أقدم المعارك الأدبية المنسية «المنفلوطي» و«الرافعي».. وصراع الأقوياء..!
كان مصطفى لطفي المنفلوطي نابغة في الإنشاء والأدب، انفرد بأسلوب نقي في مقالاته وكتبه، كما كانت أشعاره تتميز بالرقة والعذوبة، وهو ثالث ثلاثة من أصحاب الأساليب: (الزيات، الرافعي، المنفلوطي) وقد عاش «المنفلوطي» و«الرافعي» علمين سامقين، في مجال الأدب الإنشائي، وإن كان المنفلوطي سبق الرافعي في هذا الميدان، ومع ذلك فقد وقع بينهما الخلاف، ووقعت الخصومة، وإن كانا قد جريا في نطاق مذهب واحد هو الترسل والكتابة المنمقة، بل لعلّ الرافعي قد تأثر بالمنفلوطي، كما تأثر بالزيات.
محمد عبدالشافي محمد
-مصر-
أما الخلاف بين المنفلوطي والرافعي فقد كانت له جذور بعيدة، فقد كان الرافعي ينافس على زعامة الشعر، ثم كان المنفلوطي بعد ذلك أثيراً لدى سعد زغلول ومن كُتّابه، وكان الرافعي يطمع في ذلك، وكان الخلاف في فترة ما قبل الحرب يتمثل في إعجاب الرافعي بالكاظمي وجاويش، ولذلك هجاهما المنفلوطي.
ولا ننسى -أيضاً- أن المنفلوطي كان قد تألق فجأة بمقالاته في جريدة «المؤيد» فأثار ثائرات عند كثيرين، منهم طه حسين والرافعي والمازني .. فقد حمل عليه كل هؤلاء على اختلاف مفاهيمهم وثقافاتهم ومشاربهم.
لكن، العجيب في معركة المنفلوطي والرافعي أنه برغم الخصومة الشديدة، فإنها لم تظهر في معارك أدبية أو مساجلات على صفحات الصحف، ولكنها عاشت في أطراف الكلمات ومن وراء العبارات المبهمة والغامضة وفي رسائل خاصة ومن بين السطور، كل منهما يلذع الآخر بالكلمة الجارحة ويمضي، وقد بدأ الرافعي المعركة مستتراً في مقالته الشهيرة «طبقات الشعراء» التي نشرتها مجلة «الثريا» سنة 1905م، وقد وضع الرافعي نفسه في الطبقة الأولى، بينما وضع المنفلوطي في الطبقة الثالثة وقال عنه: «قصائد هذا الشاعر كشفت عن عين سارقة لا بارقة، وليس له معنى ينفرد به، ولا هو ممن تشفع لهم الكثرة».
وفي هذه الأثناء .. أفردت صحيفة «الظاهر» صفحاتها يومين متتاليين لمقال المنفلوطي في الرد على صاحب مقال «الثريا» وكان مقاله عنيفاً، فقد هاجم الكاتب بشدة، ووصفه بصاحب «الحقد الناري الذي أحرقه فتصاعد منه هذا الدخان الأسود الكثيف».
وقال: «إن هذا المجهول لما ضاق أمره وقصرت به خطاه عن مجاراة أدباء العصر، حاول أن يضع نفسه في صف الفحول، وأجرى هذه الموازنة الحمقاء ووضع نفسه في الطبقة الأولى، وأنه لا يوجد أديب واحد يرى له هذه المنزلة التي أنزل فيها نفسه وإن اختفى وراء قليل ممن وصفهم في الطبقة الأولى تستراً وتلصصاً»، وقال: «إنه لايعرف بين الشعراء شاعراً واحداً ينفث على الشعراء مواهبهم ويلهبهم بذمهم سواء، ذلك إلى ركاكة أسلوبه وغموض بيانه الذي أعرفه له في كل ما وقفت عليه من نظمه ونثره..».
ودهش من أن هذا -الكاتب- هو من لا يعرف له العامة اسماً ولا يحفظ له الخاصة بيتاً يتطاول إلى شوقي الشاعر الفحل، أو الجلوس بجانب «حافظ» صاحب المعاني المعجزات.
وقال: إنه أغفل فحول الشعراء أمثال أحمد مفتاح، وعثمان زناتي، وعبدالرحمن قراعة، وإبراهيم اليازجي.
وقال: إنها نفثة من نفثات الحقد، ووصفه بأنه فاسد الذوق .. وانتهى إلى القول بأن ما جاء في رسائلك عني فإني لا أذهب بك بعيداً عن الخطة التي مهدتها لنفسي من قولي:
إذا ما سقيته نالني منه قادح
من الذم لم يجرح بموقفه صدري
لم يقف الأمر بالمنفلوطي في هجومه على الرافعي عند هذا الحد.. كلا!
فبعد مرور عام -وبينما معركة طبقات الشعراء مستعرة- نشر المنفلوطي في مجلة «سركيس» 1906م مقالاً تحت عنوان «طبقات الشعراء» رتب فيه الشعراء ووضع نفسه في الدرجة الخامسة بعد شوقي والبكري والبارودي وصبري وحافظ، ووضع الرافعي في الدرجة الرابعة عشرة، وقال عن الرافعي: «طلب المعنى فأعياه واستهان باللفظ فانتقم لنفسه منه وعزّ عليه السكوت (فما تكاد تراه صامتاً) فهزئ بمضحك التشبيه وبارد التصور، وشبه السماء بالكنيسة، والنجوم بالراهبات، والبدر بالأسقف تارة والمصحف أخرى».
وكان هذا هو الرد الخفي، فمقال المنفلوطي كان -أيضاً- موقعاً بتوقيع رمزي حتى كشف عنه 1910م عندما أعاد نشر المقال في الطبعة الأولى لكتابه «النظرات».
وفي العام نفسه 1910م -أيضاً- نشر المنفلوطي مقالاً تحت عنوان «طبقات الكتاب» في مجلة «سركيس» بتوقيع رمزي وأبدى رأيه في كثير من الكتاب، وكان له أثر كبير ودوي واسع، فقد تجاهل فيه الرافعي تماماً، وهاجم فيه عبدالعزيز جاويش وتناوله في عبارة قاسية قال: «لولا مقامه في اللواء ومذهبه في الهجاء لكان هو وفريد وجدي سواء».
وقد تعرض الرافعي لهذه القصة كلها في «رسائل الرافعي» التي أرسلها إلى الأستاذ محمود أبو رية والتي نشرت عام 1950م، ففي خطاب منه يقول: كلمات المنفلوطي في «طبقات الكُتّاب» لها خبر، وذلك أنه ظهر منذ ثلاث عشرة سنة مقالة عن الشعراء في مجلة الثريا كان لها دويٌ بعيد، واشتغلت بها الصحف والمجلات كلها ونسبت هذه المقالة إليّ أنا، ووصلت إلى الخديوي فقام شوقي وقعد، ثم شمر لها السيد محمد توفيق البكري وهو الذي أوعز إلى المنفلوطي أن ينقضها واستأجره لذلك .. وهذا هو السبب في ذم المنفلوطي إياي بتلك العبارة التي كتبها عني، أما قبل ذلك فكان الرجل يقرظني و... ينافق لي على أنه من يومئذ طرحته ولم أعد أكلمه، لأني لا أتمسك بشيء كالأخلاق، ولذلك لا أرجع عن كلمة قلتها .. ومتى انصرفت عن شيء لا أُقبل عليه آخر الدهر، فأنت ترى أن المنفلوطي لا يكتب عن بحث ولا رويّة، وإنما هي كلمات يصور بها ما في نفسه، وإني أعجب لسخافة كلمته في الشيخ جاويش وفريد وجدي وهما عالمان من كبار أهل الفضل».
ولما مات المنفلوطي كتب عنه الرافعي في رسالة إلى أبي رية يقول: «حياة الرجل كانت كلها موتا له»!
وبعيداً عن تلك الخصومات الأدبية الطاحنة التي دارت رحاها بين هؤلاء الأدباء الذين أثروا الحياة الثقافية بوابل صيّب من إبداعاتهم وآرائهم واجتهاداتهم .. فهم جميعاً - بلا استثناء- قامات عالية، وقمم سامقة في ميادين الفكر والأدب والثقافة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا تحول المنفلوطي من كتابة الشعر إلى كتابة النثر الفني؟!
لم يكن المنفلوطي شاعراً فاشلاً، أو مدّعياً، متسلّقاً - ككثير من شعراء هذا الزمان- أو «المتشاعرين» الذين يعيشون بيننا، بل كان مصطفى المنفلوطي ذا قامة سامقة بين القمم الشعرية في عصره، ولا أدلّ على صدق ما أذهب إليه من ديوان المنفلوطي نفسه، وشهادة مجايليه له بالعبقرية!
إذن.. فلماذا تراجع عن الاستمرار في هذا الميدان، ومواصلة المسيرة الشعرية كغيره من المبدعين؟!
لعلّ الإجابة عن هذا السؤال تكمن في أن المنفلوطي كان صاحب ذائقة فنية قلما توجد عند الناس، فأدرك أنه موهوب في كتابة النثر الفني موهبةً تتجاوز موهبته الشعرية، فاتجه إلى النثر دون رجعة إلى الشعر، وأخلص لهذه القضية أيّما إخلاص، فبرّز في هذا الميدان حتى أصبح فارسه الأول بلا منازع، وذاع صيته، واتسعت شهرته في كل مكان، لدرجة أن كثيراً من الناس لا يظنون أنه كان شاعراً مرهفاً له ديوان ضمّت دفتاه اللؤلؤ والمرجان.
من هنا، فإنني أدعو الشعراء ذوي القامات القصيرة، أو أنصاف الشعراء، أو غير الموهوبين، أو المجدّفين، أن يعتزلوا هذا الميدان، حتى لا يخسروا الرهان أمام الفرسان، وأن يتركوا هذا الفن لأربابه، وينأوا بأنفسهم عن سخرية الناس بهم، ويحفظوا ماء وجوههم، ويبحثوا لهم عن ميدان آخر يتسولون فيه، ويتسكعون على أرصفته!
في تلك الحقبة التاريخية التي عاش فيها المنفلوطي، ظهر الشعر الوطني، أو شعر المقاومة والدعوة إلى الحرية، فانبرى الشعراء في مقاومة الاستعمار الإنجليزي واستبداد الخديوية، ونظم الشعراء كثيراً من القصائد الجارحة في مهاجمة الاستعمار واللورد كرومر، ونظم المنفلوطي قصيدته الشهيرة «قدوم .. ولكن لا أقول سعيد» التي هجا بها الخديوي سعيد، الذي كان عائداً من سفره، ولما كان المنفلوطي وثيق الصلة بالإمام محمد عبده، فسُجِنَ بسببه ستة أشهر، لما في القصيدة من تعريض بالخديوي عباس حلمي، وكان على خلاف مع الإمام محمد عبده!
كان مصطفى لطفي المنفلوطي نابغة في الإنشاء والأدب، انفرد بأسلوب نقي في مقالاته وكتبه، كما كانت أشعاره تتميز بالرقة والعذوبة، وهو ثالث ثلاثة من أصحاب الأساليب: (الزيات، الرافعي، المنفلوطي) وقد عاش «المنفلوطي» و«الرافعي» علمين سامقين، في مجال الأدب الإنشائي، وإن كان المنفلوطي سبق الرافعي في هذا الميدان، ومع ذلك فقد وقع بينهما الخلاف، ووقعت الخصومة، وإن كانا قد جريا في نطاق مذهب واحد هو الترسل والكتابة المنمقة، بل لعلّ الرافعي قد تأثر بالمنفلوطي، كما تأثر بالزيات.
محمد عبدالشافي محمد
-مصر-
أما الخلاف بين المنفلوطي والرافعي فقد كانت له جذور بعيدة، فقد كان الرافعي ينافس على زعامة الشعر، ثم كان المنفلوطي بعد ذلك أثيراً لدى سعد زغلول ومن كُتّابه، وكان الرافعي يطمع في ذلك، وكان الخلاف في فترة ما قبل الحرب يتمثل في إعجاب الرافعي بالكاظمي وجاويش، ولذلك هجاهما المنفلوطي.
ولا ننسى -أيضاً- أن المنفلوطي كان قد تألق فجأة بمقالاته في جريدة «المؤيد» فأثار ثائرات عند كثيرين، منهم طه حسين والرافعي والمازني .. فقد حمل عليه كل هؤلاء على اختلاف مفاهيمهم وثقافاتهم ومشاربهم.
لكن، العجيب في معركة المنفلوطي والرافعي أنه برغم الخصومة الشديدة، فإنها لم تظهر في معارك أدبية أو مساجلات على صفحات الصحف، ولكنها عاشت في أطراف الكلمات ومن وراء العبارات المبهمة والغامضة وفي رسائل خاصة ومن بين السطور، كل منهما يلذع الآخر بالكلمة الجارحة ويمضي، وقد بدأ الرافعي المعركة مستتراً في مقالته الشهيرة «طبقات الشعراء» التي نشرتها مجلة «الثريا» سنة 1905م، وقد وضع الرافعي نفسه في الطبقة الأولى، بينما وضع المنفلوطي في الطبقة الثالثة وقال عنه: «قصائد هذا الشاعر كشفت عن عين سارقة لا بارقة، وليس له معنى ينفرد به، ولا هو ممن تشفع لهم الكثرة».
وفي هذه الأثناء .. أفردت صحيفة «الظاهر» صفحاتها يومين متتاليين لمقال المنفلوطي في الرد على صاحب مقال «الثريا» وكان مقاله عنيفاً، فقد هاجم الكاتب بشدة، ووصفه بصاحب «الحقد الناري الذي أحرقه فتصاعد منه هذا الدخان الأسود الكثيف».
وقال: «إن هذا المجهول لما ضاق أمره وقصرت به خطاه عن مجاراة أدباء العصر، حاول أن يضع نفسه في صف الفحول، وأجرى هذه الموازنة الحمقاء ووضع نفسه في الطبقة الأولى، وأنه لا يوجد أديب واحد يرى له هذه المنزلة التي أنزل فيها نفسه وإن اختفى وراء قليل ممن وصفهم في الطبقة الأولى تستراً وتلصصاً»، وقال: «إنه لايعرف بين الشعراء شاعراً واحداً ينفث على الشعراء مواهبهم ويلهبهم بذمهم سواء، ذلك إلى ركاكة أسلوبه وغموض بيانه الذي أعرفه له في كل ما وقفت عليه من نظمه ونثره..».
ودهش من أن هذا -الكاتب- هو من لا يعرف له العامة اسماً ولا يحفظ له الخاصة بيتاً يتطاول إلى شوقي الشاعر الفحل، أو الجلوس بجانب «حافظ» صاحب المعاني المعجزات.
وقال: إنه أغفل فحول الشعراء أمثال أحمد مفتاح، وعثمان زناتي، وعبدالرحمن قراعة، وإبراهيم اليازجي.
وقال: إنها نفثة من نفثات الحقد، ووصفه بأنه فاسد الذوق .. وانتهى إلى القول بأن ما جاء في رسائلك عني فإني لا أذهب بك بعيداً عن الخطة التي مهدتها لنفسي من قولي:
إذا ما سقيته نالني منه قادح
من الذم لم يجرح بموقفه صدري
لم يقف الأمر بالمنفلوطي في هجومه على الرافعي عند هذا الحد.. كلا!
فبعد مرور عام -وبينما معركة طبقات الشعراء مستعرة- نشر المنفلوطي في مجلة «سركيس» 1906م مقالاً تحت عنوان «طبقات الشعراء» رتب فيه الشعراء ووضع نفسه في الدرجة الخامسة بعد شوقي والبكري والبارودي وصبري وحافظ، ووضع الرافعي في الدرجة الرابعة عشرة، وقال عن الرافعي: «طلب المعنى فأعياه واستهان باللفظ فانتقم لنفسه منه وعزّ عليه السكوت (فما تكاد تراه صامتاً) فهزئ بمضحك التشبيه وبارد التصور، وشبه السماء بالكنيسة، والنجوم بالراهبات، والبدر بالأسقف تارة والمصحف أخرى».
وكان هذا هو الرد الخفي، فمقال المنفلوطي كان -أيضاً- موقعاً بتوقيع رمزي حتى كشف عنه 1910م عندما أعاد نشر المقال في الطبعة الأولى لكتابه «النظرات».
وفي العام نفسه 1910م -أيضاً- نشر المنفلوطي مقالاً تحت عنوان «طبقات الكتاب» في مجلة «سركيس» بتوقيع رمزي وأبدى رأيه في كثير من الكتاب، وكان له أثر كبير ودوي واسع، فقد تجاهل فيه الرافعي تماماً، وهاجم فيه عبدالعزيز جاويش وتناوله في عبارة قاسية قال: «لولا مقامه في اللواء ومذهبه في الهجاء لكان هو وفريد وجدي سواء».
وقد تعرض الرافعي لهذه القصة كلها في «رسائل الرافعي» التي أرسلها إلى الأستاذ محمود أبو رية والتي نشرت عام 1950م، ففي خطاب منه يقول: كلمات المنفلوطي في «طبقات الكُتّاب» لها خبر، وذلك أنه ظهر منذ ثلاث عشرة سنة مقالة عن الشعراء في مجلة الثريا كان لها دويٌ بعيد، واشتغلت بها الصحف والمجلات كلها ونسبت هذه المقالة إليّ أنا، ووصلت إلى الخديوي فقام شوقي وقعد، ثم شمر لها السيد محمد توفيق البكري وهو الذي أوعز إلى المنفلوطي أن ينقضها واستأجره لذلك .. وهذا هو السبب في ذم المنفلوطي إياي بتلك العبارة التي كتبها عني، أما قبل ذلك فكان الرجل يقرظني و... ينافق لي على أنه من يومئذ طرحته ولم أعد أكلمه، لأني لا أتمسك بشيء كالأخلاق، ولذلك لا أرجع عن كلمة قلتها .. ومتى انصرفت عن شيء لا أُقبل عليه آخر الدهر، فأنت ترى أن المنفلوطي لا يكتب عن بحث ولا رويّة، وإنما هي كلمات يصور بها ما في نفسه، وإني أعجب لسخافة كلمته في الشيخ جاويش وفريد وجدي وهما عالمان من كبار أهل الفضل».
ولما مات المنفلوطي كتب عنه الرافعي في رسالة إلى أبي رية يقول: «حياة الرجل كانت كلها موتا له»!
وبعيداً عن تلك الخصومات الأدبية الطاحنة التي دارت رحاها بين هؤلاء الأدباء الذين أثروا الحياة الثقافية بوابل صيّب من إبداعاتهم وآرائهم واجتهاداتهم .. فهم جميعاً - بلا استثناء- قامات عالية، وقمم سامقة في ميادين الفكر والأدب والثقافة.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا تحول المنفلوطي من كتابة الشعر إلى كتابة النثر الفني؟!
لم يكن المنفلوطي شاعراً فاشلاً، أو مدّعياً، متسلّقاً - ككثير من شعراء هذا الزمان- أو «المتشاعرين» الذين يعيشون بيننا، بل كان مصطفى المنفلوطي ذا قامة سامقة بين القمم الشعرية في عصره، ولا أدلّ على صدق ما أذهب إليه من ديوان المنفلوطي نفسه، وشهادة مجايليه له بالعبقرية!
إذن.. فلماذا تراجع عن الاستمرار في هذا الميدان، ومواصلة المسيرة الشعرية كغيره من المبدعين؟!
لعلّ الإجابة عن هذا السؤال تكمن في أن المنفلوطي كان صاحب ذائقة فنية قلما توجد عند الناس، فأدرك أنه موهوب في كتابة النثر الفني موهبةً تتجاوز موهبته الشعرية، فاتجه إلى النثر دون رجعة إلى الشعر، وأخلص لهذه القضية أيّما إخلاص، فبرّز في هذا الميدان حتى أصبح فارسه الأول بلا منازع، وذاع صيته، واتسعت شهرته في كل مكان، لدرجة أن كثيراً من الناس لا يظنون أنه كان شاعراً مرهفاً له ديوان ضمّت دفتاه اللؤلؤ والمرجان.
من هنا، فإنني أدعو الشعراء ذوي القامات القصيرة، أو أنصاف الشعراء، أو غير الموهوبين، أو المجدّفين، أن يعتزلوا هذا الميدان، حتى لا يخسروا الرهان أمام الفرسان، وأن يتركوا هذا الفن لأربابه، وينأوا بأنفسهم عن سخرية الناس بهم، ويحفظوا ماء وجوههم، ويبحثوا لهم عن ميدان آخر يتسولون فيه، ويتسكعون على أرصفته!
في تلك الحقبة التاريخية التي عاش فيها المنفلوطي، ظهر الشعر الوطني، أو شعر المقاومة والدعوة إلى الحرية، فانبرى الشعراء في مقاومة الاستعمار الإنجليزي واستبداد الخديوية، ونظم الشعراء كثيراً من القصائد الجارحة في مهاجمة الاستعمار واللورد كرومر، ونظم المنفلوطي قصيدته الشهيرة «قدوم .. ولكن لا أقول سعيد» التي هجا بها الخديوي سعيد، الذي كان عائداً من سفره، ولما كان المنفلوطي وثيق الصلة بالإمام محمد عبده، فسُجِنَ بسببه ستة أشهر، لما في القصيدة من تعريض بالخديوي عباس حلمي، وكان على خلاف مع الإمام محمد عبده!