أتاتورك وطربوش السفير المصري
بموجب معاهدة لوزان عام 1923م تنازلت تركيا عن ادعاءاتها في مصر والسودان وبعد ذلك أقيمت العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا على مستوى السفراء. ثم لما ألغيت الخلافة عام 1924م، وظهر من يقول بأن الملك فؤاد ملك مصر، يفتح أحضان بلاده أمام كل الهاربين من تركيا سواء من الأسرة المالكة العثمانية، أم من الذين سموا بالمائة والخمسين، وهؤلاء طردهم أتاتورك أيضا من تركيا، ومن ضمن هؤلاء الأخيرين شيخ الإسلام مصطفى صبري صاحب كتاب موقف العقل.
وعندما ألغي أتاتورك ارتداء الطربوش وغيره من أغطية الرأس وفرض القبعة بديلا، أصدر قانونا بهذا سماه قانون القبعة وكان عام 1925م.
وفي عام 1930م، تم تعيين عبد الملك حمزة بك سفيرا لمصر في أنقرة، وظل يرتدي طربوشه في أنقرة مدة عامين كاملين منذ تقديمه لأوراق اعتماده لأتاتورك في نوفمبر من نفس عام تعيينه، حتى يوم الاحتفال بالعيد الوطني التركي في أكتوبر 1932م، وكان أتاتورك قد أقام مأدبة رسمية مساء في أنقرة بالاس أعقبها حفل راقص حضره أعضاء السلك الدبلوماسي الأجنبي في تركيا. وكان المدعوون كثيرين (200 شخصا). وكان أتاتورك يأكل قليلا ويشرب كأسا في سيبل وحدة الإنسانية ومر أثناء خروجه بجانب السفير المصري الذي كان يرتدي الطربوش، وكان الطربوش في ذلك الوقت رمز الوطنية والاستقلال في مصر.
يروي السفير الإنجليزي في أنقرة وقتها، وهو سير جورج كليرك المسألة كالآتي: {أتاتورك للسفير المصري قل لملكك، إنني أنا مصطفى كمال! وإنني أصدرت أوامري لك، بأن تخلع هذا الطربوش من على رأسك، من الآن. ونادى مصطفى كمال أتاتورك، جرسونا.. السفير المصري يخلع طربوشه.. يعطيه للجرسون.. الجرسون يأخذ الطربوش، ويختفي بين نظرات الدهشة في أعين المدعوين.. سفير مصر ينسحب حزينا، من المكان فورا}
ويقول السفير الفرنسي الذي كان حاضرا أيضا الحفل وهو الكونت دي شاميرون: {كان أتاتورك ينظر بين الفينة والفينة بنظرات سخرية إلى السفير المصري..}.
وفي اليوم التالي للحفل، اعتذر توفيق رشدي بك للسفير المصري بشأن ما حدث من أتاتورك. وعلل وزير الخارجية التركية الحادث تعليلا أخويا إذ قال: {إن ما حدث كان حديثا وديا بين أتاتورك وسفير مصر، وإن السفير خلع طربوشه بإرادته حتى يتحدث براحة مع أتاتورك}.
لكن وزير الخارجية المصرية عبد الفتاح يحي باشا، صرح بقوله: {إن أتاتورك قال بشكل قاطع لسفير مصر في أنقرة بأن يخلع الطربوش من على رأس سفير مصر، فرأى السفير أن يخلع بنفسه الطربوش، وأمام هذا الموقف غير المتوقع من أتاتورك وجد السفير المصري، أن يترك القاعة}.
وفي 21 نوفمبر نشرت الديلي هيرالد الإنجليزية خبرا يقول: {تسبب الطربوش في قيام مشادة بين الديكتاتور التركي مصطفى كمال وبين السفير المصري في أنقرة حمزة بك. واعتذر رئيس الجمهورية التركية بعد ذلك رسميا للسفير، وقبل السفير اعتذار الغازي (مصطفى كمال). لكن الحادث انتشر في مصر وأحدث رد فعل عنيف}. ولم تذكر الديلي هيرالد مصدرها..
وفي 11 نوفمبر 1932م أبرقت روتير بالخبر إلى مصر، فعرفته مصر لأول مرة، ونشرته الأهرام. وكذبته وكالة أنباء الأناضول، ونشرت الصحف المصرية هذا التكذيب.
لكن حزب الوفد ـ وكان في المعارضة ـ أراد استغلال الحادث، وضخمه فقالت جريدة البلاغ الناطقة باسمه: {إن هذا الحادث إهانة لمصر، وإنها لإهانة أن يقوم شخص لا يملك حق توجيه الأمر لمصر، إصدار الأمر إلى ممثل مصر، وهو موضع الاحترام حسب قواعد القانون الدولي}.
قالت البلاغ الوفدية أيضا: {هل كان من الواجب اعتذار مصطفى كمال أتاتورك، للسفير، أم لمصر؟! وهل من حق السفير قبول الاعتذار دون الرجوع إلى مصر أولا؟ إن قبول عبد الملك حمزة بك اعتذار أتاتورك معناه أنه جاوز حدود صلاحياته كسفير}.
أراد الملك فؤاد تضخيم المسألة، حتى وصلت إلى مذكرة تهديد بسحب البعثة المصرية الدبلوماسية من أنقرة.
وقالت اللطائف المصورة: {لقد تدخل أتاتورك فيما لا يعنيه. ـ وقالت ـ المصريون أحرار يرتدون فوق رؤوسهم ما يريدون وإن الشعب المصري الحر، يريد أن يعرف ـ وهو محق في هذا ـ ماذا سيتم في مسألة الطربوش}.
واستخدمت روز اليوسف الكاريكاتير ضد أتاتورك، لكن جريدة المقطم المصرية كانت في صف أتاتورك، ووصفته برقة التعامل، وقالت المقطم: {أن ليس هناك مشكلة أصلا}.
وترددت أسئلة في أنقرة عقب ذلك، لماذا خرج هذا الخبر من لندن، ولم يخرج من مصر؟ وما هو هدف الصحافة المصرية من إذاعة الخبر وتضخيمه؟ وما دور الأوساط السياسة الإنجليزية في هذه المسألة؟! ولماذا لم تذكر الديلي هيرالد التي كانت أول من أذاع النبأ، مصدرها الذي استقت منه الخبر؟!.
وقال عاصم أوص: {إن الملك فؤاد يريد الإضرار بالاقتصاد التركي في مصر، لكي يغير الجو ويكهربه بين مصر وتركيا ونشرت الأهرام أن ليس بين البلدين مشكلة، وانتهى الأمر بتقديم مذكرة مخففة من الخارجية المصرية إلى الخارجية التركية، تقبلها الأتراك بقبول حسن، وانتهت المشكلة.
في حوار بين أتاتورك والسفير المصري حمزة بك في حفل راقص أقامه الهلال الأحمر التركي بمناسبة عيد رأس السنة، استدعى أتاتورك، حمزة بك ـ وكان حاسر الرأس بغير طربوش ـ إلى جانبه، ودار الحوار بينهما على الوجه الآتي:
أتاتورك: ـ باستهزاء بالغ ـ لماذا لا تلبس الطربوش؟
حمزة بك... (مندهش)...
أتاتورك: لماذا كتبت عني تقريرا إلى حكومتك؟.
حمزة بك...
أتاتورك: إذا لم ترتد الطربوش في حفل 29 أكتوبر القادم، فإني أنا الذي سأكتب عنك تقريرا وأرسله إلى حكومتك، أقول فيه إنك لا ترتدي الطربوش.
حمزة بك...
عبر أتاتورك في هذه اللحظة عن حبه لحمزة بك وللملك فؤاد، وقال للسفير إن المذكرة المصرية الثانية أحدثت في تركيا ارتياحا، وبالتالي فإن المشكلة انتهت.
وصدر بيان الحكومة في البرلمان المصري 23 يناير 1933م بأن لم تكن هناك مشكلة، وإن العلاقات طيبة بين البلدين.
وعندما مات الملك فؤاد في 28 أبريل 1936م أرسل أتاتورك برقية تعزية إلى الملك فاروق، وقدم سفير تركيا في مصر أكليل زهور باسم أتاتورك فاق كل ما قدمه السفراء الآخرون.
وبمقدم الملك فاروق، بدأت صفحة جديدة من العلاقات المصرية التركية، ففي السابع من أبريل عام 1937م وقعت معاهدة الصداقة المصرية التركية.
*المرجع: كتاب العثمانيون في التاريخ والحضارة، للدكتور محمد حرب، الناشر دار القلم، الطبعة الثانية، سنة الإصدار 1999م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق