مع شكيب أرسلان في كتاب “حاضر العالم الإسلامي”
كتبهاأسامة شحادة
"وإن
رأينا الذي نعول عليه أولاً وآخراً ونرجع إليه ظاهراً وباطناً أن الشرق أجمع
سينتبه من رقدته، وينهض من كبوته، وأنه كما شهد القرن التاسع عشر استقلال أمريكا
بأسرها فسوف تشهد بقية القرن العشرين استقلال آسية بعروتها وزرها،
وأنه لا تمضي الثمانون سنة الباقية لتمام هذا القرن حتى يلي
الإسلام بلاده،
ويبلغ من نعمة الاستقلال مراده، وليس هناك كهانة ولا عرافة، ولا هي مقاصد تدرك
بالرقي أو العيافة، ولكن يعرف المستقبل من الحاضر، ويدل الأول على الآخر" أ.هـ .
هذا
ما كتبه أمير البيان شكيب أرسلان في سنة 1925م في مقدمته على كتاب "حاضر العالم
الإسلامي"، ونحتاج عدة وقفات لنعرف فضل روادنا السابقين من العلماء والمصلحين وكم
خسرنا بسبب القطيعة مع تراثهم، والتي نفذتها أجهزة التعليم والإعلام العلمانية
التي سادت في بلاد الإسلام بدعم دول الاحتلال.
1- شكيب أرسلان (1869- 1946) الذي لا يكاد يذكر بين أجيالنا
الشابة هو كاتب وأديب متميز ومفكر وسياسي لبناني اشتهر بلقب "أمير البيان"،
ويعتبر واحداً من كبار المفكرين ودعاة الوحدة الإسلامية والوحدة والثقافة، كان
يجيد اللغات: العربية والتركية والفرنسية والألمانية.
تميزه كان بدوره المهم في دعم حركات التحرر العربية والإسلامية
وكونه محل قبول في كافة البلاد الإسلامية لصدقه وإخلاصه وسعة علمه وذكائه، فقد
شارك في غالب الوفود العربية التي كانت تفاوض في عصبة الأمم المتحدة، كما ترأس
وشارك في العديد من الهيئات السياسية لخدمة العرب والمسلمين مثل المؤتمر السوري
الفلسطيني حيث انتخب أميناً عاماً له، كما أسس مكتب إعلام البلدان الإسلامية
بجنيف، وانضم شكيب إلى "هيئة استقلال الجزائر وتونس"، وأسس جمعية هيئة الشعائر
الإسلامية ببرلين، وانتخب سكرتيراً لمؤتمر الشعوب المقهورة في جنوى، ودعاه عربُ
المهجر في أمريكا الشمالية إلى ترؤس مؤتمرهم في مدينة ديترويت، وغيرها كثير.
2- كتاب "حاضر العالم الإسلامي" هو من أوائل الكتب الأمريكية عن
أحوال العالم الإسلامي، من تأليف لوثروب ستودار، وقد نشر سنة 1921م، وترجمه
الأستاذ عجاج نويهض، وطبعه العلامة محب الدين الخطيب صاحب المطبعة السلفية
بالقاهرة.
وكتاب لوثروب ستودار هو تأريخ للصحوة الإسلامية في القرن التاسع
عشر وصراعها مع المتغربين من أبنائها والصراع بين الرأسمالية والشيوعية على
العالم الإسلامي في تلك الفترة، ولذلك يستنتج ستودار أن المستقبل سيشهد انتفاضة
إسلامية عامة فيقول: "ولعل الذي عُرف حتى اليوم من ثوران الإسلام لا يعد أكثر من
مقدمة لما سيحدث في السنين المقبلة"، وهو الذي لن يفهمه المحللون والباحثون في
أسباب الثورات العربية حالياً فليست القضية أزمات اقتصادية وذوباناً للطبقة
الوسطى فحسب، أو ضعفاً في المشاركة السياسية للأجيال الشابة المثقفة فقط، أو
غيرها من التبريرات التي تهدف فقط لإبعاد وتغييب الجانب الديني والإسلامي عن رغبة
الشعوب بالانسجام مع فطرتها وعقيدتها وأن تحكم بشرع ربها والذي يجنبها هذه
الأزمات الاقتصادية الرأسمالية اليوم في الغرب وفي الشرق قبل عقدين، ويجنبها
الفساد والاستبداد الذي تعانيه باسم التقدمية والحداثة والعلمنة واللبرلة.
الملفت للنظر أن عدد صفحات الكتاب الأصلى لا تتجاوز 350 صفحة، إلا
أنه حين طبع بلغت عدد صفحاته 1588 صفحة!! وذلك بسبب أن المترجم طلب من شكيب
أرسلان - لما له من مكانة واطلاع على قضايا الكتاب - كتابةَ مقدمة له ولكن شكيب
اقترح أن يكتب بعض الحواشي والتعليقات على الكتاب ومن ثم يكتب مقدمة له، وقد ظن
نويهض أن التعليقات لن تتجاوز 40-50 صفحة، وبدأت تعليقات شكيب تصل على دفعات من
جنيف بسويسرا إلى نويهض اللبناني المقيم في القدس والذي يرتبها ويرسلها لمحب
الدين في القاهرة، واستمرت هذه التعليقات تتواصل مدة سنتين حتى بلغت 1240 صفحة
تقريباً، حتى اختفى كتاب لوثروب ستودار بين طيات هذه التعليقات، وأصبحت قيمة
الكتاب في تعليقات الأمير شكيب، التي تناولت قضايا الإسلام والمسلمين كافة:
سياسية واقتصادية واجتماعية وتاريخية حيث رد على شبهات المستشرقين وسرد حضارة
الإسلام والمسلمين، وشرح قضايا التحرر الإسلامي في وقته من حدود الصين إلى غرب
أفريقيا، وعرّف بالمذاهب الفقهية والفرق الإسلامية والطرق الصوفية، وأورد
الإحصائيات عن أعداد المسلمين ومحاصيلهم وصادراتهم وغيرها.
والكتاب مليئ بالفوائد والمعلومات والتحليلات النادرة التي لا
تجدها في مكان آخر لكون صاحبها له اهتمام ومتابعة شخصية بهذه القضايا وهو يكتب عن
معرفة شخصية بكثير من الأحداث والشخصيات بفضل رحلاته المتعددة ومكتبته النادرة
ومكاتباته المتواصلة لقادة العالم الإسلامي – قال شكيب أرسلان أنه يتلقى سنويا
2000 خطاب - لكن للأسف لم تتم الاستفادة المطلوبة من هذا الكتاب وكثير من الجيل
الجديد لا يعرف شكيب ولا كتاب "حاضر العالم الإسلامي".
3- في النص الذي نقلته عن شكيب أرسلان نبوءة بسيادة الإسلام على
بلاده بعد أن أبعده الاحتلال بالقهر والخداع في خلال 80 سنة وهو ما يوافق 2005،
ولعل تصاعد الروح الإسلامية الشعبية في عموم البلاد الإسلامية في كافة القطاعات
الاجتماعية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والسياسية، وما نشهده اليوم من
انحياز الشعوب للإسلام وحملته في كثير من البلاد وخاصة بلاد الربيع العربي، لهي
دلالة على صدق نبوءة شكيب أرسلان وأنها نظرة ثاقبة لشخصية جديرة بالتقدير
والاحترام.
ويوضح لوثروب ستودار عمق النظرة الإسلامية التي كان يحملها شكيب
وزملاؤه مثل رشيد رضا ومحب الدين الخطيب أنصار الجامعة الإسلامية (الرؤية
الإسلامية) ضد العلمانيين حيث يقول: "أدرك قادة الجامعة الإسلامية أن الثورات
المحدودة تشب في مواضع دون الأخرى لا يمكن أن توهن شيئاً من قوة الغرب،.. وجب
عليه أن يعمل عملاً منظماً شاملاً للوحدة العامة والرابطة الكبرى، ولا بد من
دراسة علوم الغرب وسلوك ما يؤدي للنهضة الصحيحة القائمة على أساس العلم، ويسبق
هذا التجدد الروحي العقلي العلمي الأدبي والتربية النفسية الصحيحة، وأنه متى صلحت
نفوس المسلمين وزكت سهل إذ ذاك كل عمل في سبيل التحرر والاستقلال.
وعند هذه النقطة نشأ الخلاف مع الأحرار (يقصد العلمانيين) في
وسائل هذا التجدد، فقال الأحرار أن المسلمين لا مندوحة لهم عن الأخذ عن الغرب في
جميع ما هو ضروري ولازم، وقارب أرباب الجامعة الإسلامية أن الإسلام بذاته لصالح
كل الصلاحية فلهذا يقتصر الأخذ عن الغرب في مناهجه العلمية ووسائله المادية"
باختصار.
ولذلك يقرر شكيب أرسلان أن نهضة الشرق لا تكون إلا بالعلم فيقول:
"فلا مندوحة للأمم الشرقية من الاقتداء باليابان في التماس المنعة ومضارعة الدول
الغربية في ارتياد العلم واقتباس الصنعة".
4- لقد كان رواد الإصلاح أمثال شكيب أرسلان يمتلكون رؤية واضحة
لحقيقة السياسات الغربية وأنها سياسة انتهازية تبحث عن مصالحها فحسب وذلك بسبب
مبادئها المادية المعاصرة من جهة وبسبب موروثاتها الصليبية من جهة أخرى، وهذه بعض
الأمثلة مما كتبه أرسلان: "من الحقائق التي ينبغي أن يتفطن لها المسلمون ولا
يغيبوها عن نظرهم وليعلموا أن الدول المستعمرة لا تقبل من الإسلام حتى ولا
الصداقة، وأنها لا ترضى من المسلمين في جانبهم بذل الأرواح والأموال إلا مجاناً"،
وقال: "فإن الأمم الحرة الديمقراطية في أوربة تجتهد مبلغ إمكانها في العدل
والمساواة في بلادها حتى إذا صارت بإزاء المسلمين نسيت مبادئ العدل والمساواة
وكالت بمكيال للأوربيين وبآخر للمسلمين".
ويقول: "وما دامت جمعية الأمم مثل العروض بحراً بلا ماء، ما وجدت
إلا لتلبس الاعتداء حلة قانونية.. لا يطيعها سوى ضعيف عاجز، ولا تستطيع أن تحكم
على قوي متجاوز". وهو عين ما يجرى لليوم كما في موقف أمريكا من قبول عضوية فلسطين
في الأمم المتحدة واليونسكو !! أو موقف روسيا والصين في دعم إجرام الأسد !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق