل؛
لأنها كتبت في الأصل للصحيفة اليومية تلبية لنداء السرعة، أو السانحة الطارئة
والخاطرة المفاجئة، وأما الذي لا بد للمؤرخ منه، ولا محيد ألبتة عنه فهو الرجوع إلى
"المجلة الجديدة" التي كان يصدرها سلامة موسى، وقد كانت وسيلته الوحيدة للتعبير عن
رأيه الخاص، والإفصاح عن سريرته وطوية نفسه بدون ما حاجة إلى رقابة رؤساء تحرير
الصحف التي كانت تجري أقلامهم على مقالاته فتزيل عنها الشطط، وتحد من الدعاوى
المغرضة، والدعايات التي تلابسها الشكوك، خصوصاً أقلام رؤساء تحرير صحف الهلال.
أذكر صحف درا الهلال بخاصة لأنها أظهرت للناس ناحية خلقية في سلامة موسى لم تكن
خافية على أكثر قراء الصحف فكيف خفيت عن الأستاذ وديع فلسطين؟
أزعم أن الأستاذ فلسطين تعمد نسيانها كما تعمد ألا
يعرج صوب "المجلة الجديدة" وألا يخوض حمأتها، لأنه أراد من نشر المقالة، ذلك المقال
"المسلوق" الفج، أن يكون تحية الوداع ولا شيء سوى تحية الوداع.
إن من ألزم واجبات الضمير الأدبي، وقد وقف الأستاذ
فلسطين وقفة المؤرخ للأديب المعاصر الذي مات، أن يذكر حسناته وسيئاته، كما وأن من
أوجب واجبات الصحيفة التي تقدس الأدب وتحترم الرأي وتحرص على إظهار الحقائق، أن
تفسح المجال للقول في كل ما للأديب المتوفى وما عليه، وإنه ليكفيني من هذه الكلمة
العجلى، خصوصاً ودموع المحزونين ما زالت تترقرق في مآقيهم، أن أقول: إن بين دفتي كل
عدد من أعداد "المجلة الجديدة" التي كان يصدرها سلامة موسى، صفحة في إطار مزخرف
يلفت النظر، فيها حملة غير بريئة، بل خبيثة شريرة، بأسلوب خلو من اللين، بل ناريٌّ
مسموم، وبروح بعيد عن الحب والسلام، بل بروح حقد وكراهية مصهورة في بوتقة صدره
المغلول، صبها لعنات رجيمة على العرب وعلى تاريخ العرب وعلى آداب العرب.
ليس لي أن أسأل رئيس تحرير المجلة: لماذا رفض نشر
كلمتي وفيها تقرير لواقع حياة كاتب قد مات، بل من حقي أن أظهر السبب وأبرز الصلة
التي تصل بين سلامة وفوزي، والقرابة الروحية التي تربطهما رباطاً وثيقاً بكراهية
العرب وتاريخهم وآدابهم.
جاء في مقدمة كتاب "سندباد عصري" لمؤلفه الدكتور حسين
فوزي الاعتراف التالي أنقله بنصه:
"درجت على حب الغرب، والإعجاب بحضارة الغرب، وقضيت
أهم أدوار التكوين من عمري في أوربا فتمكنت أواصر حبي، وتقوت دعائم إعجابي، فلما
ذهبت إلى الشرق، عدت إلى بلادي وقد استحال الحب والإعجاب إيماناً بكل ما هو غربي".
وقد لا يجد القارئ ما يستوجب مؤاخذة الدكتور فوزي وقد
استحال حبه للغرب والإعجاب بكل ما هو غربي إلى إيمان، ولكن المؤاخذة يجب أن تتحول
إلى ملام بل إلى أكثر من ذلك إذا فسرنا نحن أصدقاء الدكتور حسين فوزي معنى الحب
والإعجاب والإيمان عنده كما كنا نسمعه منه في مجالسنا، أو ذكرنا مبلغ المشادة التي
كانت تقوم بيننا، والعنف الذي يلازم أحاديثنا في تاريخ العرب وأدبهم.
لست في حاجة إلى الاستشهاد برواد المدرسة الحديثة لأن
أكثر المرائين يمشون في جنازة بغلة القاضي، خصوصاً وأن الدكتور فوزي نحي تنحية عن
وكالة الوزارة ولم تنفق بغلته بعد. ولكني أذكر حادثاً مماثلاُ أقارن فيه إيمان
الدكتور فوزي بالغرب بإيمان عجائزي مماثل تفادياً من مجابهة وكيل الوزارة.
لصديقنا الشاعر بولس غانم مزاج خاص لا يشاركه فيه
شاعر عربي قط، وذوق عجيب في كراهية شعر المتنبي، وصوت كقصف الرعد ولعنات كزخَّة
الغضب، وبروق من الحقد ينزلها ناراً مشتعلة على رأي أبي الطيب الذي ملأ الدنيا وشغل
الناس!! لماذا؟ لأن بولس غانم ينكر على المتنبي شاعريته ويرميه بالتكلف والسرقة
وفساد الذوق؟!!
فإذا سألناه ما هذه الجعجعة والهراء يا شيخ بولس؟
أجاب: إن حبي لألفريد دي موسيه، وإعجابي بفكتور هيجو ولا مارتين استحالا إلى إيمان
بكل ما هو غربي، وإنكار كل ما هو عربي، ثم جاء ضغثاً على إبالة هذا المتنبي العربي
المتأله السمج وزاد الطين بلة. يقول: وددت والله أن أكون فرنسياً لحماً ودماً اسمي
أدمون أو شارل، من أن أكون الشيخ بولس غانم الشاعر سليل "مشايخ" لبنان حتى لا أقف
جنباً إلى جنب مع المتنبي الشاعر العربي الجلف!!
وبعد، ألا ترى أن حسين فوزي وسلامة موسى يؤلفان شيئاً
وطبقة في الحب والفناء، والكراهية والبغض، والتعالي والتأبي، ويكون ثالثهم بولس
غانم؟.
نعود إلى سلامة موسى ألد أعداء العرب، والقومية
العربية، والآداب العربية، الكاتب الذي سخر قلمه لكل حزب سياسي، ولكل صاحب صحيفة من
أي لون، في الحكومة، أو داعية إلى مذهب من المذاهب الاجتماعية.
صحيح أن سلامة موسى كتب في الاشتراكية ونظرية التطور،
وحرية الفكر والثورات، ولكنها كانت كتابة "لمام" خطاف من مصادر تعنى فقط بالخبر
العلمي أو الأدبي يزود به الصحافة السيارة أو "الطيارة" . ولكن يجب أن لا ننسى أنه
من أوائل الداعين إلى التخلص من اللغة الفصحى لأنها لغة العرب لا لغة المصريين وإلى
التحلل من قواعد الرفع والنصب والخفض وإلى "الكتابة" باللغة "العمومية" كما
نتكلمها. وإلى نبذ الأساليب البلاغية، والاقتصار على الأسلوب "التلغرافي" أي خبر
وإيجاز، وكان صوته أعلى الأصوات وأقواها في الاتجاه إلى الغرب، ونبذ هذا الشرق
الموبوء بالكتب الصفراء. والرؤوس المعممة، والأدب الجنسي، والشعر النواسي، وحكايات
ألف ليلة وليلة، وكل ذخائر العرب لأنها كلها نواسية.
ألا ترى معي قرابة روحية بين الدكتور حسين فوزي
وسلامة موسى، وأن كلا الأخوين سواء في التقزز من كل ما هو عربي؟ ألا ترى أن حماسة
سلامة كانت على حساب تقويض الأدب العربي وهدمه، وعلى حساب قطع ماضينا عن مستقبلنا،
وعلى حساب التاريخ الذي يصل الأجداد بالأبناء والأحفاد، وأخيراً على حساب النشوء
الذي رسبت فيه تلك الدعاية التي ظاهرها الخير العام وباطنها يجيرنا الله من
باطنها؟؟؟
من رواسب دعايات سلامة موسى التي لا حصر لا تنحصر
لكثرتها، والتي كنت أظن أنها تتركز في قاع أدمغة بعض الناس أمثال حليم متري
وأنداده، ولا تقرب أبداً أدمغة خريجي دار العلوم والقضاء الشرعي، ولكن خاب ظني
لأنها تسربت ويا للأسف إلى أذهان بعض الأزهريين ـ لست أقصد بالأزهريين طلاب معاهد
الأزهر ـ بل أصحاب العقول الجامدة التي تعيش على الذكاء الفطري، كأن الذكاء وحده هو
العدة الكاملة للكاتب. فقد نشر واحد من هؤلاء الأزهريين الأذكياء فصلاً في صحيفة
الجمهورية يوازن بين أبي عثمان الجاحظ وبين سلامة موسى!! أي والله بين الجاحظ
وسلامة موسى!
أتدري أيها القارئ من هو ذلك الأزهري الذي وازن بين
السيف والعصا والثرى والثريا والأصل والنقل؟ قد يسرك أن تعلم أن ذلك الذي أسميته
الأزهري هو الأستاذ الضخم مصطفى كامل الشناوي الكاتب المتأنق، هو هو بقضه وقضيضه
وشحمه ولحمه، وقد عقد المقارنة بين الجاحظ الحي الخالد وبين سلامة موسى الذي مات
وانتهى، وقد أقامها، على الأسس التالية:
1- كانت أمنية سلامة أن يموت كما مات الجاحظ على صدره
كتاب، وقد تمت أمنيته.
2 ـ أن يعيش إلى التسعين كما عمِّر الجاحظ تسعين
عاماً ولكن أمنيته هذه لم تتحقق وقد مات في الثانية والسبعين.
3- وإن الجاحظ كان ينقل اللهجة العامية كما هي
بأخطائها النحوية، كذلك كان سلامة موسى يرى استعمال اللهجة الطبيعية التي يفهمها
سواد الناس.
4 ـ ومن وجوه الشبه بين الاثنين كما يقول الشناوي أن
كليهما جاوزا مرحلة الشيخوخة، وكليهما مات وهو يقرأ، وأن كليهما كان معنياً بالعلوم
والمعارف والثقافة الشاملة والنظرة النافذة بحدة وعمق إلى صميم المشكلات
الفكرية!!!.
5ـ وأن سلامة كان كالجاحظ صاحب أسلوب خاص في الكتابة
هدفه الوضوح. أما الجاحظ فقد كان صاحب فرقة من المعتزلة يميل إلى الإسهاب. وقد ألف
كتاب الحيوان ويقع في سبعة أجزاء، والبيان والتبيين، والبخلاء وكذلك كتب سلامة في
نظرية التطور وحرية الفكر والثورات والأدب الشعبي.
6 ـ وأن الجاحظ مات دون أن يتمكن من أن يقول كل ما
عنده، كذلك سلامة مات دون أن ينشر اعترافاته.
على هذه الدعائم المتهادية بنى " أبودرش"مقارنته
العبقرية التي أراد بها الجمع بين الحياة والموت والخلود والعدم، أي بين الجاحظ
وسلامة، وهو يهيب بورثته نشر اعترافات فقيدهم التي لا بد أن تكون جريئة، في حين لو
سأل الأستاذ الشناوي أي عضو في جمعية "الواي" أي الشبان المسيحيين لأعاد على مسمعه
تعاليم سلامة موسى وواصاياه في الإلحاد والشيوعية والدعوة السافرة إلى كل ما هو
غربي وإلى الفناء في حب كل ما هو من الغرب.
كلنا نعرف سير وليم ولكوكس المهندس الانجليزي
والاستعماري الأصيل، ومما عرفناه عنه أنه استأجر ضمائر، أي أقلام أربعة من كتاب مصر
وسورية ولبنان وسخرها للكتابة بالعامية الدارجة واللهجة الإقليمية. وقد سبق لهذا
الاستعماري الأشر طبع الأناجيل الأربعة باللهجة العامية وهي متداولة اليوم بين
أبناء الطائفة القبطية بمصر فقط.
ومن الذرائع التي تذرع بها ولكوكس إلى تعميم اللهجة
العامية ونشرها بين أبناء الطائفة أن استعان بالأستاذين سلامة موسى وناصيف
المنقبادي على وضع تسابيح وأدعية وابتهالات وتضرعات يتضرع أبناء الطائفة بها إلى
الله، وقد وضع "أبونا" سلامة كما قال لي زميله ناصيف المنقبادي الأدعية التالية
وهذا بعضها:
"يا رب أنت الوابور وحَنْا العربيات جرّنا بقدرتك
الإلهية إلى ملكوت السماء"
"يا رب أنت الحنفية وحنا الجرادل املأنا من نعمتك"
وإلى أمثال هذه الأدعية التي يناقر بها القبطي
الأرثوذكسي أخاه القبطي البروتستانتي أو يتندر ويتفكه.
عرفنا الكاتب المأجور الأول، ووقفنا على كل ما نشره
في الفرعونية والمصرولوجية، وفي الكتَّاب الشاميين الذين يمثلون بؤرة الرجعية
والتعصب للعرب، وقد خصَّ بؤرة ثلاثية يمثلها الشيخ رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان
والأستاذ محب الدين الخطيب بحملات متواصلة من السباب "السلامي" والشتائم "الموسوية"
كما عرفنا المأجور الثاني ناصيف المنقبادي وقد كان هذا أبعد إيغالاً في العامية
ويسميها لغة مصر العمومية. بقي أن نعرف زميليهما في لبنان وسورية.
جاء في الجزء الثاني من كتاب "الأدب الحديث" لمؤلفه
المؤرخ الهمام الأستاذ عمر الدسوقي ما نصه: " ثم جاء اسكندر معلوف من سوريا ـ وصحة
الاسم عيسى اسكندر المعلوف من لبنان وليس من سوريا ـ وحاول بمقال نشر بمجلة الهلال
بتاريخ 15 مارس 1902، هلال جرجي زيدان المؤرخ العربي، حاول أن يوهم الجمهور المصري
بأن من أهم أسباب تأخره في الحقيقة هو تمسكه باللغة العربية الفصحى، وعجب من تمسك
المصريين بها مع أن الفرس والهنود والأتراك مسلمون، وهم لا يستخدمون العربية، واحتج
بأن الحكومة المصرية قد تركتها في مدارسها وأحلت محلها اللغة الانجليزية، وقد أثنى
عليها ثناءً مستطاباً لإقدامها على هذه الخطوة. ورأى أن الخطوة الثانية التي يجب أن
يخطوها المصريون هي أن تدع هذه الصحف والمجلات هذه اللغة وتكتب باللغة العامية، حتى
يفيد العامة وجمهرة الشعب لما تكتب، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة ثالثة وهي تدوين العلوم
والآداب باللغة العامية، وبذلك يستطيع الشعب كله أن يحصل العلم بسهولة ويسر، وأهاب
بالكتاب المصريين والعلماء أن يخطوا هذه الخطوات في سبيل رقي بلادهم".
أما المأجور الرابع فهو شيخ مولوي من دمشق يُدعى عارف
الهبل، ليس من سمات الشيوخ سوى لبدة طويلة ورداء كالعباءة "كلوش" كان أصدر بدمشق
صحيفة أسبوعية اسماها "حط بالخرج" وقد تولى تحريرها بدمشق فخري البارودي باللهجة
الدمشقية، وكان الأستاذ البارودي يغرق في تحوير الكلمات وتصحيفها وإدماج بعضها
بالبعض الآخر بغية إبراز الروح المحلي كما هو مثلاً عند الحوراني والميداني
والحلبي، ثم آل أمر هذه الصحيفة إدارة وتحريراً إلى الأستاذ خير الدين الرزكلي مؤلف
كتاب "الأعلام، وعامان في عمان، وما رأيت وما سمعت" ولم تعش طويلاً فقد مجَّها
الذوق الدمشقي ونبذها القراء وانصرف الزركلي عنها إلى التجارة، وقد أنقذه من بيع
الجير والمسامير ولوازم البناء الأمير شكيب أرسلان ومحمد كرد علي وألحقاه بركاب
جمال باشا: ينشد فيه الشعر وينظم المعلقات في مدح معلق أحرار سورية ولبنان على
أعواد المشانق بدمشق وبيروت والذي أمات أكثر سكان جبال لبنان جوعاً، ومن قول
الأستاذ الزركلي في جمال باشا السفاح قصيدة من روائع شعره يخاطب فيها أهل سورية:
احنوا الرؤوس واخفضوا الهامات هذا جمال مفرِّج
الكربات
هؤلاء هم أقطاب العامية وعمَّالها، وهذا هو سلامة
الذي مات وقد مات حقاً وأراح واستراح.
أزعم أن دعوة وليم ولكوكس أثمرت بعض الثمر في مصر عن
يد المعلمين سلامة موسى وناصيف المنقبادي، وإن ساقها ما كاد يمتد في سورية ويرتفع
قليلاً حتى ذوى ومات، بموت عارف الهبل، وانزواء فخري البارودي، وانصراف الرزكلي
ولياذه بالهاشميين ثم بالسعوديين، أما في لبنان فمابرح "القوَّالون، والقرادّون
والمعنيّون" يغذّون السير في هذا الدرب العامي المبلبل، لا بإيحاء مباشر من بعض
المستعمرين وسفراء الدول الأجنبية فحسب بل بتشجيع من بعض أساتذة الجامعتين
الأمريكية واليسوعية، وبتحريض سافر من الشاعر الرمزي سعيد عقل بدعوى أن هذا الضرب
من القول السوقي يمثل المزاج اللبناني المفطور على حب الشعر وقول المعنيَّ
والقرّادي والزجل المحلي والنقر على الدف.
ويبدو لي أيضاً أن نكوث الأستاذ محمود تيمور على
عقبيه، ورجوع الأستاذ توفيق الحكيم عن الكتابة العامية، والحملات المتتالية التي
يشنها الأصلاء في الأدب على الكتاب المتحمسين للهجة العامية، والهمهمة التي أخذنا
نسمعها آتية من القطاع الشمالي للجمهورية العربية المتحدة الذي لا يستسيغ أهله سوى
الرصين من القول المهذب سوف يرغم يوسف إدريس، وإبراهيم المصري، وعبدالحليم، وأنيس
منصور، وعبدالقدووس، ويوسف السباعي، وسواهم ممن هم على شاكلتهم على الإقلاع عن
المشي مستندين على عكاكيز من العامية السوقية، كما سترغم مصلحة الإذاعة أيضاً على
التزام اللغة السليمة كما يكتبها أكثر رؤساء تحرير الصحف أو كما يتحدث بها الأدباء
في مجالسهم وندواتهم. أجل سوف تُرغَم مصلحة الإذاعة إن آجلاً أو عاجلاً على التزام
اللغة العربية السليمة من اللحن لأنها تسمع في جميع الأقطار العربية التي تقدس
القرآن، وتمجد لغة القرآن، وتفهم روح القرآن.
إن زبد موسى وعيسى والهبل سيذهب جفاء، وكذلك عامية تيمور والحكيم ومن تأثر بهم
تذهب مع الريح، وأيضاً سيذهب في عالم النسيان المعلم موسى ولا يبقى لذكره أثر إلا
في كتاب "الأعلام" للزركلي "بانتيون" الأموات هذا إذا أضاف إلى المجلد العاشر
مجلداً آخر. وأزعم أن لو تضافر الأساتذة حليم متري والملاخ وبقطر وفام وبقية كتاب
الطائفة مع الأستاذ وديع فلسطين واشترك معهم الشاعر الضخم الشيخ مصطفى كامل الشناوي
وأصدروا في كل أسبوع كتاباً جديداً في مناقب معلمهم سلامة موسى لما استطاعوا
الإبقاء على أدبه الذي مات ودفن معه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق