آيتماتوف الفيزغيزي وضاغجي القرمي.. من.. قمم الروائيين الإسـلاميين
بقلـم: الدكتور مــحمد حــرب.. رئيس مركز بحوث العالم التركي
كان آيتماتوف وطنياً قيزغيزياً مخلصـاً.. ارتبط انتماؤه الوطني.. بالإسلام «جميلة»بطلة رواياته.. ريفية، فطرية، جميلة، وقوية تنبض بالحياة والحيـــوية والأصـــــالة الريفية تأثر جنكيزضاغجي بشخصيات أدبية، شرقية وغربية وعبر عن أرضه في عذوبة ورقة وأمل في العودة إليها كلاهما يسمى في اسمه الأول: جنكيز وكلاهما روائي. اقتصرت جهود كل واحد منهما على الرواية. جنكيز آيتماتوف طبقت شهرته الآفاق ووصل إلى درجة اعتباره الروائي الأول في الاتحاد السوفيتي. والثاني لم يسمع عنه أحد إلا في تركيا وقليل جدا من سمع اسمه في العالم العربي.
والثاني لم يقل عن الأول في الإبداع ولا في التعبير ولا في التكنيك الروائي. الأول جنكيز آيتماتوف أديب(1) مسلم قيرغيزي، ولد عام 1928م. كتب رواية جميلة وحاز عليها جائزة لينين عام 1963 وبها وصل إلى العالمية إذ ترجمت هذه الرواية إلى اللغات الأوروبية واللغات الشرقية. وبعد جميلة كتب روايته أيها الجواد كول صاري وأخيرا كتب روايته «يمتد اليوم فيصبح قرنا». كثير من الأدباء العرب ظنوا أن جنكيز آيتماتوف شيوعيا مع أنه قال عن نفسه: إذا كنت قد عرفت الحياة في طفولتي من جانبها الشعري المضيء، فإنها الآن انتصبت أمامي بجانبها الصارم، العاري، الحزين، البطولية. لقد رأيت شعبي في حالة أخرى له في لحظة الخطر الأقصى يتهدد الوطن، لحظة التوتر الأكبر في القوى الروحية والجسدية كنت مضطرا ملزما برؤية هذا، عرفت كل أسرة في القريةو عرفت كل واحد من هذه الأسر، عرفت الحياة من مختلف جوانبها، في مختلف مظاهرها.
لقد كان جنكيز آيتماتوف وطنيا بمعنى قيرغيزيا مخلصا كأي قيرغيزي مخلص ينتمي إلى قيرغيزستان. لكنه خط لنفسه خطا منذ بداية حياته الأدبية وكان هذا الخط صعبا لكنه نجح في الحفاظ عليه: أن يصل بكلماته المخلصة ورواياته إلى كسب رضاء السلطات العليا، دون تملق، ودون تنازل، عن.. المباديء التي تعلمها من أمه وأبيه، مباديء التربية المنزلية التي قهرها السوفيت بحكمهم الشديد المخيف، التي لقنت أطفالها، كتمان الإيمان والتظاهر بما تريده الدولة. وعن وطنيته ـ والوطنية عند الأتراك تمتزج بالإسلام فليس هناك تركي غير مسلم وقيرغيزستان تركية ينطق أتراكها التركية بلهجتها القيرغيزية ـ عن وطنيته سجل النقاد السوفييت رأيهم في فن الرواية عند جنكيز أيتماتوف كالآتي: «عاش جنكيز آيتماتوف يفكر في قضية واحدة وهي شعبه القيرغيزي» و«استطاع جنكيز آيتماتوف التعبير عن أعمق ما في روح شعبه و«أبطال روايات جنكيز آيتماتوف اناس يعيشون في زمن محدد، وفي مكان جغرافي معلوم، كل واحد منهم يرتبط بآلاف الخيوط بالماضي، والحاضر بالمستقبل، لشخصه ولشعبه» و«القوة الرئيسية التي تحدد محتوى واتجاه أعماله تبقى دائماً واقعة المعاصر بكل مظاهره». لقد كانت رواية جنكيز آيتماتوف «جميلة» التي حاز بها على جائزة لينين عام 1963 كما ذكرنا من قبل رواية: «عبّرت عن معاني التحرر المبكر من الظلم الماركسي» و«أعظم قصة حب ظهرت في الآداب السوفيتية» و«أجمل قصة حب في كل آداب العالم، استطاع آيتماتوف بها أن يحول نثر الحياة إلى لآليء الشعر».
فهم الكتاب والنقاد «جميلة» على أنها رواية حب قوية الديباجة قوية النسيج الروائي شفافة الأسلوب. لكنه لم يفهم أحد من الوطنيين القيرغيز هذه الرواية إلاّ على أنها رمز قيرغيزيا الجميلة الفائقة الحيوية التي هي في الوقت نفسه ضعيفة بقلة سكانها وقلة سلاحها، ضعيفة في إطار الحكم الاستعماري السوفيتي. ورمز آيتماتوف إلى خاطف جميلة وهو فتى قوي إلى الثورة الشيوعية الفتية ـ في وقت قيامها ـ هذه الثورة التي خطفت قيرغيزستان الجميلة خطفا وجرى بها إلى بيت أمه (موسكو) والذي ضم ناسًا (يعني شعوبا) أخرى كثيرة.
جميلة بطلة رواية آيتماتوف، فتاة ريفية فطرية جميلة وقوية تنبض بالحياة وبالشباب والحيوية والأصالة الريفية، كانت ترعى الخيول في جانب من جوانب قريتها ـ وذات يوم ظهر شاب قوي من قرية كبيرة مجاورة يرعى الخيل ويفخر بقوته ولم تعجب به جميلة ولم تحبه. وقد رغب هذا الشاب في جميلة لكنها صدته بقوة فقام بخطفها وتزوجها قهرًا بعد أن أخذها إلى قريته وهي القرية الأضخم المجاورة لقرية جميلة وضمها إلى بيت أسرته. وكان يضم أفرادًا مختلفين مثل أخيه الصغير وزوجات إخوته. وكانت أم خاطف جميلة هي المهيمنة على هذا البيت تارة بالقوة وتارة برفق يشوبه السيطرة. وقامت الحرب العالمية الثانية، وجنّد خاطف جميلة في الجيش السوفيتي وسافر إلى الجبهة. وفي هذه الأثناء كانت الأم في البيت الكبير تطلب في حزم من كل أفراد الأسرة الكبيرة ـ بما فيهم جميلة قيرغيزستان ـ الطاعة العمياء لها، والانقياد دون مناقشة. وكانت الأم تتمنى من جميلة أن تنسى أنها مخطوفة ومرغمة بالقهر على الزواج من ابنها، وتطلب منها الإخلاص، لكن جميلة لم تعرف إحناء الرأس، وكانت في البيت دائمة الزمجرة، وكانت تحب الغناء رغم الإهانات الموجهة إليها، وكانت تشتاق إلى الغناء ولا تستطيع. وكان العمل في بيت الحماة شاقا، فكان يوكل إليها من الأمور الشاقة فوق طاقة تحملها مما جعلها في مشقة»، وعرفت جميلة مدي اهتمام زوجها خاطفها المجند في الجبهة. عرفت مدى اهتمامه بها من الرسائل التي كان يرسلها إلى أمه، فلم يكن يذكرها أي جميلة إلا في آخر سطر في الرسالة وفي كلمتين فقط.
وعندما صدر قرار الدولة السوفيتية بقيام السيدات بعمل الجنود والعمال داخل المدن والقرى لأنهم في الجبهة كان على جميلة نقل القمح، فتعرفت في أثناء ذلك بعامل أعرج مريض لكنه يستطيع الإنشاد. كان جنديا في الجيش وجُرح فخرج إلى الحياة المدنية. فأحبته وأحبها. وخرجت به من القرية إلى الأفق الأرحب ليتزوجا. واضح من جميلة أن البيت هو رمز للاتحاد السوفيتي نفسه والحماة هي رمز الحزب الشيوعي المتحكم في البلاد وزمجرة جميلة في بيت حماتها رمز إلى توارث قيرغيزستان ضد الحكم الشيوعي وحبها للإنشاد هو رمز حبها للحرية والعامل الأعرج المريض رمز للشعب القيرغيزي المسلم الجريح. وكانت جميلة جنكيز آيتماتوف تعبير مبكر عن إنحلال الاستحاد السوفيتي وسقوطه مع ملاحظة أنه نال عليها الجائزة عام 1963. وسقوط الاتحاد السوفيتي وتحرر قيرغيزستان منه كان عام 1991. أما بداية ظهور التمرد على السلطة الماركسية السوفيتية في أدب جنكيز آيتماتوف فكان في روايته «أيها الجواد كول صاري» التي صور فيها حصانا يمتلكه أحد المسلمين القيرغيز يدعي «تاناباي». أحب الحصان وأحبه الحصان. ثم لما جاءت الثورة الشيوعية لتستولى السلطة على كل شيء أحبه الإنسان وامتلكه، أخذ الشيوعيون من تاناباي حصانه «كول صاري» وعزّ هذا على تاناباي كثيرا.
ومن مظاهر التمرد على السلطة الماركسية في هذه الرواية ما يلي: إن بلاده قيرغيزستان «الأرض المعذبة الخربة التي أضاع الآخرون سعادتها» وأن شعبه القيرغيز» إنهم أنفسهم الذين يزرعون القمح، ومع ذلك يظلون بدون رغيف من الخبز، ومن ذل الشعب القيرغيزي» كان تاناباي هو الذي يربي الخيول لكنه كان مجبرا على أن يحولها فيما بعد إلى آخرين لكي يستغلوها في العمل وفي الركوب، قال المدير: كيف أنت راعي شيوعي وحملانك تنفق؟ فيرد عليه تاناباي ساخرا: ـ أمّاهي ـ أي الحملان ـ فعلى الأرجح لا تعرف أني شيوعي!!! يقول مدير المزرعة الكولخوز: ـ هل تقبلت الإلتزامات الشيوعية؟ ـ نعم تقبلتها. ما الذي قيل هناك في هذا؟ ـ لا أتذكر.
ويبدو آيتماتوف في هذه الرواية مهاجما للشيوعية متخفيا، ومهاجما للنظام الشيوعي وموقف مسلمي آسيا الوسطى منه. أما رواية جنكيز آيتماتوف «يمتد اليوم فيصبح قرنا» فهي تعبير عن «معاني الإسلام في الرواية السوفيتية المعاصرة، وهي تصور أحد العمال في قيرغيزستان وقدمات وتصور الرواية إجراءات دفنة في بلد مسلم نسي الناس فيه كيفية الصلاة ودفن الموتى وتصور برنامج غزو الفضاء الروسي ـ الأمريكي المشترك فوق أرض المسلمين في آسيا الوسطى في الاتحاد السوفييتي وقرب منطقة إطلاق الصاروخ المشترك من «آنا ـ بيت» مقبرة المسلمين هناك والموانع التي حدثت للدفن من جراء هذا. واستخدم الروائي القيرغيزي المسلم جنكيز آيتماتوف في روايته «يمتد اليوم فيصبح قرنا» اسطورة قيرغيزية تتحدث عن الأعداء وكيف أنهم إذا استولوا على بلد فإنهم يبدأون في تغير روح الإنسان وتحويله إلى آلة لأفكارهم، حتى أنه ينسى والديه وتكلمه أمه فيريد أن يقتلها لأن الأعداء الذين غسلوا مخه قالوا له بضرورة قتلها. ولا شك أن آيتماتوف يقصد بهذا الاتحاد السوفيتي وما يفعله في غسل مخ الشباب المسلم في بلاد المسلمين التي كانت أسيرة وقتها في مقدمة الرواية بقول آيتماتوف: «الإنسان دون ذكرى الماضي. الإنسان المحروم من الخبرة التاريخية لشعبه يجد نفسه خارج الأفق التاريخي ولديه القدرة على العيش يومه الحاضر وحده فحسب».
و«إن إنكار الماضي وتزييفه، والديكتاتورية المتغطرسة المتعجرفة لابد أن تنحصر في نفسها وتبني حولها سورا قويا مثل سور الصين، لأنه لا يمكن إلاّ خلف هذا السور، التمسك بالخرافة التي تقول إن شعبا واحدا يستطيع التفوق والسيطرة على شعوب أخرى». ـ مات. صأصلي عليه وأجهزه وأدعو له بالدعاء الحسن. ـ تصلي؟ أنت تصلي يا «يديغي البوراني»؟ ـ نعم، أنا، وأعرف الصلاة جيدا. ـ واعجبا! تصلي وعمر السلطة السوفيتية قد بلغ ستين سنة؟ ـ دعك من هذا. يصلي الناس على موتاهم من قبل هذه السلطة. ـ الملحد لا يذكر اسم الله إن لم يؤلمه رأسه. ولابد أن يعرف المرء الصلاة. (2) أما جنكيز الثاني فهو: جنكيز ضاغجي، وهو من القرم، وشبه جزيرة القرم أرض تركية وأهلها أتراك يتحدثون التركية باللهجة القرمية. وضاغ بمعنى الجبل وجي أداة نسبة وحرفة في اللغة التركية مثلما نقول مكوه جي مثلا ومعنى ضاغجي كلها: الجبلي وشبه جزيرة القرم كانت ومازالت أرضا مسلمة تركية اغتصبها روس الاتحاد السوفيتي يوم 9 مارس عام 1920م ثم أهداها خروشوف إلى أوكرانيا، وهي الآن تابعة لأوكرانيا. يمكن أن نطلق على جنكيز ضاغجي أنه كاتب «منشق» عن السلطة السوفيتية. ويمكن وصفه بالكاتب الوطني الذي عاش مأساة شعبه. ومأساة شعب القرم هي نفس مأساة شعب فلسطين. بدأت هذه المأساة القرمية عندما اتخذ جوزيف ستالين عام 1944 بنفي شعب القرم من شبه جزيرة القرم وإلقائه في بيادي البلدان المجاورة ليقيم الشيوعيون وطنا لليهود السوفييت في القرم، ساعتها قامت عربات السكة الحديد المخصصة لنقل الحيوانات بنقل مسلمي القرم إلى المعسكرات التي خصصت لهم في صحارى آسيا الوسطى، وكانت تابعة للاتحاد السوفيتي. وظلوا مشردين بها، لم يعودوا إليها إلا بعد انحلال الاتحاد السوفيتي. لم تنفيذ فكرة إقامة وطن قومي لليهود في شبه جزيرة القرم لكن الهجرات اليهودية الروسية إلى القرم كانت وجدت طريقها إلى الاستقرار فيه.
ولد جنكيز ضاغجي عام 1920 وقت المجاعة في شعبه وطرد القرميين من وطنهم كبر وشاهد بنفسه احتلال الروس وتحويل أصحاب الأراضي إلى «عبيد» في المزارع التعاونية. ولما التحق بالجيش حارب في جبهة أوكرانيا ضد الألمان ثم أدخله الروس مدرسة الضباط في أوديا حيث تخرج فيها برتبة ملازم دبابات عام 1941 وكان يكره الروس كرها شديدا عبر عنه جيدا في رواياته وأسر في عام تخرجه أسره الألمان، وتخلص من الأسر ولجأ إلى الحلفاء واستقر في انجلترا. لجنكيز ضاغجي عشر روايات أخطرها رواية «السنوات الرهيبة» التي صدرت عام 1956، واشتهرت أيضا رواية «الرجل الذي فقد وطنه» و«هم أيضا كانوا بشرا» و«سنوات الموت والرعب» و«هذه الأرض كانت أرضنا» و«الأطفال المشنوقون على أغصان شجر الزيتون». تأثر جنكيز ضاغجي بشخصيات أدبية شرقية وغربية: تولستوي وديستويفسكي ونكراسوف وثورحنيف من الروس. وجويس وبروست وشتاينبك من الغرب، غير تأثره بالشخصيات الأدبية التركية. ولقد وصفه ناقد تركي كبير بقوله: «إن في روايات جنكيز ضاغجي أبعادا عالمية مثل اكتساب صفة الثورة على الظلم، و«بحث الإنسان عن نفسه» كما أن الواقع الذي عاشه جنكيز ضاغجي وعبر عنه في روايته: يضفي على أعماله الأدبية قوة، ويدفع القارئ دفعا إلى الإيمان بها».
وقد وصف جنكيز ضاغجي نفسه وكتابته بتعبير هو «الحمد لله على إسلامي أنا التركي القرمي جنكيز ضاغجي. وأقسم بالله أن كل ما كتبته عن حياتي صحيح وأنه حقيقة». والواقع أنه كتب حياته بشكل روائي في روايته السنوات الرهيبة وخلد فيها مأساة طرد الروس السوفييت لشعبه المسلم القرمي التركي من دياره. وقد ترجمت هذه الرواية إلى اللغة العربية عام 1988، ولم تجد لها نصيرا يدفع بترجمتها إلى لغات أخرى غير العربية حتى الآن. مع روعتها كما وصفها ناشرها الأول عام 1956 «إذا بي أجد نفسي أمام عمل أدبي رائع كبير وليس في هذا أدني مبالغة». وتعكس رواية السنوات الرهيبة أحاسيس القرمي المسلم الذي يريد التخلص من تبعة بلاده للاتحاد السوفيتي وأحساسيس هذا القرمي المسلم في النفور أيضا من السيطرة الغربية الألمانية عليه. يريد أن يعود إلى وطنه ليعيش فيه عزيزا. السنوات الرهيبة تصور مأساة رجل يفقد وطنه وكل ناسه وأهله.
الأرض نفس الأرض لكن لم يعد فوقها من أصحابها القرميين شخص واحد. كان يحلم بعودته إلى بلاده ذات يوم لتحضنه أمه، لكن هذه الأرض تعج الآن ـ وقتها ـ بالأجانب. وقد وصف كاتب عربي هذه الرواية بقوله: «هذه الرواية عظيمة رغم الألم الذي تصيبك به، ممتعة رغم الوجع الذي تحدثه فيك. في تعبير جنكيز ضاغجي عن أرض بلاده عذوبة ورقة وشاعرية وإحساس بالفقد وإحساس بالأمل أيضا في العودة إليها مرة أخرى! لم يعد لي حاجة إلى البكاء أتذكر كلمات أبي: «إنهم يخافوننا يا ولدي إنهم يخافون من وجودنا ومن كياننا. كم كان والدي على حق! إني لا أبكي الآن فإني أعلم أن أعداءنا الروس يخافون منا. إنهم يريدون «ترويسنا» لأنهم يخافون منا». أما رواية «هذه الأرض كانت أرضنا» وهي رواية طويلة أيضا فهي تعبير عن وطنه السليب وأرضه التي كانت أرضه ومازالت في وجدانه ووجدان الشعب القرمي أرضهم. يتحدث فيها بتعبير شاعري جميل على لسان فلاح قرمي أراد الروس نزعه من أرضه: «حدثيني يا أرضي» أمعقول أن أتركك وأذهب! ألستِ أنتِ أرضي؟! أجدادي ولدوا هنا. نشأوا هنا. عاشوا هنا. وماتوا هنا! كنت يا أرضي بوار ففلحناك. طهرتك من الأعشاب وجعلتك جميلة مثل الجنة». «لم تصدر مني شكوى ضدك. إذ كيف أشكو؟! وسعادتي تكون بقدر ما أصابني من جهد وإرهاق أثناء تطهيري لك وفلاحتي فيك. كثيرا يا أرضي ما غرست بيدي هاتين أغصان العنب فيك. كنت أرويك يا أرضي. بدموعي بينما كنت أدعو الله أن يمن عليك بالماء.». «حبات أعنابك يا أرضي، عندي، بمثابة حبات اللؤلؤ في الجنة.. أوراقك يا أرضي عندي بمثابة قطع الذهب. لا رغبة لي في هذه الدنيا إلاّك أنت.. أنت يا أرضي.». وعن الإسلام وعن تركستان في روحه يقول: «يقول آق صقال: سِرْ وأنت تذكر اسم الله. سلّم نفسك لله ولا تخشى الحرب التي نحن فيها الآن. سلم نفسك لله ولا تخف بعد ذلك. فالله يحميك. ولا شك في هذا يا أخي. نظرت إلى هؤلاء الذين يصلّون وهم في الحرب وبين الأدغال. انتهت الصلاة. جلسوا كلهم على الأرض. ساد الجو سكون عميق. وأخيرا أنشدوا جميعا وبأصوات حزينة رقيقة صادرة من قلوبهم المطمئنة نشيدا هو: (ماذا حدث لك يا تركستان الجميلة؟ ذُبلت الورود في غير زمان الذبول. لا أدري لماذا تغني الطيور في حدائقك؟ آه.. في حدائقك!) وجدتُ روحي ـ بهذا النشيد ـ توّد الانفصال عن جسمي لتطير بعيدا.. بعيدا.. إلى حدائق تركستان: تلك الحدائق الذابلة، الجافة. العطشى.
نشر في مجلة(الأدب الإسلامي)عدد(22)بتاريخ (1420هـ)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق