الاثنين، 10 مارس 2014

عبد المنعم خفاجي.. دائرة معارف إنسانية

عبد المنعم خفاجي.. دائرة معارف إنسانية

ناصر محمود وهدان**

يذكرك محياه، عندما تراه لأول مرة، بالعلماء الأفاضل من أمثال الإمام السيوطي صاحب المؤلفات العامرة، والخليل بن أحمد صاحب رائعة علم العروض، والشيخ الداعية محمد الشعراوي، والدكتور محمد الطيب النجار، والدكتور مهدي علام، وغيرهم كثير.
فالدكتور محمد خفاجي الذي غادرنا مؤخرا يعتبر علما من أعلام مصر المعاصرين، وأديبا من أدبائها المعدودين، ودائرة معارف تمشي على قدمين، كما وصف من قبل عارفيه.
نشأته وتعليمه

في قرية "تلبتانة" من قرى المنصورة بمحافظة الدقهلية في 22 من يوليو سنة 1915م كان مبتدى الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، رحمه الله، وعلى أرض فيصل بمحافظة الجيزة وفي صباح الأربعاء 8 من صفر 1427هـ= 8 من مارس 2006م كان منتهاه.
بدأ حياته العلمية ملتحقا بكتاب القرية الذي تعلم فيه مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وأتم تعليمه بمدارس المنصورة ليلتحق سنة 1936م بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر التي حصل منها على الشهادة العالية "الليسانس" ومن ثم عمل مدرسا بمدارس "الليسيه فرانسيه".
وبعد فترة قصيرة حصل على الشهادة التمهيدية لشهادة الأستاذية سنة 1944م، وحصل على شهادة العالمية من درجة أستاذ "الدكتوراة في الأدب والنقد" سنة 1946م برسالته عن الشاعر الناقد الخليفة العباسي "ابن المعتز".
وفي سنة 1948م عين مدرسا في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر الشريف. وفي سنة 1973 عين رئيسا لقسم الأدب والنقد فيها، ثم عميدا لكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر في أسيوط.
وبين سنتي 1974م، و1978م عين عضوا في المجلس الأعلى للأزهر، وعضوا في لجنة الشعر، وعضوا في شعبة الآداب في المجالس القومية المتخصصة منذ عام 1976م حتى وفاته، وعضوًا في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة، ثم عين أستاذا متفرغا بجامعة الأزهر منذ عام 1980م، وأستاذا في معهد الدراسات الإسلامية بالقاهرة عام 1981م، كما اختير أستاذا زائرا في كلية الآداب جامعة الخرطوم السودانية عام 1975 وعضوا في مجلس إدارة اتحاد الكتاب منذ عام 1976، وخبيرا في مجمع اللغة العربية منذ عام 1984م.
قيمة علمية

يمكن تلخيص مفتاح شخصيته في الوجه الطليق، والكلام اللين، والتوازن، والموسوعية، وعدم إضاعة الأوقات؛ فقد كان يؤمن بأن الواجبات أكثر من الأوقات، ولعل هذه الأسباب تفسر سر مصنفاته العامرة التي بلغت أكثر من خمسمائة مصنف.
مثّل خفاجي مدرسة علمية معاصرة؛ فهو صاحب إحدى المدارس العلمية المعاصرة في الأزهر الشريف وجامعته، بل وفي العالم الإسلامي والغربي.
وخلال رحلته العامرة تخرج على يديه أجيال من الأساتذة والجامعيين. واختارته مختلف الجامعات المصرية والعربية عضوا مناقشا في رسائل الماجستير والدكتوراة، وحكّمته مختلف الجامعات العربية في فحص النتاج العلمي للمرشحين لوظائف الأستاذية في أقسام الأدب.
وكان نتاج مؤلفاته وأعماله الأدبية الكثيرة أن كتب عنه الكثير من النقاد والأدباء في مصر والعالم العربي وفي المهجر، إضافة لبعض المستشرقين وفي مقدمتهم الدكتور "عبد الكريم جرمانوس"، والدكتور أرنست بانرت دراسات متعددة، وصدرت عنه وعن أعماله العلمية والأدبية نحو 10 كتب وسجلت رسائل جامعية في مصر وتونس والجزائر والسعودية عنه وعن أدبه.
مؤلفًا ومحققًا وشاعرًا

تنوعت اهتمامات خفاجي، فنراه مؤلفا وشاعرا ومحققا، كما أحب الكتابة الصحفية التي نرى له منها أعمالا وكتابات منذ الأربعينيات حتى وفاته، ومن عطاءاته:
مؤلفا: فهو أديب وناقد ومؤرخ للأدب العربي، كما كان شاعرا، وقد ألّف الكثير من الكتب في الأدب والنقد والبلاغة واللغة والبحوث الأدبية والتصوف، وفي الإسلاميات وفي التاريخ وفي مناهج البحث، وغيرها ومن مؤلفاته:
"ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان"، و"أبو عثمان الجاحظ"، و"قصة الأدب المهجري"، وقصة الأدب في الأندلس، وقصة الأدب في مصر، وقصة الأدب في ليبيا، وقصة الأدب في "الحجاز"، و"قصة الأدب المعاصر"، و"مدراس النقد"، و"المكتبة الأدبية"، و"الأدب العربي الحديث" (6 أجزاء)، و"الحياة الأدبية بعد ظهور الإسلام"، و"الحياة الأدبية في عصر بني أمية"، و"الحياة الأدبية في العصر العباسي بعد سقوط بغداد"، و"نحو بلاغة جديدة"، و"الأسلوبية والبيان العربي"، و"دراسات في الأدب الجاهلي والإسلامي"، و"حركات التجديد في العصر الحديث".
ومحققا: حقق خفاجي الكثير من كتب التراث وفي مقدمتها فصيح ثعلب، والبديع لابن المعتز، وشرح مقامات الحريري للشريشي، وقواعد الشعر لثعلب، وفحولة الشعراء للأصمعي، وإعجاز القرآن للباقلاني، ودلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر، وسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي، ونقد الشعر لابن قدامة، وديوان عمر بن أبي ربيعة، وديوان المتنبي –وهو رهن الطبع الآن– بالإضافة إلى شروح له للأجرومية، ولقطر الندى ولشذور الذهب، ولابن عقيل، وله شرح على كتاب الإيضاح في البلاغة للقزويني (6 أجزاء)، وشفاء الغليل للشهاب الخفاجي.
وشاعرا: فهو شاعر وأديب وناقد ومؤرخ للأدب العربي قديمة وحديثة؛ فله شعرا ثمانية عشر ديوانا مطبوعا أقدمها ديوان "وحي العاصفة" الصادر سنة 1936م، وآخرها: "أحلام الأمس" بالإضافة إلى دواوين أخرى مخطوطة.
ومن مؤلفاته في الدراسات الإسلامية: تفسير القرآن الكريم في ثلاثة عشر جزءا، كما اشترك في إعداد تفسير القرآن الكريم الذي نشرته وزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية منذ عام 1969م، وشارك في إعداد تفسير القرآن الكريم الذي ينشره مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر منذ عام 1976م، وكذلك أصدر موسوعة ألفاظ القرآن الكريم، والصوفي المجدد: أكسيد الغنيمي التفتازاني.
كما كان له السبق والريادة في الدعوة إلى إنشاء مجمع فقهي منذ عام 1962م وتحقيق ذلك بقيام المجمع في مكة المكرمة منذ سنوات.
وكان من منهجه في مؤلفاته ومحاضراته أنه إذا أوجز أمتع، وإذا أسهب أقنع، نثره كنثر الورد، ونظمه كنظم العقد، هذبته الآداب، وأحكمته التجارب، تقعده الرزانة، ويسكته الحلم، شيخ المعارف وصاحب المصنفات المتنوعة.
مشاركات غزيرة

كان خفاجي عضوا في جماعة أبوللو منذ قيامها عام 1932م، وفي عام 1969م انتخب نائبا لرئيس رابطة الأدب الحديث ثم رئيسا لها حتى وفاته وهي أقدم جمعية ثقافية وأدبية في مصر ذات الستين عاما من حياتها، والتي ترأسها أمير الشعراء أحمد شوقي عند إنشائها، والدكتور أحمد زكي أبو شادي ثم الدكتور إبراهيم ناجي في الفترة الأول من حياتها ثم الناقد مصطفى السحري في الفترة الثانية من نشاطها. وفي الوقت نفسه ترأس الدكتور خفاجي مجلس إدارة مجلة الحضارة الثقافية والأدبية.
وشارك في مهرجانات عدة منها: ذكرى المفكر الجزائري البشير الإبراهيمي في جامعة وهران عام 1986م، وذكرى الإمام ابن عاشور في تونس عام 1986م، وفي مهرجان تلمسان بالجزائر، وغير ذلك من المؤتمرات الأدبية والثقافية.
شارك رحمه الله -بصفته شاعرا وناقدا- في مهرجانات الشعر التي أقامها المجلس الأعلى للفنون والآداب بالاشتراك مع الجامعة العربية، وفي مؤتمر الآداب والفنون في الخرطوم عام 1975م، كما شارك في مهرجان الذكرى الألفية لشاعر الأندلس "ابن زيدون" في الرباط عام 1975، وكذلك في مهرجان المربد الشعري عام 1981م حتى عام 1989م، ومهرجان شوقي وحافظ الذي أقامته رابطة الأدب الحديث عام 1982م في ذكرى أبو القاسم الشابي في تونس عام 1984م، وفي مهرجان عيد مجلة الفكر التونسية عام 1975م، كما شارك مع د. عبد العزيز شرف في تأسيس سوق الفسطاط للشعر والنقد على غرار سوق المربد.
وجدير بالذكر أن جامعة الأزهر الشريف رشحته للجائزة التقديرية 1989م (فرع الآداب) وهو مرشح لهذه الجائزة منذ عام 1995. وفي سنة 1983م حصل على وسام العلوم والفنون والآداب من الطبقة الأولى، كما كرمته العديد من المحافل المصرية والعربية والإسلامية.
خفاجي ووديع فلسطين

حكى عنه الأستاذ وديع فلسطين –وهو أديب قبطي مخضرم– أنه التقى بالدكتور خفاجي لأول مرة في الأربعينيات عندما كان محررا صحفيا قائلا: "بينما كنت جالسا في مكتبي دخل على الدكتور خفاجي بزيه الأزهري، وعرفني بنفسه وحمل إليَّ تحية شفهية من صديقي د. أحمد زكي أبو شادي فسعدت به وبرسالته الشفهية سعادة غامرة".
وبعد أن توطدت العلاقة بينهما (خفاجي ووديع) احتاج وديع لشهادة موظف حكومي على بعض الأوراق الخاصة به والتوقيع عليها فختمها خفاجي بخاتم عمله بجامعة الأزهر، ولما استلم الأستاذ وديع أوراقه مستوفاة راجع الدكتور خفاجي فيها قائلا له: "أنا قبطي يا مولانا"، فأجابه على الفور: "نعم أعلم ذلك جيدا". ومنذ ذلك لا ينسى الأستاذ وديع هذا الموقف الإنساني للدكتور خفاجي معه.
بصمات واضحة

وقد ترك خفاجي بحياته وبعد رحيله بصمات واضحة في تلامذته فكان خير ما يتركه العالم الإنسان من أبناء بررة في كل مكان. وقد علم تلامذته الوفاء النادر، والتشجيع الصادق، والقراءة الفاحصة المتجددة، وحثهم على المشاركة في مناقشة أعمال أصحاب المقامات العلمية العالية من العلماء والأدباء.
وكان لا يرى إلا متأبطا لكتاب، أو مناقشا لقضية أدبية مهمة، أو مصححا لخطأ شائع حول حياة أديب أو فكره، أو معرفا لأدباء العالم العربي والإسلامي، وذلك من خلال منبره العامر رابطة الأدب الحديث.
وقد ظل الدكتور خفاجي مواظبا على الانتظام في أداء عمله طوال قرن هجري من الزمان، يحضر محاضراته صباحا، ويناقش الرسائل الجامعية عصرا، ويعكف على مؤلفاته ليلا حتى وفاته، وقد سجّل سيرته الذاتية في كتاب بعنوان "مواكب الحياة" أصدره عام 1981م.

** مدرس الدراسات الإسلامية بتربية العريش، جامعة قناة السويس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق