الجمعة، 29 مايو 2015

كيف قوّض البريطانيون التسامح الدينى فى الهند؟


صفحة سوداء فى تاريخ الاستعمار
 
كيف قوّض البريطانيون التسامح الدينى فى الهند؟
 
 

 

محمد البصيرى العكرمي

هل يعقل أن يتمرّد مظلوم ويثور على من سلبه حرّيّته وحقّه فى تقرير مصيره بنفسه، وباختياره الكامل دون تعسّف أو تجنّ ممّن هو أقوى وأشدّ بأسا؟

والمسألة تصبح فى غاية الخطورة عندما يتعلّق الأمر بأمم وشعوب أُبتليت بمصيبة الاستعمار الأجنبي، وعانت الويلات جرّاء القمع والاضطهاد وعلى مدى قرون فى بعض الأحيان، كما فى حالة الهند مع الاحتلال البريطانى الذى شكّل نموذجا سيّئا لازدواجيّة الخطاب والتناقض بين القول والفعل.

فالغزاة البريطانيّون إنما استولوا على تلك البلاد الشاسعة "شبه القارّة" من أجل "إصلاح حالها والنّهوض بشعبها المتخلّف". ولكن لا بدّ أن يقاد الهنود إلى جنّة الاستعمار بالسلاسل، إن هم قاوموا ورفضوا الخنوع والاستسلام لإرادة من جاؤوا بجيوشهم وشركاتهم ومستوطنيهم، يحدوهم فعل "البرّ والإحسان" ونشر "الحضارة" بين شعوب لا بدّ أن تتقبّل الرّسالة وتلهج بالثّناء والعرفان لحامليها الغرّ الميامين، "المحسنين الخيّرين ".

انتفاضة 1857

فى كتابه الرائع "آخر المغول" يعترف المؤلف ويليام دالريمبل بأنه فى صباه - شأنه شأن التلاميذ البريطانيين - تعلّم أن انتفاضة 1857 فى الهند لم تكن سوى حركة عصيان وتمرّد، قام بها جنود هنود تدرّبوا على أيدى قوات الاحتلال. ولكنهم تنكّروا للجميل وانقلبوا على أسيادهم وأولياء نعمتهم وقتلوا أعدادا غفيرة منهم، لمجرد أن مخازن بنادقهم غمست بزيت لم يألفوه.

إلاّ أن المؤلّف وضع فى اهتمامه جلاء الحقيقة وبيان الأسباب التى أدت إلى تلك الانتفاضة الكبرى فى دلهى وكادت تخرج البريطانيين من الهند؛ فأسبابها فى رأيه كثيرة وتتعلق بجملة من مشاعر السخط والتذمر الاقتصادى والسياسى والاجتماعي، وبوجه خاص بالتهديد المسيحى للديانتين الإسلامية والهندوسية؛ وبأنّ أفعال البريطانيين وتصرفاتهم غالبا ما فاقت فى وحشيتها وعنفها ما فعله الثائرون الهنود، وأن ذلك الفصل الدامى وضع نهاية لزهاء 332 عاما من التعاون الإسلامى الهندوسى برعاية الأباطرة المغول والذين شجّعوا النهوض بكل أنواع الفنون فى مناخ من التسامح الدينى الذى لا مثيل له.

والمؤلف لم يتخلّف عن مراجعة وقائع قصة البريطانيين وإنما اعتمد على رواية الجانب الهندى لأحداث تلك الانتفاضة. والكتاب يتناول مأساة تاريخية من عدّة مستويات مختلفة، وهو يظلّ جديرا بالقراءة حقّا. فـ"آخر المغول" لا يصف أسوأ أزمة دموية عاشها الاستعمار البريطانى فى الهند فحسب، وإنما يتوق إلى إحياء ذكرى ثقافة إسلامية هندوسية تتميز بالتنوع والثراء، اختفت فى حمّام الدم فى 1857.

وعاطفة دالريمبل الجياشة إزاء موضوعه وخبرته وبراعته ككاتب كلها تقدم لنا صورة عن حياة الناس الذين شاركوا فى أحداث سنة 1857. فهو فى الصفحة الأولى على سبيل المثال يصف حفل زفاف لموكب يخرج من القلعة الحمراء فى دلهي: "كانت مهمة حاملى الزينات، هى شق طريق عبر الجمهور الهازج فرحا، والفيلة التى زينت كأحسن ما يكون ولم تنزعج من الألعاب النارية بل بدت فى تجاوب وانتشاء مع أجواء العرس الجميلة الصاخبة".

سنوات من البحث

قضى المؤلّف سنوات من البحث ولا سيما فى المحفوظات الهندية. وهو ما ساعده على معرفة حتى اللغة التى كان الناس يستخدمونها آنذاك. وهو ما جرّد قصّة الانتفاضة من مفردات وتعابير الخيال القصصى وجعلها تبدو كما حدثت فعلا.

وفى أوقات الأزمات الحادة كما فى 1857 فى الهند - فإن الأوراق الخاصة والوثائق العمومية كانت تلفّ وتحفظ فى الحال فى مكان آمن. وفى لاهور ودلهي، وكلكوتا، ورانغون، بحث دالريمبل فى مثل تلك الوثائق والتى عفا عليها الزمن منذ 1857، واكتشف أنها تحتوى على ما لا يحصى من العرائض والشّكاوى والقائمات عن الإصابات وعن الوعود بالولاء والإخلاص. فضلا عن تقارير ومذكرات ورسائل لجواسيس ومخبرين. وكان بينها أيضا مجموعات كاملة من الصحف التى كانت تصدر فى دلهى باللغتين الإنقليزية والأوردية.

آخر المغول

كان آخر الأباطرة المغول، بهادور شاه الثانى والمعروف أكثر باسم ظافر، هو سليل جنكيزخان وتيمورلنك "1336-1405"، من أبناء ظاهر الدين بابور والذى تمكّن فى 1526 من إنشاء إمارة فى الهند قام حفيده أكبر بتوسيعها لتشمل معظم شمال البلاد. والمغول فى رأى المؤلّف يرمزون إلى الحضارة الإسلامية فى أرقى تجلّياتها الفنية والجمالية وإلى الإسلام فى خير مبادئه وقيمه فى التسامح والتعددية. وقد حكم المغول الهند بالتآلف والتآزر مع الأغلبية الهندوسية والتى قدمت لهم قسما كبيرا من أفراد جيوشهم. وإمبراطوريتهم كادت تشمل الهند كلها بما فى ذلك باكستان اليوم وجزءا لا بأس به من أفغانستان. وهنا يعلق دالريمبل مقارنا "فى ذلك الوقت بينما كان جيوردانو برونو يحرق حيا فى روما بتهمة الإلحاد، فإن الإمبراطور المغولى أكبر فى الهند كان يعقد ندوات وجلسات للحوار بين العقائد والمذاهب فى قصره، ويعلن التسامح الكامل إزاء كل الأديان وحرية الاختيار بينها".

ولكن قوّة وروعة ذلك التعايش السلمى الذى عاشته الهند خلال حكم ملوكها المغول الخمسة الأوائل لم يلبث أن تقوّض بين 1658 و1707 بفعل أورنجزاب الذى فرض أحكام الشريعة وحرّم الموسيقى والخمر وأشياء أخرى وسمح لعصابات من المسلمين بتدمير المعابد الهندوسية عبر أنحاء البلاد. وهكذا انقسمت الهند بسبب الصراع الديني؛ وعندما توفى أورنجزاب كانت الإمبراطورية لا تزال مقسمة بين الحكام المحليين.

الإمبراطور ظفار والإصلاحات

فى 1837 ارتقى إلى العرش الإمبراطور ظفار وكان فى الستين من العمر، وسعى منذ البداية إلى الحدّ من نفوذ شركة الهند الشرقية البريطانية والتى كانت بمثابة حصان طروادة فى التغلغل والاستعمار البريطانى فى الهند.

ورغم ما أصاب البلاط المغولى من ضعف ووهن، فإن ظفار بذل جهودا هائلة لإحياء وبعث الفنون الهندية وسائر مجالات الإبداع الحضاري. وكان ظفار نفسه أديبا وشاعرا ويحظى بموهبة لا تخفى وكذلك خطاطا بارعا وكاتبا متعمقا فى التصوّف وراعيا للرسامين والتشكيليين على اختلافهم.

والأهم من ذلك أنه كان شاعرا متصوفا لم يكتب باللغتين الأوردية والفارسية فحسب وإنما بالبهاشتية والبنجابية أيضا. وبذلك مثل ظفار صورة حيّة لروح الهند الإبداعية فضلا عن حرصه الشديد على انتهاج سياسة متسامحة ومتفتحة حفاظا على الوحدة بين المسلمين والهندوس.

والهند فى القرن الثامن عشر كانت تغرى الكثيرين من موظفى شركة الهند الشرقية والذين قدمت أعداد منهم أولا كشباب غير متزوجين؛ ولكن عددا منهم سرعان ما اعتنقوا العادات والتقاليد الهندية بما فيها اللباس والزواج من فتيات هنديات. وكانت دلهى حتى ذلك اليوم مدينة شبه مهملة ولكنها رائعة بمعالمها وآثارها المغولية وبثقافتها التى لم تقوّضها الأزمات وتغيرات الزمن. وقد وصل إليها جمع من شركة الهند الشرقية فى 1803 لتمثيل الشركة يرافقهم جنود وضبّاط بريطانيون يتحدّثون لغات أهل البلاد. ومع بداية العهد الفيكتورى وتزايد الثروة بفضل الثورة الصناعية، تغيّر كل ذلك بسرعة، واضمحلّ ما كان سائدا من مساواة اجتماعية إنقليزية هندية واحترام متبادل لتبدأ مرحلة جديدة.

عوامل أخرى

فى جلّ تاريخ الاستعمار، يأتى وقت يشعر فيه المستعمرون بالغروروتأخذهم نزعة الغطرسة إلى احتقار الشعوب الخاضعة لهم. ومن ثمّ فإن هوّة تنشأ وتتوسع بين القوة المهيمنة ومن أخضعتهم لحكمها، يعزز هذا الشعور بالاعتقاد أن القوة العسكرية الإمبربالية لا تقهر، وهو ما تنجم عنه حالة من الجهل والغفلة بما يؤدى إلى حدوث المفاجآت غير السارة وتحصل الكارثة. ويبدو أن هذا هو حال البريطانيين فى الهند خلال الخمسينات من القرن التاسع عشر.

والعامل الآخر المهم الذى ساعد على اندلاع الانتفاضة الكبرى فى 1857 كان هو صعود المسيحية الإنجيلية. فالبريطانيون راودتهم باستمرار فكرة أنهم ينفذون مشيئة الله ولكن فى الهند إبان منتصف القرن التاسع عشر، فإنهم عزموا على الذهاب أبعد من ذلك. فالهنود الذين أعجبوا بهم كثيرا منذ وقت ليس بالقصير من فترة الاستعمار، أصبحوا الآن فى أعينهم مجرد "وثنيين غارقين فى ظلام الزيغ والضلال"، وأنه من صالحهم أن يُدفعوا إلى اعتناق الديانة الحقيقية الوحيدة. وفى الواقع فإنه منذ أوائل القرن المذكور صار عدد كبير من البريطانيين يخططون لإلغاء البلاط المغولى وفرض المسيحية إلى جانب القوانين والتكنولوجيا البريطانية على الهند. وبعد أن كانت شركة الهند الشرقية قد منعت نشاط المبشرين، فإنها عادت الآن لتشجيعهم.

وكان استنكار الهندوس والمسلمين شديدا فى مواجهة المخططات الإنجيلية البريطانية. وجاء ردّ الفعل فى 1857 بتفجر العصيان الكبير. ومن 139.000 من جنود المخزن البنغاليين، لم يبق مواليا للبريطانيين سوى 7.796. وكانت هناك شكاو أخرى تتصل بالضرائب والشطط فى تحصيلها ساعدت هى الأخرى فى تغذية روح التمرد والثورة. أما آخر قشّة أشعلت نيران الانتفاضة، وإن بدت موضع شكّ، فكانت هى أن الزيت الذى دهنت به مخازن الذخيرة فى البنادق، إنما كان من شحم الخنزير. وعلى أية حال فإن انتفاضة 1857 كانت بالنسبة إلى الهنود على الأقل، ثورة وحربا دينية على نحو طاغ.

ما الذى جرى؟

أولى أحداث حركة العصيان بدأت فى ميروت شمال دلهى يوم الأحد 10 مايو 1857. وقد بوغت البريطانيون بالهجوم عليهم فى كل من ميروت ودلهي. وفى يوم الاثنين 11 مايو انضمّ إلى الانتفاضة جمع من فرسان المخزن وأخذوا يقتلون كل مسيحيّ رجلا أو امرأة أو طفلا يصادفهم فى طريقهم.

ورغم أن المقيم السامى البريطانى فى دلهى سيمون فريزر، كان تلقى رسالة تحذر من أن سرايا جنود المخزن فى ميروت كانت تعدّ للثورة، فإنه لم يعر المسألة اهتماما بل لم يفتح الرسالة إلا فى اليوم التالى عندما كان المنتفضون يتدفقون من ميروت على دلهى وقد قطع الاتصال التلغرافى بين المدينتين منذ اليوم الأول ولم تصل الرسائل إلى القائد العسكرى الجنرال جورج أنسن الذى كان موجودا فى سيملا قريبا من لاهور فى منطقة البنجاب.

وعندما اتصل الجنرال بالرسالتين فإنه قضى أياما أربعة يفكر فى الرد المناسب، وهو الرجل الذى اعتزل العمل العسكرى عمليا منذ معركة واترلو قبل اثنين وأربعين عاما، ثم عشرة أيام أخرى للتحرك، ولكنه توفى بالكوليرا بعد بضعة أيام. أما السير جون لورانس المفوض الأول بالبنجاب فإنه كان حذرا وقرر تجريد من حوله من جنود المخزن من السلاح وكانوا يشكلون أربعة أفواج ومزوّدين بمدافع بريطانية. وهو إنما قصد من وراء ذلك منعهم من الانضمام إلى الانتفاضة المسلحة والحفاظ على لاهور كمركز للقيادة وقاعدة عسكرية للبقاء والتعزيز وربما لنجاح القوة البريطانية الصغيرة التى ظلت خارج دلهي.

ولم يدرك البريطانيون أنه فى أزمة كبرى كهذه يمكن أن يلعب الإمبراطور المغولى دورا هاما. ورغم أن سلطته لم تكن ربما تتجاوز أسوار الحصن الأحمر ولكن كان لا يزال يحظى بمنزلة عالية وتقدير لا يخفى لدى غالبية الهنود ولا سيما المسلمين منهم. وقد جاء وصف بعضهم له بأنه ابن العناية الإلهية وخليفة العصر وصاحب المجد والسؤدد والقداسة؛ فالملائكة تحفّ به وهو ظل الله فى الأرض وملاذ الإسلام وحامى العقيدة المحمدية، سليل بيت تيمورلنك ملك الملوك الأقوى، إمبراطور ابن إمبراطور وسلطان ابن سلطان.

وكان أول شيء قام به الجنود الثائرون عند وصولهم إلى دلهى هو أنهم ذهبوا إليه متوسلين بأن يقود الانتفاضة.

ماذا لو نجحت؟

لو كتب للانتفاضة النجاح فإن أسرة المغول الحاكمة ربما استعادت البعض من مجدها السابق، ولكن ظفار بدا عليه القلق ولم يبد رغبة فى التورط. بيد أنه كانت تعوزه أيضا الوسائل المادية لمقاومة الثائرين، وتحت تأثير إحدى زوجاته زينات محل، لم يجد بدّا من مباركة حركتهم التمردية. وبذلك كان هذا القرار بمثابة تقرير لمصير ظفار ومدينة دلهى معا؛ وكان أيضا قد جعل من الانتفاضة تتحول من مجرد عصيان فى صفوف جمع من الجنود إلى أكبر تحدّ وأخطره تواجهه أية إمبراطورية غربية فى العالم آنذاك بل وعلى مدى القرن التاسع عشر بأكمله.

ومن شهر مايو حتى سبتمبر/ أيلول استمر صراع مرير يجرى قرب أسوار مدينة دلهى وأخيرا فى وسط المدينة ذاتها بعنف رهيب. والمدنيون والجنود البريطانيون الذين نجحوا فى الإفلات من جنود المخزن، والجنود الهنود الذين بقوا موالين،نجحوا فى فتح ثغرة فى سور المدينة والتسلل إليها شيئا فشيئا ولم يلبث الوضع فى دلهى أن تدهور وقد عمت الفوضى بين صفوف الثائرين وأصبحوا ينهبون ما يعثرون عليه؛ ثمّ كان وصول الجهاديين المسلمين الذى هدد أيضا الانسجام الدينى التعددي، وكان عددهم يناهز العشرين ألفا من المتعصبين والمعادين لسكان دلهى من الهندوس بالرغم من دعوات ظفار المتكررة إلى الوحدة الهندوسية الإسلامية. وكان ظفار وهو فى الثمانين من العمر وشبه معزول يغرق فى اليأس وقد انصرف إلى كتابة الشعر والتهديد بالذهاب إلى الحج والبقاء فى مكة. وقد ساءت الأوضاع التموينية وغيرها وتكثفت هجمات المدفعية البريطانية بما صارت معه الحياة جحيما لا يطاق. وفى كلكوتا، رفض الحاكم العام اللورد كانينغ أية مفاوضات وأية وساطات بما فيها مساعى زينات محل.

وكان البريطانيون يعولون على وصول التعزيزات والثائرون كان لهم تفوق عددى وحتى فى الأسلحة، أما القوة البريطانية فكانت تتألف أساسا من أربعة آلاف من المجندين الجوركا والسّيخ فى مواجهة عشرين ألف ثائر - كانت تأتيهم التعزيزات يوميا ولكنهم فشلوا رغم ذلك فى الاستفادة من تفوقهم العددى والتسليحى - كانوا يجهلون مسائل الاستراتيجيا والتنسيق إذ لم يدرّب أى منهم على يد البريطانيين على أساليب القيادة. وحتى من تدربوا على ذلك فإنهم لم يتجاوزوا المائة رجل. وهم أيضا افتقروا إلى منظومة استخبارية، ومما زاد الطين بلّة تفجّر العداوات والخصومات والمؤامرات بين القادة المتنافسين، الشيء الذى حال دون إنشاء خطّ واضح وثابت للقيادة.

والثائرون ظلوا يشنون هجوماتهم كل يوم تقريبا على تجمع البريطانيين خارج المدينة ثم يعودون إليها فى الليل. وآخر الأمر فإن افتقارهم إلى التنظيم اللوجيستى نشأت عنه نواقص شديدة فى كل شيء ولا سيما فى الذخيرة والأطعمة.

تطورات المعركة


ورغم التعزيزات التى قدمت وانضمت إلى الحامية البريطانية فإن النصر لم يبد قريبا أو مؤكدا. فميرزا مغول الابن الأكبر للإمبراطور والذى كان قد تولى قيادة قوات الانتفاضة فى دلهى أنشأ دفاعات داخلية لخداع البريطانيين وهم يجتاحون المدينة وكان لا يزال هناك 60.000 ثائر داخل الأسوار. وفى الساعات الأولى من يوم 14 سبتمبر/ أيلول تقدم البريطانيون لمهاجمة المدينة بقيادة الجنرال جون نيكلسون المعروف بكراهيته الشديدة للهنود والأفغان، وكانت البداية من باب كشمير؛ وقد جرح فى الساعات الأولى جرحا قاتلا وقتل 60 ضابطا و1.100 من الأفراد، أى ما يساوى ثلث القوة المهاجمة. أما الباقون أحياء من الجنود فإنهم تشتتوا وأخذوا فى أعمال النهب وغاب الانضباط فى صفوفهم وصار قائدهم الجنرال السير أرشديل ويلسن فى حالة يائسة.

وعند هذه اللحظة الحرجة طلب الجهاديون المسلمون من ظفار أن يقود هجوما مضادا، فوافق الإمبراطور ولكنه لم يحضر فى الوقت المحدد، وهكذا وفى اللحظة التى كان فيها البريطانيون على وشك الانهيار أصيبت الانتفاضة بالانقسام والفرقة وأخذ ألوف من جنود المخزن والجهاديين يقصدون بيوتهم. وفى الساعات الأولى من يوم 17 سبتمبر/ أيلول غادر الإمبراطور المدينة إلى ضريح الصوفى نظام الدين حيث ترك بعض الآثار المغولية فيه ثم ذهب إلى قصره الصيفى فى مهارورى وهناك أقنعه أحد الجواسيس بالذهاب إلى مقبرة همايون حيث وجد فى انتظاره البريطانى هدسون الذى وعده بالحفاظ على حياته هو وحاشيته، رغم أن هدسن تلقى انتقادا على هذا التصرف النادر من الرأفة. وفى يوم 18 سبتمبر/ أيلول وبينما آخر جنود الانتفاضة يفرون من المدينة، جرى كسوف كامل للشمس لمدة ثلاث ساعات.

البريطانيون ينتصرون دون عناء

وفى يوم 20 سبتمبر/ أيلول دخل البريطانيون الحصن الأحمر وأخذوا فى نهب وتخريب القصر وكان انتقامهم رهيبا لا يميّز. وعمد ضباط وجنود وحتى بعض المدنيين إلى إطلاق النار عشوائيا وجماعيا ونصب المشانق عبر أحياء المدينة وحتى فى الريف القريب وأخذت الجثث تتكدس وتتعفن فى كل مكان. وقد ذكر اللورد كانينغ الحاكم العام للملكة فيكتوريا "إن أعمال ثأر مسعورة جرت هناك حتى بين من يتوجب عليهم أن يقدموا الأسوة الحسنة". وقد عينت لجنة رسمية للإشراف على أعمال الإعدام وتوزيع الغنائم ومن ثمّ تشريع المجازر وأعمال النهب.

فى البرلمان البريطاني

وفى البرلمان البريطانى ارتفعت أصوات على غرار ما جاء على لسان اللورد بالمرستون الذى طالب بإزالة مدينة دلهى من الوجود، ولكن السير جون لورانس أقنع اللورد كانينغ بأن لا يفعل ذلك. والأضرار التى أصابت المدينة كانت كارثية لا محالة. وقد كتب الشاعر المسلم غالب وهو من القلائل الذين نجوا هربا من دلهي، كتب يقول "أشعر وكأننى فارقت الحياة فعلا". وقد خرّب نحو 80 فى المائة، من قصر الحصن الأحمر، وللأسف فإن أحدا لم يفكر فى أن يرسم له مخططا قبل دمار ما وصفه المؤرخ المعمارى جيمس فرغيسون بأنه "أجمل قصر فى العالم".

مصير الإمبراطور وحاشيته

ظل الإمبراطور ومن معه سجناء ينتظرون اتخاذ قرار بشأنهم. وفى صحيفة التايمز وصف الصحفى ويليام هاوارد راسل، وصف ظفار بأنه كان يعيش فى ظروف قذرة داخل قصره، "يكتب الشعر على الجدار بجذاذة عصا محترقة". وكان هناك دون ريب مشكل أساسى بشأن مآل الإمبراطور وسعت شركة الهند الشرقية إلى توريطه فى تهمة الخيانة والتواطؤ مع الانتفاضة وذهبت إلى حد المطالبة بمحاكمته أمام مجلس عسكرى وهو ما حدث فعلا فى شكل مهزلة انتهت بإدانة وشنق معظم أفراد حاشية وعائلة ظفار وجادل المدعى العام العسكرى هاريوت بأن ظفار بطموحاته الإسلامية المتزمتة كان على رأس مؤامرة عالمية إسلامية لزعزعة الإمبراطورية البريطانية وتعويضها بأخرى مغولية.

وهذا الهذر "الإسلاموفوبي" جرى إقراره كما هو من البريطانيين فى الهند وإن أثار فى الحقيقة بعض التحفّظ من عامة الناس فى إنجلترا. وظل المجلس العسكرى يمدد فى آجال التحقيق مع ظفار الذى صار غير حافل بما كان يجري. وأخيرا فإن أعضاء المجلس انسحبوا للمفاوضة فى الحكم الذى يصدرونه ثم عادوا بعد دقائق ليعلنوا أن ظفار مذنب فى كل التهم المنسوبة إليه وأنه يجب أن ينقل لقضاء ما تبقى له من عمر إلى جزر أندامان أو إلى أى مكان آخر يختاره الحاكم العام بعد التشاور.

وقد قضى حكم كانينغ بأن يذهب ظفار ومن بقى معه إلى جزر أندامان باستثناء اثنين من أبنائه الخمسة عشر وذهب الجميع فى آخر المطاف وفى ظروف لائقة نسبيا إلى مدينة رانغون حيث لم يطل به العمر ليتوفى هناك فى شهر نوفمبر/ تشرين الثاني/ تشرين الثانى 1862 ودفن فى قبر بشكل سرّيّ دون علامات تشير إليه ولكن بمرور السنين أقيم ضريح فى المنطقة التى دفن فيها. وفى 1991 عثر عمال مجارى الصرف على القبر الحقيقي، ولأن ظفار لا يزال يحظى بالاحترام كأحد أولياء الصوفية، فإن المكان أصبح مزارا لمحبّيه.

على أنّ عفوا عاما صدر فى أول نوفمبر/ تشرين الثانى 1858 باقتراح من ديزرائيلى وأعلن باسم الملكة فيكتوريا وهو العفو الذى وضع حدا لحملة الانتقام البريطانية واحتج ديزرائيلى قائلا إنه ضدّ مقابلة الفظاعات بالفظاعات. ومن ذلك الوقت تحمل التاج البريطانى المسؤولية فى الهند والتى كانت راجعة لشركة الهند الشرقية وتمّ إدماج جيش الشركة فى صفوف الجيش البريطانى وأخيرا تمّ حل الشركة فى 1874.

العودة إلى دلهي

عاد السكان الهندوس تدريجيا إلى دلهى ولكن المسلمين لم يسمح لهم بذلك، وهكذا انتقلت السلطة فى المدينة من النخبة المسلمة إلى الصيارفة الهندوس. وبعد الانتفاضة ورغم أن الجنود المشتركين فيها كانوا فى جلهم من أفراد المخزن الهندوس فإن البريطانيين عاملوا المسلمين الهنود ربّما كأناس من طينة خاصة.

أما العلاقة بين الهندوس والمسلمين، فالمؤلف يتطرق إليها بالقول "فى السنوات القادمة وفى حين كانت منزلة المسلمين تهوى وتعليمهم يتناقص فإن ثقة الهندوس بأنفسهم وبثروتهم وتعليمهم أخذت تزداد ويزداد معها شعورهم بالنفوذ، وأخذ الهندوس والمسلمون يفترقون شيئا فشيئا فى ظل السياسة البريطانية فرق تسد والتى وجدت لها متعاونين ضمن الشوفينيين من كلا الفريقين والعقيدتين. وهكذا اتسع الشرخ الذى أصاب النسيج الذى صنعته الثقافة المشتركة فى دلهى وأخذ يزداد اتساعا إلى حدّ القطيعة والتقسيم فى 1947 إبان الاستقلال.

لقد توجه بعض المسلمين الهنود إلى الغرب فى حين رفض آخرون ذلك بكل الأشكال والوجوه وعادوا إلى ما رأوا فيه جذورهم الإسلامية الصافية. ويلاحظ دال ريمبل أنه بعد مضى 140 سنة وعلى مسافة مائة ميل شمال دلهى جاءت المدارس فى باكستان وأفغانستان والتى أنتجت حركة طالبان والتى أنشأت أكثر الأنظمة الإسلامية رجعية فى التاريخ الحديث"، ومع علاقاتها بالقاعدة ومع أكثر التنظيمات الأصولية الإسلامية لشن هجوم مضاد على الغرب.

والأصولية الإسلامية ومختلف أشكال الإمبريالية الغربية لا تزالان مشتبكتين فى صراع خطير، والتعصب أو الجهل أو كلاهما منعا المتزمّتين من الجانبين وما انفكا يدفعان باتجاه مواجهات جديدة.

إن كل فصل من كتاب "آخر المغول" ينطوى على أصداء تاريخية لا تزال ذات صلة إلى اليوم أحببنا أم كرهنا. ولعلّ القليل القليل قد تغير منذ القرن الأول قبل الميلاد عندما أعلن لوكريتيوس حكمه الشهير "هذه هى ذرى الشّرّ التى ينجذب إليها الناس عبر معتقداتهم الدينية الخاطئة".

وأيا كان الأمر فإن هذا الكتاب يظل يتميز بقدر كبير من الموضوعية ويكشف عن فصل آخر مأساوى من تاريخ الاستعمار الغربى البغيض وهذه المرة فى الهند.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق