الخميس، 16 يوليو 2015

نعم يا شيخ، يؤمنون بالحمار!


كنتُ أحسبُ أنَّ "حزبَ الحمير" طُرفةٌ يتداولها المجتمع هزأةً وسخريةً مِن كثرةِ الأحزابِ التي انفجرتْ في العراق بعد الاحتلال كانفِجارِ مِرجَل البُخار! حتَّى بلغ عددها مئات الأحزاب، ومئات الحركات والمنظمات.

كنتُ أحسب أنَّ "حزب الحمير" طُرفةٌ تُشبه طُرفة "حزب الدِّيك"، أو أنَّها طُرفةٌ مِن طُرفِ ونوادرِ وفُكاهات شهاب الدين الأبشيهيّ في كتابهِ: "المُستطرف في كلِّ فنٍ مُستَظرف".

لكنَّني جافيتُ الحقيقة وجانبتُها بكلِّ ما ظننتُ وبكلِّ ما كنتُ أعتَقِده؛ إذ إنَّ "حزب الحمير" كان حقيقةً وأيَّةُ حقيقة؟!

إنَّها حقيقة بلوغ العقل البشريِّ الشَّأو القصي في التطرفِ نحو البهيمية والحيوانية "الحميرية"!

"حزب الحمير الكردي" في كردستانِ العِراق، حزبٌ مُعتَرفٌ بهِ رسميًّا مِن قِبَل حكومة الإقليم، وقد أزاح السِّتار مؤخَّرًا عن صنمٍ لرأسِ "حمار" بربطة عُنُق في وسط ساحة "نالي" في محافظة السليمانية، تقولُ الصَّحافة: "حضرَ هذا الاحتفالَ جمعٌ غفيرٌ مِن "المثقَّفين" - الحمد لله أنَّني لستُ "مثقفًا" - وحضَر الاحتفال زوجة رئيس جمهوريَّة العراق جلال الطالباني، وساحة "نالي" سُميتْ بهذا الاسم نسبةً إلى شاعرٍ كردي تغنَّى بـ "الحمار" في قصيدة "حماري"، وهي قصيدةٌ عَصماء لم يَقلْ مثلَها أبو الطيب!

ولهذا الحزْب مكتبٌ سياسي يُسمَّى "الخان" وفْق اللغة الكردية، وهو مكان نوم الحمير، بينما تُسمَّى المكاتب الفرعيَّة بـ"الإسطبل"، وتتوزَّع درجات ومراتب أعضاء الحزب وفْق درجاتٍ مُعيَّنة، منها "حمار" و"أتان" و"جحش"، ويُطالبُ الحزب حكومةَ الإقليم بدعمٍ مالي لفتْح إذاعةٍ تَحمِل اسم "النهيق"، وقد أعلن أمين عام حزب الحمير استعدادَه للترشُّح للانتخابات "البرلمانية" القادمة، تزامنًا مع ترشُّح فنَّان مصريٍّ لرئاسة جمهورية مصر العربية، اشتُهر هذا الفنان بأغنيَّة "بحبّك يا حمار" التي لاقتْ رواجًا لدى "الجمهور العربيِّ"!

وبينما أنا أحاول تكذيب الحقيقة وتصديق الكذبة، هرعتُ إلى ما كتبَه أديبُ الفُقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - قبل ما يَقرُب مِن ثلاثة وستين سنة؛ حيث كتب مقالة "يؤمنون بالحمار!" صدرتْ في الجزء الأول مِن كتابه: "مقالات في كلمات" يقولُ فيها:
وليس هؤلاء الَّذين يؤمنون بالحمار مِن بقايا المشركين الأولين، الَّذين يَكفُرون مِن جهْلهِم بالله ربِّ العالمين، ويؤمنون بالجبتِ والطاغوت، ولا الفراعنة الأقدمين عبَّاد العجْل، ولا مِن إخوان البوذيِّين الَّذين يؤمنون بالبقرة، ولكنَّهم قومٌ مِن المُسلِمين، ومِن كبار الأدباء الشاميين، نظروا فرأوا للحمار مزايا وفضائل، ليستْ لهذا الإنسان - الَّذي يؤمن به أخي وصديقي الأستاذ عبدالمنعم[1] - فهو لا يَكفُر بالله، ولا يَجحَد بلسانهِ الإله الَّذي خلقَ له هذا اللسان، كما يفعل الإنسان، ولا يُنافق ويتَّخذ له وجهين، ولا يثير الحروب على إخوانه في الحماريَّة، ولا يَعرِف جريمة القتْل، ولا رذيلة الانتحار، ولا تَشغلُه شَهوتُه عن واجبه الحماريِّ كما تَشغل بني آدم، ولا يُفكِّر في الأتان - أيْ: الحمارة - إلا مرَّةً واحِدةً في السَّنة؛ ليَقوم بقسطه من فضيلة العمل على بقاء النوع... ولا يَنحرِف بغريزته عن طريقتها، فـ (يقترب...) مِن حمارٍ مثله، ويدع جميلات الأُتُن، ذوات الخدِّ الأسيل، والذَّنَب الطويل، والساق النَّحيل... كما تَنحرِف غرائز بعض بني آدم، ولا تتبرج إناثهُ التبرُّج المُغري، ولا تَعرِف البغاء الرَّسميَّ في (المحلات العمومية)، ولا البغاء الطَّليق على "البلاج"، ولا البِغاء الفنِّي في السينما والمجلات المصوَّرة...

ولم يُشاهِد أتانًا تَرقُص رقصًا خليعًا، ولم يَسمعوا حمارًا يُغنِّي غِناءً (حديثًا)، مع سهولته عليه، وأنَّهُ لا يُكلِّفه إلا أن يَنهَق نهيقًا مِن بحرٍ جديدٍ مُبتكَر، ورأوهُ مع ذلك صابرًا على ما قُدِّر عليه، راضيًا بما قُسم له، لا يستغلُّ أيام الحرب ليَسرِق شعير إخوانه الحمير... ولا يَغُشُّ، ولا يَرتشي، ولا يَخون، ولا يَعرِف المكْر ولا الحسد، ولا يَتظاهَر بالدِّين لِيَصل إلى الدُّنيا، ولا يتَّخذ العمل في المصالح العامَّة سُلَّمًا إلى المناصب، وهو يُطيل التأمُّل، ولكنه لا يؤذي أبناء جِنسه بتدوين فلسفته، ويأتي حين يُصوِّت بسحجات وصيحات لها في موسيقا الحمير جمال، ولكنَّه لا يَكذِب فيدَّعي أنَّهُ مِن كبار الملحِّنين، ويجيء بالبلاغة الحمارية المُحدَثة، ولكنه لا يَزعُم أنَّهُ مُجدِّد في البلاغة، كما يزعم بعض مشايخ بني آدم[2]؛ لئلا يُقال له: اخرس، فما تَجديدك هذا إلا نهيق!

رأوا ذلك، فآمنوا بالحمار إيمانَ تقديرٍ وتفضيل، لا إيمان دينٍ وعبادة، فألَّفوا منذ ثلاثين سنة (جمعية الحمير)، وجعلوها سرِّيةً؛ لأنَّ الناس لم يَستعدُّوا لفهْمِ هذهِ الأخلاق الحماريَّة، وتقدير أهلها، وكيف لا يَزال الواحِد منهم إذا شتَم آخَر، قال له مِن غُروره وحماقته: يا حمار!

وقد خرج مِن هذهِ الجمعيَّة رئيس وزراء ووزيران، وخمسة مِن أعضاء المجمع العلميِّ العربيِّ، وكان يَعطِف عليها ملك عربي عظيم، ويصغي مُستمتِعًا إلى حديثها، والانتساب إليها صعْب، ولا بدَّ فيه مِن ترشيح ثلاثة مِن الأعضاء، وتقديم أُطروحَة في سرْد مزيَّة للحمار لم تُعرف، وبعد مناقشتها (علنًا) يُقبَل الطالب، ويُسلَّم إلى أحد الأعضاء لتطبيعه على طبائع الحمير، ثمَّ يثبت عضوًا أو يردُّ، ولأنْ يَصير المرء وزيرًا أو أستاذًا في الجامعة، أهْوَن مِن أن يَصير عضوًا فيها.

ما أنْ فرغتُ مِن كتابة هذهِ المقالة، حتَّى ناولتها صديقًا لي فتلقَّفها وقرَأها، فلمَّا فرَغ مِن قراءتها التفتَ إليَّ قائلاً: جميل جدًّا، أرى مُستواك في الكتابة تحسَّنَ كثيرًا، لقد بلغتَ مبلغًا جيِّدًا.

فأجبتُه: يا صديقي، أنا كاتبٌ كبير، وعليك أن تدرك ذلك!

فقال: لله درُّك يا أخي، منذ عرفتُك وأنت متواضع! ولكن أخبرْني عن حزْب الحمير، هل تَعتقد أنَّ مثل هذه الأفكار والحركات الغريبة التي يُروَّج لها في مُجتمعاتنا تقف وراءها أيادٍ خفيَّة كاليهود والماسونيَّة العالميَّة، أو غيرهم مِن أعداءِ الأمَّة؟

قلتُ: أَستبعِد ذلك، ولكن إذا ما ظهَر "حزب العُراة" قد أتَّهمِهم!

 

[1] انظر كتاب: "أؤمن بالإنسان"؛ للأستاذ عبدالمنعم خلاف.
[2] انظر كتاب: "فنّ القول"؛ للشيخ أمين الخولي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق