الجمعة، 31 يوليو 2015

الزهري.. يفضح التاريخ


الزهري.. يفضح التاريخ

مرض الزهري أو (السفلس) الذي عاد يطل على البشرية, بتكتم شديد, يستدعي بإطلالته السرية المخيفة تاريخًا مريرًا من الفضائح ذات البهار الإمبراطوري!
لم يتوفر لمرض آخر ما توفر للسفلس من مادة واقعية وتاريخية تمتلئ بالمفارقات والتفاصيل المثيرة التي تفتح شهية المؤرخين للجدل والباحثين للمراجعة والخصومة. فمن جدل مازال دائرا حول مصدر المرض الذي تدعي البشرية أنها لم تعرفه سوى منذ خمسة قرون فقط, إلى اشتباك شبه علمي حول طبيعة المرض الذي أصاب العديد من المشاهير الذين أثروا في مسيرة التاريخ وأثروا في الفكر والخيال, تنتفخ الكتب وتزهو المقالات التي تعيش على الألم وتفرح بالفضيحة باسم العلم وكتابة الحقيقة!! وربما يكون هذا هو ما دفع بعض الباحثين إلى القول (من يعرف تاريخ السفلس, يعرف تاريخ الطب), لكن هذا التاريخ يتجاوز الطب, بالفعل, إلى السياسة والأدب والفن, أي إلى الحياة.
ورغم أن السفلس (الزهري) هو أحد الأمراض التي تنطبق عليها شروط الترشيح للاختفاء من قائمة الأمراض المعروفة, مثلما حدث مع الجدري في نهاية السبعينيات من القرن الماضي, وبعد أن ساد اعتقاد ما في الأوساط الطبية, تؤيده الإحصاءات الدورية, أن هذا المرض يشهد انحسارا تدريجيا, عاد السفلس للظهور مرة أخرى مع بداية الألفية الجديدة في الولايات المتحدة وإنجلترا واسكتلندا, بين المثليين بصورة خاصة, احتفاء من جانبه بالنصر الذي حققته جمعيات الشواذ في السنوات الأخيرة من الألفية السابقة. كان آخر ظهور كبير للسفلس (وإن بشكل غير وبائي) في القرن الماضي, في روسيا, في العام الذي تلا سقوط الاتحاد السوفييتي, وفي فنلندا قادما من روسيا, ربما كشاهد صامت على انهيار ما, مثلما شارك في إحداث الثورة أو الفوضى الجنسية التي اجتاحت الغرب مطلع الستينيات, مؤكدا على حضوره الخاص في الأحداث الكونية الكبرى حيث لم تفته المشاركة في الحرب العظمى الأولى, بينما شهد هزيمته غير المسبوقة بوحدات البنسلين بعد الحرب العالمية الثانية عام 1947. لكن, سواء انحسر السفلس أو انتشر, يظل الاسم الغامض لهذا المرض محتفظا بشهادة خاصة على ليالي الغرام المأجور أو المسروق التي تعقبها صفحات طويلة من الألم, تتبعها فصول لا تنتهي من العار الذي يطارد صاحبه حتى في ظلمة القبر.
لم يكتب السفلس شهادته على القرن العشرين الطويل فقط, بل كتب شهادته الخاصة على القرون الخمسة الماضية, أي مند بداية ظهوره إلى الآن. أما تاريخه الخاص كمرض فيحمل من علامات الاستفهام وأختام الإدانة ما لا يحمله أي مرض آخر, ربما يتجاوزه الإيدز إذا قدر لهذا الأخير من العمر ما قدر للأول, وكلاهما من الأمراض التي دُمغت بأنها تنتقل عن طريق ممارسة الجنس, لكن يظل للسفلس أسبقية الوجود, وثراء التفاصيل التي تغري المؤرخين برواية الماضي وإعادة خلق التاريخ.
عائلة التريبونيما المحيرة
في عالم الميكروبات الفسيح توجد عائلة صغيرة محيرة, تحمل اسم التريبونيما, منها التريبونيما باليدم التي تسبب مرض السفلس. أفراد هذه العائلة غاية في التشابه من حيث الشكل, وغاية في التماثل من حيث طريقة التفاعل مع الصبغات المختلفة التي يستخدمها الأطباء في المختبر للتمييز بينها, وغالبا ما يختلط الأمر عليهم فيلجأون إلى الأعراض التي يشكو منها المريض مصدر عينة الفحص للتأكد من نوع الميكروب. أما التريبونيما باليدم التي تسبب السفلس فميكروب ضعيف, يحب الحياة في الأماكن الرطبة المظلمة من الجسم, وليس له عائل وسيط, فهو لا يعرف ولا يصيب إلا الإنسان, حيث يصاب بالمرض حوالي 30% فقط من البشر الذين يتعرضون له, غالبا أثناء ممارسة الجنس. بعد التعرض للميكروب, وبعد فترة حضانة تتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع يبدأ المرض الذي يمر بأربع مراحل: المرحلة الأولى, حيث تظهر قرحة صغيرة غير مؤلمة في المكان الذي تعرض للمرض أولا, غالبا رأس العضو الذكري أو حول الجهاز التناسلي الأنثوي. تختفي هذه القرحة خلال 3 - 8 أسابيع من دون علاج. وباختفاء هذه القرحة يكون المريض الذي لم يتلق علاجا قد دخل إلى المرحلة الثانية من المرض وفقد فرصة العلاج. بعد فترة أخرى تتراوح بين 6 - 8 أسابيع من اختفاء القرحة, تبدأ المرحلة الثانية من المرض حيث يشكو المريض من الخمول والصداع وربما الحمى واحتقان الحلق وتضخم بعض الغدد الليمفاوية, وهي أعراض تتشابه مع أعراض أمراض أخرى كثيرة, ويشكو بعض المرضى من ظهور طفح جلدي يشبه الطفح الجلدي الذي يسببه الجدري, لذا أطلق عليه في القرون الأولى التي تلت ظهوره (الجدري الكبير) أو (great pox) تمييزا له عن الجدري الصغير أو (small pox). كما يشكو بعض المرضى من سقوط الشعر وانخفاض الوزن, ويمكن لهذه المرحلة أن تستمر لأكثر قليلا من ثلاثة أشهر وإذا لم يتلق المريض علاجا مناسبا خلال هذه المرحلة يكون قد فقد فرصة العلاج نهائيا. يلاحظ في المرحلة الثانية أن الأعراض التي يشكو منها المريض تتشابه مع الكثير من أعراض أمراض أخرى مما يصعب المهمة في التشخيص وهو ما حمل المرض وصف (المخادع الكبير). ينتقل المخادع بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الخفاء أو السفلس الخفي أو الكامن. لا يشكو المريض خلال هذه المرحلة من أي أعراض باستثناء بعض الآلام الغامضة ومشاكل بسيطة تتعلق بالعين. يتوغل الميكروب في الغدد الليمفاوية ونخاع العظام والجهاز العصبي.
وتستغرق هذه المرحلة سنوات, وتشير متابعة المرضى إلى توقف المرض عند هذه المرحلة في نسبة تتراوح بين 50 - 70% من المرضى حيث لا يتقدم المرض إلى المرحلة الأخيرة. هذه المرحلة الرابعة هي أخطر المراحل جميعا وهي المرحلة التي تعني نهاية المريض الحتمية بين الموت محتفظا بعقله أو فقدان العقل متبوعا بموته. تتجمع الميكروبات في الغدد الليمفاوية وفي الجلد والعظم والأعضاء الحيوية مكونة عقدا مؤلمة تعرف باسم (gamma). وهناك نوعان أساسيان من السفلس في هذه المرحلة: سفلس القلب والأوعية الدموية حيث تتآكل صمامات القلب ويصاب الأورطي بالضيق, والسفلس العصبي الذي يصيب المخ وباقي الجهاز العصبي المركزي مسببا اضطرابات في الشخصية والسلوك ينتهي بما يعرف بـ (الشلل العام للجنون) أو (general paralysis of the insane).
داء تاريخي
في العام 1491 رحلت ثلاث من السفن الصغيرة باتجاه الغرب في رحلة استغرقت شهرين وتسعة أيام, وصلت بعدها السفن إلى ما اعتقد كولومبس أنه الهند, ثم تبين بعد ذلك أنها أمريكا. ويقال إن البعض من بحارة كولومبس قد أصيب بطفح جلدي غريب في رحلة العودة اعتقد زملاؤهم أنها نوع من الحصبة أطلقوا عليه اسم (الحصبة الهندية)!! لكن المأساة الوبائية بدأت في العام 1494 حين غزا الملك الفرنسي شارل الثامن بجيشه المرتزق مدينة نابولي الإيطالية أثناء الحرب الفرنسية - الإسبانية من أجل السيطرة على الإمبراطورية الرومانية. احتل جيش المرتزقة مدينة نابولي التي كانت بؤرة الفساد الأوربي الذي شاع عقب عودة الجنود من الحروب المقدسة في الشرق, يخدمهم جيش من بنات الهوى يؤدين (الواجب المقدس) بالترفيه عن الجنود المخدوعين باسم الصليب وباسم السيد المسيح. في جو كهذا والمدينة تعج بالفساد والتسيب الأخلاقي, عاث جنود الجيش الفرنسي في المدينة فانتشر المرض الجديد بين الجنود وسكان المدينة فعرف المرض باسم (مرض نابولي) - مازالت كتب الطب الحديثة تحفظ هذا الاسم - لكن فيما يبدو أن أهل نابولي قد رفضوا الاسم وردوه على الغزاة الفرنسيين الذين حملوا معهم المرض فأطلقوا عليه (المرض الفرنسي), لكن الفرنسيين, بدورهم, لم يسلموا بالأمر فألقوا اللوم على الإسبان, فتصدى لهذا الادعاء الفرنسي طبيب إسباني, مؤكدا أن جزيرة هايتي التي كانت أول أرض جديدة يصلها كولومبس هي مصدر هذا المرض فاستقرت نظرية التبادل الكولومبي (نسبة إلى كولومبس). أيا كان الأمر, انكسر الجيش الفرنسي في (فورنوفو) وتفرق الجنود المرتزقة في كل أنحاء أوربا وانتشر المرض معهم في فرنسا وألمانيا وسويسرا وهولندا (حيث عرف بالمرض الإسباني) وجزر اليونان, وعندما وصل المرض إلى روسيا أطلق عليه (المرض البولندي), ومن روسيا إلى سيبيريا حيث عرف بـ (المرض الروسي), ووصل إلى الهند واليابان باسم (المرض البرتغالي), وفي البرتغال كان اسمه (المرض القشتالي) وفي تركيا أطلق عليه (المرض المسيحي) وعندما وصل الكابتن كوك إلى تاهيتي في سنة 1728 وجد السكان يطلقون على هذا المرض اسم (المرض الإنجليزي) أما العرب فأطلقوا عليه اسم (مرض الفرنجة). كأن المهزوم كان يلصق تهمة المرض بالغزاة نكاية فيهم. لكن يبدو أن الأكثر مكرا من كل هؤلاء هو ذلك الطبيب الإسباني الذي ألقى بالتهمة على طرف غائب, طرف لا علاقة له بالإمبراطورية المقدسة, ولا بالصراع الدائر بين الملوك من أجل إحكام القبضة على بقاياها.
طرف لا يستطيع أن يلقي باللوم على غيره, وإن فعل فلن يجد من يسمع له. وحتى إذا صحت هذه النظرية, فلا يخفى على أحد أن هذا التبادل لم يكن عادلا على الإطلاق, فقد نقل كولومبس إلى العالم الجديد أوبئة الإنفلونزا والجدري والتيفوس التي قضت على ثلثي سكان العالم الجديد من الهنود الحمر, بينما تكفلت أسلحة الغزاة بالناجين من الوباء. وهذ حقيقة مؤكدة, بينما عاد كولومبس إلى القارة العجوز محملا بأكوام من الفضة والذهب ملأت خزائن الملوك, ونباتات طبية أثرت خزانة الأدوية الأوربية, وطيور زينة مجهولة تغرد في القصور, وربما, ربما, يكون قد جلب معه هذا الطفح الجلدي الغريب. فمازالت هذه الفكرة مجرد نظرية تحوطها الكثير من الشكوك. فهناك من الباحثين من يعتقد بوجود السفلس في العالم القديم قبل اكتشاف الأمريكتين, لكن نظرا لقدرته على المراوغة والتشابه مع أمراض أخرى, خاصة الجذام, لم يتمكن الأطباء في ذلك الوقت من تشخيصه.
القرن الـ 16 والضحايا الكبار
مع بداية القرن السادس عشر وصل إلى عرش الإمبراطورية الرومانية شارل الخامس وهو لايزال في العشرين من عمره (1520) وكان قد سبقه إلى العرش كل من هنري الثامن (1509) في إنجلترا وكان له من العمر ثمانية عشر عاما - وفرنسيس الأول(1515) ملكا على فرنسا وكان في الحادية والعشرين من عمره. كان عصرا للملوك الشبان, إذن, تحالف فيه الإمبراطور شارل الخامس مع هنري الثامن ضد فرنسيس الأول ودارت حروب طاحنة بين الطرفين على الأرض الإيطالية وأسر فرنسيس الأول في بافيا. في تلك اللحظة انقلب البابا وهنري الثامن على شارل الخامس الذي تحول إلى إمبراطور شديد التعصب والقسوة. هذه الحروب التي بدأت في نهاية القرن الخامس عشر والتي بدأها الملك الفرنسي شارل الثامن وأفضت إلى مأساة نابولي التي ذكرناها, كان من ضحاياها وريثه على العرش الفرنسي فرنسيس الأول. يقال إن فرنسيس الأول كان فارسا شجاعا يحلم لفرنسا بملك إمبراطوري واسع الأطراف, لكنه كان ماجنا وخليعا ومحبا للنساء, وكان من بين خليلاته امرأة اسمها (لابيلا فورتير) - يحتفظ متحف اللوفر بصورة لها في إحدى ردهاته. اغتاظ زوج لابيلا من علاقة الملك بزوجته وقرر الانتقام منهما, فراح يتردد على بيوت الدعارة عله يصاب بالمرض, وكان له ما أراد ونجح في نقل المرض إلى زوجته التي نقلته بدورها إلى الملك. وتحول الملك الطموح, بعد إصابته بالسفلس, إلى شخص فاسد العقل تتسم تصرفاته بالعصبية والشذوذ, مما أثر في الدولة وفي علاقاتها بالدول المجاورة.
ومع تدهور حالة الملك الفرنسي الشاب الصحية وتدهور كفاءته العقلية, فشل في حروبه المتتالية, وبحث عن حليف له, فوجد ضالته في هنري الثامن, العدو السابق, حليف الإمبراطور شارل الخامس قبل سنوات قليلة. فدعاه إلى باريس وأقام له قصرا فاخرا, أرهق الميزانية المرهقة بالفعل, وأقام هنري في فرنسا لبعض الوقت, ثم تنكر للحليف الجديد طامعا في ثروة فرنسا.
وأخيرا وفي العام 1547 مات فرنسيس الأول ووضعت على قبره شهادة تقول (هنا يرقد فرنسيس الأول الذي مات مريضا بالزهري). ومن المصادفات الغريبة أن هنري الثامن قد مات في العام نفسه (1547) وحوله الكثير من الشكوك التي ترجح إصابته بالسفلس هو الآخر.
ولم يكن سلوك هنري الثامن يقل شذوذا عن فرنسيس. تزوج هذا الملك الشاب من أرملة أخيه الأميرة الإسبانية (كاترين أراجون) التي ولدت له طفلا ميتا, أعقبه خمسة أطفال ولدوا موتى أو ماتوا بعد الولادة بقليل, ولم يبق له سوى طفلة واحدة هي ماري, التي تولت الحكم من بعده وعرفت في التاريخ بـ(ماري الدموية) أو (bloody Mary). قرر هنري الثامن التخلص من كاترين التي فشلت في أداء مهمتها الملكية, أي عدم قدرتها على إنجاب ولي للعهد. واستأذن البابا كلمنت السابع في طلاقها والزواج مرة أخرى, فرفض البابا, فقطع الملك علاقته بالكنيسة الكاثوليكية, وأعلن كنيسة خاصة للإنجليز هي الكنيسة الإنجليكانية, ثم تزوج من آن بولين الشهيرة التي فشلت هي الأخرى في إنجاب ولي العهد, فقطع الملك رأسها بعد أن اتهمها بالخيانة. وتكررت مأساة آن بولين مع غيرها مرات, وليس مرة واحدة. فهل كان شذوذ هنري الثامن نتيجة لإصابته بمرض السفلس? هناك مَن يقول نعم, وهناك مَن يقول إن ما كان يشكو منه هنري الثامن وبناء على قراءة دقيقة لسجله المرضي, هو مرض البول السكري الذي لم يكن الأطباء يشخصونه في ذلك الوقت, ولم يكن علاجه معروفا, إضافة إلى إصابته بارتفاع ضغط الدم, واجتماع المرضين معا كان يصيبه بجلطات متكررة في الدماغ, وهو ما أثر على سلوكه. هذا التفسير الحديث لأمراض هنري الثامن لم يخرجه نهائيا من دائرة الاشتباه, كما أنه لن يغير التاريخ, فالنتائج واحدة سواء كان الملك مريضا بالسفلس أو بغيره من الأمراض.
فضيحة سبعينية
مع بداية القرن الماضي (1905), نجح عالما الميكروبيولوجي شودان وهوفمان في عزل التيربونيما باليدم للمرة الأولى بعد أكثر من أربعة قرون من المراوغة. ولم تمض خمس سنوات أخرى حتى كان بول إيرليتش (1910) قد توصل إلى استخراج دواء من الزرنيخ لعلاج السفلس. أجرى إيرليتش 605 محاولات على الزرنيخ حتى حالفه النجاح في المحاولة رقم 606, فأطلق على العقار الجديد اسم (606). وبعد ذلك بقليل, حمل الدواء نفسه اسم (سلفارسان) أو المنقذ. وصف إيرليتش دواءه بالرصاصة الفضية أو السحرية مداعبا حلم البشرية القديم بوصفة سحرية تعالج كل الأمراض. لكن مع الأسف, لم يخب حلم إيرليتش في عجائبية دوائه فقط, بل هوجم الدواء من بعض الجماعات المتشددة التي ترى في السفلس عقابا إلهيا على سوء السلوك البشري, وأن العلاج الوحيد لهذا المرض هو الانضباط الجنسي.
لم يتوقف العمل ونجح فيلمينج في سنة 1929 في الكشف عن رصاصة فضية حقيقية حملت اسم البنسلين الذي غيّر وجه التاريخ, لكن التوسع في استخدامه لم يتم إلا إبان الحرب العالمية الثانية. بينما كان فيلمينج يعمل في مختبره, كان الأطباء العاملون في توسكاجي بالولايات المتحدة الأمريكية يدبرون واحدة من الدراسات الأطول والأبشع في تاريخ الطب. اختار الأطباء 399 من المزارعين الفقراء, من ماكون كونتي بولاية ألباما, كلهم من الزنوج, وكلهم من الثابت إصابتهم بالسفلس طبقا للتحاليل الطبية المعتمدة. لم يقل الأطباء للمرضى إنهم مصابون بالسفلس, بل قيل لهم إنهم مرضى بـ(الدم الفاسد), ووقع المرضى على أوراق تفيد خضوعهم للعلاج في هذا المصح فقط, وتشدد العاملون في المركز الصحي في متابعة هؤلاء المرضى, ليس من أجل علاجهم, ولكن من أجل التأكد من أنهم لا يتلقون أي علاج آخر من أي مكان آخر. كانت الدراسة تهدف إلى دراسة التاريخ الطبيعي للسفلس, أي كيف يتطور المرض في غياب العلاج. وبناء عليه ظل هؤلاء المرضى قيد المتابعة دون أي علاج إطلاقا. بدأت هذه الدراسة في عام 1932 وانتهت سنة 1972, وعندما أفاق الضحايا وذووهم كان الباقي منهم على قيد الحياة ثمانية فقط. نشرت وقائع وتفاصيل هذه الجريمة المرتكبة باسم العلم في جريدة نيويورك تايمز في صباح 26 يوليو 1972. ومازالت هذه الفضيحة تلقي بظلال كئيبة على علاقة الأفروأمريكان بالنظام الصحي الأمريكي, ومازال الزنوج يشككون في نزاهة هذا النظام.
التي توقظ الموتى
في متحف الجراح الكبير جون هنتر, بالكلية الملكية للجراحين في إنجلترا, يوجد أنف فضي مدهون باللون الأحمر, ومثبت على سلكين من المعدن. هذا الأنف المستعار يخص واحدة من النساء فقدت أنفها لحساب السفلس, وكان هناك مَن يحبها دون هذا الأنف المستعار, وحين تزوجها خلع أنفها, الذي استقر فيما بعد في المتحف الخاص بالدكتور (هنتر), هذا الجرّاح الكبير الذي راح ضحية لتجربة مجنونة حين حقن نفسه بصديد ملوث بالسيلان حصل عليه من واحدة من بنات الهوى لكي يتأكد أنها ليست مريضة بالسفلس, خاصة أنه كان يعتقد أن السيلان ليس سوى المرحلة الأولى من مراحل هذا المرض. مع الأسف كان هنتر على خطأ, ومات متأثرا بما فعله, ومخدوعا بأنف من الأنوف المستعارة الكثيرة التي لبسها هذا المراوغ الكبير.
ومع بداية الألفية الثالثة, حاولت الباحثة الأمريكية ديبورا هايدن أن تنزع ما تعتقد أنها أنوف مستعارة للعديد من الشخصيات الكبيرة, من نجوم الأدب والسياسة والحرب, وتوغلت هايدن في مذكرات المشاهير ورسائلهم, وما تركوه من أدب, ومن لوحات وسيمفونيات لكي تثبت أن هؤلاء الكبار المصابين بجنون العظمة ليسوا سوى ضحايا للتريبونيما باليدم. شملت القائمة: البابا ألكسندر الرابع, إيفان الرهيب, كريستوفر كولومبس, جوستاف فلوبير (مدام بوفاري), شارل بودلير (أزهار الشر), بيتهوفن, فرانز شوبرت, روبرت شومان, جي دو موباسان, فان جوخ, أوسكار وايلد (صورة دوريان جراي), جيمس جويس (عوليس), برام ستوكر (مبتكر داركولا), فردريك نيتشه, شوبنهور, أودلف هتلر, أبراهام لينكولن وزوجته, راندلوف تشرشل (والد ونستون تشرشل) وآل كابوني.
هذه ليست المرة الأولى التي تثار فيها هذه القضية أو التي يعلن فيها مثل هذا الاشتباه, لكن مع الأسف لم تقدم الباحثة الأمريكية جديدا يؤكد أو ينفي إصابة أيّ من هؤلاء بهذا المرض. حاولت أن تلعب دور مفتش المباحث في المسلسلات, لكنها نسيت أن الدليل الأساسي مفقود ألا وهو جسد الضحية. الغريب في الأمر أن الباحثة نفسها ليست طبيبة, ولم تدرس الطب, لذا ابتعدت عن الدليل الحقيقي ولجأت إلى المذكرات والكتابات التي تركها من حاولت نزع أنوفهم. صحيح أن هناك من بين هؤلاء الأشخاص من عرف عنه إصابته بهذا المرض, لكن تظل دعواها ضعيفة بالنسبة لباقي المشتبهين. فتعليق كراهية هتلر لليهود على شماعة انتقال السفلس له من ساقطة يهودية التقاها في النمسا, لا تدين اليهود ولا تبرئ هتلر, لكنها تسطح كراهية هتلر لليهود, أما جنون العظمة الذي أصابه, وإن كان يحدث في المراحل المتأخرة من السفلس, فليس دليلا على أي شيء لأن جنون العظمة يحدث دون سفلس.
علامات في تاريخ السفلس
·        1494-1496 الوباء الأول للسفلس - مرض نابولي.
·        1530 فراكستورو يعطي للمرض اسمه.
·        1547 فراكستورو ونظرية العدوى.
·        1547 موت فرنسيس الأول نتيجة للمرض.
·        استخدام مراهم الزئبق في علاج المرض.
·        فشل أخشاب عود الأنبياء في علاج السفلس.
·        1890 ربط المرض بالدعارة وممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج.
·        1905 شودان وهوفمان يعزلان البكتيريا المسببة للمرض.
·        1906 طريقة وزرمان لتشخيص المرض.
·        1910 العقار 606 من الزرنيخ (سالفارسان - المنقذ).
·        1932 بدء دراسة توسكجي لدراسة التاريخ الطبيعي للمرض.
·        1939 حرب شيكاغو ضد المرض.
·        1943 استخدام البنسلين في علاج السفلس لأول مرة.
·        1947 الوباء الثاني للسفلس.
·        1948 البنسلين وحده ليس كافيا للسيطرة على المرض.
·        1956 انخفاض معدل الإصابة بالمرض.
·        1960 عودة المرض للظهور بكثافة مع الثورة الجنسية.
·        1970 تسجيل زيادة معدلات المرض بين المثليين.
·        1972 نهاية دراسة توسكجي.
·        1980 ارتفاع معدلات الإصابة بالمرض في الضواحي الفقيرة بأمريكا.
·        1991 ارتفاع معدلات الإصابة بالمرض في روسيا وفنلندا.
·        1996 نهاية التحقيقات في فضيحة توسكجي.
·        1997 كلينتون يعتذر لأسر ضحايا فضيحة توسكجي وأهالي ماكون كونتي.
·        2002 ارتفاع معدلات الإصابة بالمرض بين المثليين في أمريكا وأوربا.
إبراهيم البجلاتي


مجلة العربي 552

ألف وجه لألف عام - «القبيلة الثالثة عشرة» لكوستلر: من أين أتى يهود أوروبا؟

ألف وجه لألف عام - «القبيلة الثالثة عشرة» لكوستلر: من أين أتى يهود أوروبا؟

 

آرثر كوستلر (1905 - 1983)

ابراهيم العريس الحياة

كان في بداياته شيوعياً، ثم صار صهيونياً، ثم عاد الى الشيوعية لفترة كانت – هذه المرة – كافية له حتى يكفر بستالين، ويتحول مرة أخرى الى معادٍ للشيوعية على النمط السوفياتي ويؤلف واحداً من أكثر الكتب التي نددت بستالين في تلك المرحلة، وهو «عتمة عند الظهيرة» الذي أثار حين صدوره ضجة ما بعدها ضجة. بعد هذا الكتاب عادت الحركة الصهيونية وتبنته من جديد... ولكن ما ان مضت سنون قليلة، حتى انتفضت هذه الحركة عليه، موظفة كل إعلامها وأقلام كتّابها. فلماذا؟ ببساطة لأن آرثر كوستلر، وهو الكاتب الذي نتحدث عنه هنا، كان أصدر كتاباً جديداً له، لم يكن متوقعاً... وهو كتاب «القبيلة الثالثة عشرة»، الذي لا يزال حتى اليوم مدار أخذ ورد، حتى داخل الصفوف الفكرية اليهودية.
والحقيقة ان «القبيلة الثالثة عشرة» يستحق هذا الضجيج، طالما ان كوستلر توصل فيه الى أطروحة حول التاريخ اليهودي تقف على التضاد التام، مع كل الأسس التي اعتمدتها الحركة الصهيونية، منذ ثيودور هرتزل على الأقل، في سبيل رسم سياسة «حق العودة» التي تطاول يهود العالم وعلاقتهم بأرض الميعاد: فلسطين. ومن هنا اعتبر صقور الحركة الصهيونية، كتاب كوستلر هذا، أسوأ من «بروتوكولات حكماء صهيون»، وماء إضافياً يوضع في طاحونة كل الذين «جعلوا العداء للسامية خبز حياتهم ونشاطهم اليومي». فلماذا وماذا في هذا الكتاب؟ ولماذا هو معاد لليهود، مع ان مؤلفه يهودي مرموق، وكان في كتابات سابقة له يعتبر فخراً للحركة الصهيونية ومدافعاً شرساً عنها؟

 لأن كوستلر، وفي بساطة كلية، أنكر – على الأقل على يهود أوروبا وربما على يهود كثر في العالم – ان يكونوا متحدرين من صلب تلك الأقوام التي سكنت فلسطين القديمة وبارحتها تحت ضغط الاضطهاد الروماني وغير الروماني مشتتة في أنحاء العالم كافة. في «القبيلة الثالثة عشرة» يقول كوستلر ان اليهود الأوروبيين خصوصاً، إنما هم متحدرون من ابناء مملكة الخزر القديمة، أي من سكان أواسط آسيا، لا من سكان فلسطين. وأنهم حين بارحوا مسقط رأسهم لأسباب تاريخية متنوعة لم يكونوا يهوداً، بل هم اعتنقوا الديانة اليهودية لاحقاً في أوروبا.
 وعلى هذا، وبكل صراحة، هم يهود لكنهم ليسوا إسرائيليين، ذلك ان تلاقي صفة إسرائيلي ويهودي لا يكون إلا بالنسبة الى اليهود القدامى الذين كانوا في غابرات الأيام يعيشون في فلسطين. وهؤلاء – بحسب العرف الصهيوني الذي أدى الى قيام «وطن قومي لليهود» هو اسرائيل فوق الأراضي الفلسطينية، تبعاً لوعد بلفور الشهير – هم الذين يجدر ان يكون من حقهم «العودة» بعد ان شردهم التاريخ في شتى الأنحاء محولاً إياهم الى دياسبور! فإذا انتفى هذا الأمر عن الآخرين، من المتحدرين من سلالة الخزر، لا يعود من حق هؤلاء ان يتطلعوا – تاريخياً على الأقل – الى «العودة الى أرض الميعاد».
 وتبعاً لهذه النظرية يصبح هذا الحق محصوراً في اليهود العرب وبعض اليهود الشرقيين لا أكثر ولا أقل.
طبعاً آرثر كوستلر لم يصل في نظريته الى هذا الاستنتاج، لكنه وضع في فصول كتابه هذا، كل المقدمات والمبررات التي توصل إليه. ومن هنا كانت خطورة هذا الكتاب بالنسبة الى مفكري الحركة الصهيونية وسياسييها، من الذين سارعوا الى نسف الفكرة من اساسها، مصدرين عشرات الكتب ومئات الدراسات لدحضها، إنما من دون الإيغال عميقاً في استعداء آرثر كوستلر، الذي كان في ذلك الحين يتمتع بصدقية كبيرة أمّنها له موقفه الحاسم ضد الستالينية، والمنظومة الشيوعية في شكل عام.
 
 ونعرف هنا انه بعد سنوات أولى شغل خلالها الهجوم على الكتاب ودحضه ندوات وسجالات طويلة، رمي الكتاب في النسيان ولا سيما في أوروبا، بل صار تداوله احياناً مداناً كما هو تداول «بروتوكولات حكماء صهيون». وطغت على شهرة مؤلفه، أخبار كتبه الأخرى، ولا سيما خلال مرحلة الحرب الباردة. واللافت ان احداً منذ ذلك الحين لم يتلقف هذا الكتاب ليحتفي به، غير مجموعات عربية رأت فيه سلاحاً فكرياً في مناهضة الفكر الصهيوني. والكتاب قادر على تأمين هذا، وبأفضل كثيراً مما يفعل «بروتوكولات حكماء صهيون»، لكن المشكلة تكمن في ان الكتابين وضعا دائماً معاً، ما أفقد كتاب كوستلر صدقية وقوة كان يمكنه الاستحواذ عليهما في السجالات العميقة حول هذا الأمر التاريخي.

  غير ان الأمر الذي يمكن الوقوف عنده هنا، وفي صدد كتاب آرثر كوستلر هذا، هو ان هذا الأخير لم يكن هو مبتدع الفكرة، أو موقظها من سبات عميق كانت تخلد إليه. فالحال ان هذه الفكرة القائلة بوجود قبيلة ثالثة عشرة لا علاقة لها بما يمكن ان يسمى «إسرائيل القديمة»، بل أتت من آسيا الوسطى وتحدرت من مملكة الخزر تحديداً، فكرة قديمة وسبق لمؤرخين كثر ان دنوا منها. وفي القرن العشرين نفسه، صدرت كتب أميركية عدة تتناول الموضوع نفسه. وكانت كلها كتب سياسية بل إيديولوجية، حتى وإن اتسمت في بعض الأحيان بسمات البحث التاريخي المعمق.
 في أغلب الأحيان، كان موظفوها في الولايات المتحدة رجال أعمال وفكر وسلاح يمينيين، حاولوا استخدامها لـ «فضح» النفوذ اليهودي المهيمن على السياسة والإعلام وعالم الأعمال في الولايات المتحدة. وقد كان الصناعي هنري فورد واحداً من هؤلاء، إذ نجده بعيد الحرب العالمية الأولى يجمع مفكرين وكتاباً وصحافيين ويمولهم كي يضعوا دراسة «يثبتون فيها ان يهود اليوم ولا سيما الأميركيون منهم، ليسوا شعب الله المختار». وقد نشر فورد – مؤسس مصانع فورد للسيارات – نتائج تلك البحوث في كتاب من أربعة مجلدات عنوانه «اليهودي العالمي».
واللافت ان القسم المخصص لقضية اليهود غير الإسرائيليين في هذا الكتاب كان ضئيلاً، وفي المقابل ركزت الأجزاء الأربعة – على نسق ما يفعل «بروتوكولات حكماء صهيون – على «الخطة اليهودية للسيطرة على العالم». ولئن كان هنري فورد «رائداً» في هذا المجال، بحيث ان كتابه مهّد الأرضية اللازمة لاستقبال، من ناحية، كتاب كوستلر، ومن ناحية ثانية، كتاب «البروتوكولات»، فإن فورد لم يبق وحيداً في الميدان، إذ صدرت كتب عدة مشابهة، منها كتاب لضابط متقاعد في الاستخبارات العسكرية الأميركية هو الكولونيل جون بيتي عنوانه «ستار حديدي على أميركا». تبعه كتاب لكولونيل آخر يدعى كورتيس دال (كان الصهر السابق للرئيس روزفلت) عنوانه «إسرائيل وسرها المقدر بـ5 تريليون دولار». لكن هذه الكتاب جميعاً لم تخرج عن الإطار الدعائي المناهض حقاً للسامية، على النمط الأميركي. اما كتاب آرثر كوستلر، فإنه يبقى وحده حاملاً أطروحة تاريخية جديرة بالبحث، ولكن خارج إطار الأهواء الإيديولوجية من أي صوب أتت.

  وآرثر كوستلر (1905 – 1983) كان كاتباً وفيلسوفاً ومؤرخاً انكليزياً من اصل هنغاري، شق منذ بداياته طريقه نحو الفكر والكتابة العلمية وكذلك نحو النضال السياسي، وهكذا رأيناه اول ثلاثينات القرن العشرين، عضواً في الحزب الشيوعي الألماني الذي سيتركه بعد سبع سنوات، إذ هاجر الى بريطانيا ساعياً الى تركيز حياته ونشاطه الفكري هناك وهو كان سافر الى فلسطين أواخر عشرينات القرن نفسه، وعاش متنقلاً بين القدس وتل ابيب، لكنه لم يجد أن في إمكانه ان يشعر بأي راحة في بلد قيل له حين اجتذب إليه انه صحراء لا شعب فيها، فإذا به يجابه هناك شعباً (فلسطينياً) يريد التمسك بأرضه.
ولعل هذا «الاكتشاف» هو الذي وجه كوستلر في ذلك الحين نحو النضال الشيوعي. النضال الذي عاد وأبعده عنه اكتشافه محاكمات موسكو والتصفيات الستالينية. وفي النهاية حين استقر كوستلر في بريطانيا ليعيش فيها مدرساً، صحافياً وكاتباً، اصدر هناك عدداً كبيراً من الكتب، الى جانب ما ذكرنا، ومن بين هذه الكتب: «سهم في الزرقة»، و»اليوغي والمفوض» و«السائرون نياماً».

السبت، 25 يوليو 2015

دار الساقي و المعونات الأمريكية المشبوهة !

دار الساقي بلندن هي أحد المكتبات المشهورة بنشر الفكر الليبرالي في العالم العربي وتعتبر الساقي قبلة الليبراليين والروائيين العرب يبحثون من خلالها عن نافذة توصلهم إلى القراء وذلك لما لها من الشهرة والمنزلة . 


مديرة دار الساقي هي الكاتبة اللبنانية مي غصوب، ماورنية تزوجت سبعة مرات وآخر زوج لها هو الكاتب اللبناني حازم صاغية، من الكتاب المعتمدين لدى جريدة الحياة، من الروم الأرثذوكس، وتشارك هي أحيانا في الكتابة في بعض الجرائد السعودية، كصحيفة الحياة. 


وتوجهات دار الساقي توجهات ليبرالية إباحية وكتاباتها تغذي الفكر الليبرالي وتتضمن أيضا الروايات والكتابات الإباحية وترى أن نشر هذه المواد من صميم عمل الديمقراطية كما ذكرت ذلك في بعض حواراتها . 


تتلقى دار الساقي دعما سنويا ثابتا من الحكومة الأمريكية عبر مؤسسة " تعزيز الديمقراطية " وهي مؤسسة أمريكية غير ربحية تهدف إلى دعم المجموعات الليبرالية والمتحررة في العالم العربي ، وكان يرأس إدارتها العراقي ليث كبة، والذي أصبح الآن مستشارا لدى الجعفري رئيس الوزراء العراقي ومتحدثا باسم الحكومة العراقية، وبالإضافة إلى دار الساقي فهناك الجمعيات النسوية العربية ذات الطابع التحرري والتي تأخذ هي بدورها المعونة من المؤسسة ذاتها، وممن يتلقى معونات من هذه المؤسسة أيضاً الباحث المصري سعد الدين إبراهيم والكاتبة المصرية نوال السعداوي وآخرين. 


وبروز اسم ليث كبة كشخصية قوية وفاعلة ضمن التركيبة الأساسية الحاكمة في العراق يؤكد واقعيا دور الليبراليين العرب الموجودين في الخارج وكيف تمكنت أمريكا من صهرهم ليصبحوا منفعلين مع المشروع الأمريكي بأدق تفاصيله ويكونوا ضمن التركيبة المستقبلية للمشروع الأمريكي التغيري للمنطقة بحذافيرها وهذا ينطبق على الليبراليين العرب بجنسياتهم المختلفة . 


ويلاحظ أيضا أن القاسم المشترك بين المجموعات السابقة أو الأفراد أنها جميعا ضد المجتمعات المسلمة سواء في عقيدتها أو في قيمها وسلوكها وهذا ما يجعلهم أكثر قبولا لدى الإدارة الأمريكية من ناحية الدعم والتمكين وهو ما يؤكد أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في محاربة المجتمعات المسلمة من داخلها عبر زرع مجموعات متحررة وإمدادها بالمال والمساعدة المطلوبة وسنعرض لاحقا إن شاء الله إلى مجموعة من الأكاديميين والباحثين العرب كانوا يأخذون منحا ودعما مباشرا من الحكومة الأمريكية إما عبر جهاز المخابرات أو السفارات والقنصليات الأمريكية في الخارج . 


وهذه المعونات الأمريكية والمنح المبذولة لهم تفسر للمتابع سبب العمالة الصريحة التي يظهر الكثير من المفكرين للولايات المتحدة الأمريكية ولمشاريعها في المنطقة.


وترتبط مي غصوب بعلاقات وثيقة جدا مع الليبراليين السعوديين وهذا ما يفسر إقبالهم على دار الساقي ونشرهم فيها كما أنها تقيم علاقات قوية مع العديد من المسئولين العرب ولها أنشطة مشبوهة يعرفها من يزور لندن أو يذهب إلى الدار حتى أصبحت الدار ملجأ لليبراليين والروائيين يبحثون فيه عما يريدونه في لندن . 


ومن المستغرب أن دار الساقي تنشر كثيرا من الكتب والدراسات المناوئة للمملكة العربية السعودية والمعادية لها وأغلب كتبها يمنع من النشر داخل المملكة ومع ذلك لا يمارس الليبراليون السعوديون عليها من الضغوطات ما يمنعها أو يكفها عن نشر مثل هذه المواد مع أن الليبراليين السعوديين توجهوا في الفترة الأخيرة إلى الحديث عن الوطنية والتأكيد عليها وعلى ثوابت الوطن في جميع المناسبات وهو ما لا أثر له في علاقاتهم الوطيدة مع دار الساقي حتى إنهم تجاوزوا العلاقة في النشر والتوزيع إلى إقامة علاقات أخرى في العديد من مجالات الحياة العامة . 


وقد أبدى الكثير من المتابعين استغرابا شديدا من ثنائية التعامل التي يظهرها الليبراليون السعوديين فهم في الداخل من دعاة الوطنية الكبار وأما في الخارج فلا يتورعون في التعامل مع أعداء البلاد أو المناوئين لها بل وحتى دعمهم بالمال إذا كانوا جميعا على خط واحد وهو الخط الليبرالي وننوه هنا إلى أن أغلب الليبراليين السعوديين كانوا في الماضي يحملون توجهات يسارية معادية للدولة. 


وبلغ من جسارة هذه الدار وجرأتها أنها قامت بنشر العديد من الكتب والروايات الممنوعة في أغلب الدول العربية ومع ذلك لم تتردد عن المتابعة في نشرها وطباعتها كما حصل في رواية " الخبز الحافي " فقد تم منعه من التداول في أغلب الدول العربية بما فيها المغرب بلد المؤلف بسبب ما تحمله من الإباحية المفرطة وهذا ما يدعو للإعادة السؤال الملح : ما هي القيمة الفكرية أو الثقافية الموجودة في الروايات الإباحية ؟ وما الذي يدعو الولايات المتحدة الأمريكية وبصورة رسمية أن تدعم هذه الدار باسم دعم الديمقراطية والحرية مع أن هذه الدار إنما تنشر في الكثير من الأوقات روايات متمردة ومتحررة ؟ ، والجواب عن هذه الأسئلة سيكشف عن السبب الرئيس عن الدعم وكذلك الخط العام الذي تريده الولايات المتحدة الأمريكية من حلفاءها عن طريق نشر الإباحية والانحلال والتحرر . 


بالإضافة إلى دار الساقي هناك أيضا دار الجمل وهي مملوكة للكاتب العراقي خالد المعالي وتتلقى دعما كاملا من الحكومة الألمانية ويدفع له مصاريف التنقل والسكن والشحن للمشاركة في المعارض العربية في شتى أنحاء العالم العربي ومن ضمن المعارض التي يشارك فيها تلك التي تقام في المملكة العربية السعودية ويغلب على مطبوعاته الجانب التحرري والإباحي وله رواية نشرها على أنها سيرة ذاتية له أشار فيها إلى انحرافه السلوكي وشذوذه الجنسي. 


وتجدر الإشارة إلى أن خالد المعالي وعلى الرغم من تاريخه السيئ ومطبوعاته المليئة بالشذوذ والتحرر ومنع أغلبها من دخول المملكة إلا أنه يكتب في جريدة الرياض في عمود ثابت كما كانت تكتب مي غصوب في جريدة الحياة وغيرها.

مأساة امرأة إنجليزية أحبت مصر والمصريين .. فقتلها الإنجليز


مأساة امرأة إنجليزية أحبت مصر والمصريين .. فقتلها الإنجليز

الكتاب: حياة علي النيل
الكاتبة: جانيس إليوت
عرض : أحمد فضل شبلول

تعد رواية حياة على النيل شبه الوثائقية، والتي صدرت عن سلسلة روايات الهلال ـ العدد 549 ـ للمؤلفة الإنجليزية جانيس إليوت، وترجمة سيد جاد، سيمفونية أدبية في حب مصر والمصريين، وبخاصة بعد تبرئة مصر من تهمة اغتيال أو قتل إحدى الإنجليزيات العاشقات لمصر. لقد كتبت جانيس إليوت رائعتها بعين المحبة والسائحة المثقفة التي تعرف عن مصر الشيء الكثير، وكأنها عاشت سنوات وسنوات على ضفاف نهر النيل، درست خلالها عادات الشعب المصري وتقاليده وسلوكياته ومعتقداته وانفعالاته وظروفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومواقفه من بعض الأحداث المحلية والعربية والدولية، وبخاصة في القاهرة والصعيد وأسوان، بل إنها درست بدقة، التاريخ المصري في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، وبخاصة الفترة التي تولى فيها حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول رئاسة الحكومة المصرية، وعرفت المشكلات السياسية التي أثيرت بخصوص وجود الإنجليز في مصر والسودان في تلك الفترة. ثم تنتقل جانيس إليوت لدراسة مصر الحالية ومشكلاتها في السنوات الأخيرة، وبخاصة مشكلة الإرهاب، وانعكاس ذلك على الفوج السياحي الذي انضمت إليه أثناء زيارتها لأرض الكنانة.
 وقد استطاعت الكاتبة أن تربط بنجاح ـ عن طريق عنصر التوازي ـ بين فترة الاضطرابات السياسية التي شهدتها مصر إبان ثورة 1919 والاضطرابات التي حدثت في السنوات الأخيرة، مثل أحداث الأمن المركزي وحوادث التفجير والاغتيالات والعنف والإرهاب، وما إلى ذلك، واعتمدت في ذلك على بعض الجوانب الوثائقية من خلال الخطابات والمذكرات التي كتبتها الجدة فيبي التي عاشت في أسوان في نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث من القرن العشرين، ثم كان القتل أو الاغتيال السياسي من نصيبها، وهي في أوج شبابها وأمومتها المبكرة، الأمر الذي دفع الحفيدة شارلوت ـ بطلة الرواية ـ إلى البحث العميق في محاولة الكشف عن القاتل ومعرفة الأسباب والدوافع التي أدت إلى عملية القتل.
 لقد جاءت شارلوت مع زوجها ليو هامب إلى مصر سعيا وراء معرفة الدافع الذي دفع جدتها فيبي ـ منذ أول أيام عرسها ـ إلى بقائها وإصرارها وتمسكها بها، على الرغم من المخاطر التي كانت تحيط بالجالية الإنجليزية في تلك الفترة وانتفاضة الشعب المصري بجميع فئاته وطوائفه، للتخلص من الاستعمار الإنجليزي، وخصوصا عقب نفي سعد زغلول إلى جزيرة سيشيل ثم محاولة معرفة كيف قتلت ولماذا .. ومن هم الذين كانوا وراء قتلها؟
ومن هنا تأتي الرواية على مستويين: مستوى الزمن الحاضر، والذي تتحدث فيه شارلوت عن نظرتها كسائحة مثقفة تزور مصر ضمن الفوج السياحي الذي يبحر من القاهرة إلى أسوان على أحد الفنادق العائمة، مرورا بعدة مدن ومراكز وقرى مصرية، منها سوهاج وأسيوط والأقصر، وذلك على الرغم من حوادث الإرهاب التي انتشرت في مصر في سنوات الرحلة أو الزيارة، ومن خلال هذا المستوى تظهر عدة شخصيات ضمن الفوج السياحي تعطي نوعا من الزخم والثراء في الأحداث والانطباعات عن البلد الذي يزورونه أو يسيحون فيه، ويتضح من خلال الحوار وبعض الحوادث أن هؤلاء السياح لم تكن السياحة هدفهم الأول، وإنما هناك عوامل أخرى تجذبهم إلى مصر، فضلا عن أن هناك بعض الانطباعات السلبية يحملها بعض هذه الشخصيات عن مصر. أما عن شارلوت نفسها فقد جاءت لكشف غموض مقتل جدتها، لكنها لم تكن حانقة على البلد، ولا على أهله، فقد كان يخامرها شعور بأنه ربما لم يكن للمصريين دور في تلك الجريمة، لذا نستطيع القول إن شعورها كان أقرب إلى الحيادية، وبخاصة أمام بعض العبارات مثل: ذلك النيل العجوز الذي يبعث على الملل أو أقول لك يا عزيزتي إن هؤلاء القدامى وهذا الهوس بهم، لم يكونوا إلا مجرد برابرة، تلك الضحية والإيمان بالخرافات والغازات المضغوطة والفساد، وإلا فما السبب في الغزوات المتتالية التي اجتاحتهم، أظن أنك سوف تركبين هذا النهر المريع ويلتوي عنقك من طول النظر إلى معابدهم المضحكة، .. ص 30.
 أما المستوى الثاني فهو مستوى الزمن الماضي الذي تستحضر فيه البطلة مذكرات وخطابات جدتها، وهو المستوى الوثائقي في الرواية حيث كتبت فيبي مجموعة من الخطابات لأمها وأختها في إنجلترا أثناء وجودها في عدة أماكن من مصر، مثل القاهرة وبور سعيد وأسوان وجزر الفنتين .. وغيرها. وتنجح الكاتبة في تضفير هذه المذكرات والخطابات التي أحضرتها شارلوت معها، مع أحداث الرواية في زمنها الحاضر أو مستواها الأول، حيث كانت تركن إلى هذه المذكرات والخطابات وقت الراحة والهدوء، بل إنها كانت تنسحب من بعض الحفلات والسهرات الصاخبة التي تعد للفوج السياحي سواء في الفنادق أو على ظهر الباخرة التي تشق عباب النيل، لتقرأ أو تعاود قراءة ودراسة بعض الخطابات والمذكرات والتي تنكشف من خلالها مجموعة من الأسرار عن علاقة فيبي بمجموعة من المصريين الذين أحبتهم وارتاحت إليهم، بل شجعتهم على المطالبة بالاستقلال.
 تقول فيبي في مذكرات ربيع 1919 هليوبوليس: إنني أكره وأحتقر معظم جماعة المفوضية ـ البولو والبريدج والحفلات ـ وعدني إليكس زوجها أن أقابل بعض المصريين الحقيقيين. هذه البلاد متألقة، جميلة، تختلف عن أي شيء رأيته من قبل. من هنا أريد أن أعرفها. إنها واحة في الصحراء. كل شيء رائع. يقول .. إنني أفضل فارسة تزوجها في حياته .. ينبغي تعلم اللغة العربية، وأن أحصل على وصفة بابا غنوج، الباذنجان، كل شيء هنا يزدهر، أشجار البرتقال والنخيل، أولياندر .. ص 41.
 وتقول في خطاب إلى دوروثي في ديسمير 1921: مصر التي أصبحت بالنسبة لي وطنا آمل أن أعيش وأن أموت فيه .. ص 144. وتقول في مذكرات 6 مارس 1922 : إذا لم أهتم من أجل آل حازم، ومن أجل مصر، فلن أكون أنا نفسي، وربما لم نكن ليحب أحدنا الآخر كما نفعل .. ص 150.
 وتقول في مذكرات جزيرة الفنتين ـ سبتمبر 1923: هذا هو الوطن حقا، وتضيف في مكان آخر من هذه المذكرات ليس معقولا أن أتصور أحدا في أسوان يُلحق بنا الأذى .. ص 152.
وأحيانا يختلط الأمر على شارلوت فتنظر إلى مصر بعيني جدتها فيبي وذلك عندما تتشبع بجو المذكرات والخطابات فتتساءل ص 74: هل هاتان عيناي أم عيناها؟.
 كما أنها تعقد مقارنة بين جريمة قتل جدتها ورواية أجاثا كريستي المعروفة جريمة على النيل التي تدور أحداثها فوق باخرة على النيل. ولئن كانت روايات أجاثا كريستي عرفت بأنها روايات بوليسية، فإننا في رواية جانيس إليوت أمام رواية شبه وثائقية إنسانية اجتماعية تختفي فيها صفة الرواية البوليسية على الرغم من وجود جريمة قتل يعود تاريخها إلى عام 1924 أي إلى ما يقرب من خمسة وسبعين عاما. ومع مضي الأيام من تجوال شارلوت في أسوان من أجل البحث عن الحقيقة، تعثر على بانسيه وهي عجوز إنجليزية عاشت في أسوان، وكانت على علاقة طيبة بجدتها فيبي وورد اسمها كثيرا في المذكرات أو الخطابات.
 تقول بانسيه عن فيبي: لقد أحبت مصر حبا جارفا أليس كذلك .. أما الطريقة التي ماتت بها فقد كانت رهيبة. ص 155. وتسأل شارلوت بانسيه عن سبب عدم سفرها إلى إنجلترا ولو من أجل رؤية أهل فيبي، الأسرة؟ وتفاجئنا بانسيه بقولها:
إن إنجلترا هي التي قتلتها، وهنا تصل شارلوت إلى عمق الحقيقة، وأن الإنجليز هم الذين قتلوا جدتها، لأنها أحبت مصر، وساعدت المصريين على المطالبة، بالاستقلال دون أن تعرف الحجم الحقيقي للدور الذي يمكن أن تؤديه في سبيل ذلك. لقد كان زوج فيبي مخبرا سريا، أو جاسوسا بريطانيا في مصر والسودان، وكان مُراقبا في الوقت نفسه. وقد تم رصد تحركات زوجته، وعلمت المفوضية البريطانية باتصال فيبي بالمصريين وحاولوا الوقيعة بينها وبين زوجها، فأقنعوه بأنها على علاقة آثمة بأحمد آل حازم الذي اتهم بمقتل أحد المسئولين الإنجليز الكبار في مصر، ثم تخلصوا بعد ذلك من فيبي باغتيالها.
 يقول جيوفري جيلكريست في خطاب إلى دانكان ص 174: مسكينة فيبي تلك المقابلات الأخيرة المختلسة مع آل حازم، جميعها مسجل في تقارير البوليس السري بالقاهرة. كانوا أصدقاء أسيء اختيارهم، وكانت جريمة فيبي الوحيدة هي براءتها وجهلها بخطر مثل هذه الارتباطات. لقد حصلت شارلوت من بانسيه على عدة خطابات ومذكرات في غاية الأهمية، اتضح من خلالها صحة الاتهام الذي وجهته بانسيه إلى الإنجليز. تقول شارلوت ص 177: كان هناك خطاب أخير في مجموعة بانسيه كان موجها إلى إليكس شيء رهيب .. لم يكن خطابا على وجه التحديد، كان أشبه بقصاصة لصق غفل من التوقيع، تتضمن إبلاغه أن يراقب زوجته مع أحمد حازم. وتقتنع شارلوت في نهاية الأمر أن الذي قتل جدتها هم أبناء جلدتها، وأن أحمد حازم كان يحبها، ولكن لم تكن هناك علاقة بينهما.
 وتؤكد شارلوت على حيادها تجاه مصر ـ على عكس جدتها ـ عندما تسألها إحدى صديقاتها في الرحلة السياحية بقولها:
 
وهل أنتِ وقعتِ في حب هذه البلاد ؟ تضحك وتجيب: أنا مجرد سائحة عابرة. وتنتهي الرواية بتبرئة مصر والمصريين من تهمة قتل فيبي الإنجليزية التي أحبت مصر، وتمنت أن تموت فيها، ولكن بالتأكيد لم تكن تتمنى أن تموت بهذه الطريقة، وبيد أبناء جلدتها. إنها رحلة البحث عن الحقيقة التي اعتمدت فيها المؤلفة على الوصف والإثارة والاكتشاف من خلال السرد الشاعري والسرد التقريري والإخباري، ومن العبارات الشاعرية الجميلة قولها ص 164 على لسان فيبي: أخذني إليكس زوجها في رقة كما لو كنت مصنوعة من قشر بيض، عبر النهر إلى البر الغربي، ولعل لهذا السبب وصفت جريدة التايمز المؤلفة بأنها واحدة من أحسن الأديبات المعاصرات أسلوبا، وأخصبهن خيالا.
 

الأربعاء، 22 يوليو 2015

هيكل.. تراجيديا الفرعون والكاهن !


هيكل.. ثمانون عاما في قلب الأزمات
هيكل.. تراجيديا الفرعون والكاهن
صلاح عيسى
لا بد أن مؤرخي الأجيال القادمة سيحتارون طويلا إذا ما عَنَّ لأحدهم أن يقيم الأدوار التي لعبها "محمد حسنين هيكل" على مسرح الصحافة والسياسة المصرية والعربية.. إذ المؤكد أنهم سيضلون الطريق إلى "هيكل" بين جبال من التفاصيل وتلال من الأكاذيب، ومتاهات من أدوات المكياج.
ومشكلة البحث عن "هيكل" أن فصل الذروة في عمره، كان مضيئا بشكل يعمي عن الرؤية.. ففي تلك السنوات الثماني عشرة التي انتهت في 28 سبتمبر 1970 - كان هيكل ملء السمع والبصر، لا يغادر الخشبة، ولا تخطئه أعين المتفرجين.. لا تكف تليفونات مكتبه عن الرنين، ولا تخلو غرفة سكرتيرته الشهيرة "نوال المحلاوي" من الزائرين: ملوك ورؤساء جمهوريات وساسة ووزراء ومناضلين وسفراء وكتاب ومفكرين وطالبي حاجات ينتظر بعضهم بالساعات، بلا ملل ولا شكوى بل ويمتنعون باختيارهم عن التدخين؛ لأنه يضايق "نوال المحلاوي".
كان باختصار تحت كل أضواء الدنيا، كما يليق برجل كان يوصف -آنذاك- بأنه أقوى رجل في مصر بل في الشرق الأوسط. ولعل الوهج الزائد عن الحد، الذي كان يشع منه وحوله، في تلك السنوات العجيبة - هو الذي جعل أكثر الفصول إضاءة في عمره، أكثرها غموضا وأحفلها بالظلال ومناطق العتمة.
كواليس هيكل
وليست أصول صنعة التاريخ هي وحدها التي ستفرض على هؤلاء المؤرخين المساكين العودة إلى الفصل التمهيدي الذي سبق دخول "هيكل" إلى خشبة المسرح في 23 يوليو 1952 وهو فصل استغرق عشر سنوات بدأت في عام 1942، كان "هيكل" خلالها مجرد صحفي بين صحفيين استهل حياته الصحفية وهو في التاسعة عشرة محررا عسكريا في "الإجبشيان جازيت"، ثم انتقل منها بعد عامين ليعمل في آخر ساعة. وبعد عامين آخرين وفي عام 1946 يشتري أولاد أمين - التوأمان "علي" و"مصطفى" المجلة من أستاذهم محمد التابعي فينتقل الثلاثة التابعي وآخر تلامذته هيكل والمجلة إلى دار أخبار اليوم وهناك يستقر هيكل صحفيا بين صحفيين لا هو أشهرهم ولا هو أخملهم، لكنه كان بالقطع أذكاهم!
تلك عودة لا مفر منها للماضي سيقود المؤرخين إليها فضلا عن أصول الصنعة الأمل في العثور على قبس من نور يضيء عتامة أحداث سنوات الذروة، وهو أمل لا بد أن يقود هؤلاء المؤرخين التعساء إلى فصل الختام الذي انطفأت بعده أضواء المسرح، وأنوار الصالة ولم يبق سوى تصفيق بعض المتفرجين، وصفير الآخرين وصمت الأغلبية التي عودتها المحن أن تداوي بالنسيان كل الجراح!
صداقة الكاهن مع الفرعون الشجيع
ومن سوء حظ هؤلاء المؤرخين أن حظ هيكل قد دفعه إلى المسرح ليلعب البطولتين الأولى والثانية، في مسرحية واحدة، تنتمي لزمن واحد فكان "الجان بريمييه" في الصحافة "وصديق الشجيع" في السياسة.
وما إن أسدل الستار على المسرحية، حتى اختلف الناس على الزمن ذاته. فقال الكارهون وطالبو الدم شائنين: هذا زمن الرعب النقي والقهر المصفى، وقال الوالهون غراما: بل زمن العظمة التي لم تلد ولم تولد.. وفي ضجيج المناظرة ضاعت أصوات خافتة، اغتصب أصحابها نصف ابتسامة.. وذرفوا الدمع من عين واحدة، وقالوا:
- إنه زمن عبد الناصر، آخر الفراعنة الأفذاذ، ذلك الذي كان عظيم المجد والأخطاء، وليس "هيكل" سوى كاهن تعس الحظ، مات فرعونه قبل الأوان، وتركه وحيدا بين جدران المعبد، وقد انفض المرنمون وهرب المصلون، وتغير اتجاه طوابير الذين جاءوا يوفون بالنذور، ولم يبق سوى الكاهن الأعظم يطلق البخور، ويتلو التعاويذ، وينشر الوثائق، ويعد أسانيد الدفاع.. فسبحان الذي بيده الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير!
وهكذا يتعقد الطريق إلى هيكل وتكثر فخاخه، وتتداخل الحدود بين معالمه وعوالمه.. مع أن هيكل كظاهرة تاريخية، ليس أكثر من تنويع على ثنائية مصرية شهيرة وكثيرة التكرار - هي ثنائية الفرعون والكاهن فهكذا كان حظنا، أو هكذا كانت عبقرية المكان الذي نحتله على خريطة الدنيا أن يحكمنا دائما فرعون قد يأتي فيملؤها عدلا ونورا أو يأتي فيملؤها ظلما وجورا لكنه في كل الأحوال معبود بقوة القهر أو قوة الحب أو قوة النهر الذي فرض علينا دائما أن نخضع لقوة مركزية جبارة، تحفظ الاستقرار وتنظم تدفق المياه في ملايين من قنوات الري التي تخرج منه، حتى لا يجتاحنا الفيضان أو يقتلنا الجفاف، لذلك كان منطقيا ألا يستغني الفرعون عن كاهن يعطي الروح لقوة القهر وقوة الحب، ويبشر ويفسر ويزين ويدافع ويهاجم ويحشد المصلين في بهو المعبد.
وهكذا كان عبد الله النديم كاهن أحمد عرابي وترجمانه إلى قلوب الناس وكان بسيطا كزعيمه، ومخلصا وسيئ الحظ مثله!
وكان عباس العقاد هو الكاتب الجبار للزعيم الجبار سعد زغلول يدافع عنه، ويشن الغارات على أعدائه، ويطلق نيران قلمه الجبار عليهم فتتناثر جثثهم على صفحات الصحف.
وكان محمد التابعي هو صحفي مصطفى النحاس حارب إلى جواره بالمانشيت والخبر والمقال القصير والتعليق الساخر!وكان هيكل كما قال هو نفسه آخر تلامذة محمد التابعي.
هيكل في مدرسة التابعي
وخلال السنوات التي قضاها مع التابعي ثم مع أولاد أمين كان يراقب بذكائه المشع قوانين لعبة الفرعون والكاهن يدرسها عن قرب، ويحللها بعمق ويحفظها ظهرا عن قلب، وكان محمد التابعي قد لقن تلامذته أن الصحفي يمكن أن يكون صاحب جلالة حقيقية، وملكا يملك ويحكم دون أن يغادر مقعد رئيس التحرير؛ لأن الصحافة صاحبة جلالة فعلية، فطالما أن الفرعون لا يستغني عن الكاهن، ولا يعيش دونه، فمن واجب الصحفي أن يرتقي بمهمته ومهنته من مجرد نشر الأخبار إلى المشاركة في صنعها، ومن حقه أن يكون طرفا في تخليق الحدث، الذي ستقع على عاتقه مهمة تزيينه أمام الناس، أو تفسيره لهم، وذلك ما كان يفعله التابعي المعجباني، المفتون بذاته، الذي يعرف قيمة وتأثير وسحر كهانته، فكان يشارك في تشكيل الوزارات وفي حل الأزمات وفي تدبير الانقلابات.
وحين انتقل هيكل إلى أخبار اليوم وعرف صاحبيها علي ومصطفى أمين وجد نفسه قريبا إلى الجيل السابق عليه من تلامذة "التابعي"، وعاين عن قرب عالم الكهانة. وعرف صورة منها في فتوتها.. فقد كان "أولاد أمين" هم نجوم ذلك الزمن. كان علي ومصطفى أمين يمرحان في أبهاء القصر الملكي، ويصادقان الحاشية، ويتصلان بالوزراء. ويستقبلان السفراء والزعماء، ويعرفان أسرار المفاوضات ويحملان الرسائل بين أبطال المسرحية ويطلعان على ما يجري في غرف النوم وما يدور بين الفراعين من صراع على اللحم والدم والعواطف ويطلقان البخور بين أعمدة الهيكل.
وربما يُدهش كثيرون لأن هذا الفصل التمهيدي من عمره قد انتهى، وهو مجرد عضو منتسب في نادي الكهانة، فانتصرت ثورة يوليو وهو لا يعرف من فراعين "العهد البائد" سوى اثنين أو ثلاثة من فراعين الدرجة الثانية، كان بينهم "علي الشمسي باشا" و"نجيب الهلالي باشا" لعله تعفف العاجز المغلوب على أمره، ففي تلك السنوات كان المعبد مزدحما بديناصورات الكهان: أولاد أمين وأولاد أبو الفتح وفارس نمر وفكري أباظة وكريم ثابت، وكان الصراع محتدما بين ديناصورات الفراعين: الملك فاروق والسفير البريطاني ومصطفى النحاس وأحزاب الأقلية.
ولأن "هيكل لم يكن يوما أحمق فإنه لم يقتحم الحلبة، ليصارع على مرتبة الكاهن الأعظم ربما لأنه أدرك بواقعية أنه يكاد يخلو من كل الأسلحة التي تؤهله لخوض الحرب فهو لم يولد كأولاد أمين في بيت سعد زغلول، ولم يتعلم في جامعة جورج تاون وجامعة شيفلد كما تعلما، ولم تحمله الملكة الوالدة و"تهشكه"، وهو شرف ناله التوأمان وهما رضيعان ولم ينله هيكل فكل مؤهلاته أنه ابن أسرة مستورة، تنتمي للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، وكل شهاداته هو دبلوم التجارة المتوسطة ودبلوم في القانون والإعلان، حصل عليه بالمراسلة، من أحد المعاهد الأجنبية، ودرس سنتين بقسم الدراسات الاقتصادية بمدارس الليسيه الفرنسية، ولعله لم يقتحم الحلبة أيامها ليحصل على مكانة الكاهن الأعظم؛ لأنه أدرك أن عرش الفرعون الأعظم خالٍ، وكان معنى ذلك أن الصراع الذي يدور على موقع الكاهن الأعظم هو مجرد حماقة أما معناه الأعمق طبقا لقوانين التاريخ المصري فهو أن قمر الزمن قد أوشك أن يدخل في المحاق وقد كان.
هيكل يتربع على عرش الكهانة
هوى قمر الزمن الماضي ليطمره المحاق، وزحف الفراعين الشائخون يتوكئون على عكاكيزهم وفي معيتهم زحف شيوخ وشباب الكاهن وقبلة الكل معبد الفرعون الجديد، في ذلك المبنى الذي ما يزال إلى الآن يحمل اسم مجلس قيادة الثورة، وشعار الجميع مات الملك عاش الضباط الأحرار، وبينهم كان هيكل أصغرهم سنا، وأكثرهم ذكاء وطموحا وأبعدهم عن شبهات هؤلاء الضباط الشبان الخشنة الوجوه والملابس والكلمات؛ ولأنه كان مجرد عضو منتسب في نادي كهان الزمن المنهار، فإن الشبهات التي أحاطت بدار أخبار اليوم مركز الكهانة الرئيسي للفرعون المخلوع لم تلحقه مع أنه كان أحد كواكبها اللامعين، وفي اليوم الثاني للثورة، كان كبيرا الكهنة مصطفى وعلي أمين يعتقلان بسبب وشاية لم يتثبت منها أحد، وكان هيكل يذهب في صحبة الأستاذ التابعي ليتوسط للإفراج عنهما، ومع أن المياه قد عادت إلى مجاريها، وساد الوئام بين الفراعنة الجدد وبين أخبار اليوم وكهانها، إلا أن الشبهات التي أحاطت بالكاهنين الكبيرين كانت مؤشرا على أن فراعنة الزمن القادم، ينظرون بريبة إلى كهنة الزمن المنهار.
سبحانك اللهم.. "تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ".
سقطت معظم الحواجز التي كانت تقف بين "هيكل" وبين عرش الكهانة، الذي أصبح الآن - 1952 - خاليا!
كان الفراعين الجدد أولاد عائلات مستورة مثله، ولم يكن أحدهم قد نال شرف "تهشيك" الملكة الوالدة!
وكان الكهنة القدامى قد خرجوا من السباق بعد أن قعد بهم الروماتيزم وقيدتهم الشبهات، فلم يتحركوا من مكانهم على الخشبة!
وكان الزمن القادم يبحث عن كاهنه وشاعره ومغنيه!
أما المنافسون الحقيقيون، فقد كانوا الفرسان الذين شاغبوا على الزمن القديم، وشنوا الغارة ضده، وكان بينهم ثلاثة على الأقل، يعرفون كثيرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة معرفة وثيقة إبان سنوات الإعداد لها ويصادقون "عبد الناصر" و"عبد الحكيم عامر" و"صلاح سالم" والآخرين. لمع من بينهم، في العامين السابقين على الثورة "إحسان عبد القدوس"، صاحب معركة "الأسلحة الفاسدة"، و"أحمد أبو الفتح" بطل معركة قوانين تقييد حرية الصحافة، و"حلمي سلام" صاحب الحملة على فساد إدارة الجيش.
ذلك سباق لم يكن لهيكل مكان فيه، فقد قامت الثورة وتقارير القلم المخصص تقول عنه إنه "بلا لون سياسي". ومع أنه قد عمل في "الإجبشيان جازيت" ذات الصلة التاريخية بدار المندوب السامي البريطاني، وفي "آخر ساعة" المجلة الوفدية المتشددة، ثم في "أخبار اليوم" جريدة القصر، فإنه دخل هذه الصحف كلها وخرج منها وقد حافظ على "نقائه السياسي" فظل بلا "لون"!
والغريب أن هذا السباق انتهى فجأة، بعد عامين فقط من قيام الثورة، إذا بهيكل الذي لم يشغب على العهد القديم، ولم يصنف بين الثائرين عليه، يفوز بمنصب الكاهن الأعظم، أما "أحمد أبو الفتح" فقد أغلقت جريدته "المصري" وهاجر ليعيش في المنفى عشرين عاما، وتحطمت ذراع وضلوع "إحسان عبد القدوس" إبان تلقيه لدروس في الكهانة في إحدى زنازين السجن الحربي. وكان "حلمي سلام" يلهث هناك في آخر الطابور، حتى جاء اليوم الذي قادته فيه الرغبة في الانتصار على "هيكل" إلى حماقة سارت بذكرها الركبان!
في تلك السنة -1954- أثبت الفراعين الجدد أنهم "أولاد آمون" حقا، فإنهم يفضلون هؤلاء الذين بلا لون؛ لأنهم سيخلقون لونهم الخاص من ناحية، ولأنهم - وهذا هو الأهم - لا يريدون شغبا يفسد عليهم الاستقرار الذي يريدونه، لصنع مصر التي يريدون!
مرحلة الوهج في حياة هيكل
وهكذا بدأت سنوات المجد التي كان وهج هيكل خلالها يكاد يعمي الأبصار، واحتل الفتى الريفي القادم من "باسوس" أقرب مكان إلى القمة.. وتخلق لأول مرة، وبشكل يكاد يكون مثاليا، حلم محمد التابعي في أن يصبح الصحفي صاحب جلالة حقيقية.. فجلس "هيكل" - آخر تلامذته - على مقعد بجوار عرش الفرعون الذي جاء من قرية "بني مر" ليملأها عدلا ونورا بعدما ملئت ظلما وجورا!
لم يحصل "هيكل" على كرسي الكهانة بالصدفة، بل تطبيقا لقوانين التاريخ.. ولأن عبد الناصر لم يكن فرعونا تافها فإن كاهنه كان مقتدرا وذكيا وموهوبا بالفطرة، ورث كل علوم الكهانة من عصر "مينا" فلم يبدد ما ورثه، بل أضاف إليه وطوره، وعصرنه.. ولا بد أن الذي ساعده على الإتقان إحساسه الصادق أن كهانته كانت - في الأغلب الأعم - تدافع عن قضايا معظمها حق وعدل، وسوف يمضي زمن أطول مما يقدر أكثرنا تفاؤلا، قبل أن تتكرر ثنائية "الفرعون" و"الكاهن"، بهذا المستوى الرفيع، ذلك أن "هيكل" لم يمارس دوره بمنطق الكهنة المأجورين، بل بروح العشاق المفتونين، فسخر كل مواهبه في خدمة الفرعون الذي جاء من هناك -حيث الكل في واحد- يصوغ له الخطب والرسائل ويؤلف له كتابا في الفلسفة وميثاقا في العمل الوطني وبيانا في 30 مارس، ويقرأ عليه الكتب وبرقيات وكالات الأنباء ويلخص له الصحف والإذاعات ويسفر بينه وبين ساسة العالم ودبلوماسييه وصحفييه ومناضليه وأفاقيه ويخرج له قراراته الكبرى، بشكل يعجز عنه أكثر المخرجين المسرحيين اقتدارا، ويكتب عنه وله، كل أسبوع "ترانيم يوم الجمعة"، فيزود المريدين بنشيد يترنمون به في هيكل المعبود، وينحت له تلك الكلمات الإسفنجية التي تمتص دموع الكوارث وترفع من لعلعة زغاريد الانتصار، فهو الذي سمى كارثة الانفصال "نكسة"، وهو الذي أطلق الاسم ذاته على هزيمة يونيو 1967، وهو صاحب التعبير الشهير الذي نشر على لسان المشير "عبد الحكيم عامر" قبل الكارثة بأيام: نحن نملك أكبر قوة ضاربة ورادعة في الشرق الأوسط.
العاشقان.. عبد الناصر وهيكل
ويقبل الليل، فلا ينام "هيكل" بل يظل قابعا بجوار التليفون الأبيض الذي يصل بينهما، فإذا رن جرسه الموسيقي.. بدأت مساورة الليل بين الاثنين.. وتواصلت الساعات، كما يفعل الرومانسيون من العشاق.
ولعل "هيكل" هو الوحيد ممن كانوا حول عبد الناصر، الذي ظل نجمه يعلو في اطراد ولعله الوحيد الذي نجا من آثار المعارك الدموية التي كانت تدور في كواليس القصور وبين مراكز القوى ومديري المكاتب، مع أن كل الذين كانوا حول عبد الناصر، كانوا يحسدون هيكل على مكانته لديه ويكرهونه لذلك، ويرفضون بدرجة من التعالي، فكرة أن يكون هذا الصحفي المدني، أكثر قربا لعبد الناصر منهم! وكان ما يرفضونه، هو أحد أسباب تمسك عبد الناصر بهيكل، إذ كان أقرب ما يكون لوجه مدني لثورة 23 يوليو، أمام الذين لا يستريحون -أو لا يثقون- في الانقلابات العسكرية.. ثم إنه كان نافذة أرحب على العقلية المدنية التي تفتقدها الأجهزة الحساسة المعاونة لعبد الناصر، وبهذه العقلية المدنية، وبقربه من عبد الناصر استطاع "هيكل" أن يوقف كثيرا من المهازل أو المظالم والكوارث، واستطاع -وهذا هو الأهم- أن يثبت أن المجتمع المدني المصري ما زال قادرا على أن يقود بحكمة، ويدير برشد لذلك خاض ببسالة معركة تجديد "شباب الأهرام" فلم ينجح خلال فترة رئاسته لتحريرها "1957 - 1974" في وقف خسارتها فحسب، بل نقلها إلى الربح ثم الازدهار، ورفع توزيعها من مائة ألف نسخة عام 1958 إلى 420 ألف نسخة عام 1974.
الأهرام سفينة نوح
في تلك السنوات جعل "هيكل" من "الأهرام" أشبه بسفينة نوح، وحشد فيها ألمع ما في الوطن من عقول ومواهب وكفاءات وآراء، وأضفى على العاملين بها بعض حصانته، ومنحهم -على مسئوليته- جانبا من الترخيص الممنوح له، فعبروا بشيء من الحرية، وفي أحوال ليست كثيرة عن آرائهم، حتى تحولت إلى مركز عصري للكهانة يزدحم بالعلماء والأدباء والمفكرين والفنانين وأصحاب المذاهب ومن كل صنف زوجين اثنين.
لكنها رغم كل ذلك، ظلت -كسفينة نوح- جزيرة صغيرة تائهة بين أمواج عالية كالجبال تحاصرها من كل الجهات.
"هيكل" لم يكن يستطيع - في ظل موازين القوى التي كانت تحيط به - أن يفعل أكثر مما فعل، ولعله أيضا لم يكن يريد!
والواقع أن "هيكل" لم يكن يوما من هؤلاء الشباب الطائشين الذين يتوهمون أن الواقع يمكن أن تغيره مظاهرة، أو تعيد تشكيلة خلية ثورية، وكان هذا أحد أسباب بقائه بلا لون سياسي حتى قامت الثورة، مع أن اللعب بالبالونات السياسية الملونة، كان الموضة السائدة في مصر الأربعينيات... وبين جيله من الصحفيين والكتاب... إذ كان من ذلك النوع الذي يؤمن أن التأثير في القمة أضمن وأسهل وأكثر إدراكا للهدف، من الاعتماد على تلك الكتل من الجماهير غير الواعية، التي لا تعرف ما تريد، والتي صعب الاطمئنان إليها، أما وقد جلس على مقعد الكاهن الأعظم، وأصبح أقرب ما يكون إلى التأثير في هذه القمة، فقد اكتفى بذلك. وبعد أن مات عبد الناصر قال "هيكل": إن العلاقة بينهما كانت علاقة حوار مستمر، لكنه لم يقل إن دائرة الحوار الكهربائية كانت مغلقة عليهما.. ولعلهما كانا الوحيدين اللذين يتحاوران في ذلك الزمن البعيد المجيد!
الكاهن بعد موت فرعونه
وقد خرج فيما بعد بنظرية تقول إن عبد الناصر لم يكن في حاجة إلى حزب يعتمد عليه، وينظم جيوش المريدين الذين تدفقوا بعشرات الملايين إلى حضرته، إذ كان لديه هذا الحزب ممثلا في أجهزة إعلامه القوية التي كانت تقوم بما يقوم به الحزب، وتلك قمة كهانة هيكل، فالشعوب في رأيه خلقت لتسمع وتقرأ، لا لتتكلم أو تكتب، والكاهن هو "حزب" الزعيم أو هو "شعب" الفرعون.. أما عبارات ومصطلحات.. مثل "الشعب المعلم" و"الشعب القائد" و"إرادة شعبنا" -وهي بالنسبة له أمر لا يرد- التي صاغها "هيكل" وألقاها عبد الناصر فلم تكن سوى دليل على تفوق "هيكل" في كتابة الإنشاء!
وهكذا تحولت العلاقة بين الفرعون والكاهن إلى صداقة عميقة، واندماج فعلي، وكانت الكهانة المقتدرة قد صنعت من الانتصارات التي توالت في سنوات المد، أساطير أحاطت رأس الفرعون بأكاليل الأزهار، وفي نهاية ذلك الزمن الذي بدا وكأن الفرعون قد دمج نفسه في الكاهن، وأن الاثنين قد دمجا الوطن فيهما، وأن الذي جاء من هناك حيث الكل في واحد، قد انتهى إلى هناك، حيث الكل -أيضا- في واحد! وكانت النكسة تزحف -كالقدر- بخطى حثيثة لتهدم المعبد على رءوس الجميع.
وجاء اليوم الذي مات فيه عبد الناصر قبل الأوان:
خلا المعبد من الفرعون القوي القادر المعبود، انفض سامر المريدين وصمتت أصوات المرنمين، وبقي الكاهن وحيدا تحيط به عواصف من كراهية كل الذين أحفظتهم مكانته من الفرعون الراحل. وفي ذكرى الأربعين لوفاة الفرعون -وهي تقليد فرعوني- كتب "هيكل" مقاله الشهير "عبد الناصر ليس أسطورة" الذي حكم فيه بأن الزعيم الخالد - هكذا كان "عبد الناصر" يسمى رسميا أيامها - كان واحدا من البشر، وليس أسطورة وأنه لم يترك معبدًا ولم يعين للمعبد كهنة.
وكان المقال واحدا من ذرى كهانة "هيكل" المقتدرة أراد أن يضرب به ثلاثة عصافير بحجر واحد، فينزع من مجموعة "علي صبري" فضلا كانت قد نسبته لنفسها بزعمها أنها تضم تلاميذ عبد الناصر ومريديه والأمناء على رسالته، ويرضي السادات الذي كان هذا الزعيم في جانب منه، يستهدف التقليل من مكانته، وأخيرا فإن المقال ينكر حق الكهانة على غيره ليحتفظ به لنفسه!
وأدمن الكهانة
والواقع أن "هيكل كان قد أدمن الكهانة، لذلك راهن على أنور السادات رغم أنه كان أكثر الناس علما بأن المسافة شاسعة بين الفرعون والمتفرعن. ولم يكن أمامه مفر من أن يفعل ذلك، فقد كانت عواصف الكراهية التي يحركها علي صبري وجماعته، توشك أن تقتلعه، أما السادات الذي كان طوال عهد عبد الناصر كامنا بين أعواد الذرة، كأولاد الليل يتفرج على صراع السلطة، فلم يكن بينهما ما يدعوه للخوف منه!
وكانت كهانة "هيكل" المدربة، هي التي اقترحت على "السادات" أن يختار قضية الحريات العامة والشخصية، والاعتقالات الكيفية وغير القانونية، والفصل عن غير الطريق التأديبي، والتصنت على التليفونات ـ موضوعا للصراع مع "علي صري" ومجموعته الذي تفجر في 15 مايو 1971، بينما كان "السادات" يريد أن يعلن السبب الحقيقي للصراع، وهو سعي المجموعة لمشاركته في السلطة، ورفضها لاستئثاره بها منفردا وتحفظها وشكها في محاولاته للتقرب مع أمريكا.
وهكذا أنقذت كهانة "هيكل" المحترفة "السادات" من حماقته التي كانت كفيلة بأن يتصدى الناس له، ويرفضوه، واختار له هدفا وشعارا، قربه - في بداية عهده - من قلوبهم.. وكشف عن أنه كان يعلم طوال الوقت أن مشكلة نظام "عبد الناصر" مع الملايين الذين أحبوه ومنحوه ثقتهم كانت هي الحريات الديمقراطية!
وفيما بعد أنقذ "هيكل" السادات من مطب آخر، إذ كان هو الذي أشار عليه، بعد أن فشلت الجولة الأولى من مباحثات الاشتباك الثاني في مارس 1975، بأن يفتح قناة السويس للملاحة البحرية، وأن يختار يوم 5 يونيو موعدا لذلك الافتتاح، ليمحو عار هزيمة 1967، ويحول يومها من يوم للحداد العام إلى عيد لفتح القناة رغم علمه بأن إغلاق القناة كان آخر أوراق الضغط التي كان السادات يملكها بعد أن تبددت الثمار السياسية لنصر أكتوبر بسبب اندفاعه الأحمق لجني أي ثمار!
وفي المرتين أثبت "هيكل" أن احتراف الكهانة يمكن أن يحولها إلى هدف في ذاتها وأن الكاهن قد يبدأ مبشرا بقضية.. وينتهي إلى ممارسة الكهانة في خدمة أي هدف.. إذ كان أول من يعلم أن "السادات" هو آخر إنسان في العالم، يمكن أن يكون صورة من "عبد الناصر".
مصارعة السادات
لكن "هيكل" لم يهنأ طويلا بالقرب من السادات، فقد كان الرجل الذي ظل منزويا ومجهولا وبلا مكانة طوال عهد عبد الناصر، يريد أن يثأر لسنوات الإهمال المتعمد، التي كان فيها "هيكل" أقوى منه نفوذا وأعلى منه مكانة، بل كان يلجأ إليه أحيانا ليحل له مشاكله.. وكان يطمح أن يكون آخر الفراعنة، ولذلك أراد كهنة لم يرتبطوا في وجدان الناس بأحد سواه وخاصة بـ "عبد الناصر".
ورفض "هيكل" بعناد كل محاولات السادات لتطويعه، أو مساواته بغيره من الكتاب والصحفيين، أو نقله من مركز كهانته في "الأهرام" إلى حيث يصبح وزيرا من الوزراء، أو نائبا لرئيسهم، أو مستشارا للرئيس فقد كان يدرك بذكائه وخبرته، أن تلك كلها مناصب أقل أهمية وتأثيرا لذلك طالب بما سماه في روايته لما دار بينه وبين السادات حول هذا الموضوع بـ"مكان ومكانة الصديق" أي بمنصب الكاهن الأعظم، ذلك الدور الذي عشقه وأتقنه وبرع فيه، وحفر بسببه اسمه على أحجار التاريخ.
وجاء رفض السادات لشروط "هيكل" ليفض الاشتباك بين الرجلين. فانتقل "هيكل" خطوة بعد خطوة إلى صف المعارضين للسادات.
وترك في ذمة التاريخ سؤالين:
الأول: هل كان "هيكل" سيدافع عن توجهات "السادات" السياسية لو أنه أشركه معه في إخراجها، واحتفظ له بمكان ومكانة الصديق، أي بمنصب كبير كهان الهيكل؟!
والاحتمال الأرجح أنه كان سيفعل!
والثاني هو: هل كان مصير السادات سيختلف عن المصير الذي انتهى إليه بالفعل، لو أنه احتفظ بهيكل كاهنا لمعبده؟!
والإجابة بالقطع نعم!
وجرت في النهر مياه كثيرة:
في 3 سبتمبر 1981... وجد "هيكل" نفسه سجينا في إحدى زنازين سجن الاستقبال بمنطقة سجون طره الواقعة جنوب العاصمة المصرية!
حدث الذي لم يكن أحد يتخيله أو يتوقعه.. ووجد "هيكل" إلى جواره، في الزنزانة بعض الذين نازعهم ونازعوه سدانة المعبد، ممن كانوا يسمون آنذاك بـ"مراكز القوى".
وفي 28 سبتمبر 1981، اعتذر "هيكل" عن الحديث في احتفال كنا -على سبيل التحديث- قد قررنا إقامته في ذكرى وفاة "عبد الناصر" واختفى في زنزانته، وقال لي أحد الذين يشاركونه سكناها من زملائنا المعتقلين: إنه أخفى وجهه تحت غطائه واندفع في بكاء حار!
وفي 6 أكتوبر 1981 سمعنا خبر مقتل السادات... ورغم المشاعر المتعددة التي ناوشتنا بعد سماعه، فقد كان "هيكل" هو الوحيد الذي أغلق عليه باب زنزانته، واندفع مرة أخرى في بكاء عنيف!
وكان صوت جميل يأتي من بعيد، يتلو قول الله عز وجل: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".

الثلاثاء، 21 يوليو 2015

الطغاة يحبّون الكتب أيضاً!


الطغاة يحبّون الكتب أيضاً!
الذاكره

الذاكرة- في خضم الاحتفال ببيروت عاصمة عالمية للكتاب، ينبغي التأمّل في وجه آخر للكتاب في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية.لا يحمل الكتاب دائماً طيف الحضارة والمعاصرة، وبذور الإنسانية. يعتقد كثر أن أدولف هتلر، كان ميالاً الى الصراخ أكثر من ميله الى القراءة. إلا أن الكاتب الأميركي تيموثي رايباك في كتابه «مكتبة هتلر الخاصة» يخالف هذا الرأي. هذا الكتاب الذي تناولته وسائل الإعلام كثيراً، يجعلنا نفكر ملياً في الكتب التي كان يطالعها الزعيم النازي، ومن أين استمد «أفكاره» الرهيبة، بل من أين استقى جنونه ونزواته الوحشية، هل كانت الكتب سبباً في دفعه باتجاه التدمير والخراب؟ ربما، لأن الكتب كما الأفكار تقتل أحياناً بل كثيراً.
يُعرف هتلر بحرقه الكتب أكثر من اعتزازه بها. فهو لم يكن فحسب ذلك الرجل الذي أشعل حرباً كونيّة انطلقت شرارتها الأولى من أوروبا التي عرفت الدمار والقتل، بل كان أيضاً رجلاً يهتم بالكتب، وهذا ما تدلّ عليه مكتبته الخاصة التي اشتملت على نحو 16 ألف كتاب. يتعقبها تيموثي رايباك، الذي عثر على أول كتاب اشتراه هتلر في عام 1915 عندما كان مجرّد عريف في الجيش الألماني(غزا شمال فرنسا آنذاك). صفحات الكتاب ملطخة قليلاً بالوحل، لأن هتلر كان يقرأه داخل الخندق.
عند سقوط برلين في عام 1945 اكتشف الحلفاء أن مكتبة الفوهرر تحتوي على أكثر من 16000 كتاب، من بينها مؤلفات شكسبير(«هاملت» وغيرها) و{دون كيشوت» لسرفانتس و12 سيرة تؤرّخ حياة فريدريك الأعظم وكتاب لسيرة نابليون، ومئات الكتب التي تتناول نظريّة تفوّق الآريين.
اكتسبت المكتبة أهمية واسعة الى درجة أن «النيويوركر» قدمت عنها ريبورتاجاً مصوراً عام 1935.
يؤكد رايباك أن هتلر كان مفتوناً برواية كارل ماي {مغامرات الهندي الماكر وِينُّوتُو} التي فتنت تلامذة ألمانيا كلهم. وقد نصح جنرالاته جميعهم في الجيش الألماني بقراءتها لأنه كان يعتبر البطل الصغير وِينُّوتُو خبيراً في الخطط التكتيكية.
غنائم حرب
في المكتبة جزء خاص بمؤلفات موقّعة من مؤلفيها، كانت تُرسل إلى هتلر بمجرد طباعتها ونشرها، ومن ضمنها تواقيع لها قيمتها الفعلية لكتّاب ومفكرين وفلاسفة كبار. وبحسب بعض المؤرخين، تفرقت الكتب التي جمعها هتلر عقب الهزيمة التي مُني بها في الحرب العالمية الثانية على يد الحلفاء، فقد حمل الجنود الأميركيون الذين تواجدوا في بافاريا بعضاً منها كغنائم حرب. وفي برلين فعل الجنود السوفيات الأمر نفسه، إذ استخدموا الكتب كهدايا. لم يبقَ من مكتبة هتلر سوى 3000 كتاب، 1200 منها محفوظة في مكتبة الكونغرس الأميركية.
بالنسبة إلى هتلر الذي كان يعدّ نفسه مفكراً، وفيلسوفا أحياناً، ورساماً لا تزال لوحاته تُباع في المزادات العالمية، فقد أعطى للكتب ومؤلفيها أهمية بالغة سواء في خطبه أو حتى في مذكّراته التي خرجت في جزئين بعنوان «كفاحي». وفي سيرته أفرد مساحات لا بأس بها للحديث عن الكتب، لكن هذه المساحة لم تكن إلا دليلاً على ضحالته الشديدة، خصوصاً أن الوثائق التي تركها بخط يده كشفت عن أخطاء إملائية غير محدودة في لغة الشعب الذي يمجّده.
عنصريّة
رصد رايباك مؤلفات كانت تحتوي على مضامين فكرية أو انفعالية بَنَت أو ساهمت في بناء شخصية هتلر، وبالتالي أثّرت في خطاباته وأعماله العلنية. فتبين له أن الزعيم النازي اقتنى مؤلّفات معادية للسّاميّة، وتتّسم بالعنصريّة، وأبرزها كتابان أميركيّان، الأوّل للمحامي ماديسون غراند وعنوانه «انحدار العرق النّبيل» (1916)، ودعا فيه مؤلفه الى طرد المهاجرين الجدد وعدم قبولهم، أمّا الكتاب الثّاني فلهنري فورد الصناعي الأميركي وصاحب طراز السيّارات الشّهيرة وعنوانه «اليهودي الدولي: أكبر مشكلة في العالم». وأكّد هتلر ذات مرّة أنّه يعتبر فورد أحد أبرز ملهميه، أضف إلى ذلك أن فورد طالما صرّح عن إعجابه الشديد بالزعيم النازي.
وبين تلك الكتب أيضاً مؤلفات لمؤلفين كتبوا عن التمييز العنصري ومعاداة السامية: هانس غانتر، بول لاغارد، أنطون دركسلر، هنريتش كلاس، أوتو دييكل، ودتريش إيكارت. واشتهر الأخير بأنه كان يخلط بين الأسطورة الألمانية وإيمانه بالسحر والتنجيم. هؤلاء كلهم اعتبرهم نقّاد العالم في خانة المتعصّبين والمرفوضين فكرياً، لكنهم كانوا يتربعون بفخر في مكتبة الفوهرر.
كان هتلر يقرأ مؤلفات ماكيافيلي والفيلسوف فيخته، الذي كان الأكثر قرباً من الفوهرر، وبحسب ريباك «كان فيخته الأكثر قرباً من هتلر ومن حركته السياسية القومية الاشتراكية، وذلك في صياغة تفكيره كما في دينامية حياته». والمعروف عن الفيلسوف أنه صاحب آراء كثيرة ذات نزعة فاشية. كذلك كان هتلر حريصاً على قراءة، وإعادة قراءة، كلاوزفتس، منظّر الحرب الكبير، ومكيافيللي، صاحب نظرية «الغاية تبرر الوسيلة».
كراهية المثقّفين
أنفق هتلر كثيراً من الوقت لمطالعة كتب تحوي مساجلات العداء للسامية، فضلاً عن تبسيط المعرفة العلمية الخاصة بتفوّق الجنس الآري. وأسرف في قراءة مؤلفات أسهبت في شرح دور اليهود المدمّر في الاقتصاد الألماني، وفي إلحاق الهزيمة بألمانيا في الحرب العالمية الأولى. والمعروف أن هتلر كان يكره المثقفين وينعتهم بـ{هؤلاء المتطاولين على الثقافة»، خصوصاً إذا كانوا يهوداً. وعلى رغم ذلك كان يملك بعضاً من كتبهم، والأرجح أنه قرأها كي يعرف كيف يواجه أولئك المثقفين. وبرر الزعيم كراهيته للكتب التي كانت تحتل مكانة راقية في الحياة الثقافية الألمانية بأن «تسعة أعشار القذارات في ميداني الأدب والمسرح أنتجها شعب الله المختار (اليهود)، وهم لا يزيدون على 1% من السكان».
يقول رايباك: «إذا كان الناظر إلى مكتبة هتلر ومحتوياتها لا يعرف هوية مالكها، يستنتج التالي: «صاحب المكتبة عرف كيف يختار كتبه الكلاسيكية العظيمة، وهو إنسان يحب الحرب، وبالتأكيد من الفئة المعادية للسامية، ويؤمن بالتنجيم وبعلم الغيب واستكشاف الطالع، ويتمتع بفضولية كافية لتجعله يشتري كتباً متنوعة، بالإضافة إلى أنه غريب بعض الشيء... على رغم ذلك كله، ما من شيء في المكتبة ومحتوياتها يشير الى أن صاحبها أشعل النار في أوروبا وجعل الدم يسيل في حرب شملت العالم وأنه السبب في مقتل الملايين من البشر».
وكُتب عن هتلر: «الرجل الذي كان يحرق الكتب بالملايين كان يهوى جمعها بالآلاف»، وهنا تكمن النقطة الأساسية التي جعلت الأميركي رايباك يتحمس لتفنيد المكتبة.
وجد الكاتب بعض مؤلفات علمية كان هتلر يراجعها «عله يحصل منها على معلومات قتالية مفيدة أو معلومات علمية تساعده على الفتك بالبشرية»... من بينها مثلاً كتاب علمي تقني يعود الى العام 1931 ويشرح كيفية استخدام الغاز القاتل الذي يسمى «زيكلون ب»، الى ما هنالك من تفاصيل مثيرة يكتشفها القارئ بين الصفحات. من بين المؤلفات أيضاً كتاب «ألكسندر الكبير»، الذي ربما قرأه هتلر قبيل انتحاره في 30 أبريل (نيسان) عام 1945.
كان هتلر يعاني عقدة نقص كبيرة حيال مستواه العلمي المتدني، فهو ترك المدرسة ولمّا يبلغ 15 عاماً، وكانت ثقافته ضعيفة، لكنه توهّم في ما بعد أنه «قد يصبح شاعراً أو كاتباً أو فناناً تشكيلياً أو فيلسوفاً». هتلر الرسام، طلما كره الفن التشكيلي واعتبره مؤامرة يهودية على الثقافة الآرية. وأراد أن يرى الألمان في الرسم ما رآه هو في هذا الفن وأن يتميزوا مثله بأنه سلبي وانهزامي «متخلف ومنحط».
من سوء حظ هذا العالم أن هتلر ترك الرسم واتجه إلى العمل السياسي، يقال إنه رُفض في المعهد فانتقل الى السياسة، لأنه كان رساماً فاشلاً، وحين وصل الى السلطة صبّ جام غضبه على معظم الرسامين المجددين، فأحرق لوحاتهم وقتل بعضهم.
قال البعض لو أن المعهد قبِل هتلر في امتحانات الرسم لكان أنقذ العالم من الهلاك، ربما، من يعرف كيف كانت الأمور ستجري؟
غابت أعمال أشهر الفلاسفة الألمان من «مكتبة هتلر»، ما يشير إلى أنه لم يكن عاشقاً لإنفاق الوقت في حل طلاسم الأفكار الفلسفية، مستعيضاً عنها بمجموعة أفكار جاهزة حفلت بها الكتب اليمينية حول أطروحات تفوّق الألمان الآريين على غيرهم من الأجناس. وكان الزعيم يصيغ نظريات سطحيّة مأخوذة من كتب الجيب وكتب التنجيم. والنافل أن ملفات سريّة أصدرتها دائرة المحفوظات الوطنية في لندن، أشارت إلى أن الاستخبارات البريطانية دبّرت مكيدة تنجيم ضد هتلر، لاعتقادها أن هذا العلم قد يساهم في إلحاق الهزيمة بالزعيم النازي في الحرب العالمية الثانية. وأظهرت الملفات السريّة أن رؤساء أجهزة الاستخبارات البريطانية جنّدوا هنغارياً لدراسة طالع هتلر، على أمل أن يتمكن من اختراق خططه العسكرية، مشيرة الى أن لويس دي فوهل أقنع كبار المسؤولين الأمنيين البريطانيين بأنه قادر على محاكاة تنبؤات منجّم هتلر الشخصي، على رغم تحذير جهاز الأمن الداخلي البريطاني الـ{أم إي 5» بأنه كان مشعوذاً.
وبحسب الملفات، زعم دي فوهل أن هتلر كان يعتمد بشكل كبير على توقعات الفلكي السويسري إرنست كرافت، وأن الاستخبارات البريطانية ستحصل على نظرة داخلية لطريقة تفكير زعيم النازية، إذا عرفت بأمر النصائح الفلكية التي كان يقدمها كرافت له.
أما النوع الثاني من الكتب التي غابت عن مكتبة هتلر فكان الأدب، سواء الشعر أو الرواية أو المسرحية، وفقاً للعالم الواقعي الذي كان هتلر يحياه، والذي لم تتوافر فيه مساحة للخيال الذي يغذيه الأدب.
نيتشه
هتلر الذي أحرق الكتب قيل إنه تأثر بنيتشه، ففي العام 1934 زار الزعيم النازي مركز الأرشيف الخاص بفكر هذا الفيلسوف في فايمار، حيث التقى إليزابيث نيتشه شقيقة الفيلسوف، وخلّدت الزيارة بصورة شهيرة يظهر فيها هتلر مصافحاً إليزابيث ومنحنياً أمامها إكراماً لذكرى أخيها، الذي رحل في العام 1900. وفي عام 1944 احتفل النازيون بمرور مائة عام على ولادة نيتشه، وألقى منظّر الحزب ألفريد روزنبرغ خطاباً قال فيه: بالمعنى التاريخي الحقيقي للكلمة فإن الحركة القومية الاشتراكية تكسف بقيّة العالم، مثلما أن نيتشه كسف سلطات زمانه». لكن ما الذي كان يعجب النازيين في نيتشه، ولماذا كانوا يحبونه؟ إنه السؤال الأكثر جوهرية؟ في الواقع، اللاعقلانية الجامحة لفلسفة نيتشه وأسلوبه البرلماني المتفجر وغضبه، جميعها أمور تذكّر بشخصية هتلر عندما كان يصعد على المنصة ويلقي خطاباً حماسياً نارياً يلهب المشاعر. ومن الأمور المشتركة بين الزعيم والفيلسوف النزعة النخبوية وتركيزهما على الأقوياء والأصحاء وكرههما للضعفاء والمرضى. إذ لم يكن نيتشه يتردد عن التضحية بملايين البشر إذا لم يكونوا أصحاء وأقوياء. وهذا ما فعله هتلر تماماً.
حين كتب نورمان مايلر رواية عن هتلر، غاص في عالم مظلم يحبّه بحثاً عن السرّ. استعان بفرويد ونيتشه وتولستوي، ليكتشف أن حبّ الـ{فوهرر» لأمه وكرهه لأبيه، جعلاه صديق الشيطان.
محمد الحجيري-عن الجريدة الكويتية