الاثنين، 3 نوفمبر 2014

بائع خبز فقيه !

بائع خبز فقيه !
بقلم :محمد بن عبد الله آل شاكر
رأيته وهو يحمل عبء السبعين من السنين ، تزينه لحية بيضاء ، وابتسامة
لطيفة ، يلقاك بها وأنت تشتري منه الخبز في واحد من مخابز بلدنا الحبيب ، ولما
دخلت عليه في إحدى الليالي ، بعد صلاة التراويح بادرني بالسؤال : ما رأيك في
القراءة من المصحف في الصلاة ؟ وكان يقصد صلاة التراويح في رمضان .
وقد وقع في ظني أنه تفقّه على مذهب الإمام أبي حنيفة (رحمه الله) كغالبية
أهل موطنه (أفغانستان) فقلت له : صلاته تامة ؛ لأن القراءة عبادة انضمت إلى
عبادة أخرى هي الصلاة ، والعبادة لا تفسد الصلاة ، وهو قول أبي يوسف ومحمد
بن الحسن .
فأجابني : ولكن شيخهما (أبا حنيفة) يخالفهما في ذلك ؛ وكأنه بهذا الكلام يشير
إلى ترجيح رأي الإمام في فساد هذه الصلاة لما فيها من تشبّه بأهل الكتاب ، إذ
الفتوى على قول أبي حنيفة في المذهب سواء أَوَافَقَهُ أحد أصحابه أم لم يوافقه .
ثم مدّ يده إلى كتاب ضخم ، فإذا هو جزء من (فتح القدير) للكمال بن الهمام
شرح (الهداية) للمرغيناني الحنفي ، بطبعة حجرية هندية دقيقة ، وعليها حواشٍ لا
يصبر على القراءة فيها وبين سطورها المتعرجة والمائلة إلا أولو العزم من طلبة
العلم ، وفتح الكتاب ليقرأ لي نصّاً فيه ذلك الحكم ، فعجبتُ والله لهذا الفقه الدقيق
عند بائع الخبز الطاعن في السن ، وزادني هذا حبّاً له وإكباراً ، ولكن عجبي ازداد
أكثر عندما فتح كتاباً آخر بجانب منضدته (بل هو ثلاثة كتب في كتاب : متن ،
وشرح ، وحاشية ! ! ) ، واسمه (قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار) لكي
يؤيد ما ذهب إليه من الفقه بقاعدة من الأصول ! .
وعندئذ أصابتني حالة من الذهول والشرود ، عدتُ بعدها إلى انتباهي وقد
ارتسمت أمام ناظريّ صورة عدد من الطلبة في إحدى الجامعات ، وقد أهدتهم الكلية
التي ينتسبون إليها مجموعة من الكتب والمصادرالعلمية ، تشجيعاً لهم وحفزاً لهممهم ،
وتعزيزاً لتفوقهم ، وبين هذه الكتب ( فتح القدير ) نفسه ، ولكن بطبعة جميلة
واضحة ، وهم يريدون أن يستبدلوا به كتاباً آخر ، متسائلين عن فائدته
وموضوعه !!.
أما الكتاب الآخر ، وهو (قمر الأقمار ... ) فهو شرح العلامة محمد بن عبد
الحي على (نور الأنوار) لِمُلا جَيّون ، وهذا شرح (للمنار) للنّسفي ، فقد قفز إلى
ذهني سؤالٌ حياله : كم من أساتذتنا وطلابنا المتخصصين قد سمع بالكتاب ومؤلّفه ،
أو اكتحلت أعينهم بمرآه ، بَلْه القراءة فيه والرجوع إليه ؟ .
ما أظن أنّ حالفاً يحنث لو حلف بأنّ كثيراً منهم لم يسمع بهذا الكتاب ، ولم
يره من باب أولى ! ، تُرى ما الذي يشغل كثيراً منا ومن طلاب العلم ؟ وما مدى
اهتمامهم بما نذروا أنفسهم له ؟ أم أن الاهتمام بالرصيد ومتابعة الأسعار وتقلّباتها
زاحمت اهتماماتهم العلمية ونموّهم التربوي المهني ؟ أسأل الله لي ولهم الهداية
والتوفيق ، وأن يردّنا إلى ما نكون به خير أمة [*]  .
________________________
(*) مسألة حمل الإمام للمصحف للقراءة في الصلاة فيها خلاف بين أهل العلم ، واختار بعض
المحققين جواز ذلك ، فإذا كان الإمام لم يحفظ ، أو كان حفظه ضعيفاً وقراءته في المصحف أنفع
للناس وأنفع له ، فلا بأس بذلك ، وقد أورد البخاري (رحمه الله) تعليقاً في صحيحه عن عائشة
(رضي الله عنها) أن مولاها (ذكوان) كان يصلي بها في الليل من المصحف ، والله أعلم
- البيان - .

(( مجلة البيان ـ العدد [‌ 98 ] صــ ‌ 111     شوال 1416  ـ  مارس 1996 ))


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق