الاثنين، 3 نوفمبر 2014

بائع خبز فقيه !

بائع خبز فقيه !
بقلم :محمد بن عبد الله آل شاكر
رأيته وهو يحمل عبء السبعين من السنين ، تزينه لحية بيضاء ، وابتسامة
لطيفة ، يلقاك بها وأنت تشتري منه الخبز في واحد من مخابز بلدنا الحبيب ، ولما
دخلت عليه في إحدى الليالي ، بعد صلاة التراويح بادرني بالسؤال : ما رأيك في
القراءة من المصحف في الصلاة ؟ وكان يقصد صلاة التراويح في رمضان .
وقد وقع في ظني أنه تفقّه على مذهب الإمام أبي حنيفة (رحمه الله) كغالبية
أهل موطنه (أفغانستان) فقلت له : صلاته تامة ؛ لأن القراءة عبادة انضمت إلى
عبادة أخرى هي الصلاة ، والعبادة لا تفسد الصلاة ، وهو قول أبي يوسف ومحمد
بن الحسن .
فأجابني : ولكن شيخهما (أبا حنيفة) يخالفهما في ذلك ؛ وكأنه بهذا الكلام يشير
إلى ترجيح رأي الإمام في فساد هذه الصلاة لما فيها من تشبّه بأهل الكتاب ، إذ
الفتوى على قول أبي حنيفة في المذهب سواء أَوَافَقَهُ أحد أصحابه أم لم يوافقه .
ثم مدّ يده إلى كتاب ضخم ، فإذا هو جزء من (فتح القدير) للكمال بن الهمام
شرح (الهداية) للمرغيناني الحنفي ، بطبعة حجرية هندية دقيقة ، وعليها حواشٍ لا
يصبر على القراءة فيها وبين سطورها المتعرجة والمائلة إلا أولو العزم من طلبة
العلم ، وفتح الكتاب ليقرأ لي نصّاً فيه ذلك الحكم ، فعجبتُ والله لهذا الفقه الدقيق
عند بائع الخبز الطاعن في السن ، وزادني هذا حبّاً له وإكباراً ، ولكن عجبي ازداد
أكثر عندما فتح كتاباً آخر بجانب منضدته (بل هو ثلاثة كتب في كتاب : متن ،
وشرح ، وحاشية ! ! ) ، واسمه (قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار) لكي
يؤيد ما ذهب إليه من الفقه بقاعدة من الأصول ! .
وعندئذ أصابتني حالة من الذهول والشرود ، عدتُ بعدها إلى انتباهي وقد
ارتسمت أمام ناظريّ صورة عدد من الطلبة في إحدى الجامعات ، وقد أهدتهم الكلية
التي ينتسبون إليها مجموعة من الكتب والمصادرالعلمية ، تشجيعاً لهم وحفزاً لهممهم ،
وتعزيزاً لتفوقهم ، وبين هذه الكتب ( فتح القدير ) نفسه ، ولكن بطبعة جميلة
واضحة ، وهم يريدون أن يستبدلوا به كتاباً آخر ، متسائلين عن فائدته
وموضوعه !!.
أما الكتاب الآخر ، وهو (قمر الأقمار ... ) فهو شرح العلامة محمد بن عبد
الحي على (نور الأنوار) لِمُلا جَيّون ، وهذا شرح (للمنار) للنّسفي ، فقد قفز إلى
ذهني سؤالٌ حياله : كم من أساتذتنا وطلابنا المتخصصين قد سمع بالكتاب ومؤلّفه ،
أو اكتحلت أعينهم بمرآه ، بَلْه القراءة فيه والرجوع إليه ؟ .
ما أظن أنّ حالفاً يحنث لو حلف بأنّ كثيراً منهم لم يسمع بهذا الكتاب ، ولم
يره من باب أولى ! ، تُرى ما الذي يشغل كثيراً منا ومن طلاب العلم ؟ وما مدى
اهتمامهم بما نذروا أنفسهم له ؟ أم أن الاهتمام بالرصيد ومتابعة الأسعار وتقلّباتها
زاحمت اهتماماتهم العلمية ونموّهم التربوي المهني ؟ أسأل الله لي ولهم الهداية
والتوفيق ، وأن يردّنا إلى ما نكون به خير أمة [*]  .
________________________
(*) مسألة حمل الإمام للمصحف للقراءة في الصلاة فيها خلاف بين أهل العلم ، واختار بعض
المحققين جواز ذلك ، فإذا كان الإمام لم يحفظ ، أو كان حفظه ضعيفاً وقراءته في المصحف أنفع
للناس وأنفع له ، فلا بأس بذلك ، وقد أورد البخاري (رحمه الله) تعليقاً في صحيحه عن عائشة
(رضي الله عنها) أن مولاها (ذكوان) كان يصلي بها في الليل من المصحف ، والله أعلم
- البيان - .

(( مجلة البيان ـ العدد [‌ 98 ] صــ ‌ 111     شوال 1416  ـ  مارس 1996 ))


حقيقة التوجه الإسلامي في شعر هاشم الرفاعي


حقيقة التوجه الإسلامي في شعر هاشم الرفاعي
 
عبدالآخر حماد الغنيمي

هاشم الرفاعي شاعر مُجيد هزت قصائده مشاعر أبناء الحركة الإسلامية والمهتمين بالأدب الراقي الملتزم في مصر وغيرها، وكان الشباب يتغنون بها في محنهم وخطوبهم، ومن أشهر قصائده تلك الرائعة المسماة "رسالة في ليلة التنفيذ"، والتي نظمها على هيئة رسالة من سجين لأبيه في ليلة تنفيذ حكم الإعدام فيه والتي مطلعها:
 

 
أبتاه ماذا قد يخط بناني   والحبل والجلاد منتظران
 
هذا الكتاب إليك من زنزانة   مقرورة صخرية الجدران
 
لم تبقَ إلا ليلة أحيا بها   وأحس أن ظلامها أكفاني
 

ومن روائعه أيضاً قصيدة شباب الإسلام والتي مطلعها:
 


 
ملكنا هذه الدنيا القرونا   وأخضعها جدود خالدونا
 
وسطرنا صحائف من ضياء   فما نسي الزمان ولا نسينا
 

ومن أجل هذه القصائد التي تعبر عن هموم الحركة الإسلامية، وتعد جزءاً من أدبياتها، فإن الكثيرين في الأوساط الإسلامية لا يعرفون عن هاشم الرفاعي رحمه الله إلا هذا الجانب الإسلامي من شعره، حتى إن بعضهم ظن أنه قد حكم عليه بالإعدام لتوجهاته الإسلامية، وأنه قد كتب قصيدته "رسالة في ليلة التنفيذ" وهو في زنزانته في الليلة التي سبقت تنفيذ حكم الإعدام فيه؛وممن وقع في هذا الوهمِ الأستاذُ مصطفى مشهور رحمه الله؛حيث ذكر ذلك في كتابه: قضية الظلم في ضوء الكتاب والسنة (1) .

والحقيقة أنه قد كانت لهاشم الرفاعي بعض المواقف التي أوذي بسببها، إلا أن ذلك الأذى لم يصل أبداً إلى حد السجن أو الاعتقال، فضلاً عن الحكم بالإعدام، كما أنه لم ينتم يوماً إلى أي حركة إسلامية، بل يوجد في تراثه الشعري قصائد عدة يظهر فيها تأييده لثورة الثالث والعشرين من يوليو، ومن بينها مديح للرئيس السابق جمال عبد الناصر وغيره من قادة الثورة، وهو ما يحمل الباحث على التأني قبل إصدار حكم قاطع حول حقيقة توجهات هاشم الرفاعي رحمه الله، ومن أجل ذلك جاءت هذه الدراسة المختصرة التي نحاول فيها بعون الله استجلاء حقيقة الموقف الفكري لهذا الشاعر، وذلك من خلال شعره، ثم من خلال الإلمام قدر المستطاع بسيرته، وظروف مصر والعالم العربي في الفترة التي عاشها.

أولاً: التعريف بالشاعر (2):

هو السيد بن جامع بن هاشم بن مصطفى الرفاعي، ينتهي نسبه إلى الشيخ أحمد الرفاعي الذي تنسب إليه الطريقة الرفاعية، وقد اشتهر باسم جده هاشم الرفاعي، ولد في قرية أنشاص الرمل في محافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية، لأسرة توارثت ريادة الطريقة الرفاعية، وكان مولده في منتصف مارس عام 1935م.

حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم التحق بالتعليم المدرسي العام، ثم بمعهد الزقازيق الديني في العام 1947م، وتخرج منه عام 1956، وكانت الفترة التي قضاها بمعهد الزقازيق ذات أثر كبير في إبراز معالم شخصيته، حيث كانت حافلة بالأحداث التي سبقت ثورة يوليو 1952، ثم شهدت قيام الثورة وما تلاها من أحداث وفيها بدأت تتفتح موهبته وتظهر شاعريته، ثم التحق بكلية دار العلوم بالقاهرة، وفيي عام 1957 كان على موعد مع أول خطوة في سبيل نباهة الذكر والالتفات إلى شعره؛حيث كان لقاؤه بالضابط كمال الدين حسين (3) على إثر قصيدة ألقاها في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة بعنوان "في ذكرى الرافعي"، حيث استدعاه بعد الحفل، وهنأه وأبدى إعجابه بشعره، ثم توثقت صلته به، وبدأ الوزير في الاهتمام به وإفساح المجال أمامه، وتقديمه في كثير من المحافل الأدبية.

وقبل تخرجه من كلية دار العلوم وفي مساء الأربعاء الأول من شهر يوليو 1959م، قُتل الشاعر هاشم الرفاعي وهو في الرابعة والعشرين من عمره، على إثر مشادة حدثت في قريته، بسبب خلاف على إدارة النادي الرياضي بالقرية .

ثانياً: الاختلاف حول شعره:

لقد كان الرأي الذي أشرنا إليه - والذي يرى في هاشم الرفاعي شاعراً من شعراء الحركة الإسلامية - مقابلاً لرأي آخر ساد فترة من الزمن، لا يرى في هاشم الرفاعي إلا واحداً من أبناء ثورة يوليو المتغنين بأمجادها، بل والمعادين للحركة الإسلامية التي كانت مناوئة للثورة وهي جماعة الإخوان المسلمين .

وهذا الرأي هو الذي كان يتبناه الإعلام الرسمي في الفترة التي اشتهر فيها هاشم الرفاعي وبعد وفاته، وكان ممن نصر هذا الرأي وحاول تأييده بكل السبل محمد كامل حتة، الذي قام بتكليفٍ من كمال الدين حسين بتحقيق ديوان هاشم الرفاعي والإشراف على طبعه لأول مرة في عام 1960م؛ حيث قام بالتصرف في بعض قصائد الديوان بحيث صار لا يظهر منه إلا الوجه المؤيد للثورة ورجالها، حتى إنه أشار إلى أن مصرعه كان على يدي أفراد من جماعة الإخوان المسلمين.

لكن الديوان قد طبع للمرة الثانية في عام 1980 بتحقيق الأستاذ محمد حسن بريغش، الذي حاول أن يصحح ما رأى أن المحقق السابق قد وقع فيه من أخطاء، لكنه قام أيضاً - كما يقول شقيق الشاعر - بصبغ الديوان وتطويع قصائده إلى ما يؤمن به من أفكار؛ حيث اعتبره شاعراً معارضاً لحكم عبد الناصر، وذكر أن اغتياله تم على أيدي الشيوعيين وبتحريض من رجال المخابرات المصرية (4).

ومن أجل ذلك رأى عبد الرحيم جامع الرفاعي - شقيق الشاعر - أن يقوم بنفسه بتحقيق ديوان أخيه، وقد قدم له بمقدمة ضافية فيها تعريف بالشاعر وتتبُّعٍ لمساره الشعري، كما حاول من خلال تحقيقه للديوان أن يوضح بعض آراء الشاعر وتوجهاته، وقد كان رأيه بالنسبة لموضوع بحثنا أن هاشماً لم يكن بوقاً للثورة، ولكنه في نفس الوقت لم يكن يمثل اتجاهاً إسلامياً معيناً، وأنه انضم إلى حزب الوفد قبل الثورة، لكنه بعد الثورة لم ينضم إلى أي تنظيم سياسي أوديني، بل عاش مستقل الرأي يؤيد الثورة وينتقدها، ويؤيد التيار الإسلامي وينتقده أيضاً على حسب رؤيته الشخصية، وأنه اهتم بقضايا وطنه في إطار من العروبة والإسلام، كما اهتم بقضايا الأوطان العربية والإسلامية (5) .

كما أوضح أن مقتل الشاعر لم يكن له أي بعد سياسي، وأنه لا الإخوان المسلمون ولا الشيوعيون ولا أجهزة المخابرات لهم علاقة بمقتله، وأنه إنما قتل بسبب خلاف على بعض شؤون النادي الرياضي بقريته، حيث تحول النقاش إلى مشادة كلامية ثم إلى تشابك بالأيدي، حيث طعنه أحدهم عدة طعنات نقل على إثرها لمستشفى بلبيس المركزي حيث فارق الحياة وسط ذهول أهل القرية (6).

ثالثاً: أسباب هذا الاختلاف:

من أهم أسباب هذا الاختلاف - أو على الأقل من المبررات التي يعتمد عليها كل طرف في تأييد قوله - وجود قصائد للشاعر تحمل فيما بينها قدراً كبيراً من التناقض والاختلاف؛ سواء في موقفه من الثورة ورجالها أو في موقفه من جماعة الإخوان المسلمين، أو حتى في موقفه من الملك فاروق قبل قيام ثورة يوليو .

وأرى من المناسب هنا أن أورد بعضاً من هذا التناقض الذي أشرت إليه (7):

1) موقفه من الملك فاروق:

فمن أشعاره في مدح الملك فاروق قوله في قصيدة "عودة الأبطال" التي نظمها في مارس/آذار 1949 بمناسبة عودة الكتيبة المصرية التي كانت محاصَرَةً بالفالوجة خلال حرب فلسطين:
 


 
رعى الفاروقَ ربُ العرش إنا   لنرجو دائماً ألا يضاما
 

ومن أشعاره في نقده قوله في قصيدة "عقيدة" التي نظمها في يوليو/تموز 1949:
 


 
يا فتية النيل المجد إننا   نأبى ونرفض أن نساق قطيعا
 
هذا "ابن نازلي" للهلاك يقودنا   جهراً ويلقى في البلاد مطيعا
 

ونازلي هي أم الملك فاروق كما هو معروف .

2) موقفه من ثورة يوليو:

أما أشعاره في النقد الصريح لثورة يوليو وقادتها فهي عشر قصائد سماها جراح مصر، ومن تلك القصائد قصيدة "مصر بين احتلالين" التي نظمها في أكتوبر تشرين أول 1954م، وهو يرى فيها أنه لا فائدة من رحيل الاستعمار البريطاني مع بقاء الظلم الواقع من رجال الثورة وفي ذلك يقول:
 


 
قالوا الجلاء فقلت حلم خيال   لا تطمعوا في نيل الاستقلال
 
ليس الجلاء رحيل جيش غاصب   إن الجلاءَ تحطُّمُ الأغلال
 
إن يترك الوادي الدخيلُ فإننا   نحيا بمصر فريسة الإذلال
 
ما كان هذا الأجنبي ببالغ   في البطش مبلغ سالم وجمال
 

وهو يقصد بسالم صلاح سالم أحد قادة الثورة، ويقصد بجمال جمال عبد الناصر .

ومن تلك القصائد قصيدة جلاد مصر التي نظمها في مارس/آذار 1955م والتي يخاطب فيها جمال عبد الناصر قائلاً:
 


 
جلادَ مصر ويا كبير بغاتها   مهلاً فأيام الخلاص دواني
 
من أي غاب قد أتيت بشرعة   ما إن يساس بها سوى الحيوان
 
وبأي قانون حكمت فلم تدع   شيئاً لطاغية مدى الأزمان
 

إلى أن يقول:
 


 
لو كان عهدك قبل عهد محمد   للعنت يا فرعون في القرآن
 

ومنها قصيدته؛ "جمال يعود من باندونج" التي كتبها بمناسبة عودة عبد الناصر من مؤتمر باندونج بأندونيسيا في مايو/آيار 1955م، والتي يعترض فيها على الحفاوة البالغة التي استقبل بها جمال عبد الناصر لدى عودته، ويقول:
 


 
من ذلك الصنديد رددت اسمه   هذي الألوف وقلدته وساما؟
 
أو ليس من فاق الطغاة ضراوة   وأحل من حر الدماء حراما
 
أو ليس من صب البلاء مضاعفاً   وأثار للرعب البغيض قتاما
 

وأما أشعاره في مدح الثورة وقادتها فمنها قصيدة بعنوان في عيد الوحدة ألقاها في ذكرى وحدة مصر وسوريا عام 1959، وفيها يقول مخاطباً عبد الناصر:
 


 
أرى من أمتي جيلا   يسوق الحب إكليلا
 
مشى في ركبه بردى   وجاء يعانق النيلا
 
وحيا في مواكبه   زعيماً كان مأمولا
 
وما علقت أمانيه   بأكرم منك مسؤولا
 

ثم يقول:
 


 
جموع أنت باعثها   وشعب حولك التفا
 
سعت للخلد في واد   كروض بالمنى رفا
 
رأيتهمو وقد وقفوا   وراءك كلهم صفا
 
شباب إن تصافحه   يصافح للعلا كفا
 

ويقول من قصيدة شعب وقائد التي ألقاها في حفل أقامه الاتحاد القومي في يونيه/حزيران 1959 بمناسبة عيد الجلاء:
 


 
هذي حكاية أمتي في ثورة   أهدت إليها صانعاً موهوبا
 
لم يحيي شعباً واحداً لكنما   أحيا الإله على يديه شعوباً
 

ويقول من قصيدة ألقاها بين يدي أنور السادات في نوفمبر 1954:
 


 
يا قاضياً بالحق فيمن أفسدوا   حكماً لنا في سالف السنوات
 
يمناك كم وضعت غداةَ وُثُوبِكم   في صرح وادي النيل من لبنات
 
أنا لست أنسى يوم ثورة جيشنا   صوتاً قوياً صادق النبرات
 
قد رن في المذياع صوتك حاملاً   بشرى بعهد دافق الحسنات
 

وهو يشير في البيت الأخير إلى كون السادات هو الذي أذاع بيان قيام الثورة صبيحة الثالث والعشرين من يوليو 1952م .

3) موقفه من جماعة الإخوان المسلمين:

من أشعاره في الثناء على دعوة الإخوان قوله في قصيدة مصر الجريحة التي كتبها في يوليو/تموز 1951م:
 


 
فهناك جند قام يسعى جاهداً   في الدين يقتلع الفساد وينزع
 
الله أكبر في الحياة نداؤه   يمشي بها نحو الخلود ويسرع
 
لله در القوم إنَّ نفوسهم   لتشع بالحق اليقين وتنبع
 
سُلَّت سيوف البغي فوق رؤوسهم   وأمضهم كأس العذاب المترَع
 
فتحملوا ألم الأذى ببسالة   وبهمة قعساء لا تتضعضع
 

فهو في هذه الأبيات يقصد جماعة الإخوان المسلمين فهم الذين شعارهم الله أكبر ولله الحمد، ويشير إلى ما نالهم من الأذى على يد حكومات ما قبل الثورة، ومما يؤكد ذلك أنه قد أرسل هذه القصيدة، إلى "مجلة الدعوة" - مجلة الإخوان المسلمين - ومعها رسالة، يثني فيها على الأستاذ البنا رحمه الله، ثم يقول: (سيدي هذه قصيدتي مصر الجريحة أرسلها إليكم راجياً التفضل بنشرها؛ فهي ليست إلا صدى لتلك الصيحة المدوية التي أرسلها الإمام الشهيد، وتلك الفتنة العمياء التي اصطلى بنارها جنود الإخوان في عهد الظلم والطغيان) (8).

ومن أشعاره في نقد دعوة الإخوان قصيدة بعنوان "دعوة الجيب" نظمها في سبتمبر 1952م يقول فيها:
 


 
رهط من الأطفال والصبيان   قالوا عليهم شعبةُ الإخوان
 
منهم من احترف القيام ببدعة   عند اشتداد الجوع والحرمان
 
فتراه جاء بخدعة مفضوحة   يسعى لنيل الأصفر الرنان
 
جمعوا لها مالاً وقالوا للهدى   فإذا به قد راح للشيطان
 

وهذه القصيدة على وجه الخصوص قد تأولها محققو ديوانه في طبعاته الثلاث تأويلات مختلفة متباينة، بحسب ما يراه كل منهم في الشاعر؛فأما محمد كامل حتة فقد احتفى بتلك القصيدة احتفاء كبيراً، وجعل عنوانها "حق يراد به باطل"، واتخذها دليلاً على عداء الشاعر لحركة الإخوان، بينما رأى الأستاذ محمد حسن بريغش أن سبب هذه القصيدة أن هاشماً - وهو شاعر البلدة وابن شيخ الطريقة الرفاعية بها - رأى في وجود شعبة الإخوان خطراً عليه وعلى طريقته الصوفية فهاجمها هذا الهجوم الشديد، في حين يرى أخوه عبد الرحيم جامع أن كلا القولين غير صحيح، وأن سبب هذه القصيدة أن بعض أعضاء شعبة الإخوان قد تهجموا على النادي الرياضي الذي أنشأه الشاعر في بلدته، فنظم تلك القصيدة رداً عليهم وهو يهاجم أشخاصاً بعينهم، ولا يهاجم مبادئ الدعوة (9).

ولا شك أنه لا دليل على ما ذكره بريغش من أن مهاجمة الشاعر لشعبة الإخوان، كانت من أجل الخوف على مكانته ومكانة أسرته وطريقته الصوفية، كما أن ما ذكره محمد كامل حتة من عداء الشاعر لحركة الإخوان يرده ما سبق من مدحه لهم، وثنائه على الأستاذ البنا رحمه الله، غير أن ما ذكره شقيق الشاعر من أن نقد الشاعر كان موجهاً فقط لأشخاص بعينهم، هو قول أيضاً - في رأينا - غير سديد؛ إذ يرده أن الشاعر قد تعرض لجماعة الإخوان نفسها في أبيات أخر من نفس القصيدة، حيث يقول:
 


 
تلك الجماعة قد تنبأنا لها   بالهدم يوم إقامة البنيان
 
إنا وجدنا القائمين بأمرها   شر الدعاة وأضعف الأعوان
 
فإذا تناهى الضعف بين جماعة   ذاق الجميع مرارة الخذلان
 

رابعاً: مسلك الفريقين في دفع هذا التضارب:

أمام هذا التناقض كان على كل طرف أن يجيب عن القصائد المخالفة لرأيه، فأما المحقق الأول لديوان هاشم الرفاعي - وهو كما أسلفنا محمد كامل حتة - فإننا نكاد نقول إنه كان معذوراً فيما ذهب إليه من كون الشاعر مؤمناً بفكر الثورة معادياً لجماعة الإخوان المسلمين، وذلك أنه وإن كان قد تصرف في بعض قصائد الديوان بما يوافق الوضع السياسي السائد في تلك الأيام، إلا أننا نكاد نجزم بأنه لم يطلع على القصائد التي ينتقد فيها الشاعر ثورة يوليو وقادتها، وذلك لسبب يسير هو أنه إنما تسلم قصائد الشاعر من إخوته بعد وفاته (10).

ولم يذكر شقيق الشاعر أنهم سلموا لمحقق الديوان تلك القصائد، والذي أراه أنه لم يكن من الممكن في ظل الظروف التي كانت سائدة وقت ذاك أن تقوم أسرة الشاعر بإبراز تلك القصائد المعادية للثورة، وتقديمها لمن ينشرها في ديوان أمَر بنشره واحدٌ من قادة تلك الثورة، بل إن الشاعر نفسه كان يحرص على إخفاء تلك القصائد، ولم يُطْلِع عليها إلا نفراً قليلاً ممن يثق بهم من أصدقائه (11).

ثم إن العودة إلى الفترة التي سبقت وفاة الشاعر، وما كان ينشر عنه وقتها لا بد أن توحي بمثل هذا الذي رآه كامل حتة، فقد كان الواضح من حال الشاعر أنه من المقربين من رجال الحكم؛حتى إنه ألقى قبل وفاته ببضعة أشهر قصيدة في مناسبة ما كان يسمى بعيد الوحدة بين يدي الرئيس حمال عبد الناصر وضيفه الرئيس اليوغسلافي تيتو، وقد أذيعت من الإذاعة المصرية على الهواء مباشرة، ثم تقدم الشاعر بعد إلقاء قصيدته لمصافحة عبد الناصر الذي شد على يده بقوة قائلاً: (لا فض فوك) (12).

وقد كان الشاعر كما أسلفنا من المقربين لوزير التربية والتعليم كمال الدين حسين، وقد نشرت جريدة الجمهورية خبر وفاته تحت عنوان "اغتيال الطالب المثالي للجمهورية العربية المتحدة"، وذكرت في تفاصيل الخبر أن وزارة التربية والتعليم كانت قد قررت تدريس قصيدتين من قصائده على طلبة المدارس رغم أنه لا يزال طالباً، وأن وزير التربية والتعليم قد اختاره مندوباً عن الشباب في مؤتمر الشعر الذي عقد في الإقليم الشمالي (13)، كما ذكرت الصحيفة أن شقيق الشاعر قد أبلغ سعيد العريان - الوكيل المساعد لوزارة التربية والتعليم - هاتفياً بنبأ مصرع الشاعر فلم يصدق الخبر، وصرخ في شقيقه قائلاً: (أنت كذاب)، ثم بكى وألقى بسماعة الهاتف من يده (14).

أما بعد وفاته فقد دعا المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب برئاسة كمال الدين حسين إلى حفل لتأبينه، وكان من المتحدثين في ذلك الحفل كمال الدين حسن، والكاتب يوسف السباعي الذي كان سكرتيراً للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وبعض أساتذة الشاعر في كلية دار العلوم (15).

فهذا كله مما يستند إليه من ذهب إلى أن هاشماً الرفاعي كان شاعراً وطنياً من المدافعين عن ثورة يوليو ورجالها .

مسلك الفريق الثاني:

أما من يرون في هاشم الرفاعي شاعراً إسلامياً معبراً عن هموم الحركة الإسلامية معارضاً لثورة يوليو، فلا شك أنهم يعتمدون على ما سلفت الإشارة إليه من القصائد التي تنتقد جمال عبد الناصر ومن معه، كما يعتمدون على الحس الإسلامي الذي يظهر في كثير من قصائد الشاعر، وفي ذلك يقول الأستاذ مجدي الشهاوي: ( وللذين يحلو لهم دائماً أن يرددوا أن هاشم الرفاعي كان صوتاً من أصوات الثورة، ولساناً من ألسنة جمال عبد الناصر، لهؤلاء نقول؛ لقد قدمنا للمكتبة العربية بعون الله تبارك وتعالى وتوفيقه الديوان الممنوع: جراح مصر - القصائد العشر - للشاعر رحمه الله، وهذه القصائد من أفضل وأجمل وأصدق ما كتبه الشاعر من شعر المعاناة، والتي تتناول حكم الثورة ورجالها، وأقرءوا معي قوله لعبد الناصر:
 


 
لو كان عهدك قبل عهد محمد   للعنت يا فرعون في القرآن ) (16).
 

كما استدل الشهاوي في موضع آخر برسالة الشاعر التي أرسلها إلى "مجلة الدعوة" بعد مقتل الاستاذ البنا رحمه الله والتي سبقت الإشارة إليها (17) .

ويرى أصحاب هذا الرأي أن ما قاله الشاعر في مدح الثورة وقادتها، إنما قاله من باب التقية، أو نتيجة انبهار شديد بما كان سائداً آنذاك في أجهزة الإعلام وغيرها حول عبد الناصر ورفاقه .

ومن ذلك قول الدكتور جابر قميحة أستاذ الأدب العربي بجامعة عين شمس: ( ظلت الساحة الأدبية تتلقى لأكثر من عشرين عاماً نتاج الشاعر المبدع هاشم الرفاعي على أنه شاعر الثورة، وذلك اعتماداً على أبيات باردة يعرف القاصي والداني أنه نظمها تقية، وبعضها وقع فيه هاشم تحت هالة الإبهار الزاحف بقوة في حينه، أما شعره الحقيقي الذي يمثل موقفه الحقيقي من الثورة والثوار فلم ينشر، ولما نشر بعضه الآن انقلب السحر على الساحر، وقد توافر الآن من الإبداع الصادق لهاشم أكثر من 35 قصيدة لعل أشهرها رسالة في ليلة التنفيذ، وهي لا تحتاج إلى ناقد ومتخصص ليقرأها، وليحكم من خلال كل كلمة فيها على هوية الرفاعي الحقيقية وهي الإسلام الواضح الصحيح في أسمى صوره، وأرقى وأزهى مواقفه التعبيرية والإبداعية ) (18).

خامساً: إذن ما حقيقة الموقف الفكري للشاعر؟

لا شك - بعد ما رأينا من نقد هاشم رفاعي للثورة ورجالها - أنه لا وجه الآن لاختزال شعر هاشم الرفاعي في كونه شاعر الثورة، أو أنه أحد دعاة القومية العربية أو الوطنية المصرية، لكنا في نفس الوقت نرى أن الاكتفاء بقصائده الإسلامية وغض الطرف عما أوردنا من تمجيده للثورة ورجالها، هو مسلك غير سديد .

والقول بأن مدحه للثورة ورجالها كان من باب التقية، هو قول لا دليل عليه، والأصل مسؤولية الإنسان عما يقوله حتى يثبت بالدليل القطعي أنه إنما كان يقول ذلك عن غير اقتناع، ثم إننا نعلم أن التقية تكون حينما يجد الإنسان نفسه تحت ضغط وتهديد شديدين يجبرانه على القول بما لا يعتقد، ونحن لا نعلم من سيرة هاشم الرفاعي أنه تعرض لشيء من ذلك، وهب أنه كان هناك ما يحمله على الخوف من بطش الحاكم الظالم، أفما كان يمكنه إيثار السلامة بالسكوت عنه فلا يمدحه ولا يذمه ؟

أما ما ذكره الدكتور جابر قميحة من أن الشاعر قد وقع تحت هالة الإبهار الزاحف وقتها فإنا نراه استنتاجاً صحيحاً، لكنا لا نوافق - كما سيأتي - على أن هذا الإبهار كان مجرد عارض وقتي صرف الشاعر ظاهرياً عن فكر حقيقي كان مستقراً عنده .

كما أننا لا نوافق شقيق الشاعر في ما ذهب إليه من أن الشاعر كانت له رؤيته المستقلة بحيث كان يؤيد الثورة وينتقدها، ويؤيد التيار الإسلامي وينتقده أيضاً على حسب رؤيته الشخصية؛ وذلك أن هذا الكلام قد يصح حين يكون النقد أو المديح متعلقاً بموقف معين يريد الشاعر إبداء الرأي فيه، بينما الواضح من الأمثلة التي ذكرناها - وغيرها في ديوانه كثير - أنه كان غالباً ما يمدح مدحاً عاماً، وينتقد نقداً عاماً، فإذا نقد عبد الناصر مثلاً فهو فرعون مستحقٌ أن يلعن، وإذا مدحه فهو الزعيم الذي أحيا الله به الشعوب العربية كلها، وهذا ما يُستبَعد معه وجود رؤية مستقلة ناضجة لدى الشاعر رحمه الله .

والذي نراه أن هاشماً الرفاعي - وقد توفي في الرابعة والعشرين من عمره - فإنه ظل طيلة عمره الأدبي القصير شاباً صغيراً، قوي العاطفة سهل التأثر بما يراه ويسمعه، فربما رأى موقفاً فتأثر به، ثم رأى نقيضه فتأثر به أيضاً، ولا شك أنه يدخل في ذلك ما أحاطه به بعض رجال النظام المصري من التقديم والتكريم على صغر سنه، وهو ما دفعه للانبهار برجال الثورة وغض الطرف عن أخطائهم، ولذلك نظنه كان - والله أعلم - صادقاً مع نفسه رغم تناقضات شعره التي أشرنا إليها، فهو في كل لحظة يعبر عن مكنونات نفسه وما يدور بخلده، دون أن تتكون لديه رؤية مستقلة تنبع منها آراؤه ومواقفه .

كما أن الظاهر من حال الشاعر أنه لم تتبلور في ذهنه الفروق الجوهرية بين الدعوة للوطنية أو القومية وبين الدعوة الإسلامية الحقة التي لا ترضى بغير القرآن والسنة دستوراً للحياة، وهذا يعني في نظرنا أنه لم يكن يقصد بأشعاره أن يكون منتمياً لهذا الاتجاه أو ذاك، وإنما كان همه التعبير عما يجول بخاطره في ضوء ما يتأثر به من الوقائع والأحداث.

وعلى ذلك نقول إنه ليس من الصواب القول بأن طائفة من شعره تمثل موقفاً حقيقياً ثابتاً له، لا قصائده في مدح الثورة، ولا قصائده في نقدها، وقل مثل ذلك في مواقفه من الإخوان وغيرهم.

سادساً: استدلالات وتوضيحات:

مما يسهم في توضيح هذه الرؤية التي وصلنا إليها ما يأتي:

1) أنه بمراجعة ديوان الشاعر في طبعته التي حققها شقيقه نلاحظ أن قصائده التي يمدح فيها الثورة أكثر من الناحية العددية من تلك التي ينتقد فيها الثورة، كما أن أكثرها جاء في المرحلة الأخيرة من حياة الشاعر، حتى إن آخر قصيدة وجدت على مكتبه، ولم تكتمل كانت قصيدة كتبها ليحييِّ بها ثورة يوليو في ذكراها السابعة، ونعني بذلك أنه إن كان لا بد من ترجيح لأحد موقفيه فالأصل أن المتأخر ناسخ للمتقدم، ولكن إحسان الظن بالشاعر وما ظهر من مواقفه الإسلامية حتى في ثنايا قصائده المتأخرة، وكونه لم يؤثر عنه أنه تراجع عن شيء مما كتبه في نقد الثورة، كل ذلك يحملنا على عدم إهمال الجانب الآخر من شعره، كما يحملنا على القول بأن مدائحه للثورة لم تكن من قبيل التبني لكل أفكارها ورفض ما عداها.

2) أنه بمراجعة تاريخ كتابة القصائد التي وجه فيها نقده اللاذع للثورة ورجالها، نجد أن غالبيتها قد كتب في العام الدراسي 1954 - 1955م، وهو العام الذي شهد فصله مع مجموعة من زملائه من معهد الزقازيق الديني بسبب تنظيمهم مؤتمراً قرروا فيه الإضراب عن الدراسة حتى يستجاب لمطالبهم بعدم تقليص العلوم الشرعية واللغوية بالأزهر (19)، والمقصود هنا أن نربط بين الحالة النفسية التي كان يعيشها الشاعر خلال فترة فصله من المعهد وبين نقده للثورة ورجال الحكم، وهو ما نستنتج منه أن عداءه للثورة لم يكن عداءً مستحكماً مبنياً على اختلاف فكري بقدر ما كان مبنياً على انفعالات وقتية وتأثرات عاطفية .

3) أنه مما يوضح ما ذكرناه من عدم تبلور الفروق الجوهرية بين الدعوات الوطنية أو القومية وبين الدعوة الإسلامية لدى الشاعر، أن نعلم أن ذلك كان حال الكثيرين في مصر في تلك الفترة، وأن الدعوة إلى الفكرة القومية باعتبارها بديلاً عن الفكرة الإسلامية لم تكن منتشرة في مصر كانتشارها في بلاد الشام والعراق، على يدي أصحاب حزب البعث، الذين قال قائلهم:
 


 
آمنت بالبعث رباً لا شريك له   وبالعروبة ديناً ما له ثاني
 

أو كما قال الآخر:
 


 
سلام على كفر يوحد بيننا   وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
 

ولذلك ذكر أكرم الحوراني - أحد قادة حزب البعث السوري - في مذكراته أنه التقى بكمال الدين حسين وقت التحضير للوحدة المصرية السورية ، وأنه فوجئ بكمال الدين حسين ينتقد بشدة فكرة القومية العربية ويعتبرها مخالفة للإسلام، وتعجب الحوراني من تهجم رجل جاء ليشارك في مباحثات الوحدة على مفهوم القومية العربية.

وفي رأيي أن انتقاد كمال الدين حسين للقومية العربية لم يكن موجها لفكرة العروبة والوحدة العربية، وإنما كان نقداً لفكرة القومية العربية باعتبارها بديلاً عن الإسلام بالصورة التي أشرنا إليها قبل قليل.

4) وما دمنا قد أتينا على ذكر كمال الدين حسين، فإنه لا بد من العودة مرة أخرى إلى العلاقة الخاصة التي جمعت بينه وبين شاعرنا هاشم الرفاعي، فإننا نظن أن اتصاله بكمال الدين حسين وتأثره به قد يفسر جانباً من هذا التناقض الذي لمسناه في شعره، وذلك أن كمال الدين حسين رغم كونه واحداً من قادة ثورة يوليو إلا أنه كان يتمتع باستقلالية في التفكير، وقد اختلف مع عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ثم مع السادات بعد توليه رئاسة الجمهورية، ومن أهم ما يشار إليه في هذا المجال محاولته تقريب الأفكار التي كانت تنادي بها الثورة إلى أحكام الشريعة الإسلامية، وقد ذكر عبد اللطيف البغدادي في مذكراته أن كمال الدين حسين قال لعبد الناصر ذات مرة: (إن اشتراكيتنا يجب أن تنبع من ديننا، وليس من نظريات ماركس ولينين ).

وكذلك كان لكمال الدين حسين موقف مشهود إبان محنة الإخوان المسلمين في سنة 1965م؛ حيث أبدى تعاطفاً كبيراً معهم، وأرسل لعبد الناصر خطاباً شديد اللهجة يقول له فيه: (اتق الله)، ويستنكر فيه ما وقع على الإخوان من التعذيب الرهيب، ولذلك اتهمه عبد الحكيم عامر بأنه كان يدافع عن سيد قطب ويقتني كتبه، وقد أقر كمال الدين حسين في أحد الحوارات الصحفية بإعجابه بكتاب معالم في الطريق للأستاذ سيد قطب رحمه الله مع عدم موافقته على بعض آرائه، وأنه قد أهدى نسخاً من هذا الكتاب لبعض أصدقائه (20).

كما أنه بعد مقتل الرئيس السابق أنور السادات والحكم بالإعدام على الأخ خالد الإسلامبولي ورفاقه، فإنه - أي كمال الدين حسين - أرسل هو والأستاذ فتحي رضوان رسالة للرئيس المصري حسني مبارك يطالبانه فيها بالعفو عن أولئك الشباب، على أساس أنه لم يكن بينهم وبين السادات خصومة شخصية، وإنما كانت غايتهم تحقيق العقيدة، التي ملأت نفوسهم من جميع أقطارها، وأن سيرة الرئيس السابق في الحكم، وتعطيله للحريات، وإهانته المستمرة للشيوخ والعلماء، هو ما دفع أولئك الشباب للقيام بما قاموا به.

والمقصود أنه لا يبعد أن يكون هاشم الرفاعي قد تأثر بآراء الرجل الذي قربه إليه وقدمه للناس، وهي آراء كما رأينا تحاول الجمع بين النظرة الإسلامية وفكرة العروبة، كما أنها ترى في سلبيات الثورة مجرد أخطاء صغيرة أو كبيرة، لكنها لا تنطلق في التعامل معها من منطلق عقدي يجعل الاختلاف معها اختلافاً جذرياً يستوجب البراءة منها بحسب المصطلح الشرعي المعروف.

5) كما أن المطالع لديوان هاشم الرفاعي لا بد أن يجد فيه أشياء لا تمثل الأدب الإسلامي الملتزم؛ونحن وإن كنا لا نرى تعارضاً بين الالتزام الإسلامي وبين أن يتناول الشاعر ما يشاء من أغراض الشعر، إلا أنه لا بد من الحرص دائماً على الوقوف عند حدود ما شرعه الله تعالى، ولقد رأيت في شعر هاشم الرفاعي بضع قصائد ومقطوعات شعرية أرى أنها لا تليق بمن كان الإسلام منهجه وتوجهه، وأنا أشير إلى بعضها دون تفصيل:
 

  • فمنها قصيدة بعنوان "راقصة"، يصف فيها - بإعجاب - حركات إحدى الراقصات من تمايل وانثناء وكشف عن بعض جسدها ونحو ذلك .
     
  • ومنها قصيدة في الإشادة بمقطوعة موسيقية لمحمد عبد الوهاب .
     
  • ومنها ذِكْره في بعض قصائده المبكرة للخمر والشراب، وغير ذلك .

    ولست أريد أن أظلم الرجل أو أن أشوه صورته؛ فهذه الهنات مما يتوقع من شاب في مثل سنه، وربما قالها من باب: أعذب الشعر أكذبه، لكني أردت فقط أن أبين أنه كان في شعر هاشم الرفاعي جانب لا يمكن بحال نسبته إلى الإسلام الواضح الصحيح، الذي يرى الدكتور جابر قميحة أنه التوجه الحقيقي له.

    وأخيراً:

    فلست أشك في فصاحة لسان هاشم الرفاعي وعبقريته الشعرية، فقد شهد له بذلك رجال الشعر وأساتذة البيان، حتى قال أستاذه الشاعر على الجندي: ( لو قدر لهاشم الرفاعي البقاء إلى سن الثلاثين لغطى على جميع شعراء العربية في العصر الحاضر ) (21).

    وفي نظري أنه يكفي في الدلالة على نبوغه الشعري أنه - وهو الذي لم يدخل سجناً قط - استطاع في قصيدته "رسالة في ليلة التنفيذ" أن يتقمص شخصية مسجون محكوم عليه بالقتل، فيصور أحاسيسه ومشاعره، ويصف أحوال السجن والسجين والسجان بأبرع ما يكون التصوير.

    كما أننا لا نماري في أن التوجه الديني عنده توجه أصيل، وهو توجه مشوب بالنزعة الصوفية على ما رأينا عند الحديث عن أسرته ونشأته، وإنما كان حديثنا منصباً حول تمحيص القول حول انتمائه للحركة الإسلامية، أو اعتباره شاعراً إسلامياً بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن من هذه التسمية ، من حيث كون الشاعر منحازاً للقضايا الإسلامية رافضاً أي فكرة تخالف شرع الله عز وجل، فهذا الذي قصدته وأرجو أن أكون قد وفقت فيه .

    رحم الله هاشماً الرفاعي، وغفر له ولسائر المسلمين... آمين

     


    1) وهو منشور بموقع حقائق مصرية بتاريخ: 7 ربيع الأول 1424هـ = 8/5/2003م.
    2) اقتبسنا هذا التعريف مما ذكره عبد الرحيم جامع الرفاعي( شقيق الشاعر) في مقدمة تحقيقه لديوان هاشم الرفاعي.
    3) أحد قادة ثورة يوليو ووزير التربية والتعليم آنذاك.
    4) انظر مقدمة عبد الرحيم جامع الرفاعي لديوان هاشم الرفاعي ص: 4، ص: 24.
    5) المصدر السابق ص: 92.
    6) المصدر السابق ص: 24، 91
    7) مصدرنا في هذه الأشعار هو ديوان هاشم الرفاعي بتحقيق أخيه عبد الرحيم جامع الرفاعي .
    8) رسالة في ليلة التنفيذ دراسة وتحقيق وتعليق مجدي الشهاوي ص: 19.
    9) انظر مقدمة عبد الرحيم جامع الرفاعي لديوان هاشم الرفاعي ص: 24.
    10) كما ذكر شقيق الشاعر في تقديمه لطبعته من ديوان الشاعر ص: 3.
    11) المصدر السابق ص: 62.
    12) المصدر السابق ص: 82.
    13) وهو الاسم الذي كان يطلق على سوريا في فترة الوحدة بين مصر وسوريا، وقد ألقى في ذلك المؤتمر قصيدته المشهورة:رسالة في ليلة التنفيذ.
    14) جريدة الجمهورية عدد:27/12/1387 الموافق 3/7/1959م، نقلاً عن كتاب رسالة في ليلة التنفيذ ص: 9 .
    15) رسالة في ليلة التنفيذ بتحقيق مجدي الشهاوي ص: 12.
    16) من تقديم الكاتب المذكور لقصيدة رسالة في ليلة التنفيذ ص: 5.
    17) المصدر السابق ص: 17.
    18) من مقال بعنوان: الزيغ الفكري والنقد المقلوب نشر بموقع لها أون لا ين بتاريخ 6/12/1424.
    19) من تقديم شقيق الشاعر لديوانه ص: 46
    20) جاء ذلك في كتاب بعنوان مؤامرة اغتيال المشير عامر للصحفي محمود فوزي ص: 100 .
    21) رسالة في ليلية التنفيذ بتحقيق مجدي الشهاوي ص: 11.
     
  • الجمعة، 5 سبتمبر 2014

    كافكا.. صهيوني يلون العالم بالسواد!!


    كافكا.. صهيوني يلون العالم بالسواد!!

    وسام الدويك **
    (الكفاح يملؤني سعادة تفوق قدرتي على فعل أي شيء، ويبدو لي أنني لن أسقط في النهاية تحت وطأة الكفاح، بل تحت وطأة الفرح).
    هكذا كتب (فرانز كافكا) رائد الكتابة "الكابوسية" في أواخر أيام حياته التي قضى معظمها مغمورًا ككاتب تشيكي المولد، يهودي الديانة، يكتب ويتكلم بالألمانية، يكتب هذه الكلمات؛ ليبلور شخصيته التي تخاف إلى درجة الرعب من الفرح والسعادة.
    وُلِد فرانز في 3 يوليو 1883م ومات في نفس اليوم -مفاجأة قدرية ذات دلالة- بعد 41 عامًا في مدينة براغ عاصمة التشيك، كان كافكا منتميًا إلى يهود الطبقة الوسطى التي تتحدث الألمانية، وقرب دخوله المدرسة أرسله أبوه "هرمان" تاجر التحف الثري إلى المدرسة الحكومية، ثم إلى الجامعة الألمانية في براغ ليدرس القانون.
    وصفه المقربون منه بأنه كان يستعين أثناء حديثه بأعضاء جسمه ووجهه كاملة، وكان بسيطًا خجولاً، يائسًا، معذبًا، وكانت سمة حياته البارزة هي الغضب الذي يولده القلق.
    عاش "كافكا" معظم حياته في عزلة، فالتشيك يرونه ألمانيًّا، والألمان يرونه يهوديًّا، واليهود الأصوليون يرونه علمانيًّا، أما الإحساس الأعلى بالعزلة لدى كافكا فكان بسبب علاقته المتوترة دائمًا بمن حوله سواء أبوه أو أمه أو المجتمع ككل، لقد كان يشعر بالقهر، لكنه لم يكن يسعى لتغيير هذا القهر وإنما يكتفي فقط بفضحه وتعريته.
    منذ سبتمبر عام 1917م بدأت أعراض مرض الدرن الرئوي تظهر عليه، وقد كتب عن مرضه يقول: "آلام الرئة ليست سوى انعكاس لآلامي المعنوية".
    الفن.. علاج للشرخ النفسي أم شرخ أكبر؟
    كان هناك شرخ كبير في علاقة كافكا بالعالم –عالمه المحيط والداخلي معًا-، فالعالم الذي عاشه هو نفسه الذي بناه، عالم الغربة الخانق المجرد من الإنسانية وتعبِّر أعماله عن موقفه من العالم الخارجي، ومنذ صباه اهتم كافكا بالأعمال الأدبية التي تناولت العمال المقهورين بالآلات، والمعذبين بالتشريعات فقرأ دستويفسكي، وتولستوي، وجوركي.
    يُعَدُّ الأدب عند كافكا فن الهروب، فالأدب في رأيه فرار من الواقع، تُعَدّ كتاباته الأولى مجرد مناجاة داخلية يترجم بها انطباعاته وأحاسيسه، وقد توقف منذ كتابه (الحكم) عام 1912م عن هذا ليكتب أعمالاً أدبية حقيقية.
    كما يعتبر رائد الكتابة السوداوية أو الكابوسية التي يعرفها القاص المصري المخضرم يوسف الشاروني بأنها "تصوير الأحداث غير الواقعية بطريقة تبدو واقعية للغاية كما يحدث في الكابوس".
    فالبطل في أعماله الأدبية يعيش الحدث الكابوسي، حيث تتزاحم عليها التفصيلات الواقعية، ولكن بشكل يومي بأن هناك قوى ما تتخذ موقفًا مضادًّا لها بصورة تتحول معها الحياة الطبيعية لهذه الشخصية إلى ما يشبه الكابوس، وهذا ما نراه متجليًا في أعمال كافكا الشهيرة، مثل: التحول، الدودة الهائلة، في مستعمرة العقاب، أبحاث كلب، الجحر، وكذلك أعماله الروائية المنشورة بعد وفاته: القضية (1925م) القلعة (1926م).
    أعمال كافكا.. مذاق العلقم ولون الفحم وملمس الشوك
    هكذا تبدو أعماله: إحساس عالٍ وعميق بالمرارة والظلمة، ففي روايته "المسخ" يقدم رؤية سوداء للإنسان، يصحو الموظف المبتئس بوظيفته وأرهقه ضغط احتياجات أسرته، حيث يعول والديه وأخته.. يصحو ليجد نفسه يعامل كحشرة كبيرة تشبه الخنفساء، ويتحول من مصدر احتفاء إلى مصدر إزعاج.
    وتتنفس الأسرة الصعداء حين تموت تلك "الحشرة"، وكأنما الذي يربط الإنسان بأسرته حاجة مادية إذا لم يستطع أن يحققها تخلت الأسرة عنه وحاربته كما تحارب أي حشرة ضارة!!
    وفي إحدى روايات كافكا يدفع البطل إلى ساحة المحكمة بلا ذنب، ويصور لنا سير المحاكمة بأسلوب مخيف، فهي تتم تحت سقف منخفض وينحني الجميع من أثره طوال الوقت، ويساق البطل إلى الموت كأي حيوان؟!
    ويتساءل أحد الباحثين: "ما الذي يغري "كافكا" بالنهايات المفزعة، حيث يموت البطل دائمًا مع اختلاف الأساليب، فبطل "القلعة" يقتل، وبطل "المحاكمة" يُعْدم، وبطل "المسخ" يموت وكأنه حشرة بشعة.
    ولم يكن هذا هو رد فعل القارئ العادي فحسب، بل إن مجلة فرنسية دعت بإحراق مؤلفات "كافكا"؛ لأنه داعية إلى الهدم واليأس، بل إن أديبًا بقامة الفرنسي "جان جينيه" يقول: "يا له من حزن! لا شيء يمكن فعله مع كافكا هذا. فكلما اختبرته، واقتربت منه أراني أبتعد عنه أكثر"، بل وصل به الأمر لشكه في نفسه وفي قدرته على التحصيل والفهم فقال: "هل ينقصني عضو في جسمي؟ فقلق كافكا وضجره أفهمهما جيدًا لكني لا أقبلهما أبدًا".
    يا "كافكا".. حلمك الدموي تحقق
    عاش كافكا سجينًا لجذوره اليهودية التي شكلت عالمه الداخلي، كما شكلته قراءاته لديستويفسكي وللتوراة أيضًا، لكنه كان منعزلاً تمامًا عن أية جماعة روحية، وكان شعب إسرائيل في نظره هو الشعب المختار، لكنه أيضًا الشعب الذي حقت عليه لعنة الرب، ورغم أنه يرى أن اليهود لا يزالون يتمسكون بمعتقدات وشعائر لا يستطيع أبدًا أن يفهم مغزاها، لكن ذلك لم يمنعه من أن يفي لمعتقده في دولة لليهود، وشارك بالفعل في الحركة الصهيونية بنفسه، وربما توقع أن يموت فأراد أن يؤكد عميق صدقه لمبدئه قائلا: "حتى لو لم أهاجر إلى فلسطين، فإنني وددت أن أموت وإصبعي موضوع على الخريطة".
    الأدب في خدمة قضيته
    حفلت أعماله بالدعوة الصريحة لقضيته التي آمن بها وهي قيام دولة صهيونية على أرض فلسطين، والتي ربما جاء إيمانه العميق بها من فرط إحباطاته النفسية والاجتماعية المغرقة في السوداوية، وربما فكَّر أن ينعم بالخلاص "الفئوي" له ولقومه اليهود؟ فهل يمكن أن نلومه على ضيق أفقه وقصور فكره، أم أننا لا يمكن فصل أفكاره عن سياقها التاريخي والإنساني آنذاك الذي عانت فيه البشرية من التشرذم.
    كل هذه الأسئلة وغيرها تدور حين نلقي نظرة على أعماله، مثل قصة "بنات آوى وعرب".. وقصة "أحد عشر عبرانيًّا"، وليس ذلك فحسب فهو لم يكتفِ بعمله الإبداعي، لكنه وضع عام 1918م مشروعًا لجماعات عاملة غير مالكة، حيث كان يرسم الخطوط العامة لجماعات الكيبوتز في دولة إسرائيل المرتقبة، ويُذكر أنه كان مواظبًا في أواخر أيامه على دراسة اللغة العبرية بكل جدية، بل وانضم إلى حركة سرية تعبِّر عن مذهب يهودي متصوف.
    أوصى كافكا بحرق آثاره الأدبية كلها سواء المطبوعة أو المخطوطة، وعهد بذلك إلى صديقه الحميم "ماكس برود"، لكن برود رفض تنفيذ الوصية وحفظ أعماله المهمة.
    الشعور بالضجر خلف كل كتاباته الكابوسية
    "أنت وراء كل معاناتي" هكذا كتب كافكا في رسالة إلى أبيه واستطرد قائلا: "قلت فيها ما لا أستطيع أن أقوله وأنا على صدرك"، ويذكر روجيه جارودي في كتابه "واقعية بلا ضفاف" أن والد كافكا كان في نظر ابنه "صورة مصغرة للمجتمع الضاغط الذي يدفع إلى الإحساس بالغربة، ويخنق شخصية الإنسان، فالغربة عند الإنسان نتاج العلاقات الاجتماعية وقد عاشها أول الأمر في شكل علاقته بأبيه".
    لا نعلم تماما لِمَ كان يكره من حوله بهذا الشكل؟ ولكن يبدو أن ذلك لا يعود لهم في الأساس وإنما يعود لنظرته هو حيالهم، ولم يكتب كثيرًا عن سبب أزماته مع الكون خارجه، ولكنه أسهب في التعبير من سخطه على الكون كله، فتبدو ملاحظاته المتناثرة حول عالمه تفصح عن شخصية ملولة يقتلها الضجر فهو يصف الكون من حوله بأنه "كوكب مليء بالبيروقراطية"، وهو يعاني من التناقض بين مهنته وبين اهتمامته الأدبية، فرغم أنه حصل على درجة الدكتوراة في القانون فإنه كرهه وتركه ليعمل موظفًا صغيرًا جدًّا في مؤسسة للتأمينات العمالية ضد الحوادث في مملكة بوهيميا منذ عام 1908م، وقد قال كافكا عن دراسته: "درست الحقوق وهذا يعني أنني أرهقت أعصابي تمامًا وتغذيت روحيًّا بالنفايات، ومما يزيد الطين بلة أن هذه النفايات لاكتها قبلي آلاف الأفواه".
    وهو يكره مدرسته، حيث يعتبرها مسئولة تمامًا عن ضمور ميزاته الفردية في الصغر، وبالمثل فهو لا يعجبه أباه لتكالبه على الدنيا وظلمه للعمال في مؤسسته، ويرى في اسم عائلة أمه مصدر كل غدر وجبن في شخصيته.
    أضف إلى ذلك علاقاته العاطفية الثلاث التي تُوجت بالفشل، وبلغ ضجره مداه حين استفزه التحرك العادي لساعات اليوم القاتلة على عكس ساعته الداخلية التي وصفها بأنها "شيطانية السرعة"، فيقول: "إنها لحياة مزدوجة رهيبة حقًّا لا أظن أن هناك مخرجًا آخر منها سوى الجنون".

    المصادر:
    1 – واقعية بلا ضفاف: بيكاسو – سان جون بيرس – كافكا تأليف: روجيه جارودي تقديم: أراجون- ترجمة: حليم طوسون مراجعة: فؤاد حداد - طبعة مكتبة الأسرة – 1998م
    2 – فرانز كافكا – الأعمال الكاملة – ج1،2 – ترجمة الدسوقي فهمي-الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة – آفاق الترجمة – العدوان 29، 36 – يونيو، ديسمبر 1997م.
    3 – فرانز كافكا – تأليف: رونالد جراي – ترجمة: نسيم مجلي - المجلس الأعلى للثقافة – المشروع القومي للترجمة – 2000م.
    4 – التجريب في القصة القصيرة – دراسة في قصة (يوسف الشاروني) هيثم الحاج علي – الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة- كتابات نقدية – 105 – يوليو 2000م.
    5 – شبكة المعلومات الدولية.

    الأربعاء، 18 يونيو 2014

    فضيحة مدوّية ، تعال و اقرأها !

    فضيحة مدوّية ، تعال و اقرأها !



    يا من دخلتَ إلى هذا المقال ِ يحدو ذهْـنَـه صيْدٌ ثمينٌ من الفضائح ، و حِرزٌ مكين من الأسرار المكتومة ، يطيرُ بها فرحاً ، و ينشرُها إلى الآفاق بـدون أدنـى تـَرَوّ ، أو أثارةٍ من تثبّتٍ شرعيّ !
     

    أرْعـِني انتباهك لُحَيــظــاتٍ قليلاتٍ ، لن تخسرَ فيهنّ شيئاً ..
     

    لا يخفى عليك - أخي المسلم - ما وصل إليه حال أغلب منتديات الإنترنت و مواقع التواصل و الحوار من انحدار ٍ ، و تدهور ٍ ، لا يُـرضي صاحبَ النفس الكريمة ، الغيورة ؛ فغـدا القاريء الذي ينشد ضالّته من العلم و الفائدة و الأدب ، لا يجد إلا مراتعَ الإسفاف ، و مباءاتِ البذاءة ، فيَـضطرّ مع مرور الأيّام أن يحنيَ للموجة رأسَـه ، و ما يلبث إلاّ أن يُجاريَها ، ثمّ يذوب في مائِـها الآسن ، لينتهيَ إلى سدىً أو لحمةٍ في هذا النسيج المهتريء المُـتمزّق ، إلا من رحِم ربّك !
     

    أخي المسلم الفاضل ؛ أخاطب فيك دينك ، و خُلقَـك ، و مروءَتك ؛ فهل ترضى أن يقوم امرؤٌ بتطلّبِ عثراتِـك ، و التفتيش عن زلاّتك ، لينشرها على رؤوس الأشهاد في الشبكة العنكبوتيّة ؟
     

    هل اتّخذتَ عندَ الله ِ عهداً ، ضمنتَ فيهِ ألاّ تكونَ أنتَ أو أحد أقربائكَ في يوم ٍ من الأيّام ِ تحت هذا المجهر ِ الفضائحيّ ؟
     

    الجواب : لا ..
     

    إذن ، يـا أخي الفاضِـل ، ما الذي جعلك تلهثُ وراء فضائح الناس ِ ، مُجتـهـداً في تصيّد عوراتِ المسلمين بهذه الصورةِ الدنيئةِ ، التي يربأ عنها رجالُ الجاهليّةِ الأولى ؟
     

    ما الذي أحالَ منتدياتنا في الشبكة إلى صحافةٍ صفراء ؟
     

    تلك الصحافة التي تذبح الحقيقة ، و تهتك المباديءَ الكريمةَ ، و تـتـقّمّم زبالاتِ الأخبار ِالمنتنةِ ، من أجل حفنةِ دراهم ، أو سبق ٍ صحافيّ ، و لو كان على أطلال الفضيلة ؟
     

    إنّا و اللهِ لنربأ بكلّ مسلم ٍ أنْ ينحدرَ إلى هذا المنحدر السّـحـيـق ، و أن يكونَ ذبـابـاً لا يقع إلاّ على القيح ِ و الصديد ؛ بل المسلم شامخُ الرأس و الفكر ، سام ِ السريرةِ نقيّها ، فهو صقرٌ أجدل ، لا يُحلـّق إلاّ بين شاهقات القِـمَم ، ولا يستقرّ إلاّ على ذُرى الجبالِ الشامخة ، و يؤثِر الموْتَ مِنَ الطّــوَى ، على أنْ يـقْـتـاتَ مـنَ الجِـيَـف :
     

    قلتُ للصّقر و هوَ في الجـوّ عال : *** اهـبـط الأرضَ فالهواء جديب
     
    قالَ لي الصقر : في جناحي و عزمي *** و عنان السماء مرعىً خصيب
     
    إن إحسانَ الظنّ بالناس هو الأصل الأصيل ، و هو المبدأ الذي ننطـلِق منه لتشخيص أي انحراف يطرأُ على الشخصيّة المسلمةٍ ، لذا سنُرجع هذا الدافع المُـلِحّ ، إلى غريزةٍ متجذّرةٍ في كيان النفس الإنسانية ؛ ألا و هي : غريزة " الفضول " !
     

    و غريزة الفضول غريزةٌ جانحةٌ ، عاتيةٌ ، لكنّ دينَ اللهِ عالجَـها كما عالَجَ جميعَ الغرائز البشرية ؛ لم يُلغِها ، و لم يطلِق لها العنانَ ؛ بل هـذّبها ، و أطــّرَها ، و أفسحَ لها ميـداناً لـه حدودٌ ، و ضوابط ، لا تخرج عن دائرته ، فتُهلِك الإنسان !
     

    نعم .. تُهلك الإنسان و توبـِقُـه ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلّم : " من أتى عرّافاً، فسأله عن شيءٍ ، لم تـُقبل له صلاة أربعين ليلة " ( رواه أبو داود ) ، و هل ذهب هذا المسلم إلا بدافع غريزة الفضول ، التي لم تُهذّب و تُوضعْ في أطارها الصحيح ؟
     

    أخي المسلم ، إيّاك إيّاك أن يُهلِكَـك فضولُـك ، و يورِدَك الموارد ، فتَجْـني على نفسِك بنـفْسـِك ، فمن المُـطالبُ حينذاك ؛ و القتيلُ القاتلُ ؟‍‍‍!
     

    إن اللهاث المسعور وراء فضيحة فلان أو علاّن في الشبكة ، لن يُضيفَ إلى رصيدك يوم القيامة سِوَى الحسرةِ و الندامةِ ، و لن يورثَ في نفسِك في الدنيا إلاّ الرغـبةَ المُلحّةَ في إفشاء هذا السر الذي يضطرم داخل صدرك و تُداريه ، و لن يقفَ حُسنُ النوايا مع تقادم الزمن و تعاقب الأيّام = سدّاً حائلاً دون نشره ، فإذا كتمته ؛ - و هذا مُستبعد في العادة - فلقد حمّلتَ نفسك شيئاً لا تطيقُـه ، و لا خيرَ فيه ، بل هو أمـرٌ في حقيقته : مَغـرَمٌ ، لا مَغـنمٌ !
     

    أخي المسلم ، أُذكّرك في نهايةِ هذه الكلماتِ التي جاءت مِن أخيك عفـْوَ الخاطر و على غير رويّة و سابق ِ إعداد ، أُذكّرك بقولِ النبي صلى الله عليه و سلّم : " من ستَر على مُسلمٍ ، ستر الله عليه في الدنيا والآخرة " . ( رواه مسلم ) ، و من منّا يزهد في ستر الله و كنَفه الشريف ، في الـدنـيـا و الآخِـرة ؟

    و لله درّ الشاعر الحكيم :
     

    إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى **** و دينك موفورٌ و عِرضك صيـّن
     
    فلا ينطِقْ منك اللسانُ بسوءةٍ **** فكلكَ عوراتٌ و للناس ألســـنُ

    و عـيـنـاك إن أدّت إليك معايباً **** لقومٍ فقل : للنّـاس أعـيـن
     
    أخـوكم الواثق بنصر الله
    أنـــور بــاشـــا

    الثلاثاء، 3 يونيو 2014

    العلماء الضحايا.. حيث يفنى الجسد وتبقى الإنجازات



    العلماء الضحايا.. حيث يفنى الجسد وتبقى الإنجازات


     


    عاشوا وماتوا من أجل إسعاد البشرية فاستحقوا أن يسطر التاريخ أسمائهم في لوحات الشرف بحروف من ذهب، لأنهم وظفوا عقولهم لتحقيق إنجازات علمية مشهودة أضاءت العديد من الجوانب المظلمة في حياة البشر، وفتحت قنوات العلم والمعرفة، ولم يكتفوا بذلك بل قدموا أجسادهم قرباناً في سبيل العلم، فكانوا كالشموع التي تحترق من أجل الآخرين، لذا فهم يستحقون بجدارة لقب "ضحايا العلم"....


      محمد السيد

    وفي السطور التالية نلقى الضوء على الجانب الخفي من حياة العلماء الذين عكفوا في محاريبهم وواصلوا الليل بالنهار، ليخلصوا البشرية من غياهب الجهل، فكان قدرهم أن يدفعوا حياتهم ثمنا لإنجازاتهم..


     

    جاليليو.. نظرة ثاقبة


    يأتي في مقدمة "ضحايا العلم" عالم الفلك الإيطالى جاليليو الذي أسهم في تطوير التلسكوب الفلكي بفتح آفاق جديده أمام العالم، إلا أنه نتيجة استخدام التلسكوب فى مراقبة النجوم والشمس ، قام بتدمير بصره وأصيب بالعمى فى آخر سنوات حياته..

    جاليليو

    ولد العالم جاليليو في مدينة بيزا بإيطاليا في 15 فبراير 1564 ومات في 8 يونيو 1642، وكان ماهراً منذ الصغر في الرياضيات والموسيقى، واهتم بعد ذلك بدراسة الهندسة إلى جانب الطب، وفي ذلك الوقت كان العلماء يظنون أنه لو ألقي من ارتفاع ما بجسمين مختلفي الوزن فإن الجسم الأثقل وزنا يصل إلى الأرض قبل الآخر، لكن جاليليو أثبت بالنظرية الرياضية خطأ هذا الاعتقاد، ثم اعتلى برج بيزا وألقى بجسمين مختلفي الوزن فاصطدما بالأرض معا في نفس اللحظة، وأوضح أيضا خطأ عدة نظريات رياضية أخرى.


    وانتقل جاليليو بعد ذلك إلى مدينة بادوفا بجمهورية البندقية و في جامعتها بدأ يلقي محاضراته في الرياضيات، وكان في هذا الوقت قد نال نصيبه من الشهرة، وفي بادوا اخترع أول محرار "ترمومتر" هندسي.


    وهو أول من طبق الطرق التجريبية في البحوث العلمية، وأدخل مفهوم القصور الذاتي، وبحث في الحركة النسبية، وقوانين سقوط الأجسام، وحركة الجسم على المستوى المائل والحركة عند رمي شيء في زاوية مع الأفق واستخدام البندول في قياس الزمن.


    وفي سنة 1609 بدأ جاليليو يصنع منظاراً بوضع عدستين في طرفي إنبوبة من الرصاص، وكان أفضل بكثير من الذي صنعه ليبرشي، بعد ذلك انكب جاليليو على منظاره يحسن من صناعته، وراح يبيع ماينتج منه، وصنع المئات وأرسلها إلى مختلف بلاد أوربا، وكان لنجاحه صداه في جمهورية البندقية، ففي تلك الأيام كان كل فرد يعتقد أن الأرض مركز الكون، وأن الشمس وغيرها من الكواكب تدور حولها، وكان الطريق اللبني يعتبر حزمة من الضوء في السماء، وأن القمر مسطح الشكل.


    ولكن عندما نظر جاليليو من خلال عدسات منظاره لم يجد شيئا من هذا كله صحيحا، فقد رأى أن في القمر مرتفعات، وأن الشمس تنتقل على محاورها، وأن كوكب المشتري له أقمار، مثلها مثل القمر الذي يدور حول الأرض، ورأى أن الطريق اللبني ليس مجرد سحابة من الضوء إنما هو يتكون من عدد لا حصر له من النجوم المنفصلة والسديم.


    وكتب كتابا تحدث فيه عن ملاحظاته ونظرياته، وقال أنها تثبت الأرض كوكب صغير يدور حول الشمس مع غيره من الكواكب، وشكا بعض أعدائه إلى سلطات الكنيسة الكاثوليكية بأن بعض بيانات جاليليو تتعارض مع أفكار وتقارير الكتاب المقدس، وذهب جاليليو إلى روما للدفاع عن نفسه وتمكن بمهارته من الإفلات من العقاب، لكنه انصاع لأمر الكنيسة بعدم العودة إلى كتابة هذه الأفكار مرة أخرى، وظل ملتزما بوعده إلى حين، لكنه كتب بعد ذلك في كتاب آخر بعد ست عشرة سنة نفس الأفكار، وأضاف أنها تتعارض مع شيء مما في الكتاب المقدس، وفي هذه المرة أرغمته الكنيسة على أن يقرر علانية أن الأرض لاتتحرك على الاطلاق وأنها ثابتة كما يقول علماء عصره، ولم يهتم جاليليو لهذا التقرير العلني.


    وعلى إثر ذلك قامت الكنيسة بتحديد إقامته في منزله حتى مماته في 8 يونيو 1642، وتم دفن جثمانه في فلورانسا... لكن الطريف في هذا الأمر أن الكنيسة قدمت اعتذاراً لجاليلو عام 1983 أي بعد حوالي ثلاثة قرون من وفاته.



    مارى كورى.. منتهى التضحية


    مارى كورىتعد الكيميائية الفرنسية مارى كورى من أشهر ضحايا التسمم بالاشعاع.. وقد حصلت على جائزة نوبل للعلوم، حيث اكتشفت مارى هى وزوجها الذى مات فى حادث سيارة، الاشعاع سنة 1898, وكرست كل حياتها للدراسة.


    وماري كوري هي بولندية المولد ولدت في 7 نوفمبر 1867م في وارسو ببولندا ، وكان والدها يدرس الرياضيات والفيزياء بنفس مدرستها , اسمها الأصلي مانيا بولونوفسكي و بعد زواجها من الفرنسي بيير كوري غيرت إسمها إلى ماري و حملت كنية زوجها لتصبح ماري كوري و عرفت إعلامياً باسم مدام كوري.


    لها ابنتان آيرين و ايف، كرّم الزوجان كوري بإطلاق اسم الوحدة "كوري" لقياس النشاط الأشعاعي وكذلك إطلاق اسم "كوريوم" على أحد العناصر الكيميائية.

    وفي أحد اللقاءات الصحفية سًئلت ماري عن امنيتها فقالت: "إني بحاجة الى جرام واحد من الراديوم لكي اتابع أبحاثي ولكني لا املك ثمن هذا الجرام"... فما كان من الصحفية التي سألتها إلا أن قامت بحملة صحفية واسعة لدعم مدام كوري.


    وهذه السيدة التي عاشت في زمن لم تحظ المرأة فيه بقدر من الحرية استطاعت على الرغم من التحديات الاجتماعية التي واجهتها ان تحصل على جائزة نوبل، وكانت أول امرأة في فرنسا تكمل رسالة الدكتوراة، وأول مخترعة تحصل على جائزة نوبل مرتين، وذلك بعد أن اكتشفت مادة الراديوم المشعة.


    وقد انشأت معهد الراديوم، ومعملا للأبحاث البيولوجية لدراسة الأمراض الخبيثة.. كانت تقول دائما: "تعلمت من حياتي أن الفقر لا يقف حائلا ضد الطموح".


    ومنذ صغرها، كانت مدام كوري ميالة بشكل كبير الى القراءة لاسيما الكتب العلمية وبرعت في الفيزياء، وكان لها دماغ يعتمد على التفكير المنطقي في التعامل مع الاشياء لاسيما فيما يتعلق بالفيزياء والكيمياء، ولما لم تجد ان بلدها قادر على تحقيق طموحها العلمي قررت الذهاب الى فرنسا في عام 1891 للالتحاق بجامعة السوربون وهناك التقت بمدرس مادة الفيزياء في الجامعة "بيير" فكونت معه فريقا علميا نادرا بعد ان تزوجته في عام 1895 .


    في هذه الجامعة أسند لمدام كوري منصب استاذ، فكانت أول امرأة تشغل وظيفة الاستاذ في السوربون، وقد واصلت التدريس والبحث في آن معا، واكتشفت مع زوجها بيير كوري في باريس عام1898م عنصري البولونيوم والراديوم.. ولما قامت الحرب العالمية الاولى وكثر الجرحى في صفوف الجنود المقاتلين حفز ذلك مدام كوري لاختراع أول جهاز محمول لأشعة "أكس" للكشف عن الجنود الجرحى , ونالت وزوجها عام 1903م جائزة نوبل في الفيزياء .

    شهادة نوبل التي منحت لماري كوري

    وفي عام 1911م نالت مدام كوري جائزة نوبل للمرة الثانية بعد وفاة زوجها بخمس سنوات, وقد اقتفت ابنتها آيرين جوليو كوري خطى والدتها ونالت وزوجها فريدريك جوليوت في عام 1935م جائزة نوبل في الكيمياء بعد قيامهما بتحضير أول نظير مشع من صنع الإنسان.


    وقامت الباحثة بتحليل كل العناصر الكيميائية المعروفة في ذلك الوقت فكانت العالمة تعتقد أن ظاهرة الاشعاع من خواص عنصري اليورانيوم والثوريوم فقط، ومن خلال أبحاثها جاءت "مانيا بولونوفسكي" بنتيجة فحواها أن خصوصية الاشعاع لا تتعلق بتنظيم الذرات أو الكيميائية بل ببناء الذرة نفسها، وهذه النظرية أصبحت دافعا مهما في تطوير فيزياء الذرة.


    وبدأت ماري بفحص معادن مختلفة تحتوي على عنصر اليورانيوم والثوريوم اذ اكتشفت العالمة أن بعض المعادن تتميز بخواص نشاط الاشعاع أكبر بخمس مرات مما كان متوقعا نظرا لما يحتويه اليورانيوم من تركيبات كيميائية، واسفر ذلك الاكتشاف عن شيء اكبر وهو اكتشاف عنصر كيميائي جديد سمي بولونيوم.


    وتواصل استمرار التجارب واتمام الدراسات التكميلية للابحاث بشأن تلك الظاهرة مما أدى الى اكتشاف عنصر كيميائي جديد ذي خواص اشعاعية كبيرة وهو الراديوم وتخصصت ماري في السنوات التالية في أبحاث هذا العنصر الكيميائي.

    وعاشت ماري حياة بسيطة الى جانب بيير كوري، لكنهما كانا يمتلكان معاً حماس المستكشفين في ميدان العلوم الفيزيائية.



    فروزييه .. الطائر المحلق


    عالم الطبيعة الفرنسى فروزييه عاش في القرن السابع عشر الميلادي، وينسب إليه البعض الفضل الكبير في فكرة الطيران، حيث استهواه الطيران فترك تجاربه العلمية وشارك فى أول محاولات الطيران بالبالون.. وأثناء إحدى المحاولات التى قام بها بنفسه انفجر البالون ولقى مصرعه من ارتفاع 1700 قدم .

    وجاء بعده الأخوان رايت، وهما الأخوان أورفيل "1871 – 1948" و ويلبر "1867 – 1912" رايت، المخترعان اللذان ينسب اليهما معظم المؤرخين إختراع أول طائرة و القيام بأول تجربة طيران ناجحة عن طريق اّلة أثقل من الهواء في 17 ديسمبر 1903.


    ويلبر وأورفيل رايت وبعد عدة سنوات من طيرانهما الناجح تنبهت الحكومة الأمريكية إلى أهمية الطيران وإمكاناته الواسعة، كما استقبل المخترعان في فرنسا استقبال الأبطال، وكان أطول طيران حققه أورفيل رايت استغرق 75 دقيقة على ارتفاع قارب المائة متر.


    ومنذ أن اخترع الأخوان رايت الطائرة في شتاء عام 1903، شهد العالم تقدماً هائلاً في حقل الطيران في مدة تفوق المائة عام تطورت فيها الطائرات ودخلت عصر الإنتاج الصناعي بغزارة وتنوعت أحجامها وأشكالها ومهماتها والأعباء المكلفة بإنجازها.. لدرجة أن محاولة جمع الطرازات التي انتجت في العالم ككل في كتاب أو مؤلف واحد يعد دربا من دروب الخيال.


    اليزابيث ولعنة "إكس"


    عاشت اليزابيث شيم خبيرة أشعة إكس الأمريكية في الفترة من 1859 إلى 1905، وكانت ضحية إشعاعات "أشعة اكس"، حينما كانت تعرض نفسها لهذه الأشعة لتثبت للمرضى أنه لاخطر منها ، إلا أنها تعرضت لتغييرات مرضية فى جلدها, وأصيبت بالسرطان, وقطع إحدى ذراعيها.


    وأشعة أكس الخطيرة هي من اكتشافات عالم يدعى وليام رونتجن عام 1895م، وسماها هكذا لأنه لم يكن يعرف عنها لحظة اكتشافها، ومنذ وقتها ظلت لفظة "أكس" تطلق على كل شيء مجهول .


    وبعد اكتشافها تبين أنها عبارة عن إشعاع كهرومغناطيسي مثلها مثل الأشعة الضوئية والأشعة الجيمية ( أشعة جاما ) . فكل الموجات الإشعاعية تردد بمعدل معين كل ثانية إلا أن معدل تردد أشعة أكس أكبر من معدل تردد الأشعة الضوئية العادية وأقل من معدل تردد الأشعة الجيمية .


    وتنتقل أشعة أكس خلال الفراغ بنفس معدل سرعة انتقال أشعة الضوء العادية ، لكن موجات أشعة أكس أقصر من موجات أشعة الضوء .


    وتتولد أشعة أكس عندما تسير الإلكترونات بسرعة عالية فتضرب على سطح مادة تتكون من ذرات ثقيلة ، فتعمل تلك الإلكترونيات التي تتحرك بسرعة على تغيير طاقة الكترونات ذرات المادة التي تصطدم بسطحها فتؤدي تلك التغيرات لظهور أشعة أكس بتغيير سطح المادة التي تصطدم بها الإلكترونات المتحركة أو بتغيير معدل سرعة تلك الإلكترونات .


    وتعرف أشعة أكس ذات الترددات القليلة بأشعة أكس الضعيفة ، أما الأشعة الضعيفة فمن السهل جداً أن يمتصها الهواء ، وعادة تمرر عبر أسطوانات مفرغة ( مجوفة).


    وعندما تصطدم أشعة أكس بسطح مادة صلبة تتفرق بزوايا مختلفة وتستخدم هذه الظاهرة للتعرف على أنواع الكريستال وماهية بعض المواد .


    ومن أهم استخدامات أشعة أكس استخدامها في الطب إذ تستخدم للتعرف على التركيب الداخلي لجسم الإنسان والحيوانات لأنها تساعد على تصوير العظام والأنسجة الداخلية وإظهارها بشكل تام ، ورغم هذا وذاك لابد من استخدامها بحذر فقد تتلف الأنسجة ، وقد تسبب بعض أضرار أخرى لجسم الكائن الحي.


    بانس، ديفى، وبوستر.. حينما ينطفئ البصر


    روبرت ويلهلم بانس


    ولد الكيميائي الألماني روبرت ويلهلم بانس في الحقبة عام 1811، وبدأ حياته العلمية من خلال تجارب الكيمياء العضوية.. ثم تحول بعد ذلك إلى الكيمياء غير العضوية.. وفى إحدى التجارب العلمية فقد ويلهام عينيه خلال انفجار ماده كيماوية ليقضى بعد ذلك بقية حياته وهو فاقد البصر حتى مات عام 1899 ..


    السير همفرى ديفى


    ابتكر الكيميائى الانجليزى السير همفرى ديفى التحليل الكهربائى للمواد الكيماوية "اليكتروليت"، وذلك بجانب العديد من الاكتشافات الكيماوية .. وعاش ديفى في الفترة من 1778 حتى 1182، وكانت معظم تجاربه الكيميائية يسفر عنها انفجارات وقد أدى هذا الى انفجار افقده بصره ..


    السير ديفيد بوستر


    عاش عالم الطبيعة الاسكتلندى السير ديفيد بوستر في الفترة من 1781وحتى 1868 , ومن إنجازاته العلمية أنه نجح في ابتكار المشكال الذى ينتج صوراً والواناً متعددة داخل جهاز اشبه بالتلسكوب.. وهو أيضا صاحب الأبحاث الرائدة فى البصريات واستقطاب الضوء.. وفقد بصره سنة 1831 اثر انفجار اثناء قيامه بإحدى التجارب الكيماوية.


    شيل.. طباخ السم


    يقولون عادة أن "طباخ السم يتذوقه".. هذا ما حدث بالفعل مع الكيميائى السويدى كارل ويلهلم شيل الذي عاش ما بين 1742-1786، وقام باكتشاف عدد هائل من العناصر الكيماوية، إلا أنه كان من عادته تذوق أو شم هذه العناصر, رغم ما فى هذه العادة من خطورة، وقد كان من القلائل الذين تذوقوا سيانيد الهيدروجين.. فمات مسموماًً .