الجمعة، 31 يوليو 2015

ألف وجه لألف عام - «القبيلة الثالثة عشرة» لكوستلر: من أين أتى يهود أوروبا؟

ألف وجه لألف عام - «القبيلة الثالثة عشرة» لكوستلر: من أين أتى يهود أوروبا؟

 

آرثر كوستلر (1905 - 1983)

ابراهيم العريس الحياة

كان في بداياته شيوعياً، ثم صار صهيونياً، ثم عاد الى الشيوعية لفترة كانت – هذه المرة – كافية له حتى يكفر بستالين، ويتحول مرة أخرى الى معادٍ للشيوعية على النمط السوفياتي ويؤلف واحداً من أكثر الكتب التي نددت بستالين في تلك المرحلة، وهو «عتمة عند الظهيرة» الذي أثار حين صدوره ضجة ما بعدها ضجة. بعد هذا الكتاب عادت الحركة الصهيونية وتبنته من جديد... ولكن ما ان مضت سنون قليلة، حتى انتفضت هذه الحركة عليه، موظفة كل إعلامها وأقلام كتّابها. فلماذا؟ ببساطة لأن آرثر كوستلر، وهو الكاتب الذي نتحدث عنه هنا، كان أصدر كتاباً جديداً له، لم يكن متوقعاً... وهو كتاب «القبيلة الثالثة عشرة»، الذي لا يزال حتى اليوم مدار أخذ ورد، حتى داخل الصفوف الفكرية اليهودية.
والحقيقة ان «القبيلة الثالثة عشرة» يستحق هذا الضجيج، طالما ان كوستلر توصل فيه الى أطروحة حول التاريخ اليهودي تقف على التضاد التام، مع كل الأسس التي اعتمدتها الحركة الصهيونية، منذ ثيودور هرتزل على الأقل، في سبيل رسم سياسة «حق العودة» التي تطاول يهود العالم وعلاقتهم بأرض الميعاد: فلسطين. ومن هنا اعتبر صقور الحركة الصهيونية، كتاب كوستلر هذا، أسوأ من «بروتوكولات حكماء صهيون»، وماء إضافياً يوضع في طاحونة كل الذين «جعلوا العداء للسامية خبز حياتهم ونشاطهم اليومي». فلماذا وماذا في هذا الكتاب؟ ولماذا هو معاد لليهود، مع ان مؤلفه يهودي مرموق، وكان في كتابات سابقة له يعتبر فخراً للحركة الصهيونية ومدافعاً شرساً عنها؟

 لأن كوستلر، وفي بساطة كلية، أنكر – على الأقل على يهود أوروبا وربما على يهود كثر في العالم – ان يكونوا متحدرين من صلب تلك الأقوام التي سكنت فلسطين القديمة وبارحتها تحت ضغط الاضطهاد الروماني وغير الروماني مشتتة في أنحاء العالم كافة. في «القبيلة الثالثة عشرة» يقول كوستلر ان اليهود الأوروبيين خصوصاً، إنما هم متحدرون من ابناء مملكة الخزر القديمة، أي من سكان أواسط آسيا، لا من سكان فلسطين. وأنهم حين بارحوا مسقط رأسهم لأسباب تاريخية متنوعة لم يكونوا يهوداً، بل هم اعتنقوا الديانة اليهودية لاحقاً في أوروبا.
 وعلى هذا، وبكل صراحة، هم يهود لكنهم ليسوا إسرائيليين، ذلك ان تلاقي صفة إسرائيلي ويهودي لا يكون إلا بالنسبة الى اليهود القدامى الذين كانوا في غابرات الأيام يعيشون في فلسطين. وهؤلاء – بحسب العرف الصهيوني الذي أدى الى قيام «وطن قومي لليهود» هو اسرائيل فوق الأراضي الفلسطينية، تبعاً لوعد بلفور الشهير – هم الذين يجدر ان يكون من حقهم «العودة» بعد ان شردهم التاريخ في شتى الأنحاء محولاً إياهم الى دياسبور! فإذا انتفى هذا الأمر عن الآخرين، من المتحدرين من سلالة الخزر، لا يعود من حق هؤلاء ان يتطلعوا – تاريخياً على الأقل – الى «العودة الى أرض الميعاد».
 وتبعاً لهذه النظرية يصبح هذا الحق محصوراً في اليهود العرب وبعض اليهود الشرقيين لا أكثر ولا أقل.
طبعاً آرثر كوستلر لم يصل في نظريته الى هذا الاستنتاج، لكنه وضع في فصول كتابه هذا، كل المقدمات والمبررات التي توصل إليه. ومن هنا كانت خطورة هذا الكتاب بالنسبة الى مفكري الحركة الصهيونية وسياسييها، من الذين سارعوا الى نسف الفكرة من اساسها، مصدرين عشرات الكتب ومئات الدراسات لدحضها، إنما من دون الإيغال عميقاً في استعداء آرثر كوستلر، الذي كان في ذلك الحين يتمتع بصدقية كبيرة أمّنها له موقفه الحاسم ضد الستالينية، والمنظومة الشيوعية في شكل عام.
 
 ونعرف هنا انه بعد سنوات أولى شغل خلالها الهجوم على الكتاب ودحضه ندوات وسجالات طويلة، رمي الكتاب في النسيان ولا سيما في أوروبا، بل صار تداوله احياناً مداناً كما هو تداول «بروتوكولات حكماء صهيون». وطغت على شهرة مؤلفه، أخبار كتبه الأخرى، ولا سيما خلال مرحلة الحرب الباردة. واللافت ان احداً منذ ذلك الحين لم يتلقف هذا الكتاب ليحتفي به، غير مجموعات عربية رأت فيه سلاحاً فكرياً في مناهضة الفكر الصهيوني. والكتاب قادر على تأمين هذا، وبأفضل كثيراً مما يفعل «بروتوكولات حكماء صهيون»، لكن المشكلة تكمن في ان الكتابين وضعا دائماً معاً، ما أفقد كتاب كوستلر صدقية وقوة كان يمكنه الاستحواذ عليهما في السجالات العميقة حول هذا الأمر التاريخي.

  غير ان الأمر الذي يمكن الوقوف عنده هنا، وفي صدد كتاب آرثر كوستلر هذا، هو ان هذا الأخير لم يكن هو مبتدع الفكرة، أو موقظها من سبات عميق كانت تخلد إليه. فالحال ان هذه الفكرة القائلة بوجود قبيلة ثالثة عشرة لا علاقة لها بما يمكن ان يسمى «إسرائيل القديمة»، بل أتت من آسيا الوسطى وتحدرت من مملكة الخزر تحديداً، فكرة قديمة وسبق لمؤرخين كثر ان دنوا منها. وفي القرن العشرين نفسه، صدرت كتب أميركية عدة تتناول الموضوع نفسه. وكانت كلها كتب سياسية بل إيديولوجية، حتى وإن اتسمت في بعض الأحيان بسمات البحث التاريخي المعمق.
 في أغلب الأحيان، كان موظفوها في الولايات المتحدة رجال أعمال وفكر وسلاح يمينيين، حاولوا استخدامها لـ «فضح» النفوذ اليهودي المهيمن على السياسة والإعلام وعالم الأعمال في الولايات المتحدة. وقد كان الصناعي هنري فورد واحداً من هؤلاء، إذ نجده بعيد الحرب العالمية الأولى يجمع مفكرين وكتاباً وصحافيين ويمولهم كي يضعوا دراسة «يثبتون فيها ان يهود اليوم ولا سيما الأميركيون منهم، ليسوا شعب الله المختار». وقد نشر فورد – مؤسس مصانع فورد للسيارات – نتائج تلك البحوث في كتاب من أربعة مجلدات عنوانه «اليهودي العالمي».
واللافت ان القسم المخصص لقضية اليهود غير الإسرائيليين في هذا الكتاب كان ضئيلاً، وفي المقابل ركزت الأجزاء الأربعة – على نسق ما يفعل «بروتوكولات حكماء صهيون – على «الخطة اليهودية للسيطرة على العالم». ولئن كان هنري فورد «رائداً» في هذا المجال، بحيث ان كتابه مهّد الأرضية اللازمة لاستقبال، من ناحية، كتاب كوستلر، ومن ناحية ثانية، كتاب «البروتوكولات»، فإن فورد لم يبق وحيداً في الميدان، إذ صدرت كتب عدة مشابهة، منها كتاب لضابط متقاعد في الاستخبارات العسكرية الأميركية هو الكولونيل جون بيتي عنوانه «ستار حديدي على أميركا». تبعه كتاب لكولونيل آخر يدعى كورتيس دال (كان الصهر السابق للرئيس روزفلت) عنوانه «إسرائيل وسرها المقدر بـ5 تريليون دولار». لكن هذه الكتاب جميعاً لم تخرج عن الإطار الدعائي المناهض حقاً للسامية، على النمط الأميركي. اما كتاب آرثر كوستلر، فإنه يبقى وحده حاملاً أطروحة تاريخية جديرة بالبحث، ولكن خارج إطار الأهواء الإيديولوجية من أي صوب أتت.

  وآرثر كوستلر (1905 – 1983) كان كاتباً وفيلسوفاً ومؤرخاً انكليزياً من اصل هنغاري، شق منذ بداياته طريقه نحو الفكر والكتابة العلمية وكذلك نحو النضال السياسي، وهكذا رأيناه اول ثلاثينات القرن العشرين، عضواً في الحزب الشيوعي الألماني الذي سيتركه بعد سبع سنوات، إذ هاجر الى بريطانيا ساعياً الى تركيز حياته ونشاطه الفكري هناك وهو كان سافر الى فلسطين أواخر عشرينات القرن نفسه، وعاش متنقلاً بين القدس وتل ابيب، لكنه لم يجد أن في إمكانه ان يشعر بأي راحة في بلد قيل له حين اجتذب إليه انه صحراء لا شعب فيها، فإذا به يجابه هناك شعباً (فلسطينياً) يريد التمسك بأرضه.
ولعل هذا «الاكتشاف» هو الذي وجه كوستلر في ذلك الحين نحو النضال الشيوعي. النضال الذي عاد وأبعده عنه اكتشافه محاكمات موسكو والتصفيات الستالينية. وفي النهاية حين استقر كوستلر في بريطانيا ليعيش فيها مدرساً، صحافياً وكاتباً، اصدر هناك عدداً كبيراً من الكتب، الى جانب ما ذكرنا، ومن بين هذه الكتب: «سهم في الزرقة»، و»اليوغي والمفوض» و«السائرون نياماً».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق