بائع خبز فقيه !
بقلم :محمد بن عبد الله آل شاكر
رأيته وهو
يحمل عبء السبعين من السنين ، تزينه لحية بيضاء ، وابتسامة
لطيفة ،
يلقاك بها وأنت تشتري منه الخبز في واحد من مخابز بلدنا الحبيب ، ولما
دخلت عليه
في إحدى الليالي ، بعد صلاة التراويح بادرني بالسؤال :
ما
رأيك في
القراءة من المصحف في الصلاة ؟ وكان يقصد صلاة التراويح في رمضان .
وقد وقع
في ظني أنه تفقّه على مذهب الإمام أبي حنيفة (رحمه الله) كغالبية
أهل موطنه
(أفغانستان) فقلت له : صلاته تامة ؛ لأن القراءة عبادة انضمت إلى
عبادة أخرى
هي الصلاة ، والعبادة لا تفسد الصلاة ، وهو قول أبي يوسف ومحمد
بن الحسن
.
فأجابني
: ولكن شيخهما (أبا حنيفة) يخالفهما
في ذلك ؛ وكأنه بهذا الكلام يشير
إلى ترجيح
رأي الإمام في فساد هذه الصلاة لما فيها من تشبّه بأهل الكتاب ، إذ
الفتوى على
قول أبي حنيفة في المذهب سواء أَوَافَقَهُ أحد أصحابه أم لم يوافقه .
ثم مدّ يده
إلى كتاب ضخم ، فإذا هو جزء من (فتح القدير) للكمال بن الهمام
شرح (الهداية)
للمرغيناني الحنفي ، بطبعة حجرية هندية دقيقة ، وعليها حواشٍ
لا
يصبر على
القراءة فيها وبين سطورها المتعرجة والمائلة إلا أولو العزم من طلبة
العلم ،
وفتح الكتاب ليقرأ لي نصّاً فيه ذلك الحكم ، فعجبتُ والله لهذا الفقه الدقيق
عند بائع
الخبز الطاعن في السن ، وزادني هذا حبّاً له وإكباراً ،
ولكن عجبي ازداد
أكثر عندما
فتح كتاباً آخر بجانب منضدته (بل هو ثلاثة كتب في كتاب : متن ،
وشرح ، وحاشية
! ! ) ، واسمه (قمر الأقمار على نور الأنوار شرح المنار) لكي
يؤيد ما
ذهب إليه من الفقه بقاعدة من الأصول ! .
وعندئذ أصابتني
حالة من الذهول والشرود ، عدتُ بعدها إلى انتباهي وقد
ارتسمت أمام
ناظريّ صورة عدد من الطلبة في إحدى الجامعات ، وقد أهدتهم الكلية
التي ينتسبون
إليها مجموعة من الكتب والمصادرالعلمية ، تشجيعاً لهم وحفزاً
لهممهم ،
وتعزيزاً
لتفوقهم ، وبين هذه الكتب ( فتح القدير ) نفسه ، ولكن بطبعة جميلة
واضحة ،
وهم يريدون أن يستبدلوا به كتاباً آخر ، متسائلين عن فائدته
وموضوعه
!!.
أما الكتاب
الآخر ، وهو (قمر الأقمار ... ) فهو شرح العلامة محمد بن عبد
الحي على
(نور الأنوار) لِمُلا جَيّون ، وهذا شرح (للمنار) للنّسفي ، فقد قفز إلى
ذهني سؤالٌ
حياله : كم من أساتذتنا وطلابنا المتخصصين قد سمع بالكتاب ومؤلّفه ،
أو اكتحلت
أعينهم بمرآه ، بَلْه القراءة فيه والرجوع إليه ؟ .
ما أظن أنّ
حالفاً يحنث لو حلف بأنّ كثيراً منهم لم يسمع بهذا الكتاب ، ولم
يره من باب
أولى ! ، تُرى ما الذي يشغل كثيراً منا ومن طلاب العلم ؟
وما مدى
اهتمامهم بما نذروا أنفسهم له ؟ أم أن الاهتمام بالرصيد ومتابعة الأسعار
وتقلّباتها
زاحمت اهتماماتهم العلمية ونموّهم التربوي المهني ؟
أسأل الله لي ولهم الهداية
والتوفيق
، وأن يردّنا إلى ما نكون به خير أمة [*] .
________________________
(*) مسألة حمل الإمام للمصحف للقراءة في الصلاة فيها خلاف بين أهل العلم
، واختار بعض
المحققين جواز ذلك ، فإذا كان الإمام لم يحفظ ، أو كان حفظه ضعيفاً وقراءته
في المصحف أنفع
للناس وأنفع له ، فلا بأس بذلك ، وقد أورد البخاري (رحمه الله) تعليقاً
في صحيحه عن عائشة
(رضي الله عنها) أن مولاها (ذكوان) كان يصلي
بها في الليل من المصحف ، والله أعلم
- البيان - .
(( مجلة البيان ـ العدد [ 98 ] صــ
111 شوال 1416 ـ مارس
1996 ))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق