طارق عثمان
قراءة في كتاب " التفسير السياسي للقضايا العقدية في
الفكر العربي"
|
تمهيد :
يعد سؤال التراث واحد من أهم الأسئلة ،التي شغلت الفكر
العربي المعاصر ،في رحلة بحثه عن جواب السؤال الأثير : "سؤال النهضة " ،ذاك السؤال
الذي انشغل به الوعي العربي، منذ لحظة الاحتكاك الأولى بالفضاء الثقافي الغربي ،على
يد رواد النهضة ؛ الطهطاوي و الأفغاني ومحمد عبده و خير الدين التونسي
.
و الذي
عبر عنه شكيب أرسلان ب: لماذا نهض الغرب وتأخر المسلمون ؟ فقد كان حينها البون
واسعا بين أوروبا والأمة الإسلامية؛ فبينما الأولى ترفل في تقدمها المادي وتسعى
للتبشير بفكرها الأنواري بغزو العالم إذ الثانية مثقلة بنير التخلف والتردي الحضاري
.
ومن ذاك الحين والبحث جار عن جواب سؤال النهضة ،هذا
السعي الذي سيشكل فضاء فكريا متنوعا والذي سيصطلح عليه " بالفكر العربي المعاصر " ؛
فضاء فكري تنوعت فيه السبل المسلوكة للإجابة عن السؤال؛ فالبعض سلك طريق التقليد
الأعمى والأبكم للآخر الغربي المتقدم، و البعض رأى أن التقدم يكمن في مخالفة الآخر
،وبناء سد منيع بيننا وبينه.
وبين السبيلين طرائق تقترب أو تبتعد من أحدهما
.
وقد خلقت تلك الحالة من الاستقطاب الفكري بين جناحي
الفكر العربي وما بينهما بؤرة نزاع فكري تمثلت في " التراث الإسلامي " ؛ إذ تم
التنازع فيه استشكالا ؛ هل هو جزء من المشكلة ؟ أم جزء من الحل ؟ بمعنى ؛ هل التراث
الإسلامي وتوظيفه الراهن يسهم في الجواب عن سؤال النهضة أم أن استحضاره يصعب الجواب
؟ ومن ثم راحت العقول تشتغل على هذا التراث أخذا وردا وتحليلا ونقدا حتى صار مسرحا
فكريا تواترت عليه الأقلام !
ومن بين تلك الأقلام ، القلم الحداثي و الما بعد حداثي
الذي قرر أن يتعامل مع التراث الإسلامي ولكن ليس على طريقة أهل الإسلام ولكن على
طريقة علماء الأنثروبولوجيا فتمت عملية استقدام عمياء لما أنتجه هذا الحقل المعرفي
من مناهج وأدوات ليتم تشغيلها في المادة التراثية مما خلف جنايات فكرية عليها
.
وفي هذا السياق تأتي أهمية دراسة " التفسير السياسي
للقضايا العقدية في الفكر العربي" للباحث سلطان العميري والصادرة عن مركز التأصيل
للدراسات والبحوث 2010 م الذي يرصد ويحلل وينقد فيها الباحث واحدة من تلكم الجنايات
الفكرية على التراث الإسلامي وهي "تسيس الفكر العقدي في التراث الإسلامي وبالخصوص
فكر "أهل السنة والجماعة " و تقع الدراسة في تمهيد وأربعة فصول ونسعى لتقديم عرض
مختصر لأهم مفاصلها
أولا
- التعامل مع التراث : إشكاليات منهجية وأخلاقية
في التمهيد قام الباحث بتقصي أسباب العطب الذي ابتليت به
المشاريع الفكرية التي توافرت على دراسة التراث على تنوعها (1) تلك الأسباب التي
ضاعفت المشكلة بله المساهمة في الحل وكانت أهمها :
1-غرابة المنهج : "فبعد أن استشعر الخطاب العربي المعاصر
أهمية التراث وجسارة مجاوزته أخذ يبحث عن المناهج المناسبة لدراسته وتحليله ومن
المؤسف حقا أن جمهور الخطاب العربي المعاصر توجه تلقاء الغرب وذلك نتيجة النشأة
التي تربى عليها فأخذ يبحث في ركام المناهج الغربية وفي مهملاته عن منهج يناسب
دراسة تراثنا " (2) هذا الاقتراض المنهجي الذي قامت به العقول المستلبة قد أدى إلي
:" تحويل التراث الإسلامي بعمقه الديني وتجذره التاريخي وتنوعه المعرفي بذلك
الاستهلاك إلى مجرد حقل تجارب ،تجرب فيه المناهج المستعارة بتنوعاتها وتناقضاتها ،
فطائفة اقتنعت بالأصول الاشتراكية(3) ... وأخرى اقتنعت بالأصول
التاريخية(4) والاجتماعية(5) واللسانية(6) "(7)
ويرى الباحث عن هذا الاستلاب الفكري ينم عن استبطان هذا
الفصيل من المفكرين لدعوتين زائفتين ولو لم يصرحوا بذلك : الأولى هي كونية الحضارة
الغربية والثانية هي فقر التراث الإسلامي .
ومع هذا الاقتراض المعرفي تبرز الكثير من الإشكالات
المنهجية التي تطعن في نتيجة ممارسات الخطاب العربي على التراث وكان أهمها :
-الانقطاع السياقي و عدم التناسب : حيث تم نقل تلك
المناهج بعيدا عن السياق الثقافي والتاريخي التي أنتجت فيهما إلى الفضاء الثقافي
العربي ومن ثم تأتي هذه المناهج بحمولة فكرية معها ولا تأتي مجرده أبدا (8) تلك
الحمولة المغايرة تماما للبيئة الثقافية الإسلامية مما ينتج عنه الكثير من الجنايات
الفكرية
ومع هذا كانت عملية النقل نفسها غير مبرئة من العيوب إذ
وقعت في عدة أخطاء لعل أهمها :
-عدم الاستيعاب في النقل واقتراض الناقص والاستكثار ؛
حيث لا ضابط لعملية النقل نفسها من قبيل ما يجوز نقله ومالا يجوز وكذلك لم يتمعن
الناقل في كل المنتج الغربي المنقول ولم يتفحصه هل تم انجازه في بيئته أم ما زال في
طور التشكل ومن ثم سينقله فبل التمام
هذا
الخلل الأول المتعلق بنقل المناهج الغربية وطريقة نقلها قد أفرزت أضرار بالغة
بالفكر العربي لعل أهمها :
1-طغيان الاضطراب والقلق المعرفي
2-الإصابة "بالسيلان المنهجي " !
3-القفز على حقائق التاريخ .
2-خفوت اللغة الاستدلالية : بعد غرابة المنهج تأتي لغة
الخطاب الفكري العربي المليء ب" الدعاوي النظرية التي تقتضي البداهة العقلية
والعلمية ألا تقبل حتى يقام عليها الدليل الذي يثبت صحتها ولو ذهبنا نذكر أفراد تلك
الدعاوي لاستغرق وقتا طويلا وجهدا مضنيا "(9) وراح الباحث يمثل على خفوت اللغة
البرهانية الاستدلالية(10) عندهم بنماذج من تصرفهم في التراث ولعل أهم نموذج هو
تسيس القضايا العقدية في التراث . وغياب تلك اللغة عن الخطاب العربي قد يلزم منه
كون هذا الخطاب يمارس الخيانة الفكرية ويعمل على تسطيح عقول الآخرين .
3-التعميم في النتائج والأحكام : " فما أن يقف المفكر
على حالة واحدة في فترة من فترات الفكر الإسلامي يفهم منها أنها تدل على حكم ما
فإنه لا يتردد في تعميم حكمها على ذلك الفكر كله أو حتى على الجيل الذي وقعت فيه
تلك الحادثة بأكمله " (11)
4-شيوع اللغة التهكمية والاستخفافية بالفكر الإسلامي
وبالعلماء والفقهاء :
"وهذا نفس ظاهر في كتابات محمد أركون و عبد المجيد
الشرفي و نصر حامد وغيرهم .... وفي المقابل نفاجأ بالمدح والثناء على أنفسهم ..وعلى
من يرونه موافقا لهم كمدحهم للزنادقة والضلال في تاريخ الإسلام
"(12)
5-الانتقائية المبعثرة : حث تغيب المنهجية العلمية
والمعايير الواضحة في التعامل مع الأفكار وطريقة الانتقاء منها
6-غياب الهم البنائي : حيث اشتغل الخطاب العربي بالنقد
والهدم ولكنه لم يقدم بديل لما نقده وهدمه
ثانيا –التفسير السياسي : المفهوم والمآل
في الفصل الأول من الدراسة قارب الباحث مفهوم التفسير
السياسي للفكر حيث اعتبر المقصود منه هو " أن الفكر الإسلامي بجميع أطيافه كان
ينطلق في بناء أصوله المعرفية ومواقفه العلمية من منطلقات سياسية لم يراع فيها
المنطق الديني أو المعرفي فالآراء التي قررت فيه هي في حقيقتها كانت أفكار سياسية
عبر عنها بلغة دينية وكذلك الحال في ظاهرة الفرق المنقسمة في الفكر الإسلامي هي في
الحقيقة أحزاب سياسية تتصارع فيما بينها على السياسة ولكنها غلبت الطابع الديني
"(13)
وبذلك تكون كل المواقف العلمية التي أنتجها الفكر
الإسلامي نتجت عن علاقته بالسلطة الحاكمة إما موافقة لها أو معارضة لها
وراح الباحث يعدد نماذج تطبيقية لتلك الممارسة الفكرية
بالجابري الذي شغل أداه منهجية غربية هي " اللاشعور السياسي " (14) وكذلك بحسن حنفي
والذي يعتمد آلية ماركسية تفسر الفكر بناء على الصراع الطبقي في المجتمع وكذلك بكل
من نصر حامد وأدونيس وغيرهم ممن سيسوا كل المواقف العلمية في الخطاب الإسلامي
الأصيل والمستحضرين للمنهج المادي في سلوكهم هذا وخصوصا البعد السياسي منه ليحققوا
في الأخير أغراض متعددة أهمها :
1-القدح في موضوعية الحقائق العقدية التي يقررها أئمة
السلف
2-مدح الاتجاهات التي يرون فيها مستندا لأفكارهم
3-تبرير إخفاقات الأفكار التي يرون فيها مستندا لمناهجهم
4-الولوج للنسبية التي تنفي وجود المطلق
ثالثا : التفسير السياسي : نقد إجمالي
في الفصل الثاني من الدراسة عمد الباحث إلى تقويض الأساس
الفكري للتفسير السياسي وذلك ب " تقديم الأفكار والمضامين المعرفية التي تمثل
العقبة الكؤود في قبول فكرة التفسير السياسي في التقريرات العلمية وتثبيت نقيضه
وتمثل تحليلا وتفكيكا للعلاقة بين الحالة السياسية والعلمية
"(15)
الوجه الأول : التفريق بين سبب البحث في مسألة فكرية
معينه ومنطلق البحث فيها :
بمعنى أن أهل العلم قد تثير الوضعية المجتمعية اقتصادية
أو سياسية في نفوسهم البحث في قضية معينه أفرزها هذا الوضع فهذا يعتبر سبب التعاطي
مع تلك المسألة ولكن البناء المعرفي لتلك المسألة يكون دينيا محضا وهذا هو المنطلق
. فأصحاب التفسير السياسي خلطوا بين الأمرين وجعلوا السبب السياسي دليل على المنطلق
السياسي .
الوجه الثاني: في نقد التفسير المادي للتاريخ
:
وساق الباحث فيه الأدلة على فساد الاقتصار على التفسير
المادي للظاهرة الإنسانية وذلك لكونه اعتمد على مقدمة خاطئة تتعلق بطبيعة العقل
البشري من كونه خال من أي معرفة قبل ما يدركه بحسه (16) وكذلك لإهماله الطبيعة
المركبة للإنسان المادية والمعنوية .
الوجه الثالث : كون التفسير السياسي يمارس تسطيحا ذريعا
للفكر الإسلامي :
"فلقد عرف الفكر الإسلامي ثورة علمية ومعرفية مبكرة نشأت
خلالها مناهج علمية مبكرة ومنفصل بعضها عن بعض في الأصول والمنطلقات وأخذت هذه
المناهج تتدافع فيما بينها في الوسط الإسلامي " (17) وإذا بالخطاب العربي يجعل تلك
الترسانة المعرفية الإسلامية ما هي إلا انعكاسات للمواقف السياسية ! وأنهم وحدهم من
استطاع الوصول إلي تلك الحقيقة التي غابت عن الجميع !
الوجه الرابع :غياب الاستدلال على دعاوي التسييس
وهذا منتشر في الخطاب العربي ويدل على أزمة في البحث
العلمي ؛ إذ كيف نذكر الأحكام والدعاوي غير البديهية من غير ذكر دليل صحتها ؟
الوجه الخامس : دعوى التسييس مخالفة لواقع أئمة الإسلام
الديني والخلقي
وهنا راح الباحث يعدد الأدلة الواقعية التي تؤكد على
بطلان اتهام أئمة الفقه والحديث بالميل مع السياسة وذلك بالنظر إلى سيرهم وتراجمهم
التي تظهر دينهم وخلقهم وموقفهم من السلطة السياسية
رابعا – معتقد أهل السنة والجماعة : تحت التسييس
في الفصل الثالث خص الباحث المقررات العقدية لأهل السنة
والجماعة والتي وقعت ضحية لعملية التسييس الفكري في الخطاب العربي المعاصر بغرض
القول الذي يسيسها ثم نقده بطريقة علمية وكان أهم هذه المقررات :
1-مفهوم أهل السنة : حيث زعم أصحاب هذا الفكر أنه تم
صياغة هذا المصطلح لاحتكار السلطة السياسية تحت غطاء شرعي ولعل أبرز من قال بذلك
محمد أركون
2-مصادر الاستدلال : القرآن : حيث تناولوه من جانب تسييس
جمعه وتسييس تفسيره وبعد القرآن تم تناول المصدر الثاني وهو السنة حيث زعموا أن
العلماء كانوا يضعون الأحاديث لصالح أو ضد السلطة الحاكمة وكذلك عملية التصحيح
والتضعيف تكون تبعا لموقف المحدث من السلطة السياسية وبعد السنة يأتي الإجماع وذلك
لاعتباره مضاد للتاريخية وزعموا أنه آداه توظفها السلطة السياسية في تثبيت حكمها
3-مسألة إثبات صفات الله عز وجل : وقد كان حامد نصر من
أهم من تناولوا موضوع الصفات بالتسييس فزعم أن إثبات الصفات لله كانت مدخلا
لتنزيلها على الحكام بغرض تثبيت ملكهم .
4-مواقف السلف من دعاة البدع : أي تلك الشخصيات التي
كانت داعية لبدع مكفره وحكم العلماء عليها بالقتل وفعلا قتلها الأمراء حينها
فيجعلون ذلك الموقف منطلق من خلفية سياسية وليست شرعية بمعنى أنهم أفتوا بقتل هذه
الشخصيات لكونها كانت معارضة للسلطة السياسية لا لأنها جاءت بما يوجب القتل شرعا
وأبرز تلك الشخصيات : معبد الجهني وغيلان الدمشقي والجعد بن درهم والجهم بن صفوان
وقد توسع الباحث هنا في تناول د.محمد عابد الجابري بالنقد بخصوص تسييسه لقضيتي
الجبر و الإرجاء
5-قضية خلق القرآن : تناول الباحث كلا من الجابري وقبله
فهمي جدعان بنقد تسييسهم لفتنة خلق القرآن التي ابتلي بها الإمام أحمد وغيره ورد
عليهم في تهميشهم لدور المعتزلة في تفعيل هذه المحنة
خامسا - الفرق الإسلامية : ظواهر سياسية
!
في الفصل الرابع تناول الباحث ظاهرة الفرق الإسلامية
وعلم الكلام في الفضاء الفكري الإسلامية مبينا أن هناك طريقين لتحليل هذه الظاهرة
الطريق الأول المعرفي الذي يقرر أن الفرق الكلامية قد انطلقت في بناء أفكارها من
منطلق معرفي أما الطريق الثاني وهو المادي " فهو الاتجاه الذي يرجع نشأة الفكر
الإسلامي إلى الأسباب المادية ويفسر بها تطوره وتراكمه ...حيث أرجع السبب الرئيس
لظاهرة الفرق ونشأة علم الكلام إلى الأحداث السياسية والقول بأن الفرق الإسلامية
كانت في الأصل أحزاب سياسية تنطلق من منطلق سياسي بحت "(18) وفصل الباحث في الفرق
الإسلامية التي تم تسييسها وهي : الخوارج والشيعة والمرجئة والجبرية و القدرية
ناقدا بمنهج تاريخي القول بأن أصل ومنطلق ظهور كل فرقة منها كان سياسي وليس ديني
خاتمة
الخطاب العربي المعاصر مغرق في تقليده للفكر الغربي حتى
صار يعتبر التقليد في حد ذاته هو الحداثة والتقدم فعلى قدر ما ننقل من النتاج
الفكري الغربي على قدر ما نحقق حداثتنا .هذا التقليد جعل كثير من المفكرين يتعاملون
في مشاريعهم الفكرية مع تراث الأمة الثقافي بنفس الطريقة التي تعامل بها مفكري
الغرب مع تراثهم ولم يراعوا الفارق بين البيئتين الثقافيتين المتخالفين تماما
فاستعاروا ما أنتجه حقل المعرفة الأنثروبولوجية من مناهج وأدوات معرفية وقاموا
بتشغيلها في المادة التراثية مما أثمر خللا كبيرا في نتاجهم الفكري . وتنوعت
المناهج المستعارة من الفضاء الثقافي الغربي ولكنها تشترك في بعدها المادي
والتاريخي ومن ثم سعت نحو أنسنة النص الديني (القرآن والسنة)
وكان من جراء تشغيل هذه المناهج المستعارة ظاهرة تسييس
القضايا العقدية لأهل السنة والجماعة وتسييس ظاهرة الفرق في الفكر الإسلامي وعلم
الكلام حيث تم تفسيرها بطريقة مادية ترجع منطلقها إلى الأوضاع المجتمعية خاصة
السياسية منها وتنفي المنطلق الديني والمعرفي لها .
وقد قدم الباحث دراسة رصينة ملتزمة بالمنهج العلمي في
نقد الأطروحات الفكرية التي فسرت القضايا العقدية في الفكر الإسلامي تفسيرا سياسيا
بعدما بين مفهوم التفسير السياسي ثم قدم نقدا إجماليا للبناء الفكري للتفسير
السياسي وأتبعه بنقد تفصيلي لكل مسألة بعرض المقولة التي تدعي التفسير السياسي ثم
نقدها بسوق الأدلة العلمية والتاريخية التي تنقضها .
===
(1) تعددت تلك المشاريع ولعل أهمها مشاريع كل من : محمد
عابد الجابري و حسن حنفي و محمد أركون وفهمي جدعان ونصر حامد أبو زيد
(2) سلطان العميري ، التفسير السياسي للقضايا العقدية في
الفكر العربي ، مركز التأصيل للدراسات والبحوث ، الرياض ط1 2010
ص11
(3) كحسن حنفي وطيب تزيني
(4) كعبد الله العروي
(5) كالجابري
(6) كأركون
(7) م.ن. ص12
(8) تلك الفكرة تم بلورتها على يد د. المسيري تحت عنوان
" فقه التحيز " ولد.سعد البازعي مشاركات رصينة في هذا السبيل
(9) م . ن ص 23
(10) يعتبر د.طه عبد الرحمن متفرد في لغته الاستدلالية
المركبة المبثوثة في نتاجه الفكري الضخم والتي تجعل منه منتج رصين لكنه عسير الهضم
نظرا لتخصص د.طه في المنطق وفلسفته وفلسفة اللغة ونظرا لعدم ذيوع ذاك النوع من
الكتابة
(11) م.ن.ص25
(12) م.ن ص26
(13) م.ن ص33
(14) استعار هذا المصطلح من دوبري وهو تفريع على لا شعور
فرويد واللاشعور الجمعي ليونج
(15) م.ن ص 54
(16) أول من نظر لذلك هو جون لوك الذي اعتبر العقل صفحة
بيضاء و قد أسست هذه الفكرة للمنهج التجريبي الذي سيكتمل على يد كوندياك
وبيكون
(17) م.ن ص60
(18) م.ن ص154
|
الأحد، 30 أغسطس 2015
قراءة في كتاب " التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي"
الجمعة، 28 أغسطس 2015
المجتمع الصليبي في مذكرات أمير عربي
المجتمع الصليبي في مذكرات أمير عربي
لا أظن أحدًا من المؤرخين العرب المسلمين نجح في
تقديم صور تنبض بالحياة عن المجتمع الصليبي في بلاد الشام, مثل الأمير العربي أسامة
بن مُنْقذ (488-584هـ/1095-1188م).
مع أن أسامة لم يكن مؤرخا محترفا, وإنما كان فارسا
وأديبا وشاعرا وسياسيا, فإنه قدَّم مادة علمية عن حياة الصليبيين, في مذكراته, التي
تضمنها كتابه (الاعتبار), تفوق في أهميتها ما نعثر عليه في كتابات المؤرخين
والرحَّالة المعاصرين. حقيقة لقد شهد عصر الحروب الصليبية عددا كبيرا من المؤرخين
العرب المسلمين العظام أمثال: ابن القلانسي (ت555هـ/1159م), وابن الأثير
(ت630هـ/1232م), وابن شداد (632هـ/1234م), إلا أن الاهتمام الأول لهؤلاء لم يكن
المجتمع الصليبي, بعاداته وتقاليده وثقافته, وإنما كان تدوين الوقائع الحربية
والسياسية التي دارت بين المسلمين والصليبيين. ويستهدف هذا المقال التعرف على بعض
ملامح المجتمع الصليبي في بلاد الشام في ضوء الوقائع التي دونها الأمير أسامة في
مذكراته. ولكن بادئ ذي بدء ينبغي علينا أن نتعرف على أسامة وأسرته ومكانته في عصره
لارتباط ذلك كله بمذكراته وقيمتها العلمية.
بنو منقذ في شيزر
بنو منقذ أسرة عربية أصيلة, وتعود بنسبها إلى
قبيلة كنانة القحطانية التي كانت تسكن حول مكة قبل الإسلام. وقد نبغ منها, في
التاريخ الإسلامي, عدد من الفرسان, في الحرب والسياسة واللغة أمثال الصحابي الجليل:
أبو ذر الغفاري, وواضع النحو المشهور: أبو الأسود الدؤلي, وأمير خراسان في العصر
الأموي: نصر بن سيَّار, وغيرهم. وانتشر بنو منقذ, بعد الفتوحات العربية, في المشرق
العربي, وكانت قد سكنت جماعة منهم في مستهل القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس
الهجري), بجوار بلدة شيزر التي تقعُ على مرتفع صخري, على الضفة الغربية لنهر
العاصي, إلى الشمال من مدينة حماة. ويُعدّعلي بن منقذ الكناني -جد أسامة- هو المؤسس
الحقيقي لإمارة بني منقذ, حيث استرد شيزر من الروم (البيزنطيين) عام
474هـ/1081م,وجعلها مقرا للإمارة التي ظلت قائمة حتى عام 552هـ/1157م. وعند وفاة
علي بن منقذ خلفه ابنه نصر بن علي. وبعد وفاة الأخير عام 492/1098م تولى الإمارة
أخوه مرشد بن علي, والد أسامة. ولكن سرعان ما تنازل مرشد عن الإمارة طواعية لأخيه
الأصغر سلطان بن علي, لأنه كان قد شغف بتلاوة القرآن ونسخه والجهاد والصيد أكثر مما
شغف بالسياسة.
سيرة أسامة: ولد أسامة بن مُنْقذ في قلعة شيزر عام
488هـ/1095م/ وهو ابن الأمير مرشد. وقد تربى على تقاليد الفروسية ومثلها. كما درس
العلوم الدينية والآداب واللغة. وبذلك شبَّ وقد جمع في شخصه, بكل جدارة, إمارة
السيف والقلم. وكان من المتوقع أن يتولى أسامة الإمارة بعد عمه سلطان إلا أن الأخير
آثر أولاده, الذين أنجبهم بعد أن تقدمت به السن, علي ابن أخيه, بل كان يخشى عليهم
منه لما يتمتع به من فروسية وثقافة وأدب. ولهذا فعندما توفي سلطان عام 549هـ/1154م
خلفه ابنه محمد, الذي يُعدّآخر أمراء شيزر من بني منقذ.
وعلى الرغم من أن أسامة بن منقذ لم يتول إمارة
شيزر رسميا, فإن ذلك لم ينتقص من مكانته. فقد ذاع صيته في أرجاء الشام والعراق
ومصر; أميرا وفارسا ومجاهدا وأديبا وشاعرا, وحظي باحترام الملوك والأمراء
المعاصرين, العرب منهم والإفرنج (الصليبيين).وكان أسامة قد غادر شيزر للمرة الأولى
عام 529هـ/1135م إلى الموصل, حيث انضم إلى أميرها عماد الدين زنكي في حروبه ضد
الصليبيين. ومن ثم عاد إلى شيزر للدفاع عنها ضد إمبراطور الروم يوحنا كومنين, الذي
هاجمها عام 532هـ/1138م. وقد توقع أسامة من عمه سلطان أن يُعيدَ النظر في مسألة
وراثة الإمارة, نتيجة لما أظهره من بطولات خارقة في الدفاع عنها, ولكن خاب ظنه فقد
ازداد شعور عمه بخطره على مستقبل أولاده فأمره بالرحيل عن شيزر مع أهله وأخوته,ولا
سيما أن والده مرشد كان قد توفى قبل ذلك بعام واحد (531هـ/1137م). وبالفعل غادر
أسامة مع أهله شيزر; ليعيش في المنفى حتى وفاته. فقد اتجه,بداية, إلى دمشق, حيث عاش
فيها نحو سبع سنوات (532-539هـ/ 1138-1144م) معززا مكرما من قبل ملوكها البوريين
ووزيرها معين الدين أنر. ثم انتقل من دمشق إلى القاهرة, حيث عاش فيها نحو عشر سنوات
(539-549هـ/1144-1154م), وكان خلالها موضع احترام وتقدير الخلفاء الفاطميين
ووزرائهم وكبار رجال دولتهم. إلا أن فترة إقامته في مصر كانت, كما يقول أسامة نفسه,
من أسوأ أيام حياته لما شهده في البلاط الفاطمي من فتن ودسائس واغتيالات, بحيث فاقت
المكائد والمؤامرات التي سبق له أن عانى منها في بلده شيزر وفي بلاط البوريين في
دمشق. ثم عاد أسامة إلى دمشق ثانية بدعوة من الملك نور الدين محمود بن زنكي, وعاش
فيها هذه المرة عشر سنوات (549-558هـ/1154-1164م), جاهد خلالها في صفوف القوات
النورية ضد الصليبيين. وفي هذه الفترة حدث ما لم يكن في الحسبان, حيث كان يحتفل آل
منقذ في إحدى ليالي عام 552هـ/1157م بختان أحد أولاد أميرها محمد بن سلطان, إذ
بزلزال يدمر معظم مدن سورية الوسطى, بما فيها قلعة شيزر. وبذلك قضى على بني منقذ
جميعا باستثناء زوجة الأمير محمد التي انتشلت من تحت الأنقاض. ولم يبق من هذه
الأسرة الكبيرة سوى أسامة وأهل بيته وأخوته الذين كانوا يعيشون في المنفى. ولكن إذا
كان أسامة قد أُنقذ من الموت فإنه لم ينج من الأسى والحزن. بل وضع كتابا تحت عنوان
(المنازل والديار) جمع فيه ما قاله الشعراء السابقون, الذين بكوا ديارهم وأطلالها
ومنازلها ورسومها, كما ضمنه ما قاله أسامة نفسه من قصائد في ذكرى أهله وأقاربه. ثم
انتقل أسامة من دمشق إلى حصن كَيّفا في الجزيرة الفراتية, حيث عاش فيه أكثر من أحد
عشر عاما (558-570هـ/1164-1174م) معززا مكرما من صاحبه الأمير فخر الدين أرسلان.
ومن ثم عاد أسامة إلى دمشق للمرة الثالثة والأخيرة بدعوة من السلطان صلاح الدين
الأيوبي. وظل موضع احترام وتقدير رجال الدولة الأيوبية وأهل دمشق جميعا حتى وفاته
عام 584هـ/1188م وقد بلغ السادسة والتسعين من عمره, ودفن في سفح جبل
قاسيون.
وينبغي علينا, ونحن نوجز سيرة أسامة بن منقذ, أن
نشير إلى أمرين أساسيين.الأمر الأول هو أن أسامة اضطلع, خلال حياته, بمهمات سياسية
وحربية بالغة الأهمية. فخلال وجوده في دمشق بعثه الملوك البوريون ووزيرهم معين
الدين أنر سفيرا إلى بلاط الصليبيين, كما عهد إليه الفاطميون, خلال إقامته في مصر,
بالتفاوض مع نور الدين لتنسيق التعاون بينهم وبينه ضد الصليبيين. وفضلا عن ذلك كله
فقد قاد أسامة بنفسه حملة ضد الصليبيين دفاعا عن عسقلان.أما الأمر الثاني فهو أن
الفترة التي أمضاها أسامة في حصن كَيّفا كانت من أخصب فترات حياته من الناحية
الفكرية, حيث وضع خلالها عددا كبيرا من الكتب; ومنها كتاب (الاعتبار), الذي كان
الهدف منه أن يأخذ الناس العبرة مما مرَّ في حياته من أحداث وتجارب, بحلوها
ومرها.
إن ما يهمنا من كتاب (الاعتبار) هو ما اشتمل عليه
من مادة علمية تتعلق بالمجتمع الصليبي في بلاد الشام. وينبغي أن نقرر -بداية-أن هذه
المادة تكتسب أهمية خاصة لأن أسامة لم ينقلها من بطون المصادر والمراجع, وإنما
استقاها من شهود عيان. فالكثير من الوقائع كان الأمير أسامة نفسه شاهد عيان
عليها,أو طرفا فيها, وبعضها سمعها مباشرة من والده وأعمامه, الذين كانوا بدورهم
شهود عيان عليها, وبعضها الآخر سمعه من الملوك والأمراء, المسلمين والصليبيين,
الذين اتصل بهم. ومادام أسامة كان قد عاش نحو ست وتسعين سنة, فهو شاهد عيان, بشكل
أو بآخر, على معظم الأحداث التي جرت في المشرق العربي في القرن الثاني عشر للميلاد
(السادس للهجرة). كما تكتسب هذه المادة العلمية أهمية فائقة نتيجة لتنوعها
وشموليتها, هذا فضلا عما تميز به أسامة نفسه من موضوعية ونزاهة في كل ما دونه من
وقائع وأحداث. ولا غرو, بعد هذا كله, من أن نجد المؤرخين الغربيين أنفسهم يعتمدون
اعتمادا رئيسا على هذا الكتاب في دراساتهم للمجتمع الصليبي في عصر أسامة بن
منقذ.
الطب عند الصليبيين
إن أول ما يلفت نظر القارئ لكتاب (الاعتبار) ما
ورد فيه من معلومات ووقائع عن الانحطاط العلمي في المجتمع الصليبي آنذاك, فيورد
أسامة _مثلا _ بعض الوقائع التي تكشف بوضوح سذاجة الطب عند الصليبيين وامتزاج
المعارف الطبية بالخرافات والأساطير. فيروي واقعة, نقلا عن عمه الأمير سلطان,
مفادها أن حاكم المنيطرة الصليبي,وهي بلدة تقع شمالي لبنان, كتب إلى عمه يطلب منه
أن يبعث له طبيبا عربيا ليداوي بعض المرضى, فأرسل الأمير إليه طبيبا عربيا نصرانيا
يقال له ثابت. ولكن لم تمض عشرة أيام حتى عاد ثابت إلى شيزر. وعندما سأله بنو منقذ
عن السبب في عودته بهذه السرعة قال إن الصليبيين في المنيطرة (أحضروا عندي فارسا قد
طلعت في رجْله دمّلة وامرأة قد لحقها نشاف. فعملت للفارس لُبيخة ففتحت الدمّلة
وصلحت. وحميت المرأة (أي منعها عن بعض الطعام) ورطبت مزاجها. فجاءهم طبيب إفرنجي
(صليبي) فقال لهم هذا (أي الطبيب العربي) لا يعرف) شيئا في الطب والمداواة. ثم قال
الطبيب (الصليبي) للفارس الصليبي المريض (أيما أحب إليك أن: تعيش برجل واحدة أو
تموت برجلين? قال (أعيش برجل واحدة) فقال الطبيب (أحضروا لي فارسا قويا وفأسا
قاطعا) فحضر الفارس والفأس, وأنا حاضر (أي الطبيب العربي) فحط ساقه على قُرمة خشب
وقال للفارس: اضرب رجله بالفأس ضربة واحدة اقطعها. فضربه, وأنا أراه, ضربة واحدة ما
انقطعت, ضرب ضربة ثانية فسال مخ الساق, ومات (أي المريض) من ساعته). ثم أخذ الطبيب
الصليبي في معالجة المرأة الصليبية وقال (هذه المرأة في رأسها شيطان قد عشقها,
احلقوا شعرها فحلقوه.وعادت تأكل من مأكلهم الثوم والخردل. فزاد بها النُّشاف, فقال
الطبيب الصليبي (الشيطان قد دخل في رأسها, فأخذ الموس وشق رأسها صليبا وسلخ وسطه
حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح فماتت المرأة في وقتها. فقال الطبيب العربي
للصليبيين (هل بقي لكم إليّ حاجة? قالوا:لا. فجئت وقد تعلمت من طبهم ما لم أكن
أعرفه!). كما يروي الأمير أسامة واقعة أخرى تكشف عجيب طب الصليبيين سمعها من أمير
طبرية الصليبي; مفادها أن فارسا صليبيا كان قد مرض وأشرف على الموت, فأحضروا قسا
كبيرا من قساوستهم لعلاجه إيمانا منهم أنه إذا وضع يده عليه فسيشفى في الحال. ولكن
ما حدث هو أنه عندما رأى القس الفارس المريض قال لأهله. أعطوني شمعا. فأُحضر الشمع,
فليّنه القس وصنع منه ما يشبه الكرات ووضعها في أنف الفارس, فمات في الحال. فلما
قال أهل المريض للقس إن مريضهم قد مات قال لهم: نعم. فقد كان يتعذب فسددت أنفه حتى
يموت ويستريح!
الصليبيون ينكثون العهود
كما بيّن أسامة, بالوقائع, أن المجتمع الصليبي في
بلاد الشام كان يعاني انحطاطا أخلاقيا واضحا. فيذكر أن الصليبيين لا يحترمون وعدا
ولا يلتزمون بعهد, فهم ينكثون ويحنثون ويغدرون وفقا لمصالحهم. فيروي, في هذا الصدد,
واقعة تكشف غدر الملك الصليبي بلدوين الثالث بأسرته وأهله, ومفادها أنه عندما قرر
أسامة الإقامة في دمشق أيام نور الدين زنكي, كانت أسرته لاتزال في مصر, ولكي تصل
هذه الأسرة من القاهرة إلى دمشق بسلام لابد من الحصول على الأمان من الصليبيين.
وبالفعل حصل نور الدين من الملك الصليبي المذكور على الأمان المطلوب خطيا, وأُرسل
إلى مصر لكي يكون وثيقة بيد الأسرة أثناء عبورها أراضي المملكة الصليبية. وبالفعل
أقلعت السفينة التي تحمل أسرة أسامة, من ميناء دمياط المصري إلى ميناء عكا الصليبي,
وكان عددها خمسين نسمة. ولكن ما كادت تصل السفينة إلى ميناء عكا حتى تعرض أهل
أسامة, بأمر من الملك الصليبي نفسه, إلى السلب والنهب على يد رجاله, حيث انتزعوا
منهم كل ما كانوا يحملونه من الذهب والفضة والحلي والجواهر, والتي تقدر قيمتها بنحو
ثلاثين ألف دينار. ولم يترك لهم الملك الصليبي سوى خمسمائة دينار. ومع أن الملك
اعترف بالأمان الموقع من قبله ولكنه رفض الالتزام به. حقيقة لقد فرح أسامة بوصول
أسرته إلى دمشق بسلام, ولكن ما أحزنه أشد الحزن في هذه الواقعة ليس غدر الملك
الصليبي بأهله وانتزاعه كل ما كان بحوزتهم فحسب, وإنما نهب هذا الملك لمكتبة أسامة
التي كانت تضم نحو أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة.كما يروي أسامة واقعة أخرى
تؤكد ما انطوت عليه أخلاق الصليبيين من غدر ونكث بالعهود, وخلاصتها أن أمير إنطاكية
الصليبي, واسمه تانكريد, كان قد أُعجب إعجابا شديدا بمهارة أحد الفرسان المسلمين,
واسمه حسنون, في سباق للخيل جرى أمامه; وأكرمه غاية الإكرام. وحاول حسنون الإفادة
من إعجاب تانكريد به فطلب منه أن يعطيه أمانا بأن يطلق سراحه إذا وقع يوما ما أسيرا
بيده, فأعطاه ما طلب. وشاءت الأقدار أن يقع حسنون بعد سنة أسيرا بيد هذا الأمير
الصليبي. ولكن الأخير لم يف بوعده, بل عندما أراد رجاله قلع عينه اليسرى قال لهم
تانكريد: (اقلعوا عينه اليمنى حتى إذا حمل الترس استترت عينه اليسرى فلا يبقى يبصر
شيئا, فقلعوا عينه اليمنى كما أمرهم).
وينقل أسامة وقائع أخرى تكشف جانبا آخر من
الانحطاط الأخلاقي في المجتمع الصليبي, وهو انعدام (النخوة والغيرة) عند الصليبيين.
ويقول أسامة في هذا الصدد (يمشي الرجل منهم وامرأته في الطريق فيلقاه رجل آخر فيأخذ
امرأته منه ويعتزل بها ويتحدث معها, والزوج واقف ينتظر فراغها من الحديث مع ذلك
الرجل, فإذا طال الأمر يتركها مع المتحدث ويمضي). ويروي أسامة واقعة أخرى جرت في
مدينة نابلس,فحواها أن صليبيا عاد إلى بيته فوجد صليبيا آخر نائما فيه! وكان رد
فعله أنه قال للرجل الغريب (وحق ديني إن عدت فعلت كذا تخاصمت أنا وأنت). ويعلق
أسامة على ذلك بقوله (وكان هذا نكيره ومبلغ غيرته على زوجته). كما يذكر أسامة واقعة
أخرى, نقلا عن رجل, اسمه سالم, كان يعمل عند والده, ثم فتح حمّاما في معرة النعمان,
مفادها أن أحد الصليبيين أحضر زوجته إلى الحمام, وهو خاص
بالرجال...!
تعصب الصليبيين لبني جنسهم
ويشير أسامة إلى ظاهرة أخرى كانت تسود المجتمع
الصليبي في بلاد الشام, وهي تعصب الصليبيين إلى بني جنسهم ودينهم, ويروي الكثير من
الوقائع التي تؤكد ذلك; منها أن أهل شيزر كانوا قد أسروا عددا من الصليبيين, وكان
نصيب والده منهم بعض الجواري; وتخير إحداهن, لجمالها وشبابها, وبعث بها إلى صديقه
الأمير شهاب صاحب قلعة جعبر. فتزوجها الأخير وأنجبت له ولدا أسماه (بدران), فجعله
وليا للعهد. وعند وفاة شهاب تولى ابنه بدران الإمارة, وغدت أمه (الصليبية الأصل) هي
الآمرة الناهية فيها. ولكن سرعان ما هربت من القلعة سرا إلى بلدة (سروج) وهي إذ ذاك
بيد الصليبيين; فتزوجت فيها بصليبي يعمل إسكافيا; في حين أن ابنها أمير بقلعة
جعبر!!, أي آثرت ابن جلدتها الإسكافي على البقاء إلى جانب ابنها الأمير بدران. كما
يروي أسامة عددا من الوقائع التي تثبت تعصب الصليبيين لدينهم, منها,مثلا, أن شابًا
صليبيًا اسمه راؤول كان قد وقع أسيرا بيد المسلمين أثناء إحدى غارات الصليبيين على
شيزر, ووصل هذا الشاب إلى دار والده مرشد, وسرعان ما اعتنق الإسلام وأخذ يواظب على
الصلاة والصيام وغير ذلك من الواجبات الدينية. ثم زوجه الأمير مرشد بامرأة مسلمة
تقية, ودفع له تكاليف الزواج والسكن, ورزق منها ولدين, وعندما بلغ الولدان الخامسة
أو السادسة من العمر هرب الأب مصطحبا معه زوجه وولديه من شيزر إلى أفاميه التي كانت
تحت حكم الصليبيين, حيث تنصَّر ثانية وارتد عن الإسلام !
ويحدثنا أسامة عن انتشار ظاهرتي القرصنة والمتاجرة
بالأسرى المسلمين, في المجتمع الصليبي, فيروي أن أحد القراصنة الصليبيين, واسمه
وليام, كان قد خرج في مركب له يغزو في البحر المتوسط, فاستولى على مركب يحمل نحو
أربعمائة من الحجاج المسلمين المغاربة, ومن ثم عرضهم للبيع في أسواق بيت المقدس.
واشترى أسامة عددا منهم, كما اشترى عددا آخر للأمير معين الدين أنر. كما يشير أسامة
إلى أن الصليبيين في الشام اعتادوا بيع الأسرى المسلمين الذين كانوا يقعون في
أيديهم أثناء المعارك أو يختطفونهم أثناء غاراتهم المفاجئة على المدن والقرى
الإسلامية المجاورة لهم. وكان الصليبيون ينتهزون فرصة زيارة بعض الأمراء المسلمين
إلى بلاط الملوك والأمراء الصليبيين ليعرضوا عليهم هؤلاء الأسرى المسلمين. ويقول
أسامة في هذا الصدد:(فكنت أشتري من سهّل الله خلاصه).
مكانة الفرسان عند
الصليبيين
ويكشف أسامة بن منقذ عما كانت تحظى به طبقة
الفرسان في المجتمع الصليبي من مكانة واحترام, ويبين أن الفرسان الصليبيين كانوا
يقومون بدورٍ متميزٍ لا في الدفاع عن المملكة والإمارات الصليبية فحسب وإنما في
إدارة الدولة أيضا, فهم أصحاب الرأي والمشورة فيها, وهم أصحاب القضاء والحكم. ويؤكد
أسامة هذه الحقيقة بما يرويه من وقائع, منها ما جرى معه شخصيا عندما كان يعيش في
بلاط البوريين في دمشق, حيث رفع شكوى إلى فولك الخامس,ملك بيت المقدس الصليبي, على
حاكم بانياس الصليبي, فحواها أن الأخير كان قد سلب قطعان غنم للمسلمين في موسم
ولادة الغنم (فولدت وماتت أولادها وردها علينا بعد أن أتلفها). فطلب الملك الصليبي
من نحو ستة من الفرسان الصليبيين النظر في هذه الشكوى. وبالفعل اجتمع هؤلاء
وتشاوروا, ثم اتفق رأيهم على الحكم, وعادوا إلى مجلس الملك وقالوا له:(قد حكمنا على
صاحب بانياس أن يدفع غرامة مقابل ما أتلف من غنمهم). فأمر الملك أن ينفذ قرار
الحكم. وبالفعل تسلم أسامة من صاحب بانياس مبلغا قدره (400) دينار تعويضا لأصحاب
الغنم. ويُعقب أسامة على هذه الواقعة بقوله إن الحكم الذي يصدره الفرسان الصليبيون
هو حكم قطعي, حتى أنه لا يحق لأية شخصية صليبية, بمن في ذلك الملك نفسه, أن تنقض
قرار محكمة الفرسان. كما يشير أسامة بن منقذ إلى أن ما كانت تتمتع به طبقة الفرسان
من احترام في المجتمع الصليبي قد تجلى أيضا في احترام الصليبيين لطبقة الفرسان
المسلمين, وفي العلاقات الودية التي كانت تقوم, في أيام السلم, بين الفرسان
الصليبيين والفرسان المسلمين, فهواياتهم, كالصيد والقنص وسباق الخيل, كانت متشابهة,
وحماستهم وشجاعتهم في الحرب والقتال كانت متقاربة. وكان أسامة نفسه يرتبط بعلاقات
وثيقة وعميقة مع بعض الفرسان الصليبيين, وبخاصة مع فرسان المعبد (الداوية). ويعترف
أسامة بما قاله له الملك الصليبي فولك الخامس, عندما التقاه لأول مرة, حيث قال له
بالحرف:(وحق ديني لقد فرحت البارحة فرحا عظيما عندما قالوا لي إنك فارس
عظيم).
أسامة يعجب بشجاعة الفرسان
لم يخف أسامة إعجابه ببعض سمات المجتمع الصليبي,
فقد أُعجب, مثلا, بشجاعة الصليبيين, بل يكاد يعتبرها السمة الوحيدة التي تستحق
الاحترام في حياتهم. ويقول في هذا المعنى (والإفرنج ما فيهم فضيلة من فضائل الناس
سوى الشجاعة). ويعرض أسامة الكثير من الوقائع التي تؤكد هذه الحقيقة, منها أن أسامة
نفسه كان قد هُزم مع رفيق له أمام أحد الصليبيين بالقرب من حصن أفاميه. ومما حزّ في
نفس أسامة كثيرا أن هذا الصليبي كان يقاتلهما وهو رَاجِلٌ, في حين كان ورفيقه
يقاتلان وكل منهما يمتطي صهوة جواده. كما يذكر أسامة أن الفرسان الصليبيين القادمين
من إنطاكية قد هزموا أربعة من الفرسان المسلمين بالقرب من شيزر. يعلق أسامة على هذه
الواقعة بالقول إن هؤلاء الأخيرين غدوا موضع سخرية من أهل شيزر, وهذا ما دفعهم لأن
يصبحوا في المعارك التالية مع الصليبيين من أشجع الفرسان.
إعجاب الصليبيين بالحضارة العربية
الإسلامية
ولعل من أهم ما ورد في مذكرات أسامة من وقائع هي
تلك التي تظهر إعجاب الصليبيين ببعض مظاهر الحضارة العربية الإسلامية وتأثرهم بها.
فقد أعجب الصليبيون بنظام الفروسية العربية وبالفرسان العرب المسلمين. ولم يتردد
فرسانهم في زيارة الفرسان العرب بغية التعرف عليهم وعلى تقاليدهم عن كثب. ويروي
أسامة أن أمير أنطاكية الصليبي, وهو تانكريد, بعث إلى آل منقذ في شيزر كتابا مع أحد
الفرسان الصليبيين يوصيهم فيه خيرا, ويقول فيه إن هذا الفارس لا يرغب إلا في التعرف
على الفرسان العرب المسلمين. كما يروي أسامة قصة مفادها أنه اشترك مع عمه في معركة
ضد الصليبيين ; ودار قتال فيها تشيب له الولدان. وأظهر أسامة بطولات خارقة. ثم عاد
مع من بقي سالما إلى شيزر. وفي سكون الليل استدعاه عمه. فحضر, فوجد عنده فارسا من
الصليبيين فقال له عمه (هذا فارس أعجبه اليوم قتالك, فجاء يهنئك بموقفك ويبدي
إعجابه من طعناتك وشجاعتك), وكان هذا بمنزلة وسام في الشجاعة تلقاه أسامة من فارس
صليبي. كما أُعجب الفرسان الصليبيون بالخيول العربية الأصيلة, وكان أمراؤهم يبعثون
في طلبها من بني منقذ, أحيانا, للاشتراك في حفلات السباق التي كانت تجرى تحت
رعايتهم. كما كان بعض الأمراء الصليبيين يصر على الحصول على الخيول العربية كفدية
لإطلاق سراح بعض الأسرى المسلمين, والدليل على ذلك ما حدث مع الفارس حسنون, حيث لم
يطلق الأمير الصليبي تانكريد سراحه إلا بعد أن حصل على فدية اشتملت على مبلغ كبير
من المال وحصان من أجود الخيول العربية تبرع به الأمير مرشد بن
علي.
كما يبين أسامة أن الصليبين دهشوا من نظافة العرب
المسلمين, ونظام حماماتهم العامة, بحيث لم يكتف هؤلاء الصليبيون بالتردد عليها
واستخدامها, بل كانوا يحضرون زوجاتهم وبناتهم للاغتسال فيها حتى ولو كانت مخصصة
للرجال. وقد أكد أسامة هذه الحقيقة بما ذكره من وقائع جرت في أحد حمامات معرة
النعمان ومدينة صور.
ويكشف أسامة عن تأثر المجتمع الصليبي ببعض العادات
والتقاليد العربية الإسلامية, فيروي,مثلا, أنه بعث صديقا له بمهمة إلى إنطاكية التي
كانت تحكم من الصليبيين آنذاك. وخلال وجود هذا المبعوث المسلم فيها دعي إلى تناول
الطعام في منزل أحد الفرسان الصليبيين الذين كانوا قد جاءوا إلى الشام في الحملة
الصليبية الأولى. وأقام هذا الفارس الصليبي لضيفه المسلم (مائدة حسنة وطعاما في
غاية النظافة والجودة). ولكن سرعان ما لاحظ الصليبي أن الضيف المسلم متردد في تناول
الطعام خشية أن يكون في الطعام لحم خنزير, فقال له الفارس الصليبي في الحال: (كل,
فأنا ما آكل من طعام الإفرنج, ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهنّ, ولا يدخل
داري لحم خنزير). وعندئذٍ تناول الضيف المسلم الطعام.
ولم يقف تأثر المجتمع الصليبي بالحضارة العربية
الإسلامية عند المظاهر المادية وإنما امتدّ إلى طباع الصليبيين, فيوضح أسامة أن
المجتمع الصليبي في عصره كان ينقسم إلى فئتين, الأولى: تتألف من الصليبيين القدامى,
الذين جاءوا في الحملة الصليبية الأولى (1095-1099) أو في أعقابها مباشرة واستقروا
في بلاد الشام وتأثروا بحضارتها, والثانية: تتألف من الصليبيين الجدد الذين جاءوا
بعد ذلك بسنوات طويلة. ويوضح أسامة أن هناك فروقا مهمة بين الصليبيين القدامى
والجدد, من حيث الفكر والسلوك, فالقدامى يتسم فكرهم بالاعتدال وسلوكهم بالمرونة,في
حين أن فكر الجدد يتميز بالتطرف وسلوكهم بالقسوة والحماقة, وهذا يعود, كما يقول
أسامة, إلى تأثر القدامى بحضارة الشرق وتقاليده وطباعه. في حين أن الجدد جاءوا
يحملون معهم بربرية الغرب وهمجيته. وفي هذا المعنى يقول أسامة (فكل من هو قريب
العهد بالبلاد الإفرنجية (أي بلاد الغرب الأوربي) أجفى أخلاقا من الذين تبلدوا (أي
توطنوا) وعاشروا المسلمين).
صفوة القول, إن القراءة الموضوعية لمذكرات أسامة
بن منقذ, في كتابه (الاعتبار), تكشف أن المجتمع الصليبي كان مجتمعا متخلفا في معظم
ميادين الحضارة, المادية منها والفكرية والأخلاقية. كان يمكن للصليبيين الإفادة من
تراث المشرق العربي بشكل أكثر عمقا وشمولا, بل كان بإمكانهم أن يكونوا رسلا للحضارة
العربية الإسلامية إلى الغرب ولكنهم أضاعوا هذه الفرصة بسبب بربريتهم, ونزعتهم
العدوانية, وتعصبهم الديني والجنسي, وانشغالهم في السلب والنهب على امتداد قرنين من
الزمن. حقيقة كان في المجتمع الصليبي الكثير الكثير من شجاعة الفرسان, ولكن كان فيه
القليل القليل من أخلاق الفروسية وقيمها ومثلها.
عادل زيتون
مجلة العربي
عدد 555
الأربعاء، 19 أغسطس 2015
الزيات.. صاحب "الرسالة"
الزيات..
صاحب "الرسالة"
|
|
(في ذكرى وفاته: 16 ربيع الأول 1388هـ)
|
|
أحمد
تمام
|
|
شهدت
مصر في النصف الأول من القرن الرابع عشر
الهجري نهضة أدبية وفكرية، شملت كل فنون
الأدب وألوان الفكر، وازدانت الحياة
بكوكبة من فحول الشعراء، وكبار
الكُتّاب، وأئمة اللغة والبيان،
وأساطين العلم والفكر، وقادة الرأي
والتوجيه، ودعاة التربية والإصلاح،
وجهابذة الفقه والقانون، ونجوم الصحافة
والأدب، واجتمع لها من هؤلاء الأعلام ما
لم يجتمع لها في قرون طويلة، منذ أن
أصبحت مصر إسلامية الوجه، عربية اللسان.
وكان
أحمد حسن الزيات واحدًا من هذه الكوكبة
العظيمة التي تبوأت مكان الصدارة في
تاريخ الثقافة العربية، وَلَج إلى هذه
الكوكبة ببيانه الصافي، وأسلوبه
الرائق، ولغته السمحة، وبإصداره مجلة
"الرسالة" ذات الأثر العظيم في
الثقافية العربية.
مولد
الزيات ونشأته
استقبلت
قرية "كفر دميرة القديم" التابعة
لمركز "طلخا" بمحافظة "الدقهلية"
بمصر وليدها في (16 من جمادى الآخرة 1303 هـ=
2 من إبريل 1885م)، ونشأ في أسرة متوسطة
الحال، تعمل بالزراعة، وكان لوالده
نزوع أدبي، وتمتّعت أمه بلباقة الحديث
وبراعة الحكي والمسامرة، تلقى الصغير
تعليمه الأوّلي في كُتّاب القرية، وهو
لا يزال غضًا طريًا في الخامسة من عمره،
فتعلم القراءة والكتابة، وأتمّ حفظ
القرآن الكريم وتجويده، ثم أرسله أبوه
إلى أحد العلماء في قرية مجاورة، فتلقى
على يديه القراءات السبع وأتقنها في سنة
واحدة.
الزيات
في الأزهر
التحق
الزيات بالجامع الأزهر وهو في الثالثة
عشرة من عمره، وكانت الدراسة فيه مفتوحة
لا تتقيد بسن معينة، أو تلزم التلاميذ
بالتقيد بشيخ محدد، وإنما كان الطلاب
يتنقلون بين الأساتذة، يفاضلون بينهم،
حتى إذا آنس أحدهم ميلاً إلى شيخ بعينه؛
لزمه وانصرف إليه.
وظل
الزيات بالأزهر عشر سنوات، تلقى في
أثنائها علوم الشريعة والعربية، غير أن
نفسه كانت تميل إلى الأدب، بسبب النشأة
والتكوين، فانصرف إليه كليةً، وتعلق
بدروس الشيخ "سيد علي المرصفي"
الذي كان يدرّس الأدب في الأزهر، ويشرح
لتلاميذه "حماسة" أبى تمام، وكتاب
"الكامل" للمبرّد، كما حضر شرح
المعلقات للشيخ محمد محمود الشنقيطي،
أحد أعلام اللغة البارزين.
وفي
هذه الأيام اتصل بطه حسين، ومحمود حسن
الزناتي، وربطهم حب الأدب برباط المودة
والصداقة، فكانوا يترددون على دروس
المرصفي الذي فتح لهم آفاقًا واسعة في
الأدب والنقد، وأثّر فيهم جميعًا
تأثيرًا قويًا، وكانوا يقضون أوقاتًا
طويلة في "دار
الكتب المصرية" لمطالعة عيون
الأدب العربي، ودواوين فحول الشعراء.
الزيات
معلمًا
لم
يستكمل الثلاثة دراستهم بالجامع
الأزهر، والتحقوا بالجامعة الأهلية
التي فتحت أبوابها للدراسة في سنة (1329 هـ=
1908م) وكانت الدراسة بها مساء، وتتلمذوا
على نفر من كبار المستشرقين الذين
استعانت بهم الجامعة للتدريس بها، من
أمثال: نللينو، وجويدي، وليتمان.
وكان الزيات في أثناء فترة
التحاقه بالجامعة يعمل مدرسًا بالمدارس الأهلية، وفي الوقت نفسه يدرس اللغة
الفرنسية التي أعانته كثيرًا في دراسته الجامعية حتى تمكن من نيل إجازة
الليسانس سنة (1331هـ= 1912م).
التقى
الزيات وهو يعمل بالتدريس في المدرسة
الإعدادية الثانوية في سنة (1333هـ= 1914م)
بعدد من زملائه، كانوا بعد ذلك قادة
الفكر والرأي في مصر، مثل: العقاد،
والمازني، وأحمد زكي، ومحمد فريد أبو
حديد، وقد أتيح له في هذه المدرسة أن
يسهم في العمل الوطني ومقاومة المحتل
الغاصب، فكان يكتب المنشورات السرية
التي كانت تصدرها الجمعية التنفيذية
للطلبة في أثناء ثورة 1919م، وكانت تلك
المدارس من طلائع المدارس التي أشعلت
الثورة وقادت المظاهرات.
وظل
الزيات يعمل بالمدارس الأهلية حتى
اختارته الجامعة الأمريكية بالقاهرة
رئيسًا للقسم العربي بها في سنة ( 1341 هـ=
1922م)، وفي أثناء ذلك التحق بكلية الحقوق
الفرنسية، وكانت الدراسة بها ليلاً،
ومدتها ثلاث سنوات، أمضى منها سنتين في
مصر، وقضى الثالثة في فرنسا حيث حصل على
ليسانس الحقوق من جامعة باريس في سنة (1344هـ=
1925).
وظل
بالجامعة الأمريكية حتى اختير أستاذًا
في دار المعلمين العالية ببغداد (1348 هـ=
1929م) ومكث هناك ثلاث سنوات، حفلت بالعمل
الجاد، والاختلاط بالأدباء والشعراء
العراقيين، وإلقاء المحاضرات.
مجلة
الرسالة
بعد
عودة الزيات من بغداد سنة (1351هـ= 1933م) هجر
التدريس، وتفرغ للصحافة والتأليف،
وفكّر في إنشاء مجلة للأدب الراقي والفن
الرفيع، بعد أن وجد أن الساحة قد خلت
باختفاء "السياسة" الأسبوعية التي
كانت ملتقى كبار الأدباء والمفكرين،
وذات أثر واضح في الحياة الثقافية بمصر،
وسانده في عزمه أصدقاؤه من لجنة التأليف
والترجمة والنشر.
وفي
(18 من رمضان 1351 هـ= 15 من يناير 1933) ولدت
مجلة الرسالة، قشيبة الثياب، قسيمة
الوجه، عربية الملامح، تحمل زادًا
صالحًا، وفكرًا غنيًا، واستقبل الناس
الوليد الجديد كما يستقبلون أولادهم
بلهفة وشوق؛ حيث كانت أعدادها تنفد على
الفور.
وكانت
المجلة ذات ثقافة أدبية خاصة، تعتمد على
وصل الشرق بالغرب، وربط القديم
بالحديث، وبعث الروح الإسلامية،
والدعوة إلى وحدة الأمة، وإحياء
التراث، ومحاربة الخرافات، والعناية
بالأسلوب الرائق والكلمة الأنيقة،
والجملة البليغة.
وقد
نجحت الرسالة في فترة صدورها، فيما
أعلنت عنه من أهداف وغايات، فكانت
سفيرًا للكلمة الطيبة في العالم
العربي، الذي تنافس أدباؤه وكُتّابه في
الكتابة لها، وصار منتهى أمل كل كاتب أن
يرى مقالة له ممهورة باسمه على صفحاتها،
فإذا ما نُشرت له مقالة أو بحث صار كمن
أجازته الجامعة بشهادة مرموقة؛ فقد
أصبح من كُتّاب الرسالة.
وأفسحت
المجلة صفحاتها لأعلام الفكر والثقافة
والأدب من أمثال العقاد، وأحمد أمين،
ومحمد فريد أبو حديد، وأحمد زكي، ومصطفي
عبد الرازق، ومصطفى صادق الرافعي الذي
أظلت المجلة مقالته الخالدة التي جُمعت
وصارت "وحي القلم".
وربت
الرسالة جيلا من الكتاب والشعراء في مصر
والعالم العربي، فتخرج فيها: محمود محمد
شاكر، ومحمد عبد الله عنان، وعلي
الطنطاوي، ومحمود حسن إسماعيل، وأبو
القاسم الشابي، وغيرهم، وظلت المجلة
تؤدي رسالتها حتى احتجبت في (29 من جمادى
الآخرة 1372هـ= 15 من فبراير 1953م).
الزيات
أديبًا
يعد
الزيات صاحب مدرسة في الكتابة، وأحد
أربعة عُرف كل منهم بأسلوبه المتميز
وطريقته الخاصة في الصياغة والتعبير،
والثلاثة الآخرون هم: مصطفى صادق
الرافعي، وطه حسين، والعقاد، ويوازن
أحد الباحثين بينه وبين العقاد وطه
حسين، فيقول: "والزيات أقوى الثلاثة
أسلوبًا، وأوضحهم بيانًا، وأوجزهم
مقالة، وأنقاهم لفظًا، يُعْنى بالكلمة
المهندسة، والجملة المزدوجة، وعند
الكثرة الكاثرة هو أكتب كتابنا في عصرنا".
وعالج
الزيات في أدبه كثيرًا من الموضوعات
السياسية والاجتماعية، فهاجم الإقطاع
في مصر، ونقد الحكام والوزراء، وربط بين
الدين والتضامن الاجتماعي، وحارب
المجالس الوطنية المزيّفة، وقاوم
المحتل، وعبّأ الشعب لمقاومته، ورسم
سبل الخلاص منه.. يقول الزيات: "إن
اللغة التي يفهمها طغام الاستعمار جعل
الله حروفها من حديد، وكلماتها من نار،
فدعوا الشعب يا أولياء أمره يعبّر للعدو
عن غضبه بهذه اللغة، وإياكم أن تقيموا
السدود في وجه السيل، أو تضعوا القيود
في رِجل الأسد، أو تلقوا الماء في فم
البركان، فإن غضب الشعوب كغضب الطبيعة،
إذا هاج لا يُقْدَع، وإذا وقع لا
يُدْفَع، لقد حَمَلنا حتى فدحنا الحمل،
وصبرنا حتى مللنا الصبر، والصبر في بعض
الأحيان عبادة كصبر أيوب، ولكنه في
بعضها الآخر بلادة كصبر الحمار".
وقد
أخرج الزيات للمكتبة العربية عددًا من
الكتب، أقدمها: كتابه "تاريخ الأدب
العربي"، وصدر سنة (1335 هـ= 1916م)، ثم
أصدر "في أصول الأدب" سنة (1352هـ= 1934م)،
و"دفاع عن البلاعة" سنة (1364 هـ= 1945م)
وهو كتاب في النقد الأسلوبي، قصره
الزيات على بيان السمات المثلى للأسلوب
العربي.
ثم
جمع الزيات مقالاته وأبحاثه التي نشرها
في مجلته، وأصدرها في كتابه "وحي
الرسالة" في أربعة مجلدات، أودعها
تجاربه ومشاهداته وانفعالاته وآراءه في
الأدب والحياة والاجتماع والسياسة،
بالإضافة إلى ما صوّره بقلمه من تراجم
لشخصيات سياسية وأدبية.
ولم
يكن التأليف وكتابة المقالة الأدبية
هما ميدانه، بل كان له دور في الترجمة
الراقية، ذات البيان البديع، فترجم من
الفرنسية "آلام فرتر" لجوته سنة (
1339هـ= 1920م) ورواية "روفائيل" للأديب
الفرنسي لامرتين، وذلك في أثناء إقامته
بفرنسا سنة (1344هـ= 1925م).
وقد
لقي الزيات تقدير المجامِع والهيئات
العربية، فاختير عضوًا في المجامع
اللغوية في القاهرة، ودمشق، وبغداد،
وكرّمته مصر بجائزتها التقديرية في
الأدب سنة (1382هـ= 1962م).
وعاش
الزيات بعيدًا عن الانتماءات الحزبية،
فلم ينضم إلى حزب سياسي يدافع عنه، مثل
العقاد وهيكل وطه حسين، ولم يدخل في
خصومه مع أحد، ولم يشترك في المعارك
الأدبية التي حفلت بها الحياة الثقافية
في مصر؛ فقد كان هادئ النفس، وديع
الخلق، ليّن الجانب، سليم الصدر.
وظل
الزيات محل تقدير وموضع اهتمام حتى لقي
ربه بالقاهرة في صباح الأربعاء الموافق
(16 من ربيع الأول 1388 هـ= 12 من مايو 1968م) عن
ثلاثة وثمانين عامًا.
من
مراجع الدراسة:
|
الأربعاء، 12 أغسطس 2015
إعادة التوازن (قراءة في الماجريات)
إعادة التوازن (قراءة في الماجريات)
"بهرني هذا الكتاب ودرايته بكمائن النفوس وترياقها، وكأنه امتداد لما كتبه ابن الجوزي وابن القيم عن تلبيس الشيطان ومكايده".
"أحسب أن (الماجريات) حاجة تربوية ملحّة لا بدّ من مطالعتها للمبتدئ والمنتهي في مفازة التواصل الشبكي".
ما سبق هو شيء مما غرّد به فضيلة الشيخ عبدالعزيز العبداللطيف حفظه الله في (تويتر) يصف فيها كتاب (الماجريات) لمؤلفه فضيلة الشيخ إبراهيم بن عمر السكران وفقه الله، والذي يقع في 344 صفحة من القطع المتوسط، دار الحضارة.
حين قرأتُ هاتين التغريدتين تعجبت من حالة (الانبهار) التي أصيب بها بها الشيخ العبداللطيف، وقلت في نفسي: نعم، قلم الشيخ إبراهيم يبعث على الإعجاب والمتابعة، أما أن (تنبهر) قامة علمية سامقة مشهورة لا تزال عقولنا وأفهامنا عاكفة في محراب علمها وتوجيهها.. فهذا أعجب!
وظننت للوهلة الأولى أن لحظة (صوفية) استغرقَت فضيلة الشيخ العبداللطيف في حين (سماع) قلبي لحديث إيماني أخّاذ تطرق له المؤلف، فشرعت في قراءة الكتاب (الماجريات) وأنهيت مقدماته والفصلين الأولين منه، فما وعيت إلا وقد جثت قواي الفكرية على ركبتيها خضوعاً بين يدي هذا الكتاب.
لم يكن فضيلة الشيخ العبداللطيف مبالغاً – أبداً – في وصفه للكتاب! بل أجزم أنه لم تسعفه العبارة ولم تطاوعه الكلمة للتعبير عن حالة الانبهار التي أصابته وهو ينقِّل طرفه في صفحاته.
غفر الله لك يا أبا عمر!
أيُّ مبضع جراح تناولته يمينك فغرزته في عمق أعماق جراحنا، لتستأصل سويداءها!
أيُّ لطفٍ حباه الله تلك اليمين، فهي تداوي الجرح وتعقمه وتضمده.. قد خالطت الشفقة والرأفة لحمها وعظمها!
جعل الله – يا أبا عمر – ما كتبته ميزاناً ثقيلاً تحمده يوم القيامة، وذخراً لك تجده في جنات الفردوس.
فكرة الكتاب
من المهم قبل البدء في إبراز فكرة الكتاب أن أورد – بتصرف – توضيح المؤلف لهذه المركّبة (الماجريات) فهي تعني الأحداث والوقائع والأخبار، حيث تولدت هذه اللفظة بأسلوب التركيب المزجي: فـ (الـ) للتعريف، و(ما) الموصولية بمعنى الذي، و(جرى) بمعنى وقع وحدث، وجمعت بالمؤنث السالم لتصبح: الماجرَيَات.
وهي كلمة استعملها المؤرخون والأدباء، وآل بها الأمر إلى أن أصبحت تعني عند علماء السلوك: اشتغال المرء بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها. قال ابن القيم رحمه الله: فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حلّ، ونصحه لكل من اجتمع به.....ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه؛ فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب. أ هـ.
الكتاب يتحدث بشكل عام عن مسألة الانشغال بـ(الماجريات) أي تتبع الأخبار والحوادث، وعالجها المؤلف معالجة تأصيلية شرعية نفسية، تمكّن فيها باقتدار من سبر أغوارها وتتبع مسالكها، مستدعياً الدلائل والشواهد المتنوعة.
وكان المؤلف في كل منعطفات (الماجريات) يدعو إلى إعادة التوازن في الانشغال بالماجريات، فهو كما يحذّر من الانهماك في الماجريات و(المتابعة المتفرجة) إلا أنه لم يدعُ أبداً إلى الانقطاع الكامل عن (الماجريات) كما نصّ مراراً على هذا. يقول: والمبهج في كل هذه التجارب الأربع أن أصحابها أكدوا في صيغ متنوعة أن مقصودهم (التوازن) وليس قطع العلاقة المباشرة مع الواقع والشأن العام. ص223.
مراتع الماجريات
في هذه الفقرة سأتناول بإيجاز تعريفاً لمباحث الكتاب وفصوله. فهو يتكون من مداخل مهمة وثلاثة فصول جواهر وتعقيبات.
· ثلاثة مداخل بديعة يمكنك الدخول منها لترتع في بساتين هذا السفر الخصيب.
المدخل الأول يحكي واقعاً صادقاً لتأثير الانهماك في التواصل الشبكي على تعثر المشاريع والبرامج العلمية لشريحة مهمة من القراء وطلاب العلم.
المدخل الثاني يوصف إشكالية الانهماك السياسي الذي أصاب بعض الكوادر العلمية والإصلاحية وتأثيره عليهم.
المدخل الثالث يلفت النظر إلى مشكلتين: ضعف الهمة وتسيّد التفكير الأفقي، واللذين أورثهما الانهماك في متابعة الأخبار والسجالات الفكرية خصوصاً عبر الهواتف الذكية.
· ثم خطّ المؤلف حدوداً موضوعية لمعالجة المسألة مبتدءاً بتحرير أساس الدراسة حيث وصف المشكلة بأنها: مغالاةٌ وإفراطٌ في أصلٍ صحيحٍ مطلوبٍ. وجاءت حدود مراد المؤلف ومقاصده كالآتي:
1. التمييز بين فقه الواقع والغرق في الواقع.
2. التمييز بين المتابعة المتفرجة والمتابعة المنتجة.
3. التمييز بين زمن التحصيل والمتابعة زمن العطاء.
4. التمييز بين توظيف الآلة والارتهان للآلة.
5. التمييز بين فصل السياسة ومرتبة السياسة.
· الفصل الأول جاء تأصيلاً لمسألة (الماجريات) من حيث البناء اللغوي اللساني، ومن حيث التعرض لرأي علماء السلوك فيها، حيث حذروا رحمهم الله من صحبة الماجرياتيين الذين ضاعت أوقاتهم فيما لا ينفعهم لا ديناً ولا دنياً. كما حذروا من تبديد الطاقة الذهنية التي وهبها الله للإنسان بقدر معيّن في هذه الماجريات، وبيّنوا أن التطلع إلى الكمال يقتضي البعد والهرب من هذه الماجريات، وأنها قد تكون من لهو الحديث الذي قال الله تعالى فيه: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم...) كما نص على ذلك شيخ التفسير ابن سعدي رحمه الله.
· الفصل الثاني عقده المؤلف بعنوان: الماجريات الشبكية. وهو ألماسة بين جواهر الكتاب. حيث تطرق المؤلف بتفصيل ممتع عن "اضطراب إدمان الإنترنتIAD " بشكله الطبي والتطور العلمي له.
ومنه، وببراعة ملفتة للانتباه، نفَذ المؤلف إلى تفاصيل دقيقة في هذا الباب مما يتلبس به الماجرياتيون – ولعي أحدهم – كالتصفح القسري والأعراض الانسحابية والهروب النفسي والتصفح الملثم والعمى الزمني وإدمان البيانات.
ثم تسلّل المؤلف إلى مظاهر أدق في هذا الباب كتسلسل التصفح والنبأ المتدحرج ومسلسل الخبر والتعليق والتعليق على التعليق.. واستطاع المؤلف أن يصف لحظات التسلسل وتأثير النظراء على استمراء هذه الحالة. وعرّج على المهاترات الشبكية وغيرها من الحيل النفسية التي نتلبس بها ونحن نتصفح ماجريات الشبكة.
· الفصل الثالث على طوله بالنسبة لسابقية يعتبر مجموعة من الشواهد الواقعية على نتيجة البحث: أهمية التوازن في متابعة الماجريات السياسية والانشغال بها، سواء كان ذلك في المضامين المفاهيمة أو في الأدوات والتقنيات. وتعرض لخمسة نماذج فذة: أبي الحسن الندوي، و د. عبدالوهاب المسيري، والبشير الإبراهيمي، ومالك بن نبي، و د.فريد الأنصاري. رحمهم الله.
يستعرض في كل نموذج سيرته المفيدة، ثم يتبعها بالشواهد والتحليلات لما كان عليه من توازن مثمر في هذه المسألة.
· حصائل وتعقيبات تعتبر خاتمة للكتاب يراجع فيها المؤلف مفاهيم الكتاب الرئيسية ويؤكد على فكرة (التوازن) في مسألة الماجريات.
جماليات
الكتاب من ألفه إلى يائه يبحث مسألة الماجريات ويعالج تفاصيلها، لكنك حين تقرؤه ستبهرك معالم الجمال في نواحيه، فهو في ناحية منه يعرض مسألة طبية "اضطراب إدمان الإنترنت" فتشعر أن بين يديك مقالة طبية من مجلة متخصصة، وفي ناحية أخرى منه يعرض لك خبايا نفوس الصالحين وطلبة العلم وهم يتابعون الماجريات عبر الهواتف الذكية وغيرها؛ فكأنك تقرأ فصلاً من كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي.
أما النماذج التي تعرض لسيرتها فيما أسماه (محيط النموذج) فقد كانت نوافذ تطل برأسك منها على تاريخ علمي ودعوي وفكري للحقبة التي عاشها هذا النموذج، بأسلوب متسلسل رائع، وهو مع هذا يملك طاقة تحليلية تسهّل عليك فهم كثير من المغلَقات.
وفي نواحي أخرى تلمس المناقشة الأصولية الدقيقة، كما أنه يضع يد القارئ على قلبه هو – أعني المؤلف – وأحاسيسه ببيان حلو المذاق.
نتيجة مهمة
الكتاب من وجهة نظري ليس مجرد مناقشة علمية وعقلية لمسألة الماجريات، بل هو برنامج عملي في إدارة الأفكار وإدارة الوقات. وأرى أنه من الأهمية بمكان أن يقرؤه المربون والمشرفون على الأنشطة الطلابية والشبابية بشكل خاص، ليعيدوا التوازن في الماجريات، ويضبطوا الاتزان لدى المجموعات الشبابية.
إن الجوال الذكي يعدّ اليوم سمة عصرية؛ ليس الشباب بمنأى عن الماجريات المضمنة فيه، وحين نستشرف المستقبل فإنه – أعني الجوال الذكي – سيكون أحد المعطيات الرئيسية في بناء الرؤية التربوية.
وهي دعوة لأن يكون هذا الكتاب (الماجريات) متطلباً عاماً لكل شاب دلف إلى المحاضن التربوية، طالباً أو معلماً أو مشرفاًن بغضّ النظر عن آلية تسريب مفاهيمه لدى المستهدفين.
إنه إضافة تربوية قيّمة ومهمة في تهذيب النفوس وتزكيتها والمحافظة على طاقاتها من التبديد.
جزى الله فضيلة مؤلف الكتاب على ما قدمه خير الجزاء وأثابه أحسن الثواب.
فايز سعيد الزهراني
27 /10 /1436هـ
الجمعة، 7 أغسطس 2015
أخطاء شائعة في الرؤى والأحلام
أخطاء شائعة في الرؤى
والأحلام
الكـاتب :
محمد عبد الرحمن غنيم
إن الناس دائماً يميلون إلى تكوين أفكار واعتقادات عن أي فن، أو علم،
وإذا لم يُستجب لهذا الميل بتعليمهم الصحيح فإنهم يُسارعون إلى تكوين
أفكار واعتقادات غير صحيحة، وهذه بدورها تؤدي إلى ممارسات فاسدة، وإذا
تُركوا واعتقاداتهم وتصوراتهم الخاطئة، فإنها تزداد بمرور الأيام
وتتراكم، وتتعقد حتى تكاد تطمس الصحيح.ومما
يزيد الطين بلة أن الإنسان العامي – أي الذي ليس لديه المعرفة الكافية -
لا يكتفي بفساد تصوراته، بل هو حريص على أن يوصي بها، وينقلها وربما
كَذَّب المتخصصين إذا خالفوا قوله الباطل.
فالواجب على المتخصصين في كل علم، أو فن أن يعتنوا دائماً بإزالة ما علق بعلمهم من باطل، وأن يُعلِّموا الناس الحق والصحيح، فالحق يزيل الباطل ويدحضه وإلا دخلوا في قوله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار"، وروى ابن ماجة: ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار.
وعلم الرؤيا علم شريف قلَّ عالموه، وكَثُر جاهلوه، وتخبط الناس في الكلام عليه، فكل الناس يفتي فيه، وكل الناس يعبرون الرؤى، فاجتمعت عند الناس بخصوص هذا الفن أخطاء كثيرة، واعتقادات فاسدة، أدت إلى ضرر وشرور كثيرة، فلذا رأيت أن أفرد هذه المقالة بذكر قطرة من بحر الأخطاء التي غرق فيها الناس، مما يخص هذا الفن الشريف، وهو فن الرؤيا فأقول:
(1) الكابوس والسكين:
من أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أن الكابوس الذي ينتابه لا يذهب إلا بوضع السكين تحت وسادته، وبعضهم يضع المصحف الشريف، وهذا حديث خرافة، وفيه إهانة لكتاب الله، والصواب في علاج الكابوس أن يلتزم الشخص بأن ينام متوضئاً، ويتلو أذكار النوم الصحيحة الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبخاصة "آية الكرسي"، وقد روى البخاري معلقاً عن أبي هريرة قال: وكَّلني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: دعني، فإني محتاج، وعلي عيال، ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود.. فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود ثم تعود.. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت : قال لي: إذا أويت إلى فراشك فأقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح – وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أما إنه قد صدقك وهو كذوب!! تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال :ذاك الشيطان.
وكذلك المعوذات، لأن الكابوس من مكايد الشيطان، فهو يسعى في أذية الإنسان في اليقظة والمنام، فإذا رأى الإنسان ما يكرهه فليتعوذ من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل عن يساره ثلاثاً، ولا يذكر ما رآه لأحد، ويتحول عن جنبه إلى الجنب الآخر، وإن قام فتوضأ، وصلى ركعتين فقد جمع الخير من أطرافه، وهذا كله قد ورد في أحاديث صحاح، وراجِعهَا في آداب الرؤيا.
(2) الاستخارة والرؤيا:
ومن أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أنه إذا استخار بصلاة ركعتين ودعا بدعاء الاستخارة المعروف الثابت في الحديث أنه لا بد أن يرى بعد ذلك رؤيا في منامه تدفعه للفعل أو الترك وهذا غير صحيح، وحديث الاستخارة ليس فيه ذكر لرؤيا ولا لغيره، بل فيه: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع.. الحديث.
وهذا معناه أنني إذا أردت فعل أمر استخرت الله، ثم انطلق إلى ما كنت فيه فإن كان خيراً فسيكون التيسير والإعانة، وإن كان غير ذلك فلن يتيسر بمشيئة الله، وصحيح أن بعض الناس ربما يرى رؤيا تدفعه أو تثبطه للأمر، ولكن هذا وإن كان يقع أحياناً فليس بشرط كما يعتقد عامة الناس فانتبهوا.
(3) التفسير الخاطئ:
ومن أخطائهم: المسارعة إلى تعبير الرؤيا دون معرفة أو خبرة وهذا جهل مركب، وقد كان لا يفسر من الصحابة إلا القليل، وكان ابن سيرين - رحمه الله - وهو من أشهر المعبرين يترك من تعبير الرؤى شيئاً كثيراً، ومن العجيب أن يدرك الملك الكافر ما لا يدركه بعض المسلمين، فعندما رأى الملك رؤيا كما في سورة يوسف قال: "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون" فاشترط أن يكونوا معبرين لهم خبرة، وأجابه هؤلاء الذين سألهم بقولهم: "أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين"، وهم كفار أيضاً، فالأولى بالمسلم أن يقول: "وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين" إذا لم يكن من أهل تعبير الرؤى.
(4) كتب ابن سيرين:
ومن أخطائهم: اعتقادهم أن الكتب المطبوعة المنسوبة إلى ابن سيرين أنها من تأليف ابن سيرين - رحمه الله - الذي هو من كبار التابعين، وتوفي سنة 110هـ، ولا تصح نسبة هذه الكتب إليه كما ذكره المحققون كالعلامة الكتاني - رحمه الله - في كتابه "التراتيب الإدارية"، وكذلك الشيخ مشهور حسن آل سلمان في كتابه القيم: " كتب حذر منها العلماء"، وإنما جمع هذه الكتب بعض الوعاظ والمؤلفين، ونسبوها إلى ابن سيرين - رحمه الله - حتى تروج، ولذلك ستجد في بعض هذه الكتب: قال أبو سعيد، أو أبو سعد الواعظ، وستجد فيها حكايات وقصصاً من القرن الثاني والثالث الهجري، وقد أعلمتك أن ابن سيرين - رحمه الله - توفي في بداية القرن الثاني للهجرة، فهل كتب هذه الكتب بعد وفاته؟! وهل حكى عن أناس عاشوا في القرن الثاني والثالث؟!
(5) اقتناء كتب الرؤى:
ومن أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أنه إذا اقتنى كتاباً من الكتب المنسوبة إلى ابن سيرين، أو كتاب "تعطير الأنام في تعبير المنام" للنابلسي أنه يستطيع بذلك أن يفسر الرؤيا بالرجوع إلى الكتب، وما أشبه هذا بمن اقتنى كتاباً في الطب وهو جاهل به، وظن أنه بالنظر في هذا الكتاب سينافس أمهر الأطباء، أو كالتي تجهل فن الطبخ، واشترت كتاباً في الطبخ واعتقدت أنها بهذا الكتاب أصبحت طباخة ماهرة، فتعبير الرؤيا يحتاج إلى دراسة، وموهبة من عند الله، قال الله تعالى: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث…" الآية.
والمراد بتأويل الأحاديث هنا تعبير الرؤيا، وقد عبر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو من هو – بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، والحديث في الصحيحين."
وقال الإمام القرافي - رحمه الله - في كتاب "الفروق "(4/249-250) : اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته، وتشعبت وتنوعت تعريفاته بحيث صار الإنسان لا يقدر أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، وعلم المنامات منتشر انتشاراً شديداً، لا يدخل تحت ضبط، فلا جرم احتياج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفس المعينة على الفراسة، والإطلاع على المغيبات، بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ بسبب ما يخلقه الله - تعالى - في تلك النفوس من القوة المعينة على تقريب الغيب أو تحققه، ومن ليس له قوة نفس في هذا النوع صالحة لعلم تعبير الرؤيا لا يصح منه تعبير الرؤيا ولا يكاد يصيب إلا على الندرة، فلا ينبغي له التوجه إلى علم التعبير في الرؤيا، ومن كانت له قوة نفس، فهو الذي يُنتفع بتعبيره، وقد رأيت ممن له قوة نفس مع هذه القواعد فكان يتحدث بالعجائب والغرائب في المنام اللطيف، ويخرج منه الأشياء الكثيرة، والأحوال المتباينة، ويخبر فيه عن الماضيات والحاضرات والمستقبلات، وينتهي في المنام اليسير إلى نحو المئة من الأحكام بالعجائب والغرائب حتى يقول من لا يعلم بأحوال قوى النفوس: أن هذا من الجان، أو المكاشفة، أو غير ذلك، وليس كما قال، بل هو قوة نفس يجد بسببها تلك الأحوال عند توجهه، وليس هو صلاح ولا كشف، ولا من قبل الجان، وقد رأيت أنا من هذا النوع جماعة أو خبرتهم، فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير، ولا ينبغي أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة، وحفظ الكتب إذا لم تكن لك قوة نفسٍ، فلا تجد ذلك أبداً، ومتى كانت لك هذه القوة، حصل ذلك بأيسر سعي وأدنى ضبطٍ. فاعلم هذه الدقيقة، فقد خفيت على كثيرٍ من الناس...أهـ ."
وخلاصة كلامه – رحمه الله - أن القدرة على التعبير لا بد لها من شيئين: موهبة، ودراسة.
والموهبة هي التي يسميها القرافي قوة النفس، وهي التي أشار إليها قوله تعالى:"وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث" فتأمل.
ولنا لقاء إن شاء الله تعالى لنكمل ما تبقى من الأخطاء الشائعة والتي يقع فيها كثير من الناس.
المصدر : www.islamselect.com
فالواجب على المتخصصين في كل علم، أو فن أن يعتنوا دائماً بإزالة ما علق بعلمهم من باطل، وأن يُعلِّموا الناس الحق والصحيح، فالحق يزيل الباطل ويدحضه وإلا دخلوا في قوله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار"، وروى ابن ماجة: ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار.
وعلم الرؤيا علم شريف قلَّ عالموه، وكَثُر جاهلوه، وتخبط الناس في الكلام عليه، فكل الناس يفتي فيه، وكل الناس يعبرون الرؤى، فاجتمعت عند الناس بخصوص هذا الفن أخطاء كثيرة، واعتقادات فاسدة، أدت إلى ضرر وشرور كثيرة، فلذا رأيت أن أفرد هذه المقالة بذكر قطرة من بحر الأخطاء التي غرق فيها الناس، مما يخص هذا الفن الشريف، وهو فن الرؤيا فأقول:
(1) الكابوس والسكين:
من أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أن الكابوس الذي ينتابه لا يذهب إلا بوضع السكين تحت وسادته، وبعضهم يضع المصحف الشريف، وهذا حديث خرافة، وفيه إهانة لكتاب الله، والصواب في علاج الكابوس أن يلتزم الشخص بأن ينام متوضئاً، ويتلو أذكار النوم الصحيحة الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبخاصة "آية الكرسي"، وقد روى البخاري معلقاً عن أبي هريرة قال: وكَّلني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: إني محتاج، وعلي عيال، ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: دعني، فإني محتاج، وعلي عيال، ولا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يا أبا هريرة: ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالاً فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه كذبك وسيعود.. فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود ثم تعود.. قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت : قال لي: إذا أويت إلى فراشك فأقرأ آية الكرسي حتى تختم الآية وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح – وكانوا أحرص شيء على الخير- فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أما إنه قد صدقك وهو كذوب!! تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال :ذاك الشيطان.
وكذلك المعوذات، لأن الكابوس من مكايد الشيطان، فهو يسعى في أذية الإنسان في اليقظة والمنام، فإذا رأى الإنسان ما يكرهه فليتعوذ من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل عن يساره ثلاثاً، ولا يذكر ما رآه لأحد، ويتحول عن جنبه إلى الجنب الآخر، وإن قام فتوضأ، وصلى ركعتين فقد جمع الخير من أطرافه، وهذا كله قد ورد في أحاديث صحاح، وراجِعهَا في آداب الرؤيا.
(2) الاستخارة والرؤيا:
ومن أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أنه إذا استخار بصلاة ركعتين ودعا بدعاء الاستخارة المعروف الثابت في الحديث أنه لا بد أن يرى بعد ذلك رؤيا في منامه تدفعه للفعل أو الترك وهذا غير صحيح، وحديث الاستخارة ليس فيه ذكر لرؤيا ولا لغيره، بل فيه: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع.. الحديث.
وهذا معناه أنني إذا أردت فعل أمر استخرت الله، ثم انطلق إلى ما كنت فيه فإن كان خيراً فسيكون التيسير والإعانة، وإن كان غير ذلك فلن يتيسر بمشيئة الله، وصحيح أن بعض الناس ربما يرى رؤيا تدفعه أو تثبطه للأمر، ولكن هذا وإن كان يقع أحياناً فليس بشرط كما يعتقد عامة الناس فانتبهوا.
(3) التفسير الخاطئ:
ومن أخطائهم: المسارعة إلى تعبير الرؤيا دون معرفة أو خبرة وهذا جهل مركب، وقد كان لا يفسر من الصحابة إلا القليل، وكان ابن سيرين - رحمه الله - وهو من أشهر المعبرين يترك من تعبير الرؤى شيئاً كثيراً، ومن العجيب أن يدرك الملك الكافر ما لا يدركه بعض المسلمين، فعندما رأى الملك رؤيا كما في سورة يوسف قال: "يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون" فاشترط أن يكونوا معبرين لهم خبرة، وأجابه هؤلاء الذين سألهم بقولهم: "أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين"، وهم كفار أيضاً، فالأولى بالمسلم أن يقول: "وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين" إذا لم يكن من أهل تعبير الرؤى.
(4) كتب ابن سيرين:
ومن أخطائهم: اعتقادهم أن الكتب المطبوعة المنسوبة إلى ابن سيرين أنها من تأليف ابن سيرين - رحمه الله - الذي هو من كبار التابعين، وتوفي سنة 110هـ، ولا تصح نسبة هذه الكتب إليه كما ذكره المحققون كالعلامة الكتاني - رحمه الله - في كتابه "التراتيب الإدارية"، وكذلك الشيخ مشهور حسن آل سلمان في كتابه القيم: " كتب حذر منها العلماء"، وإنما جمع هذه الكتب بعض الوعاظ والمؤلفين، ونسبوها إلى ابن سيرين - رحمه الله - حتى تروج، ولذلك ستجد في بعض هذه الكتب: قال أبو سعيد، أو أبو سعد الواعظ، وستجد فيها حكايات وقصصاً من القرن الثاني والثالث الهجري، وقد أعلمتك أن ابن سيرين - رحمه الله - توفي في بداية القرن الثاني للهجرة، فهل كتب هذه الكتب بعد وفاته؟! وهل حكى عن أناس عاشوا في القرن الثاني والثالث؟!
(5) اقتناء كتب الرؤى:
ومن أخطائهم: اعتقاد بعض الناس أنه إذا اقتنى كتاباً من الكتب المنسوبة إلى ابن سيرين، أو كتاب "تعطير الأنام في تعبير المنام" للنابلسي أنه يستطيع بذلك أن يفسر الرؤيا بالرجوع إلى الكتب، وما أشبه هذا بمن اقتنى كتاباً في الطب وهو جاهل به، وظن أنه بالنظر في هذا الكتاب سينافس أمهر الأطباء، أو كالتي تجهل فن الطبخ، واشترت كتاباً في الطبخ واعتقدت أنها بهذا الكتاب أصبحت طباخة ماهرة، فتعبير الرؤيا يحتاج إلى دراسة، وموهبة من عند الله، قال الله تعالى: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث…" الآية.
والمراد بتأويل الأحاديث هنا تعبير الرؤيا، وقد عبر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو من هو – بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، والحديث في الصحيحين."
وقال الإمام القرافي - رحمه الله - في كتاب "الفروق "(4/249-250) : اعلم أن تفسير المنامات قد اتسعت تقييداته، وتشعبت وتنوعت تعريفاته بحيث صار الإنسان لا يقدر أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين، وعلم المنامات منتشر انتشاراً شديداً، لا يدخل تحت ضبط، فلا جرم احتياج الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى النفس المعينة على الفراسة، والإطلاع على المغيبات، بحيث إذا توجه الحزر إلى شيء لا يكاد يخطئ بسبب ما يخلقه الله - تعالى - في تلك النفوس من القوة المعينة على تقريب الغيب أو تحققه، ومن ليس له قوة نفس في هذا النوع صالحة لعلم تعبير الرؤيا لا يصح منه تعبير الرؤيا ولا يكاد يصيب إلا على الندرة، فلا ينبغي له التوجه إلى علم التعبير في الرؤيا، ومن كانت له قوة نفس، فهو الذي يُنتفع بتعبيره، وقد رأيت ممن له قوة نفس مع هذه القواعد فكان يتحدث بالعجائب والغرائب في المنام اللطيف، ويخرج منه الأشياء الكثيرة، والأحوال المتباينة، ويخبر فيه عن الماضيات والحاضرات والمستقبلات، وينتهي في المنام اليسير إلى نحو المئة من الأحكام بالعجائب والغرائب حتى يقول من لا يعلم بأحوال قوى النفوس: أن هذا من الجان، أو المكاشفة، أو غير ذلك، وليس كما قال، بل هو قوة نفس يجد بسببها تلك الأحوال عند توجهه، وليس هو صلاح ولا كشف، ولا من قبل الجان، وقد رأيت أنا من هذا النوع جماعة أو خبرتهم، فمن لم تحصل له قوة نفس عسر عليه تعاطي علم التعبير، ولا ينبغي أن تطمع في أن يحصل لك بالتعلم والقراءة، وحفظ الكتب إذا لم تكن لك قوة نفسٍ، فلا تجد ذلك أبداً، ومتى كانت لك هذه القوة، حصل ذلك بأيسر سعي وأدنى ضبطٍ. فاعلم هذه الدقيقة، فقد خفيت على كثيرٍ من الناس...أهـ ."
وخلاصة كلامه – رحمه الله - أن القدرة على التعبير لا بد لها من شيئين: موهبة، ودراسة.
والموهبة هي التي يسميها القرافي قوة النفس، وهي التي أشار إليها قوله تعالى:"وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث" فتأمل.
ولنا لقاء إن شاء الله تعالى لنكمل ما تبقى من الأخطاء الشائعة والتي يقع فيها كثير من الناس.
المصدر : www.islamselect.com
رواية الأم لغوركي 1906
د.ممدوح أبو الوي
أصدر غوركي روايته الشهيرة "الأم" بعد قيام الثورة الروسية الأولى عام 1905، ولقد صدرت هذه الرواية بعد مرور أربعة عشر عاماً على صدور قصة غوركي الأولى "ماكار تشودرا" التي صدرت عام 1892، أيّ أنّ غوركي خلال هذه الفترة استطاع صقل موهبته الأدبيّة، يتابع غوركي في هذه الرواية تصوير الناس الفقراء البسطاء الكادحين، فلقد كان موضوع الفقراء والبؤساء أحد المواضيع الأساسية في الأدب الروسيّ وبدأه الشاعر كارامزين (1766ـ 1826)، الذي أصدر عام 1792 قصة بعنوان "ليزا الفقيرة"، وتابع هذا الموضوع بوشكين (1799 ـ 1837)، الذي أصدر قصة "مدير المحطة"، ضمن مجموعة قصص بيلكين عام 1831، وكتب غوغول (1809 ـ 1852)، بعده قصة، "المعطف" عام 1841، وتابع هذا الموضوع دوستيفسكي (1821ـ 1881)، فكانت روايته الأولى بعنوان "الفقراء" 1846، وكتب رواية أخرى بعنوان "المذلون والمهانون"، 1862، وكذلك اهتم بهذا الموضوع كثيراً تولستوي (1828 ـ 1910)، ولاسيما في حكاياته الشعبية، ولكن طريقة تصوير غوركي للفقراء والكادحين تختلف اختلافاً جذرياً عن طريقة سابقيه، لدرجة أنّنا لا نجد تشابهاً فإذا كان الأدباء المذكورون يحاولون إثارة الشفقة والرحمة على الفقير، فإنَّ غوركي يصوّر هؤلاء العمال الكادحين، بشكل يبعث في نفوس القّراء الاحترام، فهم قوة لا تحتاج إلى رحمة الدولة، لأنَّ الدولة هي التي تحتاج إلى تعبهم، فإن عملوا سارت مرافق الدولة ومؤسساتها ومعاملها، على ما يرام، وإنْ أضربوا عن العمل تعطل كلّ شيء، هم قوة تخافها الدولة وتخشى قيام تنظيم بين صفوفها، وغوركي عليم بهذه الطبقة ليس لأنَّه قرأ واطلع على الآداب العالمية، وعلى الفكر الماركسيّ فحسب، وإنّما لأنّه هو نفسه فرد من أفراد هذه الطبقة فلقد عمل حمّالاً، وفلاحاً وأجيراً وساحباً للمراكب، ومساعد خبّاز في فرن من أفران مدينة كازان، وكان الفرن لا يختلف كثيراً عن زنزانة، وصّور في مؤلفاته الأولى الحفاة والمشردين والغجر، وجاءت رواية "الأم" تتويجاً لحركة تطور الأدب الروسيّ بوجه عام، ولأدب غوركي بوجه خاص، ويرى بعض النقاد أنّها العمل الأدبيّ الأول في تاريخ المدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة، وإن كانت هناك أعمال أخرى، ولكن رواية"الأم" كتبت بأسلوب جديد، وصورت الحركة العماليّة، وساعدت غوركي في إبداع هذه الرواية ثورة عام 1905، وهي ثورة عمالية وفلاحية، إلا أنّها قمعت.
وكان غوركي أثناء كتابته للرواية المذكورة أحد نشطاء الحركة البروليتارية، فكلف عام 1906 بالسفر إلى أمريكا لجمع التبرعات لصالح العمل الثوري في روسيا، وأراد لينين أن يصبح غوركي أديب الحركة العمالية، واستطاع غوركي في روايته المذكورة، فضح النظام القائم على القهر والاضطهاد والاستغلال، فقدم لنا مأساة العامل ميخائيل فلاسوف، الذي كان يتعاطى شرب الخمر لينسى آلام حياته، ويتابع ابنه بافل فلاسوف العمل، ويعيش في البداية، بالطريقة ذاتها التي كان يعيش بها والده، وفيما بعد يعتنق الفكر الثوريّ ويغيّر حياته، وجعل غوركي الأمّ البسيطة الخائفة كلّ إنسان، كلّ شيء بطلة لروايته، إذ تتطور شخصيتها من زوجة وأم إلى أمّ مناضلة بعد موت زوجها، وترمز الأمّ إلى الوطن بكامله الذي ينتقل من مرحلة الخوف والتردد إلى مرحلة الثورة.
أخذت الأم وهي أميّة تعيش من أجل خدمة ابنها بعد وفاة زوجها ميخائيل فلاسوف، انضم ابنها إلى مجموعة اشتراكيّة ثوريّة، وأخذ يقرأ الكتب الممنوعة "أنا أقرأ كتباً ممنوعة، هي ممنوعة لأنّها تقول الحقيقة عن حياة العمال.."(1). وأخذت المجموعة الثوريّة الاشتراكيّة تجتمع في بيته، كانت ناتاشا واحدة منهم، وهي فتاة من أسرة غنية إلا أنّ والدها لا يقدّم لها يد المساعدة لاعتناقها الأفكار الثوريّة، ولديها أخ وأخت متزوجة.
وبدأت تنتشر الأخبار عن عقد اجتماعات في بيت بافل فلاسوف، وأخذ الناس يتحدثون عن المنشورات التي توزع وتنتقد إدارة المصنع وتتحدث عن إضرابات العمال في العاصمة بطرسبرغ، فألقى رجال الشرطة القبض على أعضاء التنظيم الثوريّ، وفتشوا مجموعة من البيوت منها بيت بافل فلاسوف الذي يبلغ عمره عشرين عاماً، ويؤمن بالعلم وبقدرة العقل على الفهم والتحليل.
يوجد قرب المصنع الذي يعمل فيه بافل فلاسوف مستنقع، لا تأتي منه إلا المصائب، والأوساخ والبعوض، ولذلك قرر مدير المصنع تجفيفه ولكن على نفقة العمال، فقرر حسم كوبيك من كلّ روبل يتقاضاه العمال، أي حسم واحد بالمئة من أجورهم، فحرض بافل العمال على الإضراب لأنّه في الماضي حسمت الإدارة من أجور العمال مبلغاً من النقود من أجل بناء حمّام للعمال ولكنّ الإدارة أخذت النقود، ولم تبن حماماً، وهكذا في هذه المرة، قد يحسمون النقود ولا يجففون المستنقع، ولكن العمال خافوا التسريح وعادوا إلى عملهم، وفشل بافل فلاسوف في تحريضهم على الإضراب.
ورأى صديقه ريبن الذي يبلغ الأربعين من عمره أنّ بافل فشل لأنّه خاطب عقول العمال، ولم يخاطب قلوبهم، وجاء رجال الشرطة مساءً واعتقلوه لتحريضه العمال على الإضراب، واعتقلوا تسعة وأربعين عاملاً.
أصبحت الأم تبيع الفطائر والشوربة في المصنع، وتأخذ معها المناشير الثوريّة وذلك لكي يفهم رجال الشرطة أنّ ابنها بريء بدليل أنّ المناشير مازالت توزع. وطلبت السماح لها بزيارة ابنها في السجن إلا أنّ طلبها رفض في البداية وسمح لها بزيارة ابنها بعد مرور سبعة أسابيع على توقيفه،وحدثته عن عملها وعن المناشير التي عادت للظهور على الرغم من وجود شرطي في الممر الذي يفصل بينها وبين ابنها بافل الذي يناضل من أجل مصالح العمال وضد مصالح الرأسماليين، وكان يوزع المناشير التي تخدم غرضه، ولكن من الذي يكتب المناشير؟ هذا السؤال طرحه على نفسه بافل وكان يخشى أن يكون بعض الأغنياء يكتبونها ويصدرونها لأن العمال عاجزين عن دفع تكاليفها، أيكون هو وزملاؤه أداة بيد هؤلاء، وبدأت مناشير جديدة تظهر بمناسبة عيد العمال في الأول من أيار تدعو لتغيير النظام الاجتماعي القائم، ولاسيما أن أسعار المواد الغذائية الضرورية مثل الخبز آخذة في الارتفاع. وأخلي سبيل بافل فيما بعد، الذي قاد مظاهرة عمالية بمناسبة عيد الأول من أيار، عيد العمال، فحمل الراية الحمراء، راية العدل والحرية وهتف بأعلى صوته عاش الشعب العامل، وعاش حزب العمال الاشتراكيّ الديمقراطيّ.
وانتهت المظاهرة باعتقال بافل فلاسوف وبعض رفاقه ولقد شاركت الأم بالمظاهرة وكانت تعتز بابنها بافل، وبذلك ينتهي القسم الأول من رواية "الأم" التي تتألف من قسمين.
تترك الأم في القسم الثاني من الرواية بيتها بعد أن فتشه رجال الشرطة، واتفقت مع أحد الرفاق على توزيع المنشورات في القرى على الفلاحين، الذين يعانون الفقر والعوز، وأخذت الأم تتنكر في ثياب راهبة أحياناً أو بائعة أحياناً أخرى وتجوب مقاطعات روسيا، وتجري محاكمة بافل ورفاقه الذين لم يعترفوا بأيّ ذنب فهم لم يقتلوا أحداً، ولم يسرقوا أيّ شيء، ولكنهم عارضوا شكلاً من أشكال الحياة، يقود الناس إلى السرقة والقتل، وعدّوا المحكمة ظالمة.
أمّا موقف الروائي مكسيم غوركي (1868 ـ 1936)، فهو متعاطف مع العمال ويتضح من خلال الرواية بكاملها ولاسيما أثناء وصفه للإضراب الأول بسبب حسم قسم من أجور العمال لتغطية نفقات تجفيف المستنقع، وأثناء مظاهرة العمال بمناسبة عيد العمال، واعتقال بعضهم، وأثناء وصف المحاكمة التي جرت للموقوفين، إذ كان كلام المدعي العام فارغاً، وكذلك كان كلام محامي الدفاع، وتكلم بافل وقال إنّه لا ينفي أنَّ من واجبه تحرير الشعب من عبودية النظام الملكي، وتابع بافل أنّه اشتراكيّ، يناضل ضد الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، لأنَّ المجتمع الذي ينظر إلى الفرد على أنّه وسيلة للإثراء، هو مجتمع قائم على أسس غير إنسانية، وأن السلطات يجب أن تكون بيد الشعب، وستتحقق الاشتراكيّة لأنها نظام يقوم على أسس إنسانيّة وتنتهي الرواية بالحكم على بافل ورفاقه بالنفي، واعتقال الأم أثناء توزيعها للمناشير التي تقول الحقيقة عن حياة الشعب الكادح.
ترمز الأم إلى الوطن، بكامله، إنّها الوطن الأم فهو في البداية لا يتفهم الثورة، وبعد ذلك يتعاطف معها، وأخيراً يقوم بها، يكثر غوركي من استخدام كلمة الأم، فهي ليست أمّاً لبافل وحده وإنما كان الآخرون يسمّونها الأم، ولعل غوركي تعمد ذلك، إنّها أمّ الجميع، إنّها الوطن الأم الذي يقف مع أبنائه ويتفهم الثوار ويتبنى قضاياهم، يتأثر لآلامهم ويفرح لفرحهم.
تقوم في الرواية وحدة عضوية بين الجانبين الفكري والفني فلا يطغى أحدهم على الآخر، فعلى الرغم من أن غوركي يبسط على صفحات الرواية الأفكار التي ناضل من أجلها الثوار، ويسرد كلماتهم ودفاعهم عن مواقفهم، ويتعاطف المؤلف مع هذه الأفكار، إلا أنَّ هذه الميزة لا تتحقق على حساب المستوى الفني. فلا يتحسس القارئ بالابتذال وبمواقف مفتعلة، وبذلك فإنَّني لا أوافق الآراء التي يشير إليها الدكتور حسام الخطيب في كتابه "جوانب الأدب والنقد في الغرب"، والتي تتضمن وجود ثغرات كبيرة ولاسيما في مجال البناء الفني، ولقد ذكر هذه النقطة في حاشية بحثه عن رواية "الأم"
(2).
كما إنّني لا أوافق الدكتور ماجد علاء الدين في رأيه، إذ يقول "البطل الأساسيّ في الرواية هو الثائر بافل فلاسوف،..."(3). لأنّني أرى أنّ الشخصية الأساسية في الرواية هي "الأم"، وغوركي عندما عنّون روايته بهذا العنوان كان يعرف أنها البطلة لأنّها الوطن الذي يحتضن أبناءه، أمّا ابنها بافل فهو أحد أبناء هذا الوطن، وإن كان ثائراً على النظام القائم على الظلم والقهر والاستبداد والاستغلال، ويؤمن بإمكانية وحتمية النصر على النظام البالي، على الرغم من وجود مخبرين بين صفوف الثوار،ولم يقاوم بافل ورفاقه رجال أمن النظام بالسلاح بل قاوموهم بالكلمة والفكر، كانوا قوة بناءة، ولم يمارسوا الهدم والتخريب، وكانوا يشعرون أنّ كلّ العمال والفلاحين في العالم معهم، وكلّ الرأسماليين والإقطاع في العالم كله ضدهم، فالصراع صراع طبقي.
تنتمي هذه الرواية إلى المدرسة الواقعية الاشتراكيّة، لا بل تعد العمل الأدبي الأول الذي ينتمي إلى هذه المدرسة. فكما أشرنا أسس المدرسة المذكورة مكسيم غوركي في روسيا ومنها انتشرت إلى الآداب العالمية الأخرى ولعلها المدرسة الأدبية الأولى التي تأسست في روسيا لأن المدارس الأدبيّة السابقة وأقصد الكلاسيكية والرومانسية والواقعية النقدية تأسست في الآداب الغربية، وانتقلت بعد ذلك إلى الأدب الروسي والآداب الأخرى. هذا في مجال النثر أما في مجال الشعر فلعل الشاعر فلاديمير مايكوفسكي (1893ـ1930). يعد مؤسس المدرسة المذكورة في الشعر العالمي.
المصادر:
(1)ـ مكسيم غوركي، رواية الأم، المؤلفات المختارة في ستة مجلدات، المجلد الخامس، موسكو، دار التقدم، 1983، ص 22.
(2)ـ د.حسام الخطيب، جوانب من الأدب والنقد في الغرب، الطبعة السادسة، دمشق، جامعة دمشق، 1997، ص 242.
(3)ـ د.ماجد علاء الدين، الواقعية في الأدبين السوفييتي والعربي، دمشق،دار الثقافة، 1984، ص46.
السبت، 1 أغسطس 2015
مع شكيب أرسلان في كتاب “حاضر العالم الإسلامي”
مع شكيب أرسلان في كتاب “حاضر العالم الإسلامي”
كتبهاأسامة شحادة
"وإن
رأينا الذي نعول عليه أولاً وآخراً ونرجع إليه ظاهراً وباطناً أن الشرق أجمع
سينتبه من رقدته، وينهض من كبوته، وأنه كما شهد القرن التاسع عشر استقلال أمريكا
بأسرها فسوف تشهد بقية القرن العشرين استقلال آسية بعروتها وزرها،
وأنه لا تمضي الثمانون سنة الباقية لتمام هذا القرن حتى يلي
الإسلام بلاده،
ويبلغ من نعمة الاستقلال مراده، وليس هناك كهانة ولا عرافة، ولا هي مقاصد تدرك
بالرقي أو العيافة، ولكن يعرف المستقبل من الحاضر، ويدل الأول على الآخر" أ.هـ .
هذا
ما كتبه أمير البيان شكيب أرسلان في سنة 1925م في مقدمته على كتاب "حاضر العالم
الإسلامي"، ونحتاج عدة وقفات لنعرف فضل روادنا السابقين من العلماء والمصلحين وكم
خسرنا بسبب القطيعة مع تراثهم، والتي نفذتها أجهزة التعليم والإعلام العلمانية
التي سادت في بلاد الإسلام بدعم دول الاحتلال.
1- شكيب أرسلان (1869- 1946) الذي لا يكاد يذكر بين أجيالنا
الشابة هو كاتب وأديب متميز ومفكر وسياسي لبناني اشتهر بلقب "أمير البيان"،
ويعتبر واحداً من كبار المفكرين ودعاة الوحدة الإسلامية والوحدة والثقافة، كان
يجيد اللغات: العربية والتركية والفرنسية والألمانية.
تميزه كان بدوره المهم في دعم حركات التحرر العربية والإسلامية
وكونه محل قبول في كافة البلاد الإسلامية لصدقه وإخلاصه وسعة علمه وذكائه، فقد
شارك في غالب الوفود العربية التي كانت تفاوض في عصبة الأمم المتحدة، كما ترأس
وشارك في العديد من الهيئات السياسية لخدمة العرب والمسلمين مثل المؤتمر السوري
الفلسطيني حيث انتخب أميناً عاماً له، كما أسس مكتب إعلام البلدان الإسلامية
بجنيف، وانضم شكيب إلى "هيئة استقلال الجزائر وتونس"، وأسس جمعية هيئة الشعائر
الإسلامية ببرلين، وانتخب سكرتيراً لمؤتمر الشعوب المقهورة في جنوى، ودعاه عربُ
المهجر في أمريكا الشمالية إلى ترؤس مؤتمرهم في مدينة ديترويت، وغيرها كثير.
2- كتاب "حاضر العالم الإسلامي" هو من أوائل الكتب الأمريكية عن
أحوال العالم الإسلامي، من تأليف لوثروب ستودار، وقد نشر سنة 1921م، وترجمه
الأستاذ عجاج نويهض، وطبعه العلامة محب الدين الخطيب صاحب المطبعة السلفية
بالقاهرة.
وكتاب لوثروب ستودار هو تأريخ للصحوة الإسلامية في القرن التاسع
عشر وصراعها مع المتغربين من أبنائها والصراع بين الرأسمالية والشيوعية على
العالم الإسلامي في تلك الفترة، ولذلك يستنتج ستودار أن المستقبل سيشهد انتفاضة
إسلامية عامة فيقول: "ولعل الذي عُرف حتى اليوم من ثوران الإسلام لا يعد أكثر من
مقدمة لما سيحدث في السنين المقبلة"، وهو الذي لن يفهمه المحللون والباحثون في
أسباب الثورات العربية حالياً فليست القضية أزمات اقتصادية وذوباناً للطبقة
الوسطى فحسب، أو ضعفاً في المشاركة السياسية للأجيال الشابة المثقفة فقط، أو
غيرها من التبريرات التي تهدف فقط لإبعاد وتغييب الجانب الديني والإسلامي عن رغبة
الشعوب بالانسجام مع فطرتها وعقيدتها وأن تحكم بشرع ربها والذي يجنبها هذه
الأزمات الاقتصادية الرأسمالية اليوم في الغرب وفي الشرق قبل عقدين، ويجنبها
الفساد والاستبداد الذي تعانيه باسم التقدمية والحداثة والعلمنة واللبرلة.
الملفت للنظر أن عدد صفحات الكتاب الأصلى لا تتجاوز 350 صفحة، إلا
أنه حين طبع بلغت عدد صفحاته 1588 صفحة!! وذلك بسبب أن المترجم طلب من شكيب
أرسلان - لما له من مكانة واطلاع على قضايا الكتاب - كتابةَ مقدمة له ولكن شكيب
اقترح أن يكتب بعض الحواشي والتعليقات على الكتاب ومن ثم يكتب مقدمة له، وقد ظن
نويهض أن التعليقات لن تتجاوز 40-50 صفحة، وبدأت تعليقات شكيب تصل على دفعات من
جنيف بسويسرا إلى نويهض اللبناني المقيم في القدس والذي يرتبها ويرسلها لمحب
الدين في القاهرة، واستمرت هذه التعليقات تتواصل مدة سنتين حتى بلغت 1240 صفحة
تقريباً، حتى اختفى كتاب لوثروب ستودار بين طيات هذه التعليقات، وأصبحت قيمة
الكتاب في تعليقات الأمير شكيب، التي تناولت قضايا الإسلام والمسلمين كافة:
سياسية واقتصادية واجتماعية وتاريخية حيث رد على شبهات المستشرقين وسرد حضارة
الإسلام والمسلمين، وشرح قضايا التحرر الإسلامي في وقته من حدود الصين إلى غرب
أفريقيا، وعرّف بالمذاهب الفقهية والفرق الإسلامية والطرق الصوفية، وأورد
الإحصائيات عن أعداد المسلمين ومحاصيلهم وصادراتهم وغيرها.
والكتاب مليئ بالفوائد والمعلومات والتحليلات النادرة التي لا
تجدها في مكان آخر لكون صاحبها له اهتمام ومتابعة شخصية بهذه القضايا وهو يكتب عن
معرفة شخصية بكثير من الأحداث والشخصيات بفضل رحلاته المتعددة ومكتبته النادرة
ومكاتباته المتواصلة لقادة العالم الإسلامي – قال شكيب أرسلان أنه يتلقى سنويا
2000 خطاب - لكن للأسف لم تتم الاستفادة المطلوبة من هذا الكتاب وكثير من الجيل
الجديد لا يعرف شكيب ولا كتاب "حاضر العالم الإسلامي".
3- في النص الذي نقلته عن شكيب أرسلان نبوءة بسيادة الإسلام على
بلاده بعد أن أبعده الاحتلال بالقهر والخداع في خلال 80 سنة وهو ما يوافق 2005،
ولعل تصاعد الروح الإسلامية الشعبية في عموم البلاد الإسلامية في كافة القطاعات
الاجتماعية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية، وما نشهده اليوم من
انحياز الشعوب للإسلام وحملته في كثير من البلاد وخاصة بلاد الربيع العربي، لهي
دلالة على صدق نبوءة شكيب أرسلان وأنها نظرة ثاقبة لشخصية جديرة بالتقدير
والاحترام.
ويوضح لوثروب ستودار عمق النظرة الإسلامية التي كان يحملها شكيب
وزملاؤه مثل رشيد رضا ومحب الدين الخطيب أنصار الجامعة الإسلامية (الرؤية
الإسلامية) ضد العلمانيين حيث يقول: "أدرك قادة الجامعة الإسلامية أن الثورات
المحدودة تشب في مواضع دون الأخرى لا يمكن أن توهن شيئاً من قوة الغرب،.. وجب
عليه أن يعمل عملاً منظماً شاملاً للوحدة العامة والرابطة الكبرى، ولا بد من
دراسة علوم الغرب وسلوك ما يؤدي للنهضة الصحيحة القائمة على أساس العلم، ويسبق
هذا التجدد الروحي العقلي العلمي الأدبي والتربية النفسية الصحيحة، وأنه متى صلحت
نفوس المسلمين وزكت سهل إذ ذاك كل عمل في سبيل التحرر والاستقلال.
وعند هذه النقطة نشأ الخلاف مع الأحرار (يقصد العلمانيين) في
وسائل هذا التجدد، فقال الأحرار أن المسلمين لا مندوحة لهم عن الأخذ عن الغرب في
جميع ما هو ضروري ولازم، وقارب أرباب الجامعة الإسلامية أن الإسلام بذاته لصالح
كل الصلاحية فلهذا يقتصر الأخذ عن الغرب في مناهجه العلمية ووسائله المادية"
باختصار.
ولذلك يقرر شكيب أرسلان أن نهضة الشرق لا تكون إلا بالعلم فيقول:
"فلا مندوحة للأمم الشرقية من الاقتداء باليابان في التماس المنعة ومضارعة الدول
الغربية في ارتياد العلم واقتباس الصنعة".
4- لقد كان رواد الإصلاح أمثال شكيب أرسلان يمتلكون رؤية واضحة
لحقيقة السياسات الغربية وأنها سياسة انتهازية تبحث عن مصالحها فحسب وذلك بسبب
مبادئها المادية المعاصرة من جهة وبسبب موروثاتها الصليبية من جهة أخرى، وهذه بعض
الأمثلة مما كتبه أرسلان: "من الحقائق التي ينبغي أن يتفطن لها المسلمون ولا
يغيبوها عن نظرهم وليعلموا أن الدول المستعمرة لا تقبل من الإسلام حتى ولا
الصداقة، وأنها لا ترضى من المسلمين في جانبهم بذل الأرواح والأموال إلا مجاناً"،
وقال: "فإن الأمم الحرة الديمقراطية في أوربة تجتهد مبلغ إمكانها في العدل
والمساواة في بلادها حتى إذا صارت بإزاء المسلمين نسيت مبادئ العدل والمساواة
وكالت بمكيال للأوربيين وبآخر للمسلمين".
ويقول: "وما دامت جمعية الأمم مثل العروض بحراً بلا ماء، ما وجدت
إلا لتلبس الاعتداء حلة قانونية.. لا يطيعها سوى ضعيف عاجز، ولا تستطيع أن تحكم
على قوي متجاوز". وهو عين ما يجرى لليوم كما في موقف أمريكا من قبول عضوية فلسطين
في الأمم المتحدة واليونسكو !! أو موقف روسيا والصين في دعم إجرام الأسد !!
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)