الأربعاء، 8 يوليو 2015

ثلاثة دروس من حياة آلبيركامو: كيف ارتطم كامو بالشيخ عبد الحميد بن باديس؟


ثلاثة دروس من حياة آلبيركامو: كيف ارتطم كامو بالشيخ عبد الحميد بن باديس؟بقلم - د. محمد وقيع الله
 

تمكن الانسان من قتل 70 مليون انسان خلال 50 عاما كيف يمكن منع كوارث ماحقه في المستقبل! رفض كامو كافة التعميمات التجريدية باعتبارها دافعا من دوافع التطرف والعنف . كان كامو متمردا وحسب, اما بن باديس فقد كان متجردا ومتمردا في آن! كثيرا ما يصنف البير كامو (1913 - 1960) في عداد الفلاسفة الوجوديين, الا انه يرفض ذلك, وهو في الواقع اقرب الى السندكاليين والليبراليين في عالم السياسة, وهو قطعا ضد الثوريين اصحاب الرؤى الفكرية الجذرية, كما انه ظل متجاوزا ومنتقدا لاقطاب التفكير السياسي ذي المنزع الرومانتيكي من اتباع جان جاك روسو. في الرابعة والاربعين من عمره نال كامو جائزة نوبل للآداب (1957) ورغم انه فيلسوف الا ان شهرته جاءت من كسبه الادبي في روايات وقصص ذائعة الصيت شأن (الغريب) , و (الطاعون) و (السقوط) . ولسنا هنا بصدد تحليل كامل التراث الفكري والادبي الذي خلفه كامو, وانما بصدد استخلاص دروس ثلاث, اولها من كتابه الاشهر (المتمرد) , والثاني من بعض مواقفه السياسية العملية من الثورة الجزائرية, والثالث بخصوص صلاته بالشيخ الامام عبد الحميد باديس.

في كتابه شديد التأثير (التمرد) يبدو كامو ساخطا على شؤون السياسة العالمية, لانها اضحت تفتقر الى قيم عليا, ترعى حرمه الارواح البشرية, التي ظلت موضع اهتمامات كامو الفلسفية العليا, وكتاب (المتمرد) الذي كتبت ابحاثه ما بين (1947 - 1951) كتاب يقع ما بين الاخلاق والسياسة, وقد املاه ضمير هزته الاحداث والفجائع التي شهدها العالم في خضم الحرب العالمية الثانية, التي حصدت ارواح عشرات الملايين من البشر. وتولى ابحاث الكتاب التي سماها صاحبها بعنوان فرعي : (مقال في الانسان والتمرد) , اهتماما خاصا بتحليل قضايا التحول الاجتماعي, او ما يسمى بفلسفة الثورة والتمرد, والدراسة المقارنة للثورات , حيث يجهد كامو نفسه في استكشاف اسباب فشل ثورات قرن ونصف قرن من الزمان, وتشخيص اعراض الداء العضال الذي اتت به مختلف العقائد والايديولوجيات التي اججت تلك الثورات. قادت تلك الايديولوجيات مطالبات وثورات عديدة باسم الحرية الانسانية, ولكن جاءت تلك الثورات عنيفة مدوية مطلقة من كل عنان. ولم تثمر اكثر من الدمار الشامل والطغيان, بدأت تلك الثورات بشعارات تطالب بسحق الظلم الاجتماعي, وتحقيق الامن والعدل, ولكن جاءت نتائجها في موجات ارهاب فظيعة سحقت الوجود المادي والروحي للانسان, وهكذا ففي كل دور من ادوار التاريخ الانساني اخذ يهل علينا ... ثوري جديد, يحمل سيف الذبح البتار, ويستأصل به الوجود الذي اتى ليحميه. وهكذا نجح قادة البشر كما يقول كامو - في حصد الارواح واذلال معنى الوجود البشري, فكيف تمكن (الانسان) من قتل سبعين مليون (انسان) خلال خمسين عاما؟ وماهي الدوافع الحقيقية التي ادت الى ذلك؟ وكيف يمكن منع كوارث ماحقة مماثلة في المستقبل؟!

ان ارواح البشر ما هانت على قادة البشر الا بسبب (العقائد والمسلمات) المطلقة. وهي تلك العقائد التي دفعت بالسياسة دفعا في سبيل تطبيقها, بغض النظر عن الثمن الباهظ الذي يتطلبه ذلك التطبيق. فما هانت عذابات البشر, وحرمة دمائهم وارواحهم, على قيادات السياسة, الا بسبب سطوة تلك العقائد والمسلمات (العدمية) و (النسبية) التي اعتنقوها, واعتقدوا بمقتضاها ان القتل امر سهل يسير المأتي والنتيجة, فطالما اعتقد المرء بلا جدوى الحياة ذاتها, فان من الطبيعي ان يعتقد ان اي فعل يأتيه هو فعل مباح. وطالما ان كل فعل داخل في حيز الاباحة, فليرتكب الانسان اذن ما يشاء من جرائم القتل, في سبيل ان يحصل على اقصى ما يستطيع ان يحوزه من مقدرات القوة, التي توطد نفوذه في الحياة. وهكذا سوغت الافكار (العدمية) و (النسبية) استخدام كافة وسائل العنف و الاستئصال.

اطراح الايمان الديني

اطرح كتاب (المتمرد) منذ البدء مسألة الايمان اليقيني بعقائد دوغمائية تحرك العمل السياسي والوطني. ولذلك فلم يستند كامو الى اي خلفية دينية, كما لم يلق بالا, الى مقررات ونتائج علم الاجتماع الحديث. واتهم كثيرا من الافكار العامة المقررة سلفا مثل (الحتمية التاريخية) و (القومية) و (الاعيان المسيحي) و (الاشتراكية) , بانها لافتات استغلت كثيرا عبر التاريخ, لتبرير العنف والمذابح الجماعية , والحاق الدمار بالحضارة الانسانية. هذا الموقف السلبي من قضية الايمان الديني, لم يتضمن موقفا معاديا للدين باي وجه من الوجوه . وانما كان نابعا من رفضه للبحث في الافكار التجريدية والتعميمات الواسعة, التي اصبحت ادوات مهلكة يجدر الحذر من الافراط في استخدامها , وقد رفض كامو ان ينطلق من المسلمة التي راجت في عهده قائلة بان الحقائق المسيحية هي مجرد خرافات وتضليلات, ولكنه في ذات الوقت رفض ان يتقبل او يتبنى الايمان المسيحي, وكان رفضه للايمان الديني فرعا من رفضه المبدئي للتعميمات والتجريدات, التي يمكن ان تصبح قاتلة عندما يوضح الناس على فوهتها, كما قال. بناء على ذلك ركز كامو دراساته على قضايا الشك اكثر مما ركزها على قضايا اليقين, وذلك لان اليقين - في نظره - يقود الى التجريد والتنظير, والى الايمان الاعمى, بمبدأ غامض والاندفاع في خدمته, والتضحية باشياء عزيزة عديدة من اجله يقول كامو : (لقد رأينا الكذب واضطهاد الناس وقتلهم وتشريدهم وتعذيبهم يمارس من قبل الايديولوجيين, وكان من المستحيل دائما ان تقنع هؤلاء بان يشكوا ولو قليلا في مبادئهم, وان يقلعوا عن ارتكاب المذابح ... لقد كانوا في حالة يقين كامل بصحة مبادئهم وافكارهم ... وانه لمن المستحيل ابدا ان تقنع امثال هؤلاء المندفعين بخطأ ما في افكارهم التجريدية) . وهكذا فينبغي ان يكون الشك هو الاصل, وان يظل اليقين عارضا, لا يلبث ان يتخلله الشك, وذلك من اجل منع الانسان من الاندفاع الى قتل الآخرين.

من المسؤول؟

اراد كامو ان يحدد بشكل قاطع من هو المسؤول عن نتائج الاحداث السياسية, ولذلك وجه مركز ابحاثه نحو تحليل (الانسان) وتجاهل (المجتمع بالكلية) باعتبار انه تعميم تجريدي لا وجود له. ورأى ان البحث في مجالات العقائد والاجتماع لا يأتي بطائل, واحتلت التجارب المباشرة لـ (الانسان) والاعمال الناتجه عن تصرفاته جدول اولوياته الفكرية, واكد - استنتاجا - ان على الانسان الا ينساق وراء المجتمع, ولا وراء العقائد والافكار المقررة سلفا, والا يتخذها تكأة يبرر بها تصرفاته الهوجاء. وبنظر كامو فانه بدلا من ان تتخذ هذه (الافكار التجريدية) مقياسا لعمل الانسان , ينبغي ان ينصرف النظر الى اعتبار آخر هو: ما الذي جرى للارواح البشرية كنتاج لتصرف الانسان, وكل من فعل فعلا تتعدى آثاره الى غيره, يجب الا يحاسب الا بصورة فردية مباشرة, وبغض النظر عن الفكرة او العقيدة التي ساقته لذلك التصرف, او المجموعة التي اندفع معها لاثبات ذلك الفعل.

اختبار مصداقية كامو كانت تلك هي المبادىء الاساسية التي حاول كامو ان يرسيها ويقررها في الضمير الانساني ( الاوروبي) . وعندما حان الاوان لاختبار صدقية تلك المبادىء في التجربة الجزائرية , اختلت افكار كامو, او اختل التزامه بها بشكل خطير.

ولد كامو وعاش صدر شبابه بالجزائر, وعمل فيها بالتدريس والصحافة, ولذلك فانه كان يعد نفسه من ضمن طبقة المستوطنين الفرنسيين في الجزائر. وبدلا من ان يعد نفسه, مع اسرته, وبقية مواطنيه الفرنسيين في الجزائر مجرد مغتصبين, ودعامات للاستعمار الاستيطاني , ظل يدافع عن تلك الطبقة دفاعا حارا, ويضع مصالحها فوق مصالح المواطنين الجزائريين, الذين كان يسميهم في كتاباته بالمواطنين غير الاوروبيين في الجزائر, وكأن الجزائر وطن اوروبي, في حواشيه مواطنين (مسلمين) غير اوروبيين, او مواطنين (اصليين) مثل الهنود الحمر في امريكا حين اكتشافها , او مثل قبائل المواطنين الاصليين في استراليا حينما استوطنها البيض! وقف كامو مع خط الحركة الوطنية الجزائرية, الذي كان اقطابه ينادون بالاندماج مع فرنسا, وهو الخط الذي كان يقوده فرحات عباس, الذي كتب مقالا مشهورا يقول فيه (أنا فرنسا) , ورد عليه الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889 - 1940) بمقال شاف قال فيه ان الجزائر لا تستطيع ان تكون فرنسا حتى ولو ارادت ذلك, واذاع قصيدته المشهورة التي اصبحت نشيدا للثورة الجزائرية, وفيها يؤكد هوية الجزائر الحقيقية قائلا:
 


شعب الجزائر مسلم
والى العروبة ينتسب
من قال حاد عن اصله
او قال مات فقد كذب
او رام (ادماجا) له
رام المحال من الطلب

واضاف يقول : اننا لسنا ضد المدنية, ولا الحضارة, ولا العصر الحديث, ولكننا نتمدن بشروطنا نحن, لا بشروط فرنسا, ولو طلبت مني فرنسا ان اقول ( لا اله الا الله لما قلتها) !! فهو يقولها طوع نفسه, ولا يردد اي شعار انسياقا مع فرنسا, حيث كان يرى في (الفرنسية) والاندماج خصما للاسلامية, ونقيضا لها, فالمرء لا يتفرنس الا اذا وقع اسلامه ثمنا لذلك. دعا بن باديس الى استقلال الجزائر بلا مراهنة على اي حل وسط - وبدا راديكاليا اكثر من عمار اوزيجان, كان عمار مؤمنا باستقلال الجزائر, وعندما اتيح له ان يرأس وفد الحزب الشيوعي الجزائري للمؤتمر السابع للكومنتيرن في موسكو في ,1934 وان يتحدث في ذلك المؤتمر باسم مستعار هو (آرثر بدوان) , طلب علنا الاستقلال , ولكنه لم يقف ضد الفرنسة, لان حزبه كان لا يزال فرعا للحزب الشيوعي الفرنسي. اما بن باديس فقد عقد العزم على مناهضة (الفرنسة) في ذروتها باحياء وتجديد فكر السلف . وانشأ لذلك مجلة متميزة هي مجلة (المنتقد) التي سرعان ما اغلقتها الادارة الفرنسية بدعوى مناصرتها للثورة في المغرب. وانشأ على اثر ذلك مجلة (الشهاب) التي استمرت في انهاض وتجديد الفكر الاسلامي بصورة خلابة, الى ان اغلقت هي الاخرى مع نشوب الحرب العالمية الثانية. وانخرط بن باديس في حلقات تعليمية راقية, فتح بها باب الاجتهاد الشرعي, ونبه عقول طلابه, وحثهم في ذات الوقت على اكتساب المعارف الحديثة, وسرعان ما اخذت مدرسته تخرج نوابغ نابهين يقارعون الفرنسة بتفوق, شأن الشيخ الطيب العقبي, ومحمد البشير الابراهيمي, ومبارك الميلى, واحمد توفيق المدني, وغيرهم من العلماء الذين اصبحوا في النهاية يشكلون الرموز الفكرية الحقيقية للثورة الجزائرية.

المتجرد ام المتمرد؟!

كان من غريب التصاريف ان بن باديس الذي اندفع في ذلك الخط الى نهايته, هو الشخص المرجو لدفع جهود الفرنسة والتغريب, فالتحليل الطبقي لجذور الشيخ يدل على انه كان سليل اسرة ارستقراطية فارهة, هادنت الاستعمار, وانتفعت منه, فأبوه كان عضو مجلس ادارة مدينة (قسنطينة) , وعمه كان مالك اراض شاسعة , ونائبا في البرلمان الجزائري , وعم آخر له كان محاميا مشهورا مرتبطا بالاقطاع والاستعمار. ولعل تلك الوضعية الطبقية المميزة هي سر تقرب كامو منه, فقد كان يطمع في استقطابه لخط الفرنسة والاندماج, وانعقدت صداقة وثيقة بين الطرفين, كشف كامو عن هدفه من ورائها, عندما ذكر ان نصف مهامه الحزبية كانت تتلخص في اجتذاب المسلمين الى خط الحزب الشيوعي الفرنسي الجزائري لدعم جهود الاندماج. لم يخلع بن باديس يده من تلك الصداقة , وتلك الدعوة وحسب, وانما انخلع ايضا من اصوله الطبقية, اذ كانت المصلحة الحقيقية التي وضعها نصب عينيه, هي مصلحة الأمة ككل, لامصلحة الطبقة, ولا مصلحة الاسرة, ولا مصلحة الذات, كما كان الأمر مع كامو, الذي تكيفت مواقفه حسب املاءات تلك المصالح على ضميره الخاص. فعندما خبا تيار الاندماج اعلن كامو سخطه على الوطنيين, وفي طليعتهم بن باديس, وكف عن تأييد كل قطاعات الحركة الوطنية الجزائرية وفي طوايا تصريح صحفي له بدا كامو على النقيض تماما من الموقف المتجرد لابن باديس.


فعندما سئل عن سر تخليه عن الثورة الجزائرية, بعد ان كان يؤيد بعض اطرافها قال: (انا مازلت اؤمن بالعدل, ولكن اخشى على سلامة والدتي التي لاتزال تعيش في الجزائر. ومصلحة امي تأتي دائما في المقدمة) . ان سلامة أمه لم تكن تستدعي بالتأكيد ان يكتب بعد فترة قائلا: ان فرنسا لابد ان تعيد بسط سيطرتها على الجزائر, بمعنى ان نخمد نيران الثورة الوطنية ... وحتى عندما جمع مقالاته في وقت لاحق في مجلدات اعماله الكاملة, فقد حذف منها كل المقالات التي سبق ان انتقد فيها بعض سلوكيات المستوطنين الفرنسيين, ضد المواطنين الجزائريين, وكان يحاول بذلك الا يضعف من موقف المستوطنين, ابان اشتعال لهيب الثورة. في تلك المقالات المحذوفة دعا كامو الى اطروحة متناقضة لا تستقيم, مفادها: ان يظل الاستعمار الفرنسي جاثما على ارض الجزائر, ولكن شريطة ان يعامل الناس بالعدل والقسط , اي ان يساوي بين الجزائرين والمستوطنين, ويمنع تعديات المستوطنين على الجزائريين, وهاتان لاتتفقان, لان مجرد وجود اولئك المستوطنين, هو رأس التعديات على حقوق الوطنيين كانت تلك الدعوة في الحقيقة مجرد غطاء لموقفه الرافض لمبدأ استقلال الجزائر من الاساس. هكذا برز كامو على خلاف ما بشر في كافة كتاباته برز على ايمان (تجريدي) (تعميمي) قاطع , لايعاوره شك, ولا يخالجه ارتياب, بان الحضارة الفرنسية هي المثل الاعلى للانسان , وان الاستعمار الفرنسي عمل اخلاقي, يؤدي الى نشر ذلك المثل الاعلى بين الناس , وكل من قاومه فلا بأس بقمعه بقوة السلاح, حتى يرضخ (للحق) وينصاع. لقد كان كامو باحساساته الاخلاقية العالية, وتورعه الانساني الخير, مما قد تبدى في قصصه وبحوثه, مرجوا لان يتخذ موقفا افضل من هذا ... كان عليه - في الحد الادنى - ان يلتزم مقولاته الفلسفية التي صدرنا بها هذا المقال, ولكنه آثر ان يبرهن ان الغايات تبرر احيانا بعض الوسائل. كان كامو عندما يشتاط غضبا على بعض السياسيين يقول: انهم كثيرا ما يقولون ان الغايات تبرر الوسائل ... ولكن ما الذي يبرر غاياتهم نفسها؟! والسؤال نفسه مرتد الى كامو ترى ما الذي يبرر غايات (فرنسية) الجزائر التي دافعت عنها حتى النهاية؟!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق