الاثنين، 1 يونيو 2015

إبادة الأرمن... قصة ملفقة: مزاعم وحقائق


إبادة الأرمن... قصة ملفقة: مزاعم وحقائق -1-

بقلم: إسماعيل باشا
 


المقدمة

هناك قصة تطرق آذان العالم وتشغل أذهانه الفينة بعد الأخرى بسبب ضجة تثار حولها من قبل اللوبي الأرمني في الدول الغربية وبسبب مشاريع قرار تناقش في البرلمانات الأوروبية وكأن حسم الخلافات التاريخية من شؤونها، هي قصة إبادة الشعب الأرمني على يد العثمانيين الأتراك.

ولا شكأن هذه قصة ملفقة تقدم كصفحة سوداء من صفحات تاريخ الإبادات الجماعية وجريمة كبيرة في حق الإنسانية وهي في الحقيقة مجرد دعاوى وراءها مآرب مختلفة لكل من يدعيها ويروجها.

إن قصة إبادة الأرمن بالنسبة لبعض الأحزاب والدول ورقة سياسية قبل أن تكون وقائع تاريخية، تلعب بها وفق مصالحها، أحيانا للضغط على الحكومة التركية وأحيانا لكسب أصوات الناخبين الأرمن.

وهذه القصة الملفقة محاولة لتزوير التاريخ وتضليل الرأي العام العالمي وفرية على الدولة العثمانية بل وعلى الإسلام والمسلمين، ويجب الكشف عن حقيقتها حتى لا يعبث العابثون بالتاريخ في زمن كثر فيه العبث بالحقائق والمصطلحات.

ولابد من معرفة ما جرى في التاريخ حتى يفهم ما يجري في عالمنا الحاضر من التدخل الخارجي في شؤون الدول الإسلامية وتدويل مشاكلها الداخلية، ثم توظيفها لمصلحة هذا وذاك.

ولتُناقش مشكلة الأرمن وقصة إبادتهم الملفقة بكل شفافية كي يتضح لنا وللعالم أجمع مدى استخدام الدول الغربية المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين وتفكيك الدول وإثارة الفتنة بين الشعوب المتعايشة جنباًَ إلى جنب على مدى القرون، والتدخل في شؤونهم الداخلية تحت مسميات مختلفة منذ عهد "المسألة الشرقية" إلى عهد "الشرق الوسط الكبير".

ما هي الادعاءات في قصة إبادة الأرمن؟

عندما ننظر إلى ادعاءات الأرمن في المشكلة الأرمنية نجد أنها تتلخص في النقاط التالية:

- أن شرقي الأناضول الوطن الأم للأرمن والأتراك احتلوا أرمينيا واستولوا على أراضي الأرمن بقوة.

- مارس الأتراك ضد الأرمن مذابح جماعية وبشكل منظم ابتداء من الحرب العثمانية-الروسية (1877-1878).

- ارتكب الأتراك في حق الأرمن إبادة مخططة في عام 1915 وما بعده.

- هناك أوامر سرية لطلعت باشا لإبادة الأرمن.

- مليون ونصف مليون أرمني فقدوا حياتهم في الإبادة.

الكل له أن يدعي... ولكن كل دعوى بحاجة إلى دليل لصحتها حتى تقبل.

وأهداف الأرمن بهذه الادعاءات أهداف مرحلية تتخلص في أربع مراحل:

1- اعتراف الدول الكبرى والمنظمات الدولية بإبادة الأرمن المزعومة.

2- اعتراف تركيا بها تحت ضغوط تلك الدول والمنظمات وبشعار مصالحة تركيا مع تاريخها.

3- إجبار تركيا لدفع تعويضات مادية إلى ضحايا الإبادة المزعومة أو إلى ورثتهم.

4- ضم جزء من شرقي الأناضول إلى أرمينيا بتطبيق معاهدة سيفر (Sévres) التي تعطي الأرمن جزءاً من شرقي الأناضول.

ومما لا شك فيه أن هذه الأهداف بعيدة عن الواقع.

هل شرقي الأناضول الوطن الأم للأرمن؟

اختلف المؤرخون الأرمن في تحديد أصول الأرمن إلى آراء متباينة، فلنذكر هنا بعضها:

1-أن الأرمن من بني حايك (Hayk) من أحفاد نوح عليه السلام. ويرى أصحاب هذا الرأي أن سفينة نوح عليه السلام استوت على جبل آغري (Ararat) فهذا يعني أن الوطن الأم للأرمن شرقي الأناضول. ولكن هذا الرأي لا يستند إلى أي دليل علمي كما أن استواء سفينة نوح عليه السلام على جبل آغري غير ثابت.

2- أن أصول الأرمن تصل إلى أورارتو (Urartu). ومن المعروف أن أورارتو من أقوام شرقي الأناضول يمتد وجودهم إلى 3 آلاف سنة قبل الميلاد وأنهم تعرضوا لهجوم المد (The Medes) فأبيدوا، وكانت منطقتهم محل صراع بين ليديا (Lydia) والمد وفي نهاية الصراع وقعت تحت نفوذ المد . ولا يذكر في تلك الفترة في الأناضول اسم الأرمن بأي شكل من الأشكال، كما أن لغة أورارتو ولغة الأرمن تختلفان تماماً ولا تشتبهان. لغة أورارتو من اللغات الأسيوية وتشبه لغات أورال-آلتاي (Ural-Altaic Languages) وثقافة أورارتو أيضا تشبه ثقافات أورال-آلتاي وأما لغة الأرمن فتعد من مجموعة "ساتم" من لغات الهند-أوروبا (Satem group of Indo-European Languages). وعلى هذا، لا يمكن القول بأن أصول الأرمن تنحدرمن أورارتو، إذ لا يوجد أي دليل يثبت هذا الادعاء.

3- أن الأرمن تنحدر من "تراك-فريق" (Thracian-Phrygian) من أقوام البلقان. وهذا الرأي يحظى بقبول واسع بين المؤرخين الأرمن ويقول إنهم هاجروا من البلقان إلى شرق الأناضول بسبب ضغوط "إليريا" (Illyrians) في القرن السادس قبل الميلاد. ويذكر اسم الأرمن أول مرة في التاريخ في كتابات باهستان (The Behistan Inscription) للإمبراطور المدي (الفارسي Persian) دارا (Darius) التي كتبت في عام 521 قبل الميلاد، حيث يقول فيه الإمبراطور: "هزمت الأرمن". وهذا الرأي يسقط احتمال صحة القولين الأول والثاني.

4- أن الأرمن قوم من أقوام القوقاز ووطنهم الأم هو قوقازيا الجنوبية. يستدل أصحاب هذا الرأي بقرابة الأرمن من العرق القوقازي والثقافة القوقازية، كما يستدلون بأن الإمبراطور دارا (Darius) أشار إلى قوقازيا عندما قال "هزمت الأرمن". ولكن في الحقيقة ليست هناك أي صلة للأرمن مع أقوام قوقازيا الأخرى.

5- أن الأرمن قوم من أقوام طوران (Turanian). يستدل أصحاب هذا الرأي بالقرابة الثقافية بين الأرمن وبعض القبائل التركية والآذرية.

ولا شك أن هذه الاراء المختلفة تدل على أن الأناضول لم يكن وطنا أصليا للأرمن ولا يصل وجودهم في الأراضي الأناضولية إلى ما قبل ثلاثة أو أربعة آلاف سنة كما يزعمون وأنهم جاؤوا إلى المنطقة فيما بعد وليسوا من سكانها الأصليين. [1]

وكان الأرمن قد سكنوا هذه المنطقة من شبه جزيرة الأناضول قبل عدة عصور، قبل مجيء الأتراك، وكانوا في منطقة النزاع بين الإمبراطوريات الكبيرة آنذاك وهي الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، مما أدى إلى وقوعهم تارة تحت سيطرة هذه وتارة تحت سيطرة تلك.

وبعد ظهور الإسلام وتوسع دولته وتغلب المسلمين على الفرس وعلى البيزنطيين أصبح الأرمن تحت حكم العرب المسلمين تارة وتارة تحت حكم البيزنطيين.[2]

وعندما قدم الأتراك إلى الأناضول في القرن الحادي عشر وجدوا فيه الأرمن والسريانيين والعرب ولكن الحاكم الوحيد للأناضول كان البيزنطيين.[3]



[1]انظر: Ten Questions Ten Answers; Question 1

[2]أورخان محمد علي؛ السلطان عبد الحميد الثاني حياته وأحداث عهده؛ ص 27

[3]Erhan Afyoncu; Bkz. Ermeni Meselesi Üzerine Ara?t?rmalar; Önsöz V

 

إبادة الأرمن... قصة ملفقة: مزاعم وحقائق -2-

بقلم: إسماعيل باشا

 

كيف بدأت الأحداث؟


إن معرفة خلفية الأحداث تساعد كثيراً على فهمها، بل في بعض الأحيان لا يمكن فهمها إلا بها. ولذلك، يجب أن نعرف خلفية مشكلة الأرمن وكيف ومتى ولماذا بدأت؟.. حتى تتضح الصورة أمام أعيننا دون أن يبقى أي جانب من جوانبها مظلماً أو مجهولاً.

أ- الأرمن... الملة الصادقة

عندما سمح السلطان الفاتح محمد خان للبطريركية الأرثوذكسية بالبقاء في الآستانة[1]بعد سقوطها في أيدي العثمانيين ومنح اليونانيين عدة من الحقوق تسمى "الامتيازات الدينية"، أنشأ أيضا بطريركية أرمنية في عاصمة مملكته.[2]

وقد منح السلطان عبد العزيز في سنة 1863 الأرمن نوعاً من الحكم الذاتي جعل المسائل الأرمنية من اختصاص مجلس وطني عام يجتمع مرة كل سنتين في إسطنبول برئاسة البطريرك الأرمني مع وجود مجلسين صغيرين أحدهما للمسائل الدينية وكان أعضاؤه من القساوسة الأرمن، والآخر للمسائل المدنية وأعضاؤه من المدنيين. وكانت هذه الأجهزة الثلاثة مع البطريرك والكنيسة الأرمنية الرمز المجسد للقومية الأرمنية في الدولة العثمانية. وارتفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي للأرمن وأصابوا نجاحاً ملحوظاً في نشاطهم الاقتصادي المتعدد الصور والأشكال.[3]

وكان العثمانيون يطلقون على الأرمن قبل ظهور الأحداث "الملة الصادقة" (Millet-i Sâd?ka) لولاءهم الصادق للدولة العثمانية، لأنهم كانوا يعيشون في وئام مع العثمانيين متجاورين متعاونين.

وتقلد الأرمن المناصب العالية في الحكومة العثمانية ووصل بعضهم إلى مناصب الصدارة العظمى -أي رئاسة الوزراء- وإلى مناصب الوزراء ووضعتهم الدولة على بعض المصالح الهامة واشتغل بعضهم في السلكين الدبلوماسي والقنصلي العثمانيين ودخل بعضهم البرلمان. والتاريخ العثماني يسجل من الأرمن 22 وزيراً، و33 نائباً، و29 باشا، و7 سفراء، و11 قنصلاً.

ومنحت الدولة العثمانية لغير المسلمين حريات في أديانهم ولغاتهم وسائر ثقافاتهم، فإنهم كانوا أحراراً في ممارسة حياتهم الدينية كما شاؤوا. ولم تضغط عليهم في معتقداتهم رغم قدرتها كما أشار إليه داديان آرتين باشا (Dadian Artin Pasha) المستشار الأرمني للخارجية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني حيث قال إن السلطان محمد الفاتح عندما فتح إسطنبول كان بإمكانه أن يقتل جميع النصارى الموجودين فيها بالسيف، ولكنه لم يسلك هذا الطريق المخالف للشريعة الإسلامية.[4]

وكان عدد الأرمن الذين طالبوا باستقلال أرمينيا استقلالاً داخلياً في نطاق الدولة العثمانية قليلاً أول الأمر، ولقوا معارضة من الأرمن الأرثوذكس من أصحاب المهن والحرف وبعض الأغنياء ومن الموظفين الأرمن الذين كانوا يشغلون مناصب رفيعة في الحكومة العثمانية. وعلى ذلك كان تأثير الأرمن الكاثوليك والبروتستانت محصوراً في طبقة قليلة العدد ولكنها تتمتع بثقافة رفيعة. وبقيت الأغلبية الساحقة من الأرمن الأرثوذكس على ولائها للدولة العثمانية حفاظاً على أوضاعها الاقتصادية أو مركزها الاجتماعي المرموق.[5]

ب- الأيادي الأجنبية في إثارة الفتنة

يقول السلطان عبد الحميد الثاني كأهم شاهد على بداية الأحداث: "لم تكن المشكلة الأرمنية مشكلة الأرمن أنفسهم وأستطيع القول -وأنا مرتاح القلب- إن الأرمن أفضل من يتبنون العثمانية[6]وأفضل من يمثلونها، لقد خدموا حضارتنا وعملوا على الحفاظ على دولتنا، وظهر فيهم عثمانيون ممتازون بخدماتهم وحسن صداقتهم ولم تكن للأرمن منا شكوى قط، ولكن الروس –لكي يصلوا إلى آمالهم في بلغاريا، ولكي يقطفوا من الإمبراطورية العثمانية قطعة جديدة- لفوا الأرمن حول إصبعهم احتواءً. أرسلوا جواسيسهم بصحبة قساوستهم ومعلِّميهم إلى الأرمن، فألّبوا علينا، وانغمس هؤلاء في المغامرة."[7]

ونقطة التحول في العلاقات بين الأتراك والأرمن هي الحرب العثمانية-الروسية (1877-1878)، وأراد الأرمن أن يستغلوا هزيمة الدولة العثمانية أمام الروس، وبدأوا يفكرون بأن دورهم في الاستقلال أتى عليهم بعد أقوام حصلوا على استقلالهم.[8]

ومع أن الأرمن يدينون للمسلمين العثمانيين بحفظ عقيدتهم ولغتهم وتراثهم، إلا أنهم عندما رأوا ضعف الدولة العثمانية أرادوا اقتطاع جزء منها، واستغل الروس الأرمن في أول الأمر في هذا الموضوع ثم تحولوا عنه، ولكن بريطانيا تبنت الحركة الأرمنية لمصالحها الخاصة لا سيما بعد وصول الليبراليين إلى الحكم بعد هزيمة المحافظين.[9]

ومشكلة الأرمن في الحقيقة جزء من خطط الدول الأمبريالية لهدم الدولة العثمانية وتقسيم ميراثها، فكانت روسيا تطمع في بث نفوذها على شرقي الأناضول والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.

وأما بريطانيا فتخلت من سياسة الحفاظ على وحدة الأراضي العثمانية وتبنت سياسة إيجاد دولة أرمنية موالية لبريطانيا تقف أمام الانتشار الروسي، كما أنها بذلت أقصى ما في وسعها لإثارة المشكلة الأرمنية لكي تبعد عن الأذهان أعمال تدخلها في مصر. وكانت تعمل جاهدة على تركيز انتباه العالم على الدولة العثمانية.[1]

ج- تدويل مشكلة الأرمن

تحولت المشكلة الأرمنية بعد الحرب العثمانية-الروسية من مسألة محلية إلى مسألة دولية وذلك بإدخال مادة خاصة في معاهدة سان ستفانوس عام 1878. وجاء في المادة السادسة عشرة أن جلاء القوات الروسية عن أرمينيا العثمانية وإعادة هذه البلاد إلى الحكم العثماني قد يؤديان إلى وقوع خلاف بين الحكومتين العثمانية والروسية، ولهذا يتعهد الباب العالي بإدخال إصلاحات طبقاً للاحتياجات المحلية في المناطق التي يسكنها الأرمن، ويتعهد الباب العالي أيضاً بتأمين السكان المسيحيين من اعتداءات الأكراد والشراكسة.[11]

ولكن معاهدة سان ستفانوس لم تنفذ لاعتراض الدول الكبرى عليها لانفراد روسيا بالمكاسب الهائلة ودعت الدول الأوروبية الكبرى إلى عقد مؤتمر لتعديلها وعُقد المؤتمر في برلين 13 يونيو 1878. وفي نهاية المؤتمر وقعت الدول الأعضاء بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، والنمسا والمجر، وروسيا، والدولة العثمانية على معاهدة برلين.

لم تكتف معاهدة برلين بتغيير رقم المادة المتعلقة بالأرمن فقط، بل أضافت إليها فقرة جديدة، جاء فيها أن الباب العالي يقوم بإبلاغ الدول الكبرى المرة بعد الأخرى بالإجراءات التي اتخذها لهذه الغاية، وعلى الدول الكبرى أن تراقب تطبيقها.[12]

يقول نورياس تشراس (Nurias Çeras) الذي قدم مع البطريرك مغرديتش حريميان (M?g?rd?ç Hrimyan) مطالب الأرمن إلى الدول الأوروبية المشاركة في مؤتمر برلين، معلقاً على المادة الحادية والستين: "إن مؤتمر برلين لم يكتف بتبديل المادة السادسة عشرة لمعاهدة سان ستفانوس بالمادة الحادية والستين، بل وضع أسس البناء الوطني الذي سنقيمه في المستقبل." ويقول أيضاً: "مع أن أوروبا لم تعطنا حكماً ذاتياً، ولكنها أهدت إلينا مادة ستوصلنا بما نتشوق إلى وصوله. الباب العالي وعدنا بإجراء الإصلاحات اللازمة في الأماكن التي يسكنها الأرمن وستتحول هذه الإصلاحات يوما ما إلى الحكم الذاتي. وضعت أوروبا في أيدينا الأسلحة ولنستخدم هذه الأسلحة قبل أن يصيبها الصدأ."[13]

د- تأسيس الجمعيات الإرهابية

أنشأ الأرمن في الدولة العثمانية جمعيات عديدة؛ منها اجتماعية وخيرية، ومنها مسلحة، وأهم هذه الجمعيات جمعيتا هنتشاك وداشناقسوتيون.

وتكونت جمعية هنتشاك[14]في أغسطس 1887 في جنيف قوامها طلاب أرمن من أبناء الأثرياء يدرسون في فرنسا ولم تطأ أقدامهم الدولة العثمانية وترعرعوا بقراءة قصص معاناة الأرمن في الأناضول. وقد اعتنق هؤلاء الطلاب بالماركسية ولذا لم تحظ آراؤهم الاقتصادية والاجتماعية بالقبول بين الطبقتي الوسطى والعليا من الأرمن، ولكنها حظيت بالقبول في أوساط الشباب.

وكان من أهداف جمعية هنتشاك استقلال الأرمن عن طريق الدعاية والتحريض والتخويف والعصيان. ونظمت الجمعية مظاهرة قمقابي وعصيان صاصون ومظاهرة الباب العالي وعصيان زيتون.[15]

وقد نشرت لجنة جريدة هنتشاك في لندن سنة 1889 رسالة جاء فيها: "من الواضح قبل كل شيء أننا فوضويون، ولنا رغبة وطيدة منصوص عليها في لوائحنا ألا وهي نشر مبادئ الفوضى في الأناضول بإحداث الاضطرابات."[16]

وأما جمعية داشناقسوتيون فهي في الحقيقة اتحاد مجموعات أرمنية معظمها من روسيا تحت اسم الاتحاد الثوري الأرمني (The Armenian Revolutionary Federation).

وتكونت الجمعية في صيف 189 في روسيا وكان برنامج عملها تكوين مجموعات عمل يتسلل أفرادها الفدائيون إلى داخل الأراضي العثمانية ويثيرون الذعر في نفوس الموظفين العثمانيين المسلمين والموظفين الأرمن على حد سواء، ويرتكبون مذابح عامة بين المسلمين اعتقاداً منهم أن هذه الجرائم تؤدي إلى تصعيد الموقف وتدخل الدول الأوروبية لصالح القضية مما يساعد في النهاية على إنشاء جمهورية أرمنية اشتراكية مستقلة تشمل بصفة مبدئية الولايات الست في شرقي الأناضول[17]حيث يتم طرد جميع سكانها المسلمين أو يكون القتل مصيرهم المحتوم.

ونظمت هذه الجمعية مهاجمة البنك العثماني وعصيان صاصون في سنة 194 ومحاولة اغتيال السلطان وعمليات إرهابية أخرى.[18]



[1]أي إسطنبول

[2]أورخان محمد علي؛ مصدر سابق؛ص8

[3]عبد العزيز محمد الشناوي؛ الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها؛ ج3 ص1537

[4]M.Hanefi Bostan;Birinci Dünya Sava?? S?ras?nda Ermenileri ?skân Meselesi ve Baz? Gerçekler; Bkz. Ermeni Meselesi Üzerine Ara?t?rmalar, sf.167-168

[5]عبد العزيز محمد الشناوي؛ مصدر سابق؛ ج3 ص1543

[6]أي المواطنة ووحدة الدولة العثمانية. هنا ألفت نظر القارئ إلى ثناء السلطان عبد الحميد الثاني على الرعايا الأرمن وهو يتهم بارتكاب المذابح، فهل يرتكب رجل ضد قوم يثني عليهم هكذا؟!.

[7]مذكرات السلطان عبد الحميد؛ ص 123-124

[8]Erhan Afyoncu؛ مدصر سابق؛ ص VI

[9]أورخان محمد علي؛ مصدر سابق؛ص216-217

[1]مذكرات السلطان عبد الحميد؛ ص 126

[11]Ali Karaca; Tehcire Giden Yolda Ermeni Meselesi’ne Bir Çözüm Projesi ve Reform Müfetti?li?i (1878-1915); Bkz. Ermeni Meselesi Üzerine Ara?t?rmalar, sf.1

وانظر: محمد فريد بك المحامي؛ تاريخ الدولة العلية العثمانية؛ ص 659

[12]انظر للمادة الحادية والستين من معاهدة برلين: Ali Karaca؛ مصدر سابق؛ ص9 ومحمد فريد بك المحامي؛ مصدر سابق؛ ص 696-697

[13]Ali Karaca؛ مصدر سابق؛ ص 1-11

[14]كلمة هنتشاك بمعنى الناقوس في اللغة الأرمنية

[15]Kamurân Gürün; Ermeni Sorunu; sf. 169-172

[16]عبد العزيز محمد الشناوي؛ مصدر سابق؛ ج3 ص1565

[17]وهي ولايات وان وبتليس وأرضروم ودياربكر ومعمورة العزيز (خربوت) وسيواس

[18]Kamurân Gürün ؛ مصدر سابق؛ ص 172-175؛وعبد العزيز محمد الشناوي؛ مصدر سابق؛ ج3 ص1566

 

إبادة الأرمن... قصة ملفقة: مزاعم وحقائق -3-

بقلم: إسماعيل باشا

 

د- العمليات "الإرهابية" والعصيان :

بنت الجمعيات الأرمنية خطتها للاستقلال على التدخل الخارجي ولذا لم يقاتلوا لأجل الاستقلال وإنما قاموا بالأعمال الإرهابية وإثارة الفتنة بين الرعايا الأرمن المسيحيين والرعايا المسلمين لإسراع التدخل الخارجي الذي كانوا يحلمون أنه سيمنح لهم دولة مستقلة.

وكان هدف العصابات الأرمنية من تصعيد عملياتهم الإرهابية أن تكون مذابحهم للمسلمين على أوسع نطاق بحيث يضطر المسلمون إلى ترك المناطق وهكذا يخلو لهم الميدان لإقامة دولتهم. وقد استعد الأرمن لتحقيق هذا الهدف حيث خزنوا الأسلحة المختلفة التي أتوا بها من روسيا وحفروا الأنفاق بين بيوتهم وحوَّلوا بيوتهم وكنائسهم إلى قلاع محصنة.

وكان من أهدافهم أيضاً إثارة المسلمين واستفزازهم للاعتداء عليهم. ثم يقيمون العالم ويقعدونه بحيث تتدخل الدول الأوروبية لتقول إن الحياة بين العنصرين المسلمين والأرمن مستحيلة، ولذلك لا بد من الاستقلال الذاتي للأرمن.

لم تكن هذه الفتن التي تولى القساوسة والمعلمون والعملاء تحريكها ذات أهمية في مبدأ الأمر، فكثير من الأرمن العثمانيين لم يقابلوا هذه الأعمال بالترحيب. ولما لمست الجمعيات الثورية هذا، أخذت تقيم المذابح العامة، لكي تجبر هؤلاء الأرمن الشرفاء الذين كانوا في حيرة وفي خوف سواء من الحكومة أو من الجمعيات الأرمنية. ما حدث بعد ذلك أن بدأ هؤلاء أيضاً في إمداد أعضاء تلك الجمعيات بالمساعدات وحمايتهم. كانت هذه هي الصفحة الأولى من هذه اللعبة.

أما الصفحة الثانية فكانت أن ارتدى بعض الأرمن زيَّ الأتراك، وراحوا يقتلون مواطنيهم الأرمن الذين يحجمون عن مساعدتهم، ثم يقولون : "ألا ترون الأتراك وهم يقتلوننا، وأنتم حتى الآن بعيدين هنا؟" هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانوا يدخلون القرى التركية ويمارسون ضد الشعب المسلم فيها مختلف أنواع القتل والتعذيب، منها شق الجسد بالسكين وحشوه بالبارود ثم إشعاله.[1]

* أحداث أرضروم:

تشكيل الجمعيات الإرهابية كجمعيتي هنتشاك وداشناقسوتيون وقيام الفعاليات الدعائية في فرنسا وإنجلترا ضد الدولة العثمانية جعلت الحكومة العثمانية والسلطات المحلية تتابع تحركات الأرمن عن كثب. وبدأ يتحول الأرمن في نظرة العثمانيين المسلمين من "الملة الصادقة" إلى عناصر خطيرة لا يمكن الوثوق بها. وفي هذا الجو المعادي قام الأرمن في يونيو 189 بعصيان في أرضروم.

وحسب ما ورد في الوثائق العثمانية وغيرها و ما اعترفت به الصحف الأرمنية حدث العصيان كالتالي:

تسربت أخبار إلى الحكومة العثمانية بأن الأرمن يصنعون الأسلحة في الكنيسة وإحدى المدارس وفتشت القوات الحكومية الكنيسة والمدرسة بحضور القسيس ومدير المدرسة ولم تجد فيهما شيئاً لوصول خبر التفتيش إلى الأرمن قبل وصول القوات.

واغتنم رجال العصابات هذه الفرصة وقاموا بتحريض الأرمن ضد الحكومة وأغلقوا دكاكينهم وألغيت الصلوات في الكنائس ولم تقرع أجراسها. وصاح رجال العصابات بأن الأرمن أصبحوا أحراراً في المدينة ولا بد من محافظة هذه الحرية بالسلاح. وطالبوا الحكومة بهدم الكنيسة وإنشاءها من جديد بحجة أنها دنست قدسيتها بسبب التفتيش.

اجتمع مجموعة من العصاة في الكنيسة وأطلق أحدهم النار على القوات الحكومية التي تحاول السيطرة على الوضع. وقتل جنديان من القوات الحكومية بإطلاق النار من قبل الأرمن المتحصنين في الكنيسة. ولما رأى المسلمون ما جرى قاموا ضد الأرمن للانتقام واشتبك الطرفان وقتل اثنان من المسلمين وثمانية من الأرمن كما أصيب 45 مسلماً و6 أرمنياً بجروح.

وانتقلت أخبار هذا العصيان إلى أوروبا كمذابح للأرمن على يد العثمانيين المسلمين. واعتقل 28 من العصاة بتهمة إطلاق النار على القوات الحكومية وقتل الجنديين ولكن الدول الكبرى تدخلت وأطلق سراحهم وأُبعد المدعي الذي اعتقلهم من وظيفته. وهذا شجع رجال العصابات الأرمنية على العصيانات التي قاموا بها بعد هذا العصيان.[2]

* مظاهرة قمقابي:

رأت جمعية هنتشاك الأرمنية أن عصيان أرضروم لم يلفت الاهتمام الأوروبي كما ينبغي ولذا قررت ترتيب مظاهرة في إسطنبول. وبدأت المظاهرة في الكنيسة الأرمنية بحي قمقابي (Kumkap?) في 15 يوليو 189 وقرأ فيها أحد أعضاء الجمعية مطالب الأرمن للإصلاح واحتجاجهم على السلطان.

ثم بدأ المتظاهرون السير إلى قصر يلدز وأجبروا البطريرك حورين عاشقيان (Horen A??kyan) على الذهاب معهم إلى السلطان ولكن القوات العسكرية أوقفتهم في الطريق واشتبك المتظاهرون الأرمن مع القوات العسكرية وسقط من الطرفين قتلى وجرحى.[3]

* عصيان صاصون الأول:

هرب مهران داماديان (Mihran Damadyan) من منظمي مظاهرة قمقابي إلى أثينا وبعد فترة رجع منها إلى تركيا وذهب إلى منطقة صاصون، أسس هناك عصابة لتحريض الناس على العصيان. وفي ديسمبر 1892 قتل رجال هذه العصابة مسلماً في قرية عوزم (Avzim) بموش. وبعد هذا الحادث بدأت قوات الجندرمة تطارد رجال العصابة.

وفي يونيو 1893 قتل رجال العصابة رجلاً من عشيرة حيانلي (Hayanl?) ثم هجم رجال عشيرتي حيانلي وبهرانلي (Behranl?) على الأرمن للانتقام منهم وسقط من الطرفين قتلى وأرسلت الحكومة القوات العسكرية إلى المنطقة للسيطرة على الوضع. وفي العام نفسه اعتقل داماديان جريحاً وأرسل إلى إسطنبول.

قبل اعتقال داماديان وإرساله إلى إسطنبول قدم هامبارسوم بوياجيان (Hamparsum Boyac?yan) المنطقة وعملا معاً لتحريض الأرمن وبعد اعتقال داماديان استمر بوياجيان في إثارة الفتنة وتحريض الأرمن على مهاجمة العشائر الموجودة في المنطقة وكان هدفه إجبار الحكومة على إرسال القوات العسكرية لإخماد الاشتباكات ثم دعوة الدول الأوروبية للتدخل.

نجح بوياجيان في إقناع كثير من الأرمن وجمع حوالي ثلاثة آلاف أرمني للعصيان. وهجمت العصابة على عشائر المنطقة ونهبوا أموال عشيرتي بهران وزاديان (Zadyan) كما قتلوا أكثر من عشرة أشخاص من عشيرة بهران وقتلوا أحد أبناء زعيم العشيرة. وبعد هذه الهجمات اندلعت الاشتباكات المسلحة بين عشيرة بهرانالي والأرمن وهرب الأرمن العصاة واعتصموا بجبل آنتوك (Antok) وقد أرسلوا نساءهم وأطفالهم ومواشيهم إلى الجبل قبل الهجمات وأرسلت القوات العسكرية إلى المنطقة لإنهاء العصيان واستمر تصدي الأرمن المجتمعين في الجبل للقوات العسكرية وانتهى العصيان بإلقاء القبض على بوياجيان في 23 أغسطس.[4]

* تشكيل لجنة دولية لتقصي الأحداث:

وإزاء النشاط الواسع للدعاية الأرمنية في أوروبا بوجه عام وفي إنجلترا بوجه خاص عقدت اجتماعات سياسية في لندن لنصرة قضية الأرمن ولمطالبة الحكومة البريطانية بالتدخل لوقف هذه المذابح في قابل الأيام. ثم طلبت الحكومة البريطانية من الباب العالي تشكيل لجنة دولية لتقصي الحقائق في مقتلة صاسون. واستجاب الباب العالي لهذا الطلب، وتكونت لجنة دولية اشتركت في عضويتها الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا وروسيا. وطاف أعضاء اللجنة في منطقة الاضطرابات منذ 21 من يناير سنة 1895 واستغرق تحقيقها عدة أسابيع. وجاء في تقرير اللجنة أن الأرمن هم الذين جنحوا إلى إشعال نار الاضطرابات نتيجة تحريض أعضاء من الجمعيات الإرهابية ومن عملاء جاءوا من الخارج وزعوا على الأرمن أسلحة نارية متكررة الطلقات وارتكبوا أقصى ما يمكن أن يحدث من المذابح والجرائم.

والمعنى المستفاد من هذه الفقرة من التقرير أن المذابح التي أوقعها الأرمن بالمسلمين في منطقة صاصون لم تكن عفو الخاطر، وإنما حدثت نتيجة إصرار وإعداد مسبقين.

ومضى التقرير يقرر حقيقة أخرى هامة هي أن الأرمن بعد القتل الجماعي للمسلمين كانوا يعتصمون بالجبال الشاهقة حتى يكون في استطاعتهم التصدي للجنود العثمانيين.

وأثبت التقرير أيضاً أن الحكومة العثمانية بإرسالها القوات العسكرية لإخماد اضطرابات الأرمن قد تصرفت بمقتضى ما يخوله لها القانون من حقوق. وأثبت التقرير أن الأرقام التي أذيعت عن عدد قتلى الأرمن مبالغ فيها إلى حد بعيد.

لم يرض عن هذا التقرير الأرمن والباحثون المتحاملون على الدولة العثمانية بطبيعة الحال وتناسوا أن اللجنة كانت تضم أربع مجموعات: عثمانية وبريطانية وفرنسية وروسية، أي أن الأغلبية كانت تمثل دولاً أوروبية. وليس من المعقول أن تتغلب المجموعة العثمانية على المجموعات الثلاث الأوروبية.[5]

* مظاهرة الباب العالي:



قررت جمعية هنتشاك تنظيم مظاهرة في إسطنبول وبعد فترة استعداد استمرت عدة أشهر أرسلت الجمعية إلى الحكومة العثمانية والسفارات الأجنبية رسالة تعلن فيها بالمظاهرة وأنها ستكون مظاهرة سلمية وأنها غير مسؤولة عن نتيجة الأحداث إن حاولت السلطات العثمانية منع المتظاهرين.

ويلاحظ أن جمعية هنتشاك لا تطلب من الحكومة إذنا للمظاهرة، بل تخبر بها فقط، مع أن أي مظاهرة من هذا النوع كانت ممنوعة. ويلاحظ أيضاً أنها تلوح إلى حدوث الاشتباكات في حالة محاولة القوات الأمنية منع المتظاهرين وهذا يعني أن المتظاهرين كانوا مستعدين للاشتباكات.

وفي 3 سبتمبر 1895 اجتمع المتظاهرون الأرمن في الكنيسة وساروا منها إلى الباب العالي وأوقفهم هناك ضابط من قوات الجندرمة وطلب منهم التفرق والرجوع ولكنهم أصروا على الدخول وقالوا إنهم سيقدمون مطالبهم إلى الصدر الأعظم ثم سيتفرقون. ولما رأى الضابط رفض المتظاهرين أمر الجنود بتفريقهم وبدأ الجنود يبعدونهم عن الباب العالي. وفي تلك اللحظة أطلق بعض المتظاهرين النار على الضابط وقتلوه وقتلوا أيضاً عدة جنود واضطر الجنود إلى الرد على إطلاق النار ولاذ المتظاهرون بالفرار إلى جهات مختلفة ولكنهم استمروا في إطلاق النار على الناس الأبرياء بشكل عشوائي.

لم تنته الاشتباكات المسلحة بين المسلمين والأرمن في الأيام التالية في أحياء إسطنبول إلا بعد بسط القوات العسكرية سيطرتها على جميع أنحاء المدينة.[6]

* عصيان وان الأول:

اندلع عصيان وان الأول ليلة 15يونيو 1895 ولكن استعداد الأرمن والأحداث قد بدأت قبل هذا التاريخ وكان رجال العصابات يرسلون إلى الأغنياء الأرمن رسائل يطلبون منهم الدعم المادي ويهددونهم بالقتل إن لم يستجيبوا لطلبهم. وفي تلك الفترة قاموا أيضاً باغتيالات سياسية منها اغتيال القسيس الأرمني بوغس (Bogos) في 6 يناير 1895 لعدم تأييده تصرفات رجال العصابات.

استمر عصيان وان الأول من 15 يونيو إلى 24 يونيو وقتل فيه 418 من المسلمين و1715 من الأرمن.[7]

* عصيان زيتون:

بعثت جمعية هنتشاك بعض أعضائها إلى منطقة زيتون لتحريض الأرمن على العصيان وكان على رأسهم آغاسي (Agasi). واجتمع هؤلاء مع وجهاء القرى الأرمنية ورجال الدين الأرمن في وادي قرنلك دره (Karanl?kdere) في خريف 1895 وتناقشوا حول خطط العصيان. وبعد هذا الاجتماع بدأ العصيان وحاصروا الثكنة العسكرية ومبنى الحكومة وأسروا 5 ضابطاً و6 جندياً بهجوم مفاجئ. ويذكر آغاسي أن هؤلاء الأسرى قتلوا فيما بعد على يد نساء الأرمن بشكل وحشي.

وأرسلت الحكومة العثمانية مزيداً من القوات العسكرية وحاصرت القوات العاصين في زيتون. وفي تلك اللحظة تدخلت الدول الست (روسيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا) وعرضت على الحكومة الوساطة بين الطرفين للوصول إلى الصلح. وقبل هذا العرض من قبل الحكومة وجاء قناصل حلب لتلك الدول إلى زيتون في 1 يناير 1896 وانتهى العصيان باتفاق الصلح في 28 يناير.

يذكر آغاسي أن الحكومة بعثت قبل العصيان إلى قرية آلاباش (Alaba?) جنديين من قوات الجندرمة لتفقد حالة الأرمن ولكن سكان القرية ربطوهما إلى شجرة وأحرقوهما. ويذكر أيضاً أنهم قتلوا حوالي . من المسلمين وفي المقابل قتل منهم 125 أرمنياً فقط.[8]

* مهاجمة البنك العثماني:

خرجت مجموعة من أعضاء جمعية داشناقسوتيون في صباح 26 أغسطس 1896 للمهاجمة على مقر البنك العثماني وعلى ظهورهم أكياس القنابل وبأيديهم مسدسات. وألقوا القنابل على مقر البنك واقتحموه ووضعوا القنابل في أنحاء المبنى وهددوا بنسف المبنى بمن فيه إن لم تؤخذ مطالبهم بعين الاعتبار. وكان من مطالبهم عدم القبض على المشاركين في هذه العملية.

وتوسط مدير البنك السيد أدجر وينسنت (Sir Edgar Vincent) بينهم وبين القصر وحصل على الضمان لمغادرة 17 من الإرهابيين إسطنبول على ظهر باخرة فرنسية.

وهكذا انتهت مهاجمة مقر البنك العثماني ولكن القنابل والرصاصات التي أمطرها الأرمن على الجنود والشرطة والمدنيين أدَّت إلى غليان سكان إسطنبول المسلمين ولهذا استمرت الاشتباكات بين الطرفين عدة أيام.

تذكر المصادر الغربية عدد قتلى الأرمن في هذه الحادثة ما بين 4 و6 ولكن هذا الرقم مبالغ فيه، لأن الاشتباكات بعد مظاهرة قمقابي استمرت أيضاً عدة أيام ولكن عدد القتلى لم يتجاوز 172 قتيلاً ولا بد أن تستمر الاشتباكات أسابيع حتى يصل عدد القتلى إلى 4 أو 6 قتيل. ثم إن المسلمين اشتبكوا مع الأرمن بالعصي والسكاكين حسب ما ورد في جميع المصادر ويستحيل قتل هذا العدد من الناس بهذه الطريقة.

وأما عدد قتلى المسلمين فلا توجد أي وثيقة تذكره ولكن ورد في الوثائق الإنجليزية أن الصدر الأعظم أفاد بمقتل 1 وجرح 25 من الجنود العثمانيين. وتذكر الوثيقة نفسها اعتقال 3 مسلم على خلفية الأحداث وأن التدابير التي أخذتها الحكومة جيدة.[9]

* عصيان صاصون الثاني:

قررت الحكومة العثمانية سنة 191 إنشاء ثكنات عسكرية في مرتفعات تالوري (Taluri) وشنيك (?enik) لتنظيم إدارة صاصون ولكن الأرمن عارضوا هذا المشروع. وبدأت محاربة عصابة آنترانيك (Antranik) في ذاك التاريخ ولكن العصيان انتشر في المنطقة كلها في خريف 193، وفي 13 أبريل 194 أرسلت القوات العسكرية إلى المنطقة. واستمرت الاشتباكات إلى شهر أغسطس واضطر آنترانيك إلى الفرار إلى القوقاز.

قتل في هذا العصيان ما بين 932 و1132 من المسلمين وفي المقابل قتل 19 أرمنياً فقط حسب ما تذكر المصادر الأرمنية. وبالرغم من هذه الأرقام، تكررت بهذا العصيان قصة المذابح ودعايتها ولكنها لم تحظ باهتمام الدول، لأنه قد جاءت فترة تشتتت فيها اهتمامات الدول إلى القضايا الأخرى.[1]

* أحداث أضنا:

بعد تحريض استمر أياماً في أبريل 199، قتل الأرمن شابين من المسلمين وأصروا على عدم تسليم القاتل، ولهذا كبرت الأحداث وانتشرت واشتبك المسلمون مع الأرمن لمدة ثلاثة أيام في الشوارع والأزقة.

وأرسلت الحكومة مباشرة القوات العسكرية من دده آغاتش (Dedea?aç) إلى أضنا وبوصول القوات اشتعلت الأحداث من جديد ولكن القوات العسكرية سيطرت على الوضع في وقت قصير.

يذكر جمال باشا في مذكراته أن عدد قتلى الأرمن في أحداث أضنا 17 ألفاً أرمنياً وعدد قتلى المسلمين ألف وخمسمائة وخمسون مسلماً وأنه لو كانت الكثافة السكانية في المدينة للأرمن لسجل التاريخ عكس هذه الأرقام، إذ كلا الطرفين كانا متحمسين لقتال الآخر.

وإثر الأحداث أعلنت الحكومة الأحكام العرفية في المدينة وأحيل المتورطون سواء كانوا من المسلمين أو كانوا من الأرمن إلى ديوان الحرب.[11]

* عصيان وان الثاني:

يعد عصيان وان الثاني أهم عصيان قام به الأرمن من حيث النتيجة. قامت الأحزاب والجمعيات الأرمنية بتعليم الأرمن وتسليحهم وكان رجال الدين الأرمن ورجال العصابات يعملون تحت رعاية ومتابعة روسيا.

يقول قنصل إمبراطورية النمسا والمجر في طرابزون في أحد تقاريره: "إن الروس سيحركون الأرمن ويصرفون أموالاً طائلة لهذا الغرض ويرسلون أسلحة لخدمة العصاة ويتوسطون لاندلاع عصيان أرمني."

وبالرغم من التحريضات اجتمع وكيل والي وان جودت بيك (يتم تعيينه فيما بعد والياً) في 1 ديسمبر 1914 مع وجهاء الأرمن وبين لهم الأضرار التي ستلحق بالدولة العثمانية في حالة وقوع الاشتباكات بين المسلمين والأرمن ولكنه لم يخرج من الاجتماع بنتيجة. وبالعكس زادت العصابات الأرمنية من ظلمها في وان وما حولها ولا سيما في محمودية (Mahmudiye) فقد قتلوا المسلمين بشكل جماعي وحوَّلوا المساجد إلى حظائر.

وكانت الدولة العثمانية في تلك الأيام في حرب البقاء في داردانيل (Dardanelles) والعراق كما كانت قواتها الموجودة في منطقة وان تحاول الصمود أمام هجمات الروس. واستغلت العصابات الأرمنية ها الوضع وقاموا في 15 أبريل 1915 في ضواحي وان وفي 17 أبريل في شتاك (?atak) وفي 18 أبريل في بتليس وفي أبريل في مركز مدينة وان بعصيان كبير، قتلوا الموظفين وجنود الجندرمة وهجموا على مراكز الشرطة وبيوت المسلمين وأحرقوا المباني الحكومية.

لم تستطع القوات الصمود أمام هجمات الروس والأرمن وانسحبت ليلة 17 مايو من مدينة وان وهكذا سقطت المدينة في أيدي الروس والأرمن، وقتل الأرمن في المدينة وما حولها مئات من المسلمين.[12]

ويتفق الشهود من سكان المدينة كلهم على أن الأرمن الساكنين في المدينة لم تكن لديهم في بداية الأمر نية العصيان، فإنما غرر بهم الأرمن الذين جاؤوا من روسيا والعصابات التي كانت تحت سيطرتهم، كما أن المسنين منهم لم يكونوا موافقين على العصيان ولكن شبانهم الدارسين في أوروبا أجبروهم عليه.[13]


[1]مذكرات السلطان عبد الحميد؛ ص126

[2]Kamurân Gürün؛ مصدر سابق؛ ص 183-185

[3]المصدر السابق؛ ص185-186

[4]المصدر السابق؛ ص191-195

[5]عبد العزيز محمد الشناوي؛ مصدر سابق؛ ج3 ص157-1571

[6]المصدر السابق؛ ص195-1

[7]المصدر السابق؛ ص9-219

[8]المصدر السابق؛ ص5-9؛ إن كان الرقم الذي ذكره آغاسي صحيحاً فهذا يعني أن الأرمن هم الذين ذبحوا المسلمين وإن كان مبالغ فيه فهذا يعني أن الأرقام المذكورة في المصادر الأرمنية غير موثوق بها وفيها مبالغة.

[9]المصدر السابق؛ ص212-216

[1]المصدر السابق؛ ص216-217

[11]Kamurân Gürün؛ مصدر سابق؛ ص 229-23

[12]http://www.kultur.gov.tr/portal/tarih_tr.asp?belgeno=159

[13]Hüseyin Çelik; 1915 Görgü Tan?klar?nca Van ve Çevresinde Ermeni Olaylar?; E?itim Dergisi, Say?: 38
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق